إنجيل لوقا – الإصحاح ٦
الموعظة على سهل
أولاً. جدل يسوع حول يوم السبت
أ ) الآيات (٢-١): سبب الجدل: أُتهم التلاميذ بأنهم يحصدون في يوم السبت.
١وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي بَعْدَ ٱلْأَوَّلِ ٱجْتَازَ بَيْنَ ٱلزُّرُوعِ. وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. ٢فَقَالَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟».
- وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي: إذا كان السبت الأول هو الذي ذكره لوقا في ٣١:٤، فهذا يبين أن يسوع كان مشغولاً جداً كل تلك الفترة، بين السبت الأول و(ٱلسَّبْتِ ٱلثَّانِي).
- اعتقد كلارك (Clarke)، مع آخرين، أن هذه العبارة تُشير إلى السبت الأول بعد عيد الفصح. هناك بعض التعقيدات النصية هنا، ومن الممكن أن العبارة تعني ببساطة “يوم السبت.”
- وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَقْطِفُونَ ٱلسَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ: لم يفعل التلاميذ أي شيء خطأ. فقطفهم للسنابل لا يعتبر سرقة وفقاً لشريعة مساعدة الفقراء المذكورة في سفر التثنية ٢٥:٢٣.
- «لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي ٱلسُّبُوتِ؟»: كانت المشكلة في اليوم الذي فعلوا ذلك به. فقد وضع المعلمين اليهود قائمة مُفصلة بالأشياء التي “يجوز” و “لا يجوز” فعلها يوم السبت، وما فعلوه يُعتبر انتهاك واضح لبند من البنود المدرجة في تلك القائمة.
- عندما فعل التلاميذ ما فعلوه، فإنهم في نظر القادة الدينيين مذنبون لأنهم حصدوا ودرسوا وذروا الحنطة وأعدوا الطعام. كان هناك بالتالي أربعة انتهاكات ليوم السبت كلها حصلت معاً وفي نفس الوقت.
- طقوس حفظ يوم السبت مستمرة حتى يومنا هذا بين اليهود المتشددين. في أوائل عام ١٩٩٢، سمح ثلاثة يهود متشددين شققهم التي تقع في حي في إسرائيل تحترق بينما يسألون المعلم اليهودي إن كان إتصالهم بالاطفاء يوم السبت سينتهك الناموس، إذ لا يجوز استخدام الهاتف يوم السبت لأن ذلك من شأنه كسر التيار الكهربائي، الذي يعتبر شكلاً من أشكال العمل. في النصف ساعة التي استغرقها المعلم اليهود قبل أن يقول: “نعم” انتشرت النار إلى الشقتين المجاورتين.
- أضاف العديد من المعلمين اليهود طقوساً معقدة إضافية تتعلق بيوم السبت وبحفظ القوانين الأخرى. علّم المعلمون اليهود أنه كان ممنوعاً حتى ربط العقدة – باستثناء المرأة التي يمكنها ربط عقدة في حزامها. فإن كان هناك دلواً من الماء مثلاً، ويجب سحبه من البئر، لا يجوز للمرء ربط حبل في الدلو، ولكن يمكن للمرأة أن تربط حزامها بالدلو ثم بالحبل.
ب) الآيات (٣-٥): أجاب يسوع عن الاتهام بمبدأين هامين
٣فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ وَلَا هَذَا ٱلَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ؟ ٤كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ ٱللهِ وَأَخَذَ خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى ٱلَّذِينَ مَعَهُ أَيْضًا، ٱلَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ». ٥وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضًا».
- أَمَا قَرَأْتُمْ: كان هذا توبيخاً مخفياً للقادة اليهود (الفريسيين في لوقا ٢:٦) الذين كانوا على ثقة في معرفتهم في الكتاب المقدس. وكأنه يتساءل إن كانوا قد قرأوا أو حتى فهموا كتبهم المقدسة. وألمح أنهم كانوا يجهلون النقطة الأساسية لهذا الحدث في العهد القديم (قصة داود).
- ويُعلّق باركلي (Barclay): “قد يقرأ المرء الكتاب المقدس بتدقيق من أوله إلى آخره ويحفظه حرفياً ويقتبس منه، وربما ينجح بأي امتحان يتعلق بالكتاب، ومع ذلك لا يدرك معانيه العميقة وجواهره النادرة.”
- ٱلَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ: في إشارته لقصة استخدام داود للخُبْزٌ المُقَدَّسٌ ((خُبْزَ ٱلتَّقْدِمَةِ، أو خبْزِ حُضُورِ الله) المذكورة في صموئيل الأول ١:٢١-٦ يُظهر المبدأ الأول: حاجة الإنسان أهم بكثير من الطقوس الدينية.
- هذا بالضبط ما لا يستطيع كثير من الناس، الغارقين في التقليد، تقبله ببساطة، لأنهم:
- لا يؤمنون أن الله يريدُ رَحْمَةً لا ذَبِيحَةً (هوشع ٦:٦).
- لا يؤمنون أن محبة الآخرين أكثر أهمية من الطقوس الدينية (إشعياء ١:٥٨-٩).
- لا يؤمنون بأن الذبائح المقدمة لله هي روحٌ منكسرةٌ وقلبٌ منكسر ومنسحق. هؤلاء يا الله، لا تحتقرهم (مزمور ١٧:٥١).
- كتب مورغان (Morgan): “أي ممارسة لشريعة يوم السبت تعمل ضد مصلحة الإنسان لا تنسجم مع قصد الله.”
- استخدام يسوع لقصة داود للدفاع عن التلاميذ كان صحيحاً للأسباب التالية:
- كانت قضية داود تتعلق بالأكل أيضاً.
- وربما وقعت يوم السبت (صموئيل الأول ٦:٢١).
- لم يكن الأمر متعلقاً بداود فحسب، بل بأتباعه أيضاً.
- هذا بالضبط ما لا يستطيع كثير من الناس، الغارقين في التقليد، تقبله ببساطة، لأنهم:
- «إِنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ أَيْضًا»: المبدأ الثاني أكثر دراماتيكية. قال يسوع أنه رَبُّ ٱلسَّبْتِ، ورب السبت لم يشعر بالإهانة من تصرفات تلاميذه، إذن لا يجوز لهؤلاء القادة أن يشعروا بالإهانة أيضاً.
- كان هذا تصريح مباشر عن ألوهيته. قال يسوع أن لديه السلطان لمعرفة ما إذا كسر تلاميذه يوم السبت، لأنه هو رب السبت.
ج ) الآيات (٦-٨): يسوع يدخل ٱلْمَجْمَعَ ويرى رجُلٍ يَدُهُ يَابِسَةٌ
٦وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ ٱلْيُمْنَى يَابِسَةٌ، ٧وَكَانَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ هَلْ يَشْفِي فِي ٱلسَّبْتِ، لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً. ٨أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي يَدُهُ يَابِسَةٌ: «قُمْ وَقِفْ فِي ٱلْوَسْطِ». فَقَامَ وَوَقَفَ.
- دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ: أظهر لوقا أن المقاومة بدأت تزداد ضد يسوع وأتباعه. ومع ذلك، استمر يسوع في الذهاب إلى المجمع ولم يترك الشركة مع شعب الله، حتى وإن اعتقدنا أنه لا داعي لذلك.
- وَكَانَ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ هَلْ يَشْفِي فِي ٱلسَّبْتِ: بهذه التصرفات، اعترف الفريسيون أن يسوع يملك قوة الله لعمل كل هذه المعجزات، لهذا سعوا للإيقاع به.
- راقب القادة اليهود يسوع عن كثب، ولكن بقلب لا يملك أي نوع من المحبة نحوه. يمكننا مراقبة يسوع عن كثب أيضاً، ولكن قلوبنا بعيدة عنه.
- ويُعلّق بايت (Pate): “ربما كانوا هم من أحضر الرجل إلى المجمع عن قصد كي ينصبوا ليسوع فخاً.” وربما كانت توقعاتهم أكبر من توقعات تلاميذ يسوع بأنه سيفعل مثل هذه المعجزة.
د ) الآيات (٩-١١): رب السبت يشفي في يوم السبت
٩ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَسْأَلُكُمْ شَيْئًا: هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٱلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلَاكُهَا؟». ١٠ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَفَعَلَ هَكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَٱلْأُخْرَى. ١١فَٱمْتَلَأُوا حُمْقًا وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ.
- هَلْ يَحِلُّ فِي ٱلسَّبْتِ فِعْلُ ٱلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ ٱلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلَاكُهَا؟: في سؤاله هذا للقادة اليهود، أكد يسوع على حقيقة يوم السبت. فلا يوجد ابداً يوم غير مناسب لفعل الخير والصلاح.
- تمسك القادة اليهود المفرط بتطبيق الناموس في أيام يسوع (والذي تجاوز الوصايا الموجودة في الكتاب المقدس نفسه)، جعلهم يهملون أعمال الرحمة والمحبة تجاه المحتاجين. ويُعلّق مورغان (Morgan): “بالتأكيد، لا يوجد هناك أي انتهاك قوي لحرمة القوانين الإلهية يمكن أن يسد مجرى الرحمة.”
- يواجه المؤمن اليوم تحدياً لإظهار المحبة والرحمة للجميع والتمسك بأمانة بالمعايير الأخلاقية الإلهية الواضحة حول القضايا التي عليها جدلٌ اجتماعي.
- «مُدَّ يَدَكَ»: أمر يسوع الرجل أن “يمدَّ يَده،” أمر الرجل أن يفعل شيئاً مستحيلاً بالنسبة لوضعه الحالي. لم يعطِ يسوع الأمر فحسب، بل اعطاه القدرة على الوفاء به أيضاً، وبدوره تجاوب الرجل ونال الشفاء.
- فَٱمْتَلَأُوا حُمْقًا: كانت ردة فعل القادة اليهود صادمة، ولكنها مناسبة. عندما فعل يسوع هذه المعجزة يوم السبت، لبى احتياجات الناس البسطاء وكسر التقاليد الدينية التافهة. من الواضح أن غضبهم والتخطيط لقتله (وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ) كان أكثر انتهاكاً ليوم السبت من شفاء يد الرجل اليابسة.
- كثيراً ما وبخ يسوع القادة الدينيين في عصره بسبب قلوبهم. قال عنهم: تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ… رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! … مُبْطِلِينَ كَلَامَ ٱللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ ٱلَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ… (مرقس ٨:٧-٩، ١٣:٧)
- لم يكن يسوع يحاول إصلاح السبت. بل حاول أن يُظهر أن مفهومهم ليوم السبت، فَقَدَّ معناه الحقيقي. فالشخص المتزمت يريد مناقشة القواعد والقوانين، ولكن الأمر لا يتعلق بأي قانون هو الصائب، بل بالطريقة البسيطة للوصول إلى الله. ونحن نؤكد أن الله لا يعتمد على ما نقدمه له، بل على ما قدمه لنا في يسوع المسيح.
ثانياً. اختيار ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ
أ ) الآيات (١٢-١٣): اختيار الرُسل ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ
١٢وَفِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى ٱللَّيْلَ كُلَّهُ فِي ٱلصَّلَاةِ لِلهِ.١٣وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ دَعَا تَلَامِيذَهُ، وَٱخْتَارَ مِنْهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا «رُسُلًا»
- وَفِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ: كان يسوع يقف عند مفترق طرق صعب في خدمته.
- فقد اساء إلى تقاليد القادة اليهود، مما جعلهم يخططون لقتله.
- بدأت القيادة السياسية أيضاً تعمل كي تدمره (وفقاً لمرقس ٦:٣).
- تبعته الحشود الكبيرة، ولكنهم لم يكونوا مهتمين بالأمور الروحية، وكان من السهل تحريضهم ضد يسوع بسرعة.
- استجابة لهذه الضغوط وللأوضاع المتغيرة، عزل يسوع نفسه ليقضي وقتاً في صلاة خاصة. نفترض أن يسوع كان يصلي باستمرار، ولكن من أجل هذه الحاجة الخاصة خَرَجَ إِلَى ٱلْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. علّقَ سبيرجن (Spurgeon): “لمنع أي مقاطعات، وليُعطي نفسه الفرصة ليسكب نفسه بالكامل، قَصَدَ الجبل.”
- كان يسوع بمفرده على ٱلْجَبَلِ، وقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي ٱلصَّلَاةِ. حدث هذا قبل اختيار ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ تلميذاً من التلاميذ الذين سيصبحون رُسُلًا لاحقاً.
- قَضَى يسوع اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي ٱلصَّلَاةِ لِلهِ: كان يسوع على وشك اختيار التلاميذ. ويمكننا القول أنه لم يكن هناك شيء في الثلاث سنوات خدمة التي قضاها يسوع قبل الصلب أكثر أهمية من هذا. فهؤلاء الرجال هم من سيستمرون في الخدمة، وبدونهم لن يمتد عمل المخلص إلى العالم أجمع. فلا عجب أن يصرف يسوع الليل كله مصلياً من أجل هذا الاختيار الحرج والمهم.
- على الرغم من أن يسوع المسيح هو الله، وبالرغم من أنه كُلي المعرفة، إلا أنه اختار أن يقضي الليل كله في الصلاة لاختيار الرسل. وكأي صراع واجهه يسوع، واجه هذا الأمر كرجل عادي، رجل احتاج مشورة الله أبيه واحتاج الاعتماد على قوة الروح القدس تماماً كما نفعل نحن.
- اللَّيْلَ كُلَّهُ: كتب سبيرجن (Spurgeon): “قضاء ليلة واحدة فقط في الصلاة قد تغيرنا تماماً، إذ نتغير من فقر روحي الى غنى روحي، ومن ارتعاش إلى انتصار.”
- دَعَا تَلَامِيذَهُ: كان التلاميذ (ويدعون الرُسل أيضاً) ينتمون ليسوع. التلاميذ لا ينتمون لأي رجل، أنهم ينتمون فقط ليسوع. إنهم م تَلَامِيذَهُ.
- يقول موريس (Morris): “التلميذ يريد أن يتعلم… ويطلب العِلم. ولكن الطالب في القرن الأول لم يدرس أي موضوع ببساطة، بل كان يتبع المعلم. فهناك نوع من التعلق الشخصي في “التلميذ” غير موجود في “الطالب.”
- وَٱخْتَارَ مِنْهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ: اختار يسوع ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَرسولاً لأنهم قاعدة الأساس لشعب الله المختار الجديد، وكما أن لإسرائيل ٱثْنَا عَشَرَ سبطاً، سيكون ليسوع أيضاً ٱثْنَا عَشَرَ رسولاً.
- ٱلَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا «رُسُلًا»: من بين العدد الكبير من أتباعه (المجموعة الأكبر من التلاميذ)، اختار يسوع ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ ليكونوا رُسُلاً.
- الفكرة من وراء الكلمة اليونانية القديمة رَسُول تأتي بمعنى “السفير.” علّقَ بايت (Pate): “الكلمة اليونانية ابوستولوس apostolos تعني”المُرسل.” وتصف الشخص الذي يُمثل شخصاً آخر، ويحمل رسالة منه. بهذا المعنى الأوسع كان يسوع أيضاً رسولاً وفقاً للرسالة إلى العبرانيين ١:٣ “لَاحِظُوا رَسُولَ ٱعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ.”
ب) الآيات (١٤-١٦): قائمة بأسماء ٱلِٱثْنَا عَشَرَ
١٤سِمْعَانَ ٱلَّذِي سَمَّاهُ أَيْضًا بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. ١٥مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْغَيُورَ. ١٦يَهُوذَا أَخَا يَعْقُوبَ، وَيَهُوذَا ٱلْإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي صَارَ مُسَلِّمًا أَيْضًا.
- بُطْرُسَ … وَأَنْدَرَاوُسَ … يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا: نحن في الواقع لا نعرف الكثير عن معظم هؤلاء الرجال. نعرف القليل عن بُطْرُسَ ويَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَيَهُوذَا. . أما الثمانية الآخرين، فلا نعرف سوى أسمائهم فقط. ولكن شهرتهم محفوظة في السماء، واسماءهم مكتوبة على ٱلِٱثْنَا عَشَرَ أساساً في مدينة الله السماوية. (رؤيا يوحنا ١٤:٢١).
- هناك العديد من الروابط المثيرة للاهتمام بين أفراد هذه المجموعة. هناك الأخوة (يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ)، وشركاء في العمل (بُطْرُسَ ويَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا كانوا صيادين)، والمعارضين لوجهات النظر السياسية (مَتَّى العشار الذي كان صديقاً للرومان، وَسِمْعَانَ الغيور الذي كان يكره الرومان)، وأخيراً الشخص الذي سيخون يسوع (يَهُوذَا ٱلْإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي صَارَ مُسَلِّمًا أَيْضًا).
- كتب جيلدنهيز (Geldenhuys): “يدل اسم عائلة يهوذا الإسخريوطي على أنه من مدينة َقَرْيُوتَ، وبالتالي يبدو أنه الوحيد من منطقة اليهودية بين ٱلِٱثْنَيْ عَشَر.”
- يبدو أن أسماء التلاميذ ٱلِٱثْنَا عَشَرَ كانت تُرتب دائماً بشكل ثنائي. كتب ويرسبي (Wiersbe): “منذ أن أرسل يسوع رُسله ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ، كانت تلك الطريقة المنطقية لذكرهم.”
- بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ
- يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا
- مَتَّى (لاوي) وَتُومَا (ويعني التوأم)
- يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ ٱلْغَيُورَ
- يَهُوذَا أَخَا يَعْقُوبَ (ويدعى أيضاً َتَدَّاوُسَ في ١٨:٣)، وَيَهُوذَا ٱلْإِسْخَرْيُوطِيَّ
- وَيَهُوذَا ٱلْإِسْخَرْيُوطِيَّ ٱلَّذِي صَارَ مُسَلِّمًا أَيْضًا: : اختار يسوع يهوذا، رغم معرفته أنه سيخونه. قال يسوع لتلاميذه في وقت لاحق: «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ .. وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» (يوحنا ٧٠:٦).
- كان لدى يسوع الكثيرين ليختار منهم، ولكنه اختار هؤلاء ٱلِٱثْنَيْ عَشَر فقط.
- لم يبحث يسوع عن شخص منفعل أو عصبي ليقوم بفضيحة ما أو ليثير النزاعات. فلا نقرأ عن أي فضيحة كانت محيطة بيهوذا أثناء خدمة يسوع. ويبدو أن التلاميذ الآخرين قاموا بأشياء أكثر سوءاً طيلة خدمة يسوع.
- اختار يسوع يهوذا رغم معرفته به وبما سيفعله، ولكنه يعرف أيضاً أن الله سيسمح بل سيستخدم الشر العظيم الذي سيفعله يهوذا للخير، على الرغم من نية يهوذا.
- سأل شخص ما مُعلم اللاهوت: “لماذا اختار يسوع يهوذا الإسخريوطي ليصبح تلميذه؟” أجاب المعلم: “لا أعرف، ولكن السؤال الأصعب: لماذا اختارني أنا؟”
ج ) الآيات (١٧-١٩): يسوع يشفي ويحرر الجموع
١٧وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، ٱلَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ، ١٨وَٱلْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. ١٩وَكُلُّ ٱلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لِأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي ٱلْجَمِيعَ.
- وَنَزَلَ مَعَهُمْ: نزل يسوع معهم (أي التلاميذ) ليخدم ويبارك الجَمْع. لم يُعلمهم يسوع خدمة الآخرين فحسب، بل أراد مساعدتهم أيضاً. ويبدو هنا أنهم يعملون معاً كفريق واحد.
- كان بإمكان يسوع أن يفعل كل هذا بنفسه. ولكن كان مهم بالنسبة له أن يعمل مع ٱلِٱثْنَيْ عَشَر كفريق واحد، وذلك لمصلحتهم ولمصلحة الخدمة.
- وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ: ألقى يسوع هذه العظة وهو يقف عَلَى أرْضٍ مُنبَسِطَةٍ (فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ). وكانت هذه الإشارة مفيدة للبعض لأنها تميز بين هذه العظة والعظة على الجبل المذكورة في إنجيل متى ٥-٧.
- ومع ذلك، فقد لاحظ البعض أن المنطقة المحيطة ببحر الجليل – بما في ذلك جبل التطويبات المعروف، حيث قدم يسوع موعظته على الجبل – كانت تبدو كالجبل عند النظر اليها من بحر الجليل، ولكنها في الواقع منطقة مستوية (مَوْضِعٍ سَهْلٍ).
- جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ: قطع الناس مسافات طويلة، وجاؤوا حتى من المدن الأممية صُورَ وَصَيْدَاءَ، كي يشفيهم يسوع أو يحررهم من الأرواح الشريرة.
- وَكُلُّ ٱلْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ: يا له من مشهد رائع، فالمئات أو آلالاف الذين جاؤوا ليسوع طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، آملين الحصول على معجزة. ونرى يسوع يقدم تعليمه في هذا المشهد والقرينة. ونستطيع أن نقول أنه قاطع خدمة الشفاء، وابتدأ يعلمهم.
- قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي ٱلْجَمِيعَ: لم يملك يسوع قوة الله فحسب، بل قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي ٱلْجَمِيعَ أيضاً.
- عندما لمست المرأة نازفة الدم هدب ثوبه وشُفيت، يخبرنا مرقس: “فَلِلْوَقْتِ ٱلْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ ٱلْجَمْعِ شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ” (٣٠:٥). أثناء تسديد يسوع لاحتياجات الآخرين، سواء من خلال الوعظ/التعليم أو المعجزات، خرج منه شيء ما. فاستخدام الله له وخدمته للآخرين كلفه شيئاً.
د ) الآية (٢٠ أ): استعداد يسوع لتعليم التلاميذه والحشود
٢٠وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلَامِيذِهِ وَقَالَ…
- وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلَامِيذِهِ: بدأ يسوع يُعلم فيما يُسمى في الغالب الموعظة على السهل، لأنها كانت منطقة مستوية (لوقا ١٧:٦)، ولكن علينا أن نميز بين هذه العظة والموعظة على الجبل المسجلة في إنجيل متى ٥-٧.
- هناك شبه كبير بين العظة المسجلة في إنجيل متى ٥-٧ والعظة المسجلة هنا في إنجيل لوقا، مع وجود بعض الإختلافات البسيطة. أول ملاحظة هي أن رواية لوقا أقصر بكثير. ويتساءل البعض إن كان يسوع ألقى هذه العظة في مناسبتين منفصلتين، أو في نفس المناسبة.
- وينقسم رأي العلماء اللاهوتيين بشأن هذه المسألة. ولكن علينا أن نتذكر أن يسوع كان واعظاً متجولاً، حيث كان تركيزه الأول ملكوت الله (راجع لوقا ٤٣:٤).
- غالباً ما يكرر الوعاظ المتجولين أنفسهم للحشود المختلفة، وخصوصاً إن كانت العظة حول نفس الموضوع. فربما كانت تلك نفس العظة المذكورة في إنجيل متى ٥-٧، ولكن ربما علمها في وقت ومكان مختلفين.
- إِلَى تَلَامِيذِهِ: ليس من قبيل الصدفة أن يسجل لوقا هذه العظة الرائعة مباشرة بعد اختياره ٱلِٱثْنَا عَشَرَ (لوقا ١٢:٦-١٦)، وقبل أن يُرسلهم للكرازة في جميع أنحاء مدن الجليل (لوقا ١:٩-٦) . وكانت هذه العظة جزءاً من تدريبهم لأنها تشرح ما يعنيه حقاً أن تكون تابعاً ليسوع المسيح.
- ويُعلّق بايت (Pate): “نستطيع أن نتكهن الدور المزدوج الذي لعبته هذه العظة: أولاً، تعزيز الثقة بين تلاميذ يسوع، وثانياً، تتحدى الذين لم يقرروا بعد على إتباعه.”
- ومن الواضح أن العظة على السهل (والموعظة على الجبل) كان لهما التأثير الكبير على الكنيسة الأولى. فقد أشار المسيحيين الأوائل لهذه العظة مراراً وتكراراً وتألقت حياتهم بالمجد كتلاميذ ثوريين.
- وَقَالَ: من المعروف عن الموعظة على السهل (والموعظة على الجبل) أنهما خلاصة التعليم الأخلاقي ليسوع – أو لأي شخص آخر. ففي الموعظة على السهل، يُعلم يسوع تلاميذه، ومن يريدون أن يصبحوا تلاميذه فيما بعد، كيف يعيشون بحسب الإنجيل.
- يُقال أنه إذا أخذت كل النصائح من الفلاسفة والأطباء النفسيين والمستشارين عن كيفية التمتع بحياة الملء، واختصرت الجزء الفلسفي منها وركزت على الأساسيات، فستصل في النهاية إلى نسخة واهية من العظة الرائعة التي قدمها يسوع.
- يطلق الكثيرون عنوان: “إعلان يسوع عن الملكوت” على الموعظة على الجبل. كما أعلنت المستعمرات الأمريكية استقلالها عن بريطانيا، وأعلن كارل ماركس عن بيانه الشيوعي، هكذا أعلن يسوع في هذه العظة عن جدول أعمال مملكته وخطة عمله.
- يعرض هذا الإعلان جدول أعمال مختلف تماماً عما توقعه الشعب اليهودي من المسيا، فمملكة المسيا لا تُقدم البركات السياسية أو حتى المادية، بل توضح عن الآثار الروحية لسيادة يسوع على حياتنا. تخبرنا هذه العظة الرائعة كيف نحيا عندما يكون يسوع هو رب الحياة.
- من المهم أن نفهم أن الموعظة على الجبل لا تمنح الخلاص، ولكنها تشرح للتلميذ الذي يريد أن يتبع يسوع، معنى أن يكون يسوع هو الملك على الحياة في مجرياتها اليومية العادية.
- علّقَ باركلي (Barclay): “هذه العظة نموذجاً جيداً لطريقة الوعظ عند اليهود. فالواعظ عند اليهود يُدعى: ’كرز Charaz‘، ومعناها خرز منظوم (كالمّسبَحَة). كما اعتاد الواعظ اليهودي أن لا يطيل الحديث حول فكرة واحدة، ولكنه ينتقل من فكرة إلى أخرى آملاً في جذب انتباه السامعين.”
ثالثاً. الخطة المفاجئة لملكوت الله
أ ) الآية (٢٠ب): بركات للمساكين
طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ، لِأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللهِ.
- طُوبَاكُمْ: وعد يسوع تلاميذه بالبركة، وهذه البركة ستكون للمساكين بالروح. فالفكرة من وراء الكلمة اليونانية القديمة (طوبى تعني “السعادة،” ولكن معنى الكلمة الحقيقي والإلهي لا يُشبه مفهومنا الحالي عن الراحة أو الترف الوقتي.
- استخدم بولس كلمة طوبى (مُبَارَك)، والتي تعني “السعادة/الغبطة،” عندما تكلم عن الله في تيموثاوس الأولى ١١:١ “حَسَبَ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱللهِ ٱلْمُبَارَكِ…” وعلّقَ باركلي (Barclay): “تصف كلمة ’مكاريوس‘ الفرح العجيب والهادئ وغير الملموس والذي لا يعتمد على شيء ولا يتأثر بصُدف الحياة ولا بالتغييرات المحيطة.”
- تخبرنا الآيات في متى ٣٤:٢٥ عن الكلام الذي سيوجهه يسوع لشعبه يوم الدينونة: “تَعَالَوْا يا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ.” يسوع سوف يُدين كلاً من المباركين والملعونين في ذلك اليوم – فهو يعرف جيداً الشخص المبارك ويشرح مؤهلاته. ويمكننا أن نضيف أيضاً أن يسوع كان أكثر شخص مبارك على الإطلاق، ويعرف يقيناً ما تعنيه حياة البركة.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “نلاحظ أيضاً أن كلمة طوبى (البركة/السعادة) هي فعل مضارع، وهذا يعني أنك تستطيع أن تتمتع بالبركة والسعادة الآن. فهو لا يقول أن البركة ستأتي، بل ستأتيك الآن (طوباكم).”
- طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْمَسَاكِينُ: هناك العديد من المفردات اليونانية القديمة يمكن استخدامها لوصف المساكين. ولكن استخدم يسوع الكلمة التي تشير الى حالة من الإنكسار الشديد، كما وتحمل فكرة التوسل للحصول على أمر ما.
- تفاجئنا هذه الكلمات بغرابتها. طوبى للمساكين! فلا معنى لها على الإطلاق. ومع هذا، توجد قوة وحكمة في هذا الحق وفي حقيقة أن المسكين ينظر للآخرين لتسديد احتياجه. فهو لا يعيش في وهم أنه قادر على تسديد احتياجه بنفسه.
- رغم أن تعليم يسوع كان مليئاً بالأمور العملية، إلا أنه كان رجلاً روحياً، وعلّم عن الأمور الروحية. عندما يتكلم يسوع عن المساكين فهو يقصد المساكين روحياً، وهذا بالضبط ما قاله في الموعظة على الجبل في متى (٥).
- يدرك المسكين بالروح أنه لا يملك أي مدخرات روحية، ويعرف أنه عاجز روحياً. فالمسكين بالروح لا يتشكل عن طريق نبذ الذات. بل من خلال عمل الروح القدس في القلب والتجاوب معه.
- يستطيع كل شخص أن يبدأ من هنا: فالبركة ليست للشخص النقي أو المقدس أو الروحي أو الرائع. فكل شخص يمكنه أن يكون مسكين بالروح. ويُعلّق سبيرجن (Spurgeon): “الأمر لا يتعلق بما أملك، ولكن بما لا أملك في أول نقطة أتصال بين روحي وبين الله.”
- لِأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللهِ: مع ذلك، أولئك المساكين بالروح، الذين عليهم التوسل، سيكافئون حتماً: لَكُمْ مَلَكُوتَ ٱللهِ. لذلك، فالمسكين بالروح هو شرط أساسي لنوال ملكوت الله، واستمرارنا في اللجوء إلى مواردنا الروحية معتقدين أنها ستكفينا، لن يمنحنا ما نحتاجه حقاً من الله.
- السبب الذي جعل يسوع يضع “المساكين بالروح” أولاً هو لأنه من دونها لن نرى الأوامر التالية في منظورها الصحيح. فلا يمكننا تتميمها بقوتنا الخاصة، بل من خلال التوسل الذي يعتمد على قوة الله.
ب) الآية (٢١أ): طوبى للجياع
طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْجِيَاعُ ٱلْآنَ، لِأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ.
- طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْجِيَاعُ ٱلْآنَ: يبحث الشخص الجائع عن الطعام باستمرار ويأمل أن يشبع. وبذلك يصبح الجوع هو دافعه وتركيزه الأول. يصف يسوع هنا البركات التي تأتي على من يطلبه أولاً ويسعى لبره مثل الرجل الجائع الذي يصبح كل همه هو إشباع ذلك الجوع.
- هذا الشغف حقيقي، كالجوع الحقيقي.
- هذا الشغف طبيعي، كشعور الجوع الذي يشعر به الإنسان.
- هذا الشغف شديد، كالشعور بالجوع تماماً.
- هذا الشغف مؤلم أحياناً، كالجوع الحقيقي الذي يمكن أن يتسبب بالألم.
- هذا الشغف قوي ويدفع المرء، كالجوع الذي يمكن أن يدفع المرء لتسديد ذلك الجوع.
- هذا الشغف علامة على الصحة، كالجوع الذي يبين أن المرء يتمتع بصحة جيدة.
- من الجيد أن نتذكر أن يسوع قال هذا في زمن وثقافة عرفت جيداً ما يعنيه الجوع والعطش. فإنسان العصر الحديث – على الأقل في العالم الغربي – لم يعاني يوماً من نقص في الاحتياجات الأساسية كالطعام والماء. فمن الصعب علينا أن نفهم معنى الجوع والعطش للمسيح ولبره.
- سجل متى نفس الرسالة التي قالها يسوع في لوقا: طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لِأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ (متى ٦:٥). وبما أنه أشار فيها إلى جوع آخر غير الجوع المادي، فعظته في لوقا تشير إلى نفس الجوع. يمكن للجوع إلى البر أن يعبر عن نفسه في عدة طرق: الشوق والجوع للحصول على طبيعة بارة. الشوق والجوع لحياة مكرسة ومقدسة أكثر. الشوق والجوع للإستمرار في بر الله. الشوق والجوع لرؤية البر يزداد في العالم.
- لِأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ: وعد يسوع بأن يشبع الجياع، ويملئهم بالشبع. ويا له من شبعٍ عجيب، فهو يُرضينا ولكن يجعلنا نتوق للمزيد.
ج ) الآية (٢١ب): طوبى للباكون
طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْبَاكُونَ ٱلْآنَ، لِأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ.
- طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلْبَاكُونَ ٱلْآنَ: بمعنى البكاء على حالة الإنسان والمجتمع، عالمين أن السبب هو الخطية. أَيُّهَا ٱلْبَاكُونَ تعني في الواقع، البكاء على الخطية ونتائجها.
- لأَنَّ هذا الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ، وهذا ما وصفه بولس في كورنثوس الثانية ١٠:٧. فأولئك الذين يبكون يختبرون شيئاً خاصاً عن الله، يختبرون شَرِكَةَ آلَامِهِ (فيلبي ١٠:٣)، وببكائهم يقتربون من رَجُلُ الأَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحَزَنِ (إشعياء ٣:٥٣).
- يقول سبيرجن (Spurgeon): “لا أصدق الإيمان الذي لا يذرف الدموع عند النظر إلى يسوع. ويبدو لي أن الإيمان الخالي من الدموع هو إيمان زائف، لم يولد من روح الله.”
- لِأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ: الذي يحزن إزاء حالته الروحية يستطيع أن يضحك حقاً عندما يضع الله الأمور في نصابها الصحيح. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ (مزمور ٥:٣٠).
- ٱلْآنَ: استخدم يسوع في كل هذه العبارات المتناقضة التي تصف الحالة الروحية للشخص، فكرة الفقر والجوع والبكاء، كلمة مليئة بالأمل: الآن.
- أنت فقير الآن، ولكنك سترث الملكوت يوماً.
- أنت جائع الآن، ولكنك ستشبع يوماً.
- أنت تبكي الآن، ولكنك ستضحك يوماً.
- يؤخذ البعض بفكرة أن يسوع كان ناشطاً اجتماعياً أو ثورياً أكثر من كونه واعظاً ومعلماً، وأن قصد يسوع من التطويبات هو تدمير النظام الاجتماعي وإعطاء القوة للمقهورين.
- أراد يسوع أن يمنح القوة للمقهورين، ولكن من خلال التركيز على أعظم طغيان، وهو طغيان الخطية على الإنسان وانفصاله عن الله. رغم أن يسوع لم يتجاهل حاجة الفقراء والجياع والباكين المادية، ولكنه ركز على الثورة الروحية التي من شأنها أن تغيرهم وتُغير المجتمع في النهاية.
- نرى في كلام يسوع أنه كان في الواقع ضد الثورة الاجتماعية نظراً لأنه أعطى الأمل للناس رغم استمرار حالة الفقر والجوع والبكاء التي كانوا يعانون منها. فالثوري يريد أن يسلب كل أمل موجود، ويطالب الناس بإتخاذ إجراءات فورية (وكثيراً ما تكون عنيفة وأحياناً مميته) على افتراض أنها ستُغير الأوضاع. نستطيع حصد هذا الفكر المُر في الملايين الذين ماتوا على يد الأيديولوجية الشيوعية. ولكن يُظهر يسوع طريقة أفضل، ووسيلة أقوى للأمل الحقيقي.
د ) الآيات (٢٢-٢٣): طوبى للمكروهين
٢٢طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ. ٢٣اِفْرَحُوا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ. لِأَنَّ آبَاءَهُمْ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِٱلْأَنْبِيَاءِ.
- طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ: عندما نفكر في الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم فقراء وجياع روحياً ويبكون طالبين الله، يبدو من المستحيل أن نجد أشخاصاً يكرهونهم أو يبغضونهم، ولكن هذا ما يحدث بالضبط.
- أَفْرَزُوكُمْ … وَعَيَّرُوكُمْ … وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ: يتحدث هذا عن مدى الكراهية التي سيتعرض لها أتباع يسوع، بل سيتعرضون لما هو أسوأ من ذلك. لهذا قال يسوع طوبى لكم، لأنه يحدث: مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ.
- لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت هذه الكلمات حقيقة واقعة بالنسبة لتلاميذ يسوع عبر العصور. فقد سمع المسيحيين الأوائل الكثيرين يلعنوهم ويعتبرون حتى ذكر اسمهم شر ويستبعدوهم. كما واتهموا المسيحيين بأنهم:
- آكلي لحوم البشر: بسبب التحريف المتعمد لمفهوم ممارسة فريضة عشاء الرب.
- الخلاعة: بسبب تشويه الفكرة وراء الإجتماعات الأسبوعية العامة والخاصة.
- التعصب الديني: لأنهم آمنوا أن يسوع سيأتي ثانية وستكون نهاية العالم مروعة.
- إنقسام العائلات: فعندما يصبح شريك الزواج مؤمناً كثيراً ما يحدث تغيير وانقسام في الأسرة.
- الخيانة: لأنهم لم يكرموا الآلهة الرومانية ولم يعبدوا الإمبراطور.
- لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت هذه الكلمات حقيقة واقعة بالنسبة لتلاميذ يسوع عبر العصور. فقد سمع المسيحيين الأوائل الكثيرين يلعنوهم ويعتبرون حتى ذكر اسمهم شر ويستبعدوهم. كما واتهموا المسيحيين بأنهم:
- اِفْرَحُوا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا: يا لها من مفارقة أن تكون سعيداً جداً عندما يكرهك الآخرين، ولكنهم يستطيعون ذلك لأن: أَجْرُهم عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، ولأنهم يتمتعون برفقة جيدة: هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِٱلْأَنْبِيَاءِ.
- ذكر تراب (Trapp) أسماء عدة رجال فرحوا وتهللوا عندما تعرضوا للاضطهاد وواجهوا الموت. مثلاً، وصل جورج روبر إلى العمود الذي سيحرق عليه وحضنه وكأنه صديقه الضائع. وقفز الدكتور تايلور ورقص قبل وصوله إلى مكان إعدامه، مجيباً من يسأله عن حاله: “كل المجد والحمد لله، أنا في أحسن حال، لأني أخيراً وصلت إلى بيتي، أقتربت جداً من بيت أبي السماوي.” كما وواجه لورنس سندرز العمود الذي سيُعدم عليه بإبتسامة ثم قبله وقال: “أهلاً بك يا صليب يسوع المسيح، وأهلاً بالحياة الأبدية.”
هـ ) الآيات (٢٤-٢٦): ويلات غريبة
٢٤وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْأَغْنِيَاءُ، لِأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. ٢٥وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلشَّبَاعَى، لِأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلضَّاحِكُونَ ٱلْآنَ، لِأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. ٢٦وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ ٱلنَّاسِ حَسَنًا. لِأَنَّهُ هَكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِٱلْأَنْبِيَاءِ ٱلْكَذَبَةِ.
- وَيْلٌ: تستخدم هذه الكلمة للتعبير عن الأسف والشفقة، ولم تكن تهديداً. فالويلات التي تكلم عنها يسوع تبدو وكأنها متناقضة، تماماً كحال التطويبات. فالغنى والشبع والضحك ومدح الآخرين لا تعتبر لعنة.
- وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْأَغْنِيَاءُ … وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلشَّبَاعَى: فالثراء والوفرة والبحث المستمر عن ما هو مثير وجديد واللهو كلها أمور تُشكل عقبة حقيقية في الملكوت. فلا يأتي الإنسان إلى يسوع إلا عندما يشعر بالفقر والجوع والحاجة إلى التعزية.
- وسط كل هذه الأقوال المتناقضة، قارن يسوع بين التوقعات الحالية للملكوت مع الواقع الروحي للملكوت، وقال أن الله سيصنع أموراً غير متوقعة. سخر يسوع من قيّم العالم، حيث رفع ما احتقره العالم، ورفض ما يثير إعجابه. قَلَبَ يسوع تصورهم عن ملكوت الله رأساً على عقب.
رابعاً. المحبة هي خطة الله
أ ) الآيات (٢٧-٢٨): أحبوا أعداءَكم
٢٧«لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلسَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، ٢٨بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ.
- أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ: هذا أمر بسيط ونستطيع أن نفهمه ولكنه صادم ومن الصعب إطاعته. أخبرنا يسوع هنا كيف نُحب أعدائنا بالضبط: أَحِبُّوا … أَحْسِنُوا … بَارِكُوا … وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ.
- أكد يسوع على وجود الأعداء. فخطة ملكوت الله تأخذ في الاعتبار المشاكل الحقيقية في العالم. على الرغم من أنه سيكون لنا أعداء، ولكن علينا الرد بالمحبة، واثقين أن الله سيحمينا ويدمر الأعداء بتحويلهم إلى أصدقاء.
- أَحْسِنُوا … بَارِكُوا … وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ: المحبة التي يريدنا يسوع أن نكنها لأعدائنا، ليست مجرد مشاعر من القلب. لأنه إن انتظرنا ظهور هذه المشاعر، فلن نحبهم أبداً. فمحبة الأعداء هي المحبة العملية بغض النظر عن الطريقة التي نشعر بها نحوهم.
- ما تعنيه جملة بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ أن علينا أن نتحدث بالخير عن الذين يسيئون إلينا.
- كتب باركلي (Barclay): “لا يمكننا محبة الأعداء كما نحب أقرب وأعز الناس على قلوبنا، فهذا مستحيل وغير طبيعي. ولكن بغض النظر عما يفعله الناس معنا، إن كانت إهانة أو إساءة أو ضرر، علينا أن نسعى دائماً لخيرهم الأسمى ونتمنى لهم الأفضل.”
ب) الآيات (٢٩-٣٠): كن مستعداً لتتألم ظُلماً
٢٩مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَٱعْرِضْ لَهُ ٱلْآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلَا تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. ٣٠وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ ٱلَّذِي لَكَ فَلَا تُطَالِبْهُ.
- مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَٱعْرِضْ لَهُ ٱلْآخَرَ أَيْضًا: استمر يسوع في تقديم تعليمه المذهل، وقال أنه علينا أن نتقبل بعض الشرور التي سترتكب ضدنا.
- عندما يهينك شخص ما (مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ) فمن الطبيعي أن ترغب في الرد بالمثل أو ربما أكثر قليلاً. طلب يسوع أن نحتمل بصبر هذه الإهانات والإساءات ولا نقاوم الشخص الذي يسيء إلينا، بل نثق أن الله سيدافع عنا. أشار فرانس (France) أنه في الكتابات اليهودية القديمة كان ضرب شخص بظهر اليد يعتبر إهانة شديدة، وكان يعاقب الضارب بغرامة فادحة، وفقاً لما جاء في الميشناه ٦:٨.
- علينا ألا نسيء فهم كلام يسوع هنا، فهو لم يطلب منا عدم مقاومة الشر أبداً. فقد أظهر يسوع مقاومته للشر بوضوح، كما هو الحال عندما قلب الطاولات في الهيكل.
- كتب باركلي (Barclay): “وفقاً لكلام يسوع هنا، على المؤمن الحقيقي أن لا يشعر بالإهانة ولا يسعى للإنتقام أبداً.” فعندما نفكر كيف تعرض يسوع للإهانة وكيف اتهموه زوراً (أَكُولٌ، وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، وغير شرعي، ومُجدف، ومجنون … الخ)، نراه طبق هذا المبدأ على حياته بشكل جيد.
- لا يجوز أن نفكر أن يسوع يتوقع منا عدم المقاومة أو الدفاع عن النفس في حالة الإعتداء الجسدي. فقد كانت الصفعة على الخد في تلك الثقافة تعتبر إساءة كبيرة جداً، لهذا تحدث عنها يسوع وليس عن الإعتداء الجسدي. لم يقصد يسوع أنه إذا ضربك أحد على رأسك بعصى، أنه عليك السماح له أن يضربك أكثر. يبدو أن الآية في كورنثوس الثانية ٢٠:١١ تتحدث عن هذا النوع من الضرب على الخد كإهانة.
- ومن الخطأ أيضاً أن نعتقد أن كلامه يعني عدم وجود عقاب في المجتمع. فقد كان يتكلم يسوع هنا عن العلاقات الشخصية، وليس عن الوظائف الحكومية المسؤولة عن كبح الشر (رومية ١:١٣-١٤). عليّ أن أحول خدي عندما أُهان شخصياً، ولكن الحكومة مسؤولة عن كبح جماح المجرمين من الاعتداءات الجسدية.
- وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلَا تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ: يخبرنا يسوع بهذه الآية عن كيفية التعامل مع الأشخاص الذين أساؤوا معاملتنا وتلاعبوا بنا وقمعونا. فينبغي علينا أن نبادر ونأخذ بزمام الأمور ونعطي بسخاء وبمحبة.
- كانت العباءة الخارجية، حسب شريعة موسى، شيئاً لا يجوز أخذه من أحد أبداً (خروج ٢٦:٢٢؛ تثنية ١٣:٢٤).
- يُعلّق كارسون (Carson): “إذا رُفعت دعوى ضد تلاميذ يسوع للاستيلاء على ردائهم الداخلي (أي الملابس التي كانوا يلبسونها مباشرة تحت الجلد)، فسوف يتخلون عنه بكل سرور وإن كان حقهم قانونياً، دون التفكير حتى براحتهم الشخصية.”
- كتب مورغان (Morgan) أيضاً: “قال القديم: تمّسك بحقك، أحب جارك، أبغض عدوك، وبذلك تضمن سلامتك. وقال الجديد: تحمل المعاناة حتى لو كنت مظلوماً، واغدق بمحبتك على الجميع.”
- وَمَنْ أَخَذَ ٱلَّذِي لَكَ فَلَا تُطَالِبْهُ: الأمر الوحيد الذي يجعلنا نمارس هذا النوع من المحبة المُضحية هو معرفتنا أن الله سوف يعتني بنا، ومعرفتنا أنه إن تخلينا عن ردائنا، فلله المزيد ليقدمه لنا.
- هناك حدود لهذا النوع من التضحية وهو المحبة نفسها. إلى أي درجة ستسمح لك المحبة بالتضحية. فليست المحبة أن تسمح لأحد بالتلاعب بك إلا إذا سمحت بهذا عن طريق تحويل محبتك إلى حب مجاني دون مقابل. فالمحبة ليست العطاء الدائم أو عدم المقاومة.
- يمكننا القول أن بولس كرر فكرة يسوع هذه عندما قال في (رومية ٢١:١٢): لَا يَغْلِبَنَّكَ ٱلشَّرُّ بَلِ ٱغْلِبِ ٱلشَّرَّ بِٱلْخَيْرِ.
ج ) الآية (٣١): القاعدة الذهبية
٣١وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هَكَذَا.
- وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هَكَذَا: كانت هذه الوصية معروفة من فترة طويلة قبل مجيء يسوع ولكنها كانت تحمل معنى سلبي. فقد قيل في القديم: “يجب أن لا تفعل لجارك ما لا تريده أن يفعل لك.” لكن يسوع أحرز تقدماً كبيراً حين وضعها في إطار إيجابي، وطلب أن نفعل مع الناس ما نريدهم أن يفعلوا معنا.”
- كتب كارسون (Carson): “لم يختلق يسوع القاعدة الذهبية، بل كانت موجودة في صيغ وأشكال متنوعة قبله. في العام ٢٠ م، تحدى شخص ملحد المُعلم اليهودي هليل وطلب منه أن يلخص الناموس بجملة تتناسب مع الفترة الزمنية التي يحتاجها ليقف الملحد بثبات على ساقٍ واحدة، يُقال أن رده كان: ’ما هو مكروه لك، لا تفعله لأي شخص آخر. هذا هو الناموس كله، والباقي مجرد التفسير. إذهب وتعلم‘ (Shabbath 31a). على ما يبدو أن يسوع هو الوحيد الذي صاغ هذه القاعدة بإيجابية.”
- وبهذه الكلمات وضع يسوع الوصية في إطار أوسع بكثير. فهناك فرقاً بين عدم خرق القوانين المرورية وبين عمل ما هو إيجابي للمساعدة في عدم كسر القوانين مثل مساعدة سائق تعطلت سيارته. فمثلاً إستخدام الوصية بالطريقة السلبية ستحكم على ٱلْجِدَاءِ المذكورة في متى ٣١:٢٥-٤٦ بأنها “غير مذنبة.” ولكن تطبيق الوصية بإيجابية – أي على طريقة يسوع – ستدينهم بكل تأكيد.
- ٱفْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هَكَذَا: تنطبق هذه الآية بشكل خاص على الشركة المسيحية. فإذا كنا نريد أن نشعر بمحبة الآخرين ونحتاج إلى مساعدتهم، إذاً علينا أن نحب الآخرين أولاً ومساعدتهم.
- علّقَ سبيرجن (Spurgeon): “يا ليت الناس يعيشون بهذه الوصية، عندها لن يكون هناك عبودية ولا حرب ولا شتائم ولا إضراب ولا كذب ولا سرقة؛ بل سيسود العدل والحب! ما هذه المملكة التي لديها مثل هذا القانون!”
- هذا يجعل الناموس أسهل للفهم صحيح، ولكن لا يجعله أسهل في التطبيق. فلم يفعل أحد قط مع الآخرين، وبطريقة منتظمة، ما يودون الآخرين أن يفعلوا لهم.
د ) الآيات (٣٢-٣٥): أن نُحب كمحبة الله
٣٢وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. ٣٣وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى ٱلَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هَكَذَا. ٣٤وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ ٱلَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضًا يُقْرِضُونَ ٱلْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ ٱلْمِثْلَ. ٣٥بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لَا تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِي ٱلْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلْأَشْرَارِ.
- وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ: أي فضل لنا إن أحببنا من يحبوننا. لن نتشبه بيسوع إن فعلنا ذلك.
- تذكر أن يسوع يُعلم هنا عن صفات أولاد الملكوت. وينبغي لنا أن نتوقع أن تكون هذه الصفات مختلفة عن الصفات التي نراها في العالم. فهناك أسباب عديدة وجيهة تجعلنا نتوقع المزيد من أولاد الله المؤمنين عن غيرهم، مثلاً:
- هم يدّعون أنهم يملكون ما لا يملكه الآخرون؛ ويزعمون أنهم تَّجْددوا وتابوا ونالوا الفداء بيسوع المسيح.
- هم بالفعل يملكون ما لا يملكه الآخرون؛ فقد تَّجْددوا وتابوا ونالوا الفداء بيسوع المسيح.
- هم يملكون قوة لا يملكها الآخرون؛ ويمكنهم عمل كل شيء في المسيح الذي يقويهم.
- هم يملكون روح الله الذي يسكن بداخلهم.
- هم يملكون مستقبل أفضل بكثير من غيرهم.
- تذكر أن يسوع يُعلم هنا عن صفات أولاد الملكوت. وينبغي لنا أن نتوقع أن تكون هذه الصفات مختلفة عن الصفات التي نراها في العالم. فهناك أسباب عديدة وجيهة تجعلنا نتوقع المزيد من أولاد الله المؤمنين عن غيرهم، مثلاً:
- وَتَكُونُوا بَنِي ٱلْعَلِيِّ: عند القيام بذلك، نحن نُقلد الله، الذي أظهر المحبة تجاه أعدائه، ومُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلْأَشْرَارِ.
- قال سبيرجن (Spurgeon): “ماذا يريد الله منا بكلامه هذا؟ أعتقد أنه يقول: ’هذا هو يوم النعمة المجاني؛ هذا هو زمن الرحمة.‘ لم تأتِ ساعة الدينونة بعد، عندما يفصل بين الخير والشر؛ ويجلس على كرسي الدينونة ليكافئ الأبرار ويجازي الأشرار.”
- علينا أن نقتدي بهذا المثل – وعلينا أيضاً أن نحب أعداءنا ونباركهم بقدر ما نستطيع، وهكذا نُظهر أننا بَنِي ٱلْعَلِيِّ. يقول ماير (Meyer): “جعلنا أبناء بالتَّجْدِيدِ، من خلال الإيمان في ٱلِٱبْن؛ ولكننا مدعوون للثبات في دعوتنا واختيارنا، وأن نُدافع عن حقنا بهذا الاسم المقدس. والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي عندما نعيش هذه المبادئ السماوية في كلامنا وتصرفاتنا.”
هـ ) الآيات (٣٦-٣٨): مبادئ إتباع المسيح
٣٦فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. ٣٧«وَلَا تَدِينُوا فَلَا تُدَانُوا. لَا تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلَا يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. ٣٨أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلًا جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لِأَنَّهُ بِنَفْسِ ٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ».
- فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ: يوجد نمط في ملكوت يسوع علينا إتباعه لإظهار الرحمة نحو الآخرين. علينا أن نكون رُحَمَاءَ مع الآخرين كما أن الله رَحِيمٌ معنا. ويا لها من رحمة عظيمة، وتتطلب منا المزيد من الرحمة، وليس أقل.
- لَا تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلَا يُقْضَى عَلَيْكُمْ: يحذر يسوع في هذه الوصية من عدم إصدار الحكم على الآخرين، لأنه عندما نفعل، يُقْضَى علينا بطريقة مماثلة.
- يبدو أنها آية مألوفة حتى لأولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن الكتاب المقدس. مع ذلك، معظم الذين يقتبسون هذه الآية لا يفهمون قصد يسوع منها. ويبدو أنهم يعتقدون (أو يأملون) أنه يطالب بقبول عام لأي نمط من الحياة أو التعليم.
- نقرأ بعد هذه الآيات بقليل (لوقا ٤٣:٦-٤٥) أمر يسوع بأن نميز الثمر في حياتنا وحياة الآخرين، ويشير إلى أهمية تقييم هذا الأمر في حياتنا. على المؤمن أن يظهر محبة غير مشروطة للآخرين، ولا يعني هذا موافقة غير مشروطة. فيمكننا محبة حتى الذين يفعلون ما لا نوافق عليه.
- بينما هذا لا يمنع فحصنا لحياة الآخرين، إلا انه يحذرنا أن نفعل ذلك بالروح الخطأ. مثالٌ جيد على إصدار الأحكام بطريقة غير عادلة، كان ما فعله التلاميذ بحق المرأة التي جاءت ومسحت قدمي يسوع بالزيت (١٣). ظنوا أنها أتلفت شيئاً؛ ولكن يسوع أخبرهم أنها فعلت عَمَلًا حَسَنًا وما فعلته سيكون تَذْكَارًا لها. حكمهم كان متسرعاً وقاسياً وظالماً.
- نكسر هذه الوصية عندما نرى الأسوأ في الآخرين.
- نكسر هذه الوصية عندما ننتقد أخطاء الآخرين فقط.
- نكسر هذه الوصية عندما نحكم على حياة الآخرين أثناء مرورهم في أسوأ اللحظات.
- نكسر هذه الوصية عندما نحكم على الدوافع الخفية لدى الآخرين.
- نكسر هذه الوصية عندما نحكم على الآخرين ولا ننظر لأنفسنا إن مررنا في نفس الظروف.
- نكسر هذه الوصية عندما نحكم على الآخرين دون أن نراعي انه سيُحكم علينا يوماً.
- وَلَا تَدِينُوا … اِغْفِرُوا: لم يتحدث يسوع عن مجرد الحكم على الآخرين (لَا تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ)، بل وسع الفكرة بشكل أكبر. فيقول لنا لَا تَدِينُوا واِغْفِرُوا بحرية.
- أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلًا جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ: شجع يسوع على حرية العطاء دون الخوف من الخسارة. أراد أن يحررنا من خوف العطاء السخي.
- هذا كلام صحيح، ويختبره من يقدمون بسخاء. بعبارة أبسط، لا يمكنك أن تتفوق على كرم وعطايا الله. فحتماً سيرد لك أضعاف ما قدمته له بطريقة أو بأخرى. ومع ذلك، المقصود من هذه الآيات حسب سياق النص، لا يتعلق بالعطاء المادي، ولكن بتقديم المزيد من المحبة والبركة والغفران للآخرين. فلن تكون الخاسر أبداً إذا قدمت هذه الاشياء كرد على كرم الله لك.
- يعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ: علّقَ باركلي (Barclay): “كان اليهودي يرتدي رداءً طويلاً فضفاضاً حتى الأقدام، ويضعون حزاماً على الخصر. وعندما يشد الثوب من فوق الحزام يكون هناك مكان متسع يشبه الجيب الكبير، يتسع لحمل أي شيء.” يمكننا تعديل الآية باستخدام كلمات من عصرنا الحالي لتصبح: سيملأ الناس هذه الجيوب المتسعة.”
- لِأَنَّهُ بِنَفْسِ ٱلْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ: هذا هو المبدأ الذي بنى عليه يسوع الوصية: “لَا تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلَا يُقْضَى عَلَيْكُمْ.” فالله سيستخدم نفس ٱلْكَيْلِ الذي نستخدمه مع الآخرين. وهذا ما يجب أن يدفعنا لنكون أكثر كرماً في محبتنا وغفراننا وصلاحنا مع الآخرين. فإن كنا نرغب بالمزيد من تلك الأمور من يد الله، فعلينا أن نقدم المزيد للآخرين.
- نستطيع القول أن يسوع لم يحذرنا من الُحكم على الآخرين، بل طلب منا أن نكون عادلين، وأن نحكم على الآخرين كما نود أن يُحكم علينا.
- عندما يكون حكمنا على الآخرين خاطئاً، فإنه لأننا لا نحكم وفقاً لمعيار محدد ولكننا ننافق في تطبيقه – ونتجاهله طبعاً على حياتنا الخاصة. ومن الشائع ان نحكم على الآخرين بمعيار يختلف عن المعيار الذي نستخدمه لأنفسنا – فعادة نكون أكثر سخاءاً مع أنفسنا من الآخرين.
- وفقاً لتعليم بعض مُعلمي اليهود في زمن يسوع، يستخدم الله مقياسين مختلفين (كَيْلِين) يحكم بهما على الناس. الأول كَيْلِ العدالة والثاني كَيْلِ الرحمة. فنفس ٱلْكَيْلِ الذي ترغب أن يستخدمه الله معك ينبغي أن تستخدمه مع الآخرين.
- يمكننا فقط أن نحكم على سلوك الآخرين عندما ندرك أننا أنفسنا سيُحكم علينا، وينبغي لنا أن نأخذ بعين الإعتبار كيف نريد أن يُحكم علينا.
خامساً. التمييز بين طريقين
أ ) الآيات (٣٩-٤٢): ايضاحات تتمحور حول النظر.
٣٩وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا: «هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ ٱلِٱثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ ٤٠لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلًا يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ. ٤١لِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطَنُ لَهَا؟ ٤٢أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ: يَا أَخِي، دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِكَ، وَأَنْتَ لَا تَنْظُرُ ٱلْخَشَبَةَ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلًا ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ.
- هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟: هذا أمر واضح بكل تأكيد. فالأعمى لا يمكنه أن يقود أعمى طبعاً. ولهذا لا يجب علينا أن نطلب من أعمى أن يقودنا؛ والعكس صحيح أيضاً، لا ينبغي أن نقود الآخرين ونحن عميان. بل أن نجعل يسوع، الذي يرى ويعرف كل شيء، قائدنا ومعلمنا.
- يذكرنا يسوع بأن بعض من الذين يفترض أنهم من القادة، مصابون بالعمى، وأن علينا أن توخى الحذر منهم. وفي وقت لاحق قال يسوع عن بعض القادة اليهود في يومه، هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلَاهُمَا فِي حُفْرَةٍ. (١٤:١٥).
- يُعلّق كارسون (Carson): “وجود المخطوطات بين أيدي الفريسيين والكتبة لا يعني أنهم كانوا يفهمونها جيداً. وبما أن الفريسيين والكتبة لم يتبعوا يسوع؛ إذاً هم لم يفهموا أو يتبعوا الكتب المقدسة.”
- نرى في كلمات يسوع ذنب القادة العُميان الذين يقودون عُميان. ومسؤولية التلاميذ يتأكدوا من أن قادتهم ليسوا عُمْيَان.
- لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ: ٱلتِّلْمِيذُ كالطالب، ولكنه يذهب خطوة أبعد إذا أنه يتبع خطوات مُعَلِّمِهِ ويقتدي به. ولن يصبح التلميذ أفضل من مُعلمه أبداً، إلا عندما يتَدَرَّبَ إنسانٌ تَدرِيباً كامِلاً، عندها يصبح مِثلَ مُعَلِّمِهِ. فغالباً ما نصبح مثل الذين نتبعهم، لهذا علينا أن نختار معلمين صالحين.
- وسط هذه الحقيقة الواضحة والمنطقية جداً، أعطى يسوع وعداً رائعاً. فكلما تعلمنا منه ونضجنا روحياً معه، سنصبح مثله. ونتغير تدريجياً لنصبح مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ (رومية ٢٩:٨)، وفي النهاية وعند ظهوره، سنكون مثله لأننا سنراه كما هو (٢:٣).
- يقول ماير (Meyer): “نزل الرب يسوع المسيح إلى مستوانا كي نصبح مثله في المجد. فالإنسان المخلوق محدود بالمقارنة مع من خَلَقَ كل الأشياء. ولكن بالرغم من محدوديتنا، يجب أن نملك نفس جمال يسوع المثالي – وأن يُعكس جماله فينا.”
- لِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطَنُ لَهَا؟ كلمتي ٱلْقَذَى والخَشَبة هي استعارات استخدمت بطريقة طريفة. يوضح يسوع هنا أننا عادة ما نكون أكثر تسامحاً مع خطايانا بالمقارنة مع خطايا الآخرين.
- رغم أنه قد يكون هناك قَذَى حرفية في عين أحدهم، ولكن حتماً لن يكون هناك خَشَبَة أو لوحاً في عين الآخر. يستخدم يسوع هذه الصور المبالغ فيها والمضحكة ليجعل رسالته أسهل للفهم وللحفظ.
- يا لها من صورة مضحكة: رجل في عينه خشبة يحاول المساعد في إزالة القذى في عين صديقه. لا يمكنك التفكير في هذه الصورة دون أن تبتسم.
- يشبه هذا المثل، النظر في عين الآخر بحثاً عن القذى وتجاهل الخشبة في عين المرء، القادة الروحيين الذين أحضروا المرأة التي أمسكت في علة الزنى إلى يسوع. كانت قد أخطأت بالتأكيد؛ ولكن خطيتهم كانت أسوأ بكثير، وكشف يسوع عنها بهذه العبارة: “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!” (يوحنا ٧:٨).
- وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطَنُ لَهَا؟: يشير يسوع هنا إلى أن الخشبة في العين لا يلاحظها حاملها على الفور. فهو أعمى ليرى خطأه الواضح. فالذي يريد تصحيح خطأ شخص آخر وهو نفسه يرتكب نفس الخطأ (أو ربما خطأ أكبر) يُسمى: “مُرَائِي (مُنافق)!”
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “رغم أن يسوع شخص وديع، إلا أنه يدعو ذلك الرجل “بالمنافق.” والمنافق هو الشخص الذي يحتج على الأمور الصغيرة في الآخرين، ولا يعير اهتماماً بأخطائه الشخصية الكبيرة.”
- إن نِفَاقُنا في هذه المسائل دائماً ما يكون أكثر وضوحاً للآخرين من أنفسنا. قد نجد وسيلة لتجاهل الخشبة في أعيننا، ولكن سيلاحظها الآخرين فوراً. وخير مثال على هذا النوع من النفاق كان ردة فعل داود على قصة ناثان عندما قام رجل بسرق نعجة رجل آخر ظُلماً. أدان داود الرجل على الفور، ولكنه كان أعمى عن خطيته، والتي كانت أكبر بكثير. (صموئيل الثاني ١٢).
- أَخْرِجْ أَوَّلًا ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ: لم يقصد يسوع أن يقول أنه من الخطأ علينا مساعدة أخونا الذي يعاني من وجود القذى في عينه. إنه لأمر جيد أن تساعد أخاك، ولكن ليس قبل التعامل مع الخشبة التي في عينك أنت.
ب) الآيات (٤٣-٤٥): الإتباع بهذه الطريقة لن يحدث إن لم يغيرنا يسوع جذرياً. عندما يلمس يسوع حياتنا، ستظهر النتائج بوضوح في حياتنا.
٤٣«لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا رَدِيًّا، وَلَا شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا جَيِّدًا. ٤٤لِأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ تِينًا، وَلَا يَقْطِفُونَ مِنَ ٱلْعُلَّيْقِ عِنَبًا. ٤٥اَلْإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلصَّالِحِ يُخْرِجُ ٱلصَّلَاحَ، وَٱلْإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ.
- لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا رَدِيًّا … لِأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا: الثمر هو النتيجة الحتمية للكشف عن حقيقتنا. ففي النهاية سيأتي الحصاد وإن كان بعد فترة من الزمن، وسيأتي الثمر أيضاً، إن كان جيداً أم رَدِيًّا، ليكشف عن أي نوع من الأشجار نحن. فليست كل شجرة تشبه الأخرى.
- علّقَ كلارك (Clarke): “عدم وجود ثمر جيد يعني وجود ثمر رديء: فلا يمكن أن يكون هناك عُقمٌ طبيعي في الشجرة غير المرئية في القلب. فالشخص الذي لا يأتي بثمر ويأتي بثمر رديء، كلاهما يُلقى بالنار.”
- قال سبيرجن (Spurgeon): “لن يُقطع الأشرار وحاملي التوت البري السام فحسب؛ بل حتى الشخص المحايد والذي لا يأتي بأي ثمر إيجابي سيُلقى بالنار أيضاً.”
- حذرنا يسوع من قبل بأن علينا أن نحكم على أنفسنا أولاً، وأن ننظر القذى فينا قبل أن يتحول إنتباهنا إلى عين جارنا. لذلك قبل أن نطلب من غيرنا، علينا أن نسأل أنفسنا أولاً: “هل آتي بثمر لرب المجد؟”
- اَلْإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ ٱلصَّالِحِ يُخْرِجُ ٱلصَّلَاحَ … فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ: تكشف كلماتنا عما في قلوبنا. إذا كان هناك كنز صالح في القلب، فسوف يظهر حتماً؛ وإن كان شراً، فهذا سيظهر أيضاً مع الوقت. فكلماتنا تكشف الكثير عنا أكثر مما نفكر، وتكشف أن بعض صالح والآخر شرير.
ج ) الآيات (٤٦-٤٩): الخلاصة الختامية: تطبيق تعاليم يسوع هو أساسنا
٤٦«وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لَا تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ ٤٧كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلَامِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ يُشْبِهُ. ٤٨يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ ٱلْأَسَاسَ عَلَى ٱلصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ ٱلنَّهْرُ ذَلِكَ ٱلْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى ٱلصَّخْرِ. ٤٩وَأَمَّا ٱلَّذِي يَسْمَعُ وَلَا يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ ٱلنَّهْرُ فَسَقَطَ حَالًا، وَكَانَ خَرَابُ ذَلِكَ ٱلْبَيْتِ عَظِيمًا!».
- وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لَا تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟: : ميز يسوع بين من يقول أنه آمن، وبين الذي يَسْمَعُ كَلَامِي وَيَعْمَلُ بِهِ.
- علينا أن نستخدم لغة التوسل في العبارة: “يَا رَبُّ، يَا رَبُّ” – لأنه من دونها لن نخلص. رغم أن أن المنافقين يستخدمون هذه الكلمات عينها، ولكن علينا ألا نخجل نحن من ترديدها. ولكن لا يكفي أن نرددها ككلمات فقط، علينا أن نعنيها.
- ينطبق تحذير يسوع هذا على الأشخاص الذين يتحدثون أو يقولون أشياءً ليسوع أو عنه، ولكنهم لا يعنون ما يقولون. هذا لا يعني أنهم يعتقدون أن يسوع كان شريراً؛ بل ببساطة ينطقون الكلمات بشكل سطحي جداً، وعقولهم في مكان آخر. ويعتقدون أن هناك قيمة في الكلمات المجردة وبأنهم بذلك يحققون نوعاً من الواجب الديني بلا قلب أو نفس أو روح – مجرد كلمات وخواطر.
- هذا التحذير ينطبق على الناس الذين يقولون: “يا رب، يا رب” ولكن حياتهم الروحية ليس لها علاقة بحياتهم اليومية. يذهبون إلى الكنيسة، وربما يتممون بعض الواجبات الدينية اليومية، ولكنهم يخطئون أمام الله والإنسان تماماً كما يفعل الآخرون. كتب تراب (Trapp): “يتحدثون كالملائكة، ويعيشون مثل الشياطين. يملكون لسان سلس كيعقوب، ولكن يد خشنة كعيسو.”
- وضع يسوع هذا في صيغة سؤال: لِمَاذَا؟ علّقَ مورغان (Morgan): “إن كنا غير طائعين، فلماذا نستمر في لعبة الطاعة؟ … كل روح مذنبة عليها أن تواجه هذا السؤال لِمَاذَا؟ بمفردها يوماً. وحينها فقط سيكتشف المرء تفاهة السبب.”
- كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ: أستخدم يسوع ثلاثة نقاط موجزة هنا ليصف من يتبعه بالحكمة والحق – وابتدأ يوضح حكمة ذلك الشخص.
- علّقَ مورغان (Morgan): لاحظ بعناية الشروط الثلاثة التالية: ١) ” كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ، الاستسلام.” ٢) ” وَيَسْمَعُ كَلَامِي، التلمذة.” ٣( “وَيَعْمَلُ بِهِ، الطاعة.”
- يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا: في التوضيح النهائي الذي قدمه يسوع تحدث عن بنائين اثنين، بدى البيتين متشابهين من الخارج. فالأساس الحقيقي للحياة عادة ما يكون مخفياً ولا تثبت متانته إلا في العاصفة.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): ” كان الحكيم والجاهل يقومان بنفس المهمة، وإلى حد كبير وصلا إلى نفس التصميم؛ فكل منهما تعهد ببناء المنزل، وثابرا كلاهما في البناء، وانتهوا معاً في بناء المنزل. كان الشبه بينهما كبير للغاية.”
- فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ: حذر يسوع من اهتزاز أساسات حياتنا من وقت لآخر، سواء في الوقت الحاضر (في المواسم الصعبة)، أو في اليوم الأخير وقت الدينونة. فمن الأفضل أن نختبر أساس حياتنا الآن وليس لاحقاً عندما نقف أمام الله، وعند فوات الأوان لتغيير المصير.
- الزمن وزوابع الحياة سيثبتان قوة الأساسات في حياة الشخص حتى وإن كانت هذه الأساسات غير مرئية للعيان. وسوف نتفاجأ عندما نرى مَنْ بنى حياته على هذا الأساس الجيد. كتب تراب (Trapp): “عندما تعرض يسوع للخيانة على يد يهوذا ليلاً، أعلن نيقوديموس أخيراً عن إيمانه في النهار.”
- وَأَمَّا ٱلَّذِي يَسْمَعُ وَلَا يَعْمَلُ: سماع كلمة الله ليس كافياً لتوفير أساسٍ متين. فمن الضروري أن نعمل بها أيضاً. وإنْ لم تفعَلوا هكذا خَطِئتُم إلى الرّبِّ. وخطيئتُكُم تَقَعُ علَيكُم (سفر العدد ٢٣:٣٢) – وَكَانَ خَرَابُ ذَلِكَ ٱلْبَيْتِ عَظِيمًا!
- ومع ذلك، لا يستطيع أحد أن يقرأ هذا الكلام دون أن يدرك أنه لم يطبق هذه الوصايا تماماً. حتى وإن طبقنا بعض من هذا الكلام بشكل عام، على إعلان ملكوت الله هذا، المذكور في الموعظة على الجبل، أن يدفعنا إلى العودة مرة تلو الأخرى كخطاة محتاجين عند قدمي المُخلص.