إنجيل مرقس – الإصحاح ٩
التجلي
أولاً. لمحة من جلال المسيح
أ ) الآيات (٢-٣): تَغَيَّرَتْ هَيْئَة يسوع قُدَّامَ التلاميذ.
٢وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، ٣وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ.
- بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا: يفترض الكثيرين أن يسوع اصطحب هؤلاء الثلاثة في هذه المناسبة ومناسبات أخرى لأنهم كانوا المفضلين لديه. ولكن من الممكن أيضاً أن هؤلاء الثلاثة كانوا الأكثر عرضة للوقوع في المشاكل، لذلك كان يبقيهم تحت مراقبته دائماً.
- وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ: ما بدأ كخلوة على الجبل تغير بسرعة حينما ظهر مجد يسوع وتَجَلَّى أمام أعين التلاميذ مباشرة (وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ).
- كتب متى في إنجيله: وأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ (متى ٢:١٧)، واستخدم كل من متى ومرقس الجملة: وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ لوصف ما حدث ليسوع. ولفترة قصيرة جداً، أخذ يسوع هيئة ملك المجد بدلاً من الإنسان البسيط المتواضع.
- وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ (حَيْثُ تَجَلَّى أَمَامَهُمْ): حاول مرقس جاهداً أن يصف كيف تغير شكل يسوع، وكان هذا ما عبر عنه بطرس دون شك كونه شاهد عيان. وبشكل أساسي، أضاء يسوع كالشمس – وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا أكثر بياضاً من أي شيء يمكننا أن نراه على وجه الأرض.
- إن لم ننتبه جيداً، فسوف نعتقد أن التجلي كان مجرد ضوء لامع أشرق على يسوع، ولكن الواقع هو أن هذا الضوء لم يشرق على يسوع من الخارج. “تصف كلمة ’التجلي‘ شيئاً داخلياً أدى لتغيير المظهر الخارجي، وهذا عكس كلمة ’التنكر‘ التي تعني تغييراً في المظهر الخارجي فقط لا شأن له بالداخل.” ويرزبي (Wiersbe)
- لم يكن التجلي معجزة جديدة، لكنها توقف وقتي لمعجزة مستمرة. فالمعجزة الحقيقية هي أن يسوع، في معظم الأحيان، استطاع أن يحجب أو يخفي مجده. “كان إظهار مجد المسيح أسهل بكثير من إخفاء مجده. فمن عظمة عمله أنه أخفى مجده وهو الغني لأجلنا، كما يقول الكتاب المقدس: مِنْ أَجْلِنا افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ: لقد فعل يسوع هذا لأنه ابتدأ يُخبِرُ تلاميذه عن الصليب (مرقس ٣١:٨) وأنه ينبغي عليهم هم أيضاً أن يحملوا الصليب، بالمعنى الروحي (مرقس ٣٤:٨-٣٨). فقد كان من السهل عليهم أن يفقدوا ثقتهم في يسوع بعد هذا التصريح السلبي.
- ولكن الآن، وبعدما عرض يسوع مجده كملك على كل ملكوت الله، عرف التلاميذ أن يسوع كان مدركاً تماماً لما تنطوي عليه هذه المهمة. فحتى وإن كان عليه أن يتألم ويرفض ويقتل، إلا أنه هو في النهاية صاحب السلطان.
- أظهر يسوع بصورة واضحة بأن حاملي الصليب سينالون المجد في النهاية. فالهدف ليس الصليب بحد ذاته، بل هو الطريق الذي يؤدي إلى الهدف، والهدف هو مجد الله.
ب) الآية (٤): ظهور إيليا وموسى (يَسُوعُ وَمَعَهُ مُوسَى وَإيلِيَّا)
٤وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ.
- وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى: يمثل كل من إِيلِيَّا ومُوسَى الذين اختطفوا لملاقاة الرب (يهوذا ٩ وملوك الثاني ١١:٢). فموسى يمثل الذين ماتوا وصعدوا إلى المجد، وإيليا يمثل الذين اختطفوا أحياءً وصعدوا إلى السماء (كما في تسالونيكي الأولى ١٣:٤-١٨).
- كما أنهما يمثلان الناموس (مُوسَى) والأنبياء (إِيلِيَّا). أي أن مجمل أو خلاصة العهد القديم قد جاءت لملاقاة يسوع على جبل التجلي.
- وكلاهما أيضاً سيحققان نبوة في المستقبل. فمن المرجح أن إِيلِيَّا ومُوسَى مرتبطان بالشهود المذكورين في سفر الرؤيا ٣:١١-١٣.
- رأى التلاميذ بعيونهم الدليل على وجود حياة بعد الموت. فعندما رأوا موسى وإيليا، كانوا يعلمون أن موسى مات قبل ١٤٠٠ سنة وأن إيليا مات قبل ٩٠٠ سنة تقريباً. ومع ذلك ها هما يقفان أمامهم أحياء في المجد. فما حدث هنا أكد للتلاميذ كلام يسوع عن القيامة.
- يبدو أن التلاميذ تعرفوا على إيليا وموسى. وهذا يظهر لنا أننا سنعرف بعضنا البعض عندما نصعد إلى السماء. فلن نعرف في السماء أقل مما نعرفه على الأرض.
- وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ: كان إيليا وموسى مهتمين أن يعرفوا كيف تسير خطة الله من خلال يسوع، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ عَنْ مَوْتِهِ الَّذِي يُوشِكُ أنْ يَحْدُثَ فِي مَدِينَةِ أورشليم (لوقا ٣١:٩).
ج) الآيات (٥-١٠): عرض بطرس غير الحكيم لبناء ثلاث مظال لتكريم يسوع وموسى وإيليا، وسماع صوت الآب.
٥فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». ٦لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. ٧وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». ٨فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ. ٩وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. ١٠فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: «مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟»
- فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً: عندما رأى بطرس يسوع في مجده، لا بد أنه قال لنفسه:” هذا رائع. فهذه ما يجب أن تكون عليه الأمور. فدعونا ننسى الكلام عن الألم والرفض والصليب. ولنبنِ لأنفسنا مظالاً هنا لنعيش مع يسوع الممجّد طوال الوقت.”
- لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ: غالباً ما نقع في المشاكل عندما نتكلم مثل بطرس، لا نعرف ماذا نقول. ونرى أيضاً أن بطرس تكلم بدافع الخوف (إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ). فجميعنا يقول أشياء غبية دون تفكير وبدافع الخوف.
- “كان بطرس صريحاً وجريئاً ومتحمساً. وفي رأيي، تمتع بطرس بشيء رائع وجميل؛ وفي رأيي، نحن بحاجة إلى المزيد من نوعية بطرس في كنائسنا اليوم. فعلى الرغم من كونهم متسرّعين ومندفعين، إلا أنهم يملكون الحماسة والطاقة ويدفعوننا إلى مواصلة التقدم.” سبيرجن (Spurgeon)
- “يخبرنا لوقا أن بطرس ويعقوب ويوحنا كلهم كانوا نياماً، وعندما أفاقوا رأوا يسوع المُتجلي (الذي تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ) مع إيليا وموسى. “استيقظ بطرس في اللحظة التي بدأ فيها المجد يتلاشى، وبدأ يثرثر من الخوف، كما يفعل البعض.” كولي (Cole)
- كان كلام بطرس ينم عن حماقة لأنه وضع يسوع على نفس المستوى مع إيليا وموسى – مظلة لكل منهم! لكن يسوع ليس مثل موسى أو إيليا أو حتى نبي أعظم من موسى وإيليا، هو يسوع ابن الله.
- إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ: إن تجربة التواجد في محضر مجد الله ليس بالضرورة تجربة ممتعة – خاصة عندما نكون مثل بطرس الذي لم يمجد الله حقاً. فأحياناً كثيرة يظهر مجد الله فينا حينما يوبخنا.
- وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ: كانت تلك سحابة مألوفة بالنسبة لهم، سحابة مجد الله المعروفة بالشكينة.
- رافق عَمُودِ السحاب الشعب في البرية (سفر الخروج ٢١:١٣-٢٢).
- تكلم الله مع الشعب من خلال سحابة المجد (سفر الخروج ١٠:١٦).
- تقابل الله مع موسى ومع آخرين من خلال سحابة المجد (سفر الخروج ٩:١٩، ١٥:٢٤-١٨، سفر العدد ٢٥:١١، ٥:١٢، ٤٢:١٦).
- وقف عمود السحاب عِنْدَ بَابِ خيمة الاجتماع (سفر الخروج ٩:٣٣-١٠).
- ظهر الله لرئيس الكهنة في الْقُدْسِ دَاخِلَ الْحِجَاب من خلال سحابة المجد (سفر اللاويين ٢:١٦).
- ظهر الله لسليمان عند تكريس الهيكل من خلال سحابة المجد، وعندما ملأ السحاب بيت الرب لم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة (سفر ملوك الأول ١٠:٨-١١، سفر أخبار الأيام الثاني ١٣:٥-١٤).
- ملئت سحابة المجد في رؤية حزقيال الهيكل مِنْ لَمَعَانِ مَجْدِ الرَّبِّ. (سفر حزقيال ٤:١٠).
- ظللت سحابة المجد مريم عندما حملت بيسوع بقوة الروح القدس (لوقا ٣٥:١).
- استقبلت سحابة المجد يسوع في السماء عند صعوده (أعمال الرسل ٩:١).
- سحابة المجد سوف تعرض مجد يسوع المسيح عندما يعود منتصراً على هذه الأرض (لوقا ٢٧:٢١).
- «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا»: أعلن الصوت من سحابة المجد بكل وضوح أن يسوع لم يكن مثل إيليا وموسى، بل هو ابْنِي الْحَبِيبُ… لَهُ اسْمَعُوا.
- هذا الإعلان الذي جاء من السماء أجاب على شكوك التلاميذ بعد الإعلان عن المسيح المتألم، وأكد لهم أن الخطة كانت تسير وفقاً لمشيئة الله الآب.
- أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ: كان المطلوب من بطرس ويوحنا ويعقوب أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، وعلى أية حال، من كان سيصدقهم؟
- ولكن كان تأثير هذه الحادثة دائماً على هؤلاء الرجال. فكتب بطرس عن تلك الليلة في رسالته الثانية ١٦:١-١٨ وكيف صوت الله: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا» ما زال يرن في أذنيه، مؤكداً حقيقة يسوع.
- بقدر ما كانت هذه التجربة مثيرة للإعجاب، إلا أنها لم تغير حياة التلاميذ كما غيرتهم الولادة الثانية. فالولادة الثانية من روح الله هي أعظم معجزة، وأعظم تجسيد لمجد الله على الإطلاق.
- “من الأفضل للإنسان أن يعيش بالقرب من المسيح وأن يتمتع بحضوره، من أن يجلس تحت سحابة منيرة يستمع لصوت الآب.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (١١-١٣): مشكلة مجيء إيليا قبل مجيء المسيح: سؤال مبني على سفر ملاخي ٥:٤-٦
١١فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ: «لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» ١٢فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْذَلَ. ١٣لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».
- لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: تنبأ ملاخي بوضوح عن مجيء إيليا قبل المسيح (سفر ملاخي ٥:٤-٦). لهذا تساءل التلاميذ: “إن كان يسوع هو المسيح، فأين إيليا؟”
- إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً: قال لهم يسوع أن النبوة المذكورة عن إيليا في ملاخي ستتحقق بالفعل. وعلى الرغم من أن يسوع لم يقل هذا هنا، إلا أن النبوة عن مجيء إيليا كان لها علاقة بمجيء يسوع الثاني وليس مجيئه الأول، ومن المرجح أن إيليا سيعود كواحد من الشهود كما نرى في سفر الرؤيا ٢:١١-١٣.
- وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا: لقد وجه يسوع الانتباه هنا إلى الفرق بين مجيئه الأول والثاني. ولأن التلاميذ كانوا يعرفون النبوات المتعلقة بمجد المسيح جيداً، طلب منهم يسوع أن يفكروا في النبوات التي تتكلم عن ابن الإنسان وكيف سيَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ.
- لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى: صحيح أن إيليا لم يأتِ بعد فيما يخص مجيء المسيح الثاني، إلا أنه كان هناك شعور بأن إيليا قَدْ أَتَى بالفعل، مشيراً هنا إلى يوحنا المعمدان.
- لم يتقمص يوحنا شخصية إيليا، لكنه قام بنفس دور إيليا وخدم مثله. كان يوحنا المعمدان يشبه إيليا أو كان صورة عنه.
ثانياً. يسوع يحرر صبياً من روحٍ شرير عنيد
أ ) الآيات (١٤-١٨): لم يتمكن التلاميذ من طرد الروح النجس
١٤وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. ١٥وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. ١٦فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ: «بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» ١٧فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَ : «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، ١٨وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا».
- كَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ: نستطيع أن نستنتج من السياق أن الكتبة انتقدوا التلاميذ لعدم تمكنهم من مساعدة الصبي المسكون بالأرواح الشريرة. “قد يتساءل المرء لماذا لم يقدم هؤلاء الكتبة دليلاً على تقواهم بإخراج الأرواح الشريرة بأنفسهم أمام هذا الحشد، بدلاً من إحراج التلاميذ المكتئبين.” كولي (Cole)
- هذا هو نوع الصراع الذي أراد بطرس تجنبه بطلبه البقاء على جبل التجلي (مرقس ٥:٩). ولكن الأمور لا تسير بهذا الشكل. فكان عليهم أن ينزلوا من على الجبل ويتعاملوا مع الواقع أمامهم.
- “وجد يسوع الكتبة يتحاورون، والأب في حيرة من أمره، وصبياً مسكوناً بالأرواح الشريرة، ووجد تلاميذه مهزومين… فأسكت الكتبة، وعزى الأب، وشفى الصبي، وأرشد التلاميذ.” مورغان (Morgan)
- رُوحٌ أَخْرَسُ: كان طرد هذا النوع من الأرواح صعباً للغاية على طاردي الأرواح اليهود المعاصرين، بل كان مستحيلاً. فوفقاً لمعتقداتهم، كان عليهم أن يعرفوا اسم الروح قبل أن يتمكنوا من طرده، فإن كان الروح أخرس، فلن يعرفوا اسمه أبداً.
- وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ: ظهرت على الصبي أعراضاً قد تبدو للكثيرين اليوم أعراض داء الصرع، لكن يسوع أدرك أنها ناجمة عن سكنى الروح الشريرة فيه. وبلا شك، بعض الذين يشخصون بأنهم يعانون من أمراض جسدية أو عقلية اليوم هم في الواقع مسكونين بأرواح شريرة.
- “خاطب يسوع الروح الشريرة ككائن منفصل عن الصبي كما كان يفعل دائماً. وهذا يثبت أن يسوع لم يصدق الخرافات التي كانت سائدة. ومن الواضح أنه عرف أن السبب وراء حالة هذا الصبي الصعبة كان سكنى الروح له.” روبرتسون (Robertson)
- فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا: لم يتمكن التلاميذ من التعامل مع هذه الحالة على الرغم من أن يسوع أَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ (مرقس ٧:٦).
- يبدو أن بعض الأرواح أقوى، أي أكثر عناداً أو مخيفة أكثر من أرواح أخرى. ويبدو أن رسالة أفسس ١٢:٦ تصف الرُتب المختلفة بين صفوف أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ، ولنا أن نستنتج من هذا أن الأرواح تتباين في رتبتها وقوتها.
ب) الآيات (١٩-٢٧): يسوع يُحرر الصبي
١٩فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». ٢٠فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. ٢١فَسَأَلَ أَبَاهُ: «كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. ٢٢وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». ٢٣فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». ٢٤فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». ٢٥فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: «أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» ٢٦فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». ٢٧فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ.
- أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟: عندما وصفهم يسوع بالْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، ربما كان يتكلم عن الكتبة المعارضين أو الأب اليائس أو التلاميذ الذين فشلوا في إخراج الروح.
- فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ: عندما اقترب يسوع من الصبي، عرف الروح أن وقته قد حان. فأراد أن يسبب أكبر ضرر ممكن قبل أن يترك الصبي.
- إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا: بدا أن الرجل كان غير متأكداً من قدرة يسوع على فعل أي شيء. ولكن ’إن‘ هنا لا تشير إلى قدرة يسوع، بل إلى إيمان الرجل. لهذا قال له يسوع: إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ. فعندما نثق بالله على أنه حق وكل وعوده صادقة، كُلُّ شَيْءٍ وعد به مُسْتَطَاعٌ.
- «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي»: حث يسوع هذا الأب المسكين على الإيمان. لقد آمن بسلطان يسوع على تحرير ابنه، وإلا لما جاء إليه. ولكنه أدرك أيضاً حجم شكوكه. لهذا صرخ بدموع وقال: أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي.
- “في هذه الحالة، لم يكن عدم إيمان الرجل تمرداً ضد الله أو رفضاً لمواعيده. فهو لم ينكر وعد الله بل اشتهاه. ومع ذلك، بدا الأمر أروع من أن يصدق. ولهذا صرخ: فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي.
- جملة ’فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي‘ لا يمكن أن تقال إلا بالإيمان. “غير المؤمن لا يدرك عدم إيمانه، ولكن بمجرد حصوله ولو على إيمان بسيط، يبدأ في إدراك حجم عدم إيمانه.” سبيرجن (Spurgeon)
- فَصَرَخَ (الرُّوحَ النَّجِسَ) وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ: لم يواجه يسوع أي صعوبة في التعامل مع الروح، على الرغم من أن الروح قدم عرضاً أخيراً لقوته. ولأن الروح كان يعرف أن موعد خروجه من الصبي قد حان، قام بإحداث أضرار جسيمة قبل أن يتركه، ولكنها لم تكن أضرار دائمة.
ج) الآيات (٢٨-٢٩): لماذا لم ينجح التلاميذ؟
٢٨وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» ٢٩فَقَالَ لَهُمْ: «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ».
- «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟»: كشف يسوع عن سبب ضعفهم: قلة الوقت الذي يصرفونه في الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ.
- «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ»: لا يعني هذا أن الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ يجعلاننا أكثر قدرة على طرد الأرواح، بل يعني أن الصلاة والصوم يقرباننا من قلب الله ويجعلاننا أكثر إنسجاماً مع مشيئته. إنهما تعبير عن اتكالنا الكامل عليه.
- سبق وأعطاهم يسوع السلطان على طرد الأرواح (مرقس ١٤:٣-١٥). ومع ذلك، “السلطان الذي أعطاه يسوع لهم لن يكون فعالاً إلا بممارسة الإيمان، وهذا الإيمان لن ينمو إلا من خلال الانضباط الروحي وتكريس الذات.” ويرزبي (Wiersbe)
- هذا الاتكال الكلي على الله هو العلاج للكثير من المشاكل الروحية. فإن كنت تشعر بخيبة أمل من نفسك فهذا يعني أنك اتكلت على ذاتك.
ثالثاً. التوجه نحو أورشليم
أ ) الآيات (٣٠-٣٢): يسوع يذكر تلاميذه بإرساليته
٣٠وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، ٣١لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ». ٣٢وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ.
- وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ: ربما كان هذا لأن يسوع لم يرد أن يعيق أهل الجليل رحلته المهمة إلى أورشليم.
- إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ: أخبر يسوع تلاميذه عن هذا المصير بكل وضوح في مرقس ٣١:٨. والآن، ها هم يغادرون الجليل متجهين نحو أورشليم ليواجهوا ذلك المصير الذي تكلم عنه يسوع.
- وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ: لم يستوعب التلاميذ ما قاله يسوع عن مصيره في أورشليم، أي أنه سيموت ومن ثم يقوم ثانية. وللأسف، خَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ.
ب) الآيات (٣٣-٣٤): جدال على الطريق
٣٣وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» ٣٤فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ.
- لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ: يبدو أن هذا كان موضوع الجدل المفضل لدى التلاميذ. فقد اعتمدوا جميعاً على أن يسوع هو الملك الذي سيسيطر على العالم، وكانت معظم حواراتهم تتمحور حول من هو المستحق أن يكون المساعد الرئيسي ليسوع.
- فَسَكَتُوا: كان هذا صمتاً يعبر عن شعورهم بالخجل والإحراج من هاجسهم بالعظمة. وكان هذا أمراً صحياً ويثبت أنهم ابتدأوا يفهمون كلام يسوع.
ج) الآيات (٣٥-٣٧): العَظَمَة الحقيقية في ملكوت السموات
٣٥فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ». ٣٦فَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: ٣٧«مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
- فَجَلَسَ: كان جلوس يسوع مهماً لأنه علامة على أنه كان سيعلم. “جلس يسوع كما يفعل كل معلم يهودي يريد أن يعطي لتلاميذه وطلابه درساً، أو يصدر حكماً. تعمد يسوع أن يأخذ وضعية الجلوس كما يفعل المعلم اليهودي كي يعلم تلاميذه.” باركلي (Barclay)
- «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ»: كان السؤال المطروح هنا: “من الأعظم؟” وكان بإمكان يسوع أن يجيب على هذا السؤال هكذا: “أنا الأعظم، يا مغفلين.” لكن يسوع لم يوجه الاهتمام إلى نفسه، بل استخدم آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ كمثل للعظمة الحقيقية.
- يسوع هو الأعظم في الملكوت دون أي شك. فعندما قال آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ، كان يصف نفسه في الواقع ويعبر عن طبيعته بشكل دقيق. فيسوع هو حقاً الأول (أَوَّلاً) ومع ذلك صار آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ من أجلنا.
- يحث يسوع المؤمن على أن يكون آخِرَ الْكُلِّ. ففكرة طلب المديح والتقدير من الآخرين لا ينبغي أن تُشغل عقول أتباع يسوع. بل يريدنا يسوع أن نختار أن نكون آخِرَ الْكُلِّ وأن نُفضل الآخرين على أنفسنا (أن نضع الآخرين أولاً)، وأن نفعل ذلك عن اختيار لا عن اضطرار.
- يحث يسوع المؤمن على أن يكون خَادِماً لِلْكُلِّ. فما يميز صاحب السلطة، وفقاً لمنظور العالم، هو عدد الذين يخدمونه. ففي الصين مثلاً، كان من المألوف أن يطيل الأغنياء أظافرهم لدرجة تمنعهم من القيام بالمهام الأساسية، مما يتطلب وجود خدام طيلة الوقت لخدمتهم؛ فمن وجهة نظر العالم هذا هو المعنى الحقيقي للعظمة، لكن لله منظور مختلف تماماً. فقد أعلن يسوع أن العظمة الحقيقية لا تظهر من خلال عدد الذين يخدمونك بل بعدد الذين تخدمهم.
- “في هذا الإعلان لم يمح يسوع الطموح بل رقاه وجعله إلى هدف أسمى، فبدلاً من طموح السيادة وضع طموح الخدمة، وبدلاً من طموح الإنجار وتحقيق رغباتنا، وضع طموح مساعدة الآخرين والعمل على إسعادهم.” باركلي (Barclay)
- فَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ: لفت يسوع انتباههم إلى طبيعته من خلال استعانته بطفل واستخدامه كمثل. ففي تلك الأيام، كانوا يتعاملون مع الأطفال على أنهم مجرد ممتلكات لا أشخاص، وكان من الطبيعي ألا تسمعهم، تراهم نعم ولكن دون أن تستمع إليهم. فقال يسوع إن الطريقة التي نقبل فيها الآخرين مثل الأطفال تظهر كيف سنقبله هو: «مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي».
- الأطفال لا يشكلون أي خطر أو تهديد على أحد. فنحن لن نرتعب إن تقابلنا مع طفل عمره ٥ سنوات في زقاق مظلم. فإن كنا نرعب الآخرين ونهددهم بحضورنا، نحن لا نشبه يسوع إطلاقاً.
- الأطفال لا يجِيدون الخداع، وغير ماهرين في الضحك على أهاليهم. فإن كنا بارعين في خداع الآخرين وفي لبس الأقنعة، نحن لا نشبه يسوع إطلاقاً.
- مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي: لأن يسوع آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ ومثل الأطفال، نحن نكرمه ونقبله حينما نكرم ونقبل الأطفال أو أي خادم مثل يسوع.
د ) الآيات (٣٨-٤٢): العظمة الحقيقية ليست انتقائية بل تشمل الجميع
٣٨فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قِائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». ٣٩فَقَالَ يَسُوعُ: «لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. ٤٠لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. ٤١لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ. ٤٢«وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ».
- رَأَيْنَا وَاحِدًا: لا بد أن التلاميذ شعروا بالإحباط حينما سمعوا أن أتباعاً آخرين ليسوع تمكنوا من إخراج الشياطين في حين فشلوا هم (مرقس ١٨:٩). لا عجب أن يوحنا أرادهم أن يمنعهم.
- “يمكننا القول أن من قال هذا ربما كان واحداً من تلاميذ يوحنا المعمدان آمن بيسوع بناءً على تشجيع من سيده، أو ربما كان واحداً من السبعين الذين أرسلهم المسيح (لوقا ١:١٠-٧)، لكنه لم يعد بصحبة التلاميذ بعد أن تمم خدمته، ولكنه لا يزال يؤمن بالمسيح ويعيش بضمير صالح أمامه، لهذا تمكن من إخراج الشياطين كالآخرين.” كلارك (Clarke)
- لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا: قد يُعلم البعض تعاليم يشوبها بعض الأخطاء عن يسوع، ومع ذلك يقدمونه بطريقة أو بأخرى، دع الله يتعامل معهم. فالذين لا يعملون ضد يسوع هم معه بطريقة ما.
- رأى بولس كثيرين يكرزون بيسوع بدوافع مختلفة، بعضها شرير، ومع ذلك لم يهتم بل كان فرحاً لأنهم يكرزون بالمسيح بطريقة أو بأخرى (فيلبي ١٥:١-١٨).
- لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي: بالنظر إلى مبدأ الوحدة المذكور هنا، من اللائق التعامل مع الآخرين بلطف باسم يسوع. فلن يضيع أَجْرَ من يقدم حتى كَأْسَ مَاءٍ باسم يسوع.
- لا يوجد ما هو أبسط من تقديم كأس من الماء. ولكن الله يتذكر القلب لا العطية نفسها.
- وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي: إن كان فعل خير بسيط باسم يسوع ستبقى ذكراه إلى الأبد، كذلك أي فعل يسبب العثرة للآخرين. والدينونة أعظم: فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ.
- كان هناك حجمين من حَجَرُ الرَّحَى (حجَرُ طَحْنٍ) في تلك الأيام: حجر صغير تستخدمه المرأة لطحن الحنطة، وحجر أكبر يديره حمار لطحن كمية أكبر من الحنطة. تكلم يسوع هنا عن حَجَرُ الرَّحَى الأكبر حجماً.
- لا يفكر بعض المؤمنين بالمؤمنين الضعفاء حين يجرونهم إلى خلافاتهم وانقساماتهم التي يخرجون هم منها دون ضرر كبير وأما الضعفاء (الصِّغَارِ) فغالباً ما يتضررون أو يتعثرون.
هـ) الآيات (٤٣-٤٨): أهمية دخول ملكوت الله
٤٣«وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. ٤٤حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٥وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. ٤٦حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٧وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. ٤٨حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. ٤٩لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. ٥٠اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا».
- وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا: للأسف، أخذ البعض هذه الكلمات بمعناها الحرفي وليس كما قصدها يسوع، وقطعوا أيديهم أو قاموا بتشويه أنفسهم بطريقة ما في محاولة خاطئة لكبح الخطية.
- المشكلة في تطبيق كلمات يسوع حرفياً هنا هي أن التشويه الجسدي لن يغلب الخطية أبداً. فالخطية هي مسألة داخلية لا شأن لها بأي عضو في أجسادنا، فإن قطعت يدي اليمنى فإن يساري ستستمر في عمل الخطية. وإن قمت ببتر كل أعضائي، ما زال بإمكاني أن أخطئ في عقلي وفي قلبي.
- “لم يطالب يسوع ببتر الأعضاء، لكنه كان يتكلم عن ثمن الذبيحة (التضحية) بأقوى تعبير ممكن.” لاين (Lane)
- خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ: حاول يسوع بهذا التحذير أن يزيل أي تصورات خاطئة لدى التلاميذ. فكانوا يفكرون في المكافآت التي سيحصلون عليها في الملكوت دون بذل الذات.
- كرر يسوع بشكل أساسي، ما كتبه مرقس في ٣٤:٨-٣٥: إن أراد أحد أن يُخَلِّصَ حياته، سيخسرها… وإن أرد أحد أن يسير ورائي، فليحمل صليبه ويتبعه.
- وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ: كلمة جَهَنَّمَ هي الترجمة اليونانية للكلمة العبرية “وادي هنوم.” ويقع هذا الوادي خارج أسوار أورشليم وسمي بالوادي النجس بسبب عبادة مُولَك وبسبب تقديم الذبائح البشرية، وبالتالي تحول إلى مكب للنفايات حيث تحرق القمامة. فتلك الحرائق المشتعلة والديدان المتقيحة جعلت هذا الوادي يعكس صورة حية لمصير من تكون جهنم مصيره.
- يسمى هذا المكان أيضاً “بُحَيْرَةِ النَّارِ” في رؤيا يوحنا ١٣:٢٠-١٥، حيث النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ (متى ٤١:٢٥).
- الَّتِي لاَ تُطْفَأُ: “قد يتمكن ولد صغير من نقل ماء البحر بمعلقة صغيرة قبل أن ينتهي عذاب من كان جهنم مصيره، فنهر الكبريت هذا لن تنطفئ نيرانه أبداً.” تراب (Trapp)
- حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ: “يبدو أن كل منا لديه دودة ما، قد تكون: ندماً على خطية ما ارتكبها، أو ندماً على نعمة رفضها، ومع أن جميعنا يستحق مصير النار والعذاب، إلا أني أيها القارئ العزيز أصلي كي يخلصك الله الحي من هذا الدود ومن هذه النار.” كلارك (Clarke)
- “هذا الدود (يقول المفسرون) هو الندم المستمر وحسرة الروح على الحماقات والخطايا التي ارتكبتها عن قصد، والتي أضحت نتيجتها هذا العذاب الدائم. فيا ليتك أيتها النفس أن تفكري بهذا قبل أن يأتي ذلك الوقت الذي يسعى فيه أصدقاؤك ليرثوا ممتلكاتك وقبل أن يزحف الدود إلى جسدك ويطلب الشيطان روحك.” تراب (Trapp)
- كانت رسالة يسوع واضحة جداً: معرفة مدى فظاعة جهنم يجعلنا لا نتردد في التضحية بأي شيء غالي علينا. وبالتالي، لا يمكننا التفكير في ملكوت الله من ناحية المكافآت والبركات فقط؛ بل بما علينا أن نضحي به أيضاً.
و ) الآيات (٤٩-٥٠): يسوع يتكلم عن الملح والنار
٤٩«لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. ٥٠اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا».
- لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ: أعلن يسوع أن كل مؤمن سوف يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وأن وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. على الملح أن يحتفظ بملوحته، وهذا سيجلب السلام بين المؤمنين.
- لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ: هناك العديد من التفاسير لهذه الفقرة.
- التفسير الرئيسي الأول هو أن النار تشير إلى الضيق والألم، فهذه الأمور ترافق “الذبيحة الحية” (رومية ١:١٢) التي يقدمها التلميذ. وبما أن شعائر العهد القديم كانت يستخدم فيها الملح دائماً (سفر اللاويين ١٣:٢)، قال يسوع: “وكما كانت الذبيحة بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُ حسب الناموس، هكذا ينبغي على الذبيحة الحية التي يقدمها أتباعي أن تكون مملحة بالضيق والألم.”
- التفسير الرئيسي الثاني هو أن النار تشير إلى الروح القدس. فوجوده فينا يعطي نكهة لحياتنا وينقينا ويحفظنا ويجعل “ذبيحتنا الحية” مقبولة لدى الله.