رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ١٢
قوّةُ النعمة في الضعف
أولًا: رؤيا بولس وتركتُهُ في حياته
أ ) الآيات (١-٦): يصفُ بولسُ رؤياه عن مضضٍ.
١إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ. ٢أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. اخْتُطِفَ هذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. ٣وَأَعْرِفُ هذَا الإِنْسَانَ: أَفِي الْجَسَدِ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ. ٤أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا. ٥مِنْ جِهَةِ هذَا أَفْتَخِرُ. وَلكِنْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِي لاَ أَفْتَخِرُ إِلاَّ بِضَعَفَاتِي. ٦فَإِنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفْتَخِرَ لاَ أَكُونُ غَبِيًّا، لأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ. وَلكِنِّي أَتَحَاشَى لِئَلاَّ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِي فَوْقَ مَا يَرَانِي أَوْ يَسْمَعُ مِنِّي.
- فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ (لَكِنِّي سَآتِي الآنَ عَلَى ذِكْرِ الرُّؤَى وَالإعلَانَاتِ الَّتِي مِنَ الرَّبِّ): لا شكّ أن “فائقي الرسل” بين مؤمني كورنثوس زعموا أنهم مرّوا بخبراتٍ روحيةٍ رائعةٍ، مثل مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ . وقد تفاخر بولس منذُ الأصحاح السابق على مضضٍ وهو الآن سيفتخرُ برؤاه وإعْلانات الرّبّ.
- يعبّرُ بولس عن تراخيه هذا في بداية الأصحاح: أجِدُ أنِّي مُضطَرٌّ لِمُواصَلَةِ الافْتِخَارِ رُغْمَ أنَّهُ بِلَا فَائِدَةٍ (إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ). إذ ملّ بولس التحدث عن نفسه! فهو يفضلُ الكتابة عن يسوع، لكن التفكير الدنيويّ الذي دفع مؤمني كورنثوس إلى احتقار بولس دفعهم أيضًا إلى التقليل من يسوع، حتى ولو لم يدركوا ذلك.
- مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ (الرُّؤَى وَالإعلَانَاتِ): سواء أكانت هذه تختصُّ بالملائكة أم يسوع أم السماء أم أمورٍ أخرى، فإنها أكثرُ شيوعًا في العهد الجديد مما يمكنُ أن نعتقد.
- تلقّى زكريا، أبو يوحنا المعمدان، رؤيا لملاكٍ (لوقا ٨:١-٢٣).
- يوصفُ تجلّي يسوع كرؤيا للتلاميذ (متى ٩:١٧).
- رأت النساءُ اللواتي جئن لزيارة قبر يسوع رؤيا لملائكةٍ (لوقا ٢٢:٢٤-٢٤).
- رأى استفانوسُ رؤيا ليسوع عند موته (أعمال الرسل ٥٥:٧-٥٦).
- رأى حنانيا رؤيا تطلبُ منه أن يذهب إلى شاول (أعمال الرسل ١٠:٩).
- تلقّى بطرسُ رؤيا لحيواناتٍ طاهرةٍ ونجسة (أعمال الرسل ١٧:١٠-١٩ و ٥:١١).
- رأى بطرسُ رؤيا عند إطلاق سراحه من السجن (أعمال الرسل ٩:١٢).
- تلقّى يوحنا رؤىً كثيرةً وهو في جزيرة بطمس (رؤيا يوحنا ١:١).
- رأى بولسُ رؤيا ليسوع وهو في طريقه إلى دمشق (أعمال الرسل ٦:٢٢-١١؛ ١٢:٢٦-٢٠).
- رأى بولسُ رؤيا لرجلٍ مكدونيٍّ يطلبُ منه أن يأتي إلى تلك المنطقة للمساعدة (أعمال الرسل ٩:١٦-١٠).
- تلقّى بولسُ رؤيا مشجعةً أثناء وجوده في كورنثوس (أعمال الرسل ٩:١٨-١١).
- رأى بولسُ رؤيا لملاكٍ وهو على السفينة التي كانت على وشك التحطم (أعمال الرسل ٢٣:٢٧-٢٥).
- ولهذا لا ينبغي أن نفاجأ إذا كلّمنا الله من خلال الرُّؤَى وَالإعلَانَاتِ. ولكننا نفهمُ أن خبراتٍ كهذه ذاتيةٌ وعرضةٌ لسوء الفهم وسوء التطبيق. وفضلًا عن ذلك، مهما كانت فوائد مناظر الرّبّ وإعْلاناته، فإنها مقصورةٌ دائمًا تقريبًا على الشخص الذي تلقّاها. وينبغي أن نحترس عندما يروي شخصٌ رؤيا تلقّاها. وينبغي أن نحترس عندما يروي شخصٌ رؤيا أو إعلانًا يختصُّ بنا.
- “كم مرةٍ أخبرني أشخاصٌ عن رؤاهم! وأنا متشككٌ دائمًا. وأريد أن أعرف ماذا تناولوا على العشاء بالأمس. فإذا كان للناس رؤىً من هذا النوع، فإنهم يصمتون حولها.” مورغان (Morgan)
- أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ: يصفُ بولس خبرته بصيغة المفرد الغائب بدلًا من المتكلم المفرد (لم يقلْ: أنا نفسي اختبرتُ هذا). ويجعلُ هذا بعضهم يتساءلون إن كان يتحدثُ عن نفسه هنا حقًا أم أنه يتكلمُ عن شخصٍ آخر. ولكن لأنه يتحوّلُ في الآية السابعة إلى المتكلم المفرد، يمكنُنا أن نتأكد من أنه يكتبُ عن نفسه حقًّا.
- لكن لماذا يستخدمُ صيغةُ الغائب المفرد أصلًا؟ لأن بولس، في وصفه لهذا الاختبار الروحيّ المذهل، يصفُ نفس نوع الأمور التي كان يمكنُ أن يفتخر بها “فائقو الرسل” في كورنثوس. فعندما وصف اختباراته المتواضعة في كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٣٠، لم يتردد في الكتابة بلغة المتكلم المفرد. فلا يمكنُ لأحدٍ أن يفكر في أنه كان يتفاخرُ بنفسه كما كان يفعلُ “فائقو الرسل.” لكنه يسلكُ بحذرٍ أكبر. فهو يفعلُ ما بوسعه لكي يروي اختباره من دون جلب مجدٍ له.
- قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً: لا يساعدُنا هذا التأريخُ كثيرًا في معرفة متى حدث هذا، لأن الباحثين يختلفون حول زمن كتابة كورنثوس الثانية.
- رأى بعضُهم أن هذا الاختبار الذي يذكرُهُ هنا حدث أثناء السنوات العشر التي قضاها في سورية وكيليكية (غلاطية ٢١:١-١:٢) عند رجمه في لسترة (أعمال الرسل ١٩:١٤) أو أثناء إقامته في أنطاكية (أعمال الرسل ١:١٣-٣).
- إن ما ينبغي ملاحظتُه هنا هو أن بولس لزم الصمت حول هذا الأمر مدة أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وهو الآن يذكرُه على مضضٍ.
- أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ: لم يعرفْ بولس حقًا أثناء هذه الرؤيا إن كان فِي الْجَسَدِ أم خَارِجَ الْجَسَدِ. ويبدو أن أيًّا منهما كان ممكنًا في ذهنه.
- قد يسألُ بعضُهم: ما الذي حدث لبولس فعلًا؟ هل حُمل إلى السماء في الجسد أم أن روحه انفصلتْ من جسده وذهبت إلى هناك؟ والفكرةُ كلُّها من وراء هذا النصّ هي أنه إن كان هو نفسه لا يعرفْ ذلك، فكيف نعرف نحن! وفي واقع الأمر، يؤكدُ بولس هذه النقطة بتكرار الفكرة مرتين (في الآيتين الثانية والثالثة). ولهذا، فإن التكهن حول هذه النقطة هو بلا طائلٍ. “فإن كان لم يكن بمقدور بولس أن يقررّ بنفسه، فسيكونُ من السخافة أن نحاول ذلك.” كلارك (Clarke)
- اخْتُطِفَ هذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ: لا توحي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ “بمستوياتٍ” مختلفةٍ من السماء (رغم أن هذا ما كان يعتقدُه بعضُ معلمي اليهود القدماء). بل يستخدمُ بولس تعابير شائعةً في زمنه، حيث كانت “السماء الزرقاء” (أي الغلافُ الجويُّ) هي أول سماءٍ، و”سماءُ النجوم” هي السماء الثانية، والمكانُ الذي يسكنُ ويسودُ فيه الله هي السماء الثالثة.
- “لا تُذكرُ في الكتابات المقدسة إلا ثلاثُ سماواتٍ. الأولى هي الجوُّ، والثانيةُ هي سماءُ النجوم، والثالثةُ مكانُ المبارك أو عرشُ المجد الإلهيّ.” كلارك (Clarke)
- إن كلمة ’هذَا‘ هنا إشارةٌ إلى بولس نفسه… الذي اخْتُطِفَ إلى السَّمَاءِ حيث يسكنُ الله. اختبر بولس رؤيا أو اختبر عرش الله، كما حدث مع إشعياء (إشعياء ١:٦) ويوحنا (رؤيا يوحنا ١:٤-٢).
- أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ: يحدّدُ بولس السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ على أنها الْفِرْدَوْسِ. وكلمة فردوسُ مأخوذةٌ من كلمةٍ فارسيةٍ تعني بستانًا فخمًا مُغْلقًا غالبًا ما لا يوجدُ إلاّ عند الملوك في العالم القديم.
- اعتقد بعضُ أوائل المؤمنين بالمسيح خطأً أن الْفِرْدَوْس هو المكانُ الذي كانت تذهبُ إليه نفوسُ المؤمنين بعد الموت في انتظار القيامة. بل إن بعضهم (مثل اللاهوتيّ القديم أوريجانوس) رأى أن الْفِرْدَوْس موجودٌ في مكانٍ قريبٍ من سطح الأرض.
- وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا: ففي وصف بولس لهذه الرؤيا السماوية، لا يروي لنا كلّ ما رآه، بل وصفًا مضبّبًا لما سمعه.
- عندما نفكرُ في هذا الأمر، ندركُ مدى اختلاف بولس عن معظم أولئك الذين يصفون رؤى مزعومةً عن السماء الآن. فلا يوجدُّ في وصف بولس لهذا الاختبار ما يُمجّدُ الذات أو يفخّمُها ولا أي حماقة.
- انتظر بولس ١٤ سنةً صامتًا تمامًا حول هذا الحدث، وعندما قرر أن يتكلم عنه أخيرًا، فقد فعل ذاك عن مضضٍ.
- فعل كلّ شيءٍ بوسعه في سرد هذه القصة لكي يُبعد التركيز عن نفسه (مثل استخدام الضمير الغائب المفرد في الكتابة).
- لم يهتمُّ على الإطلاق بالأوصاف التي تحبسُ الأنفاس حول ما اختبره فعلًا. وبدلًا من ذلك، لم يقلْ شيئًا عمّا رآهُ، وقال فقط إن الأشياء التي سمعها لاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا.
- فما الذي رآه بولس؟ لا ندري. إنها أمورٌ لا يُنْطقُ بها وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا. فلم يُرد اللهُ لنا أن نعرف، ولهذا لم يُعط بولس إذنًا بالكلام عنها.
- ورغم ذلك، فإن بعض المفسرين لا يستطيعون مقاومة التكهن: “يرجحُ أن الرسول يشير إلى بعض التواصل في ما يتعلقُ بالطبيعة الإلهية والأسرار والتدابير الإلهية التي لم يتحدثْ إلاّ عنها بشكلٍ عامٍ في وعظه أو كتاباته. ولا شكّ أن ما تعلّمه في هذا الوقت شكّل أساسًا لكلّ عقائده.” كلارك (Clarke)
- مِنْ جِهَةِ هذَا أَفْتَخِرُ. وَلكِنْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِي لاَ أَفْتَخِرُ إِلاَّ بِضَعَفَاتِي: يقولُ بولس بشكلٍ أساسيٍّ إن هذا الإنسان “غير المسمّى” الذي رأى الرؤيا ليس لديه شيءٌ يفتخرُ به. ولا يمكن لبولس نفسه أن يفتخر حقًا إلا بضعفاته، وهذا هو ما فعله بالضبط في كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٣٠.
- فَإِنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفْتَخِرَ لاَ أَكُونُ غَبِيًّا: ومرةً أخرى، يقومُ بولس بشكلٍ لاذعٍ – لكن بروح الدعابة – بمقابلة نفسه مع “فائقي الرسل” بين مؤمني كورنثوس. فهم لن يترددوا في أن يفتخروا بنفس نوع الرؤيا التي رآها بولس. بل سيكتبون كتبًا وينتجون أشرطةً وفيديوهاتٍ وسيتجولون وهم يتحدثون عن مثل هذه الرؤيا! فإن فعلوا ذلك، فسيكونُ كلُّ واحدٍ منهم غبيًا. رفض بولس أن يكون غبيًا، ولهذا لن يفتخر بهذه الرؤيا.
- وفي الوقت نفسه، نكادُ نحسُّ بأنه كان أمرًا مهمًا لبولس أن يوصل لمؤمني كورنثوس أنه مرّ بمثل هذه الاختبارات. وفي الغالب، يجد من مروا بتلك الاختبارات العميقة بالله سهولة في التفاخر بها دائمًا. ولكن بولس لم يفتخر كما فعل “فائقو الرسل” رغم أنه كانت لديه اختباراتٌ عميقةٌ بالله. ودليلُ تلك الاختبارات العميقة هذه موجودٌ في حياته المتغيرة وخدمته القوية المثمرة.
- ولهذا شعر بولس بأنه أمرٌ مهمٌّ له أن يذكر ذلك الاختبار لكن من دون أن يطيل الحديث عنه بأية طريقة كانت. فلم يكن يحاولُ أن “يروّج” لنفسه بين مؤمني كورنثوس. بل في الواقع كان يمنعُ نفسه من الوصف (وَلكِنِّي أَتَحَاشَى)، لأنه لم يُرد أن يقنع مؤمني كورنثوس بأنه مجردُ واحدٍ آخر من “فائقي الرسل” (لِئَلاَّ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْ جِهَتِي فَوْقَ مَا يَرَانِي أَوْ يَسْمَعُ مِنِّي). فإن ظنّ مؤمنو كورنثوس أنه ضعيفٌ ومختلفٌ عن “فائقي الرسل” فإن هذا لا يُضيرُهُ في شيءٍ. لكنه أراد لمؤمني كورنثوس أن يروا مجد الله معبّرًا عنه في الضعف، لا أن ينظروا إليه كشخصٍ “عظيمٍ” كما زعم “فائقو الرسل” لأنفسهم.
- لماذا أُعطيت هذه الرؤيا؟ أولًا، أعطيتْ لك ولي لكي نستفيد مما أراهُ الربُّ لبولس. ثانيًا، أعطيت له لأن ما أخبره اللهُ من خلال هذه الرؤيا أعطاه القوة عبر كلّ محنه وتجاربه ومكّنه من أن يعطي كلّ ما أراده اللهُ أن يعطيه للأجيال كلّها. فقد ساعدت هذه الرؤيا بولس في أن يكمل مشواره.
ب) الآية (٧): وجودُ شوكةٍ في جسد بولس
٧وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي، لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ.
- وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ: كانت رؤيا بولس مثيرةً جدًا للإعجاب حتى إنه كان يمكنُ له أن يرتفع بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ، وكان يمكنُ أن يفتخر بنفسه أو يجعل الآخرين يفتخرون به بسبب هذا الاختبار.
- لم تكن لدى بولس مناعةٌ من خطر الكبرياء. وليس لدى أيّ أحدٍ مثلُ هذه المناعة. “لدى حتى أفضل الأشخاص في شعب الله جذورٌ للكبرياء أو ميلٌ إلى التعظم أو الارتفاع فوق ما هم عليه عند تلقّيهم إحساناتٍ إلهيةً لا يشاركُها آخرون.” بووله (Poole)
- أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ: أعطيت هذه لبولس لئلا يرتفع أكثر مما ينبغي. وهنا يكشفُ بولس السبب الحقيقيّ لتحدُّثه عن الرؤيا السماوية، لا ليفتخر بنفسه، بل ليشرح وجود هذه الشوكة في جسده.
- يبدو أنه كان بمقدور الجميع أن يروا الشوكة في جسد بولس – فلم تكنْ سرًا. كانت رؤياه السماويةُ سرًا حتى الآن، فلم يعرف أحد شيئًا عن الاختبار الروحيّ المذهل الذي كان وراءه، أما الشوكة فقد رآها الجميع.
- “يقولُ بولس: ’أُعْطِيتُ.‘ فكانت المحن بالنسبة لبولس هي هبةٌ من الله. وقد أحسن فعلًا التعبير. ولم يقل: ’إني أُصبتُ بشوكةٍ في الجسد‘ لكن ’أُعْطِيتُ.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- شوْكةً في الْجسد: ما هي هذه الشوكةُ في الجسد؟ عندما نفكرُ في شوكةٍ، فإننا نميلُ إلى التفكير في شيءٍ مزعجٍ بسيطٍ. لكن جذر الكلمة التي استخدمها بولس للإشارة إلى الشوكة هنا يصفُ عامود خيمةٍ وليس دبوسًا بسيطًا.
- تبيّنُ كلمةُ سكولوبس skolops (شوكة) في الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم “شيئًا محبطًا ومسبّبًا للإزعاج للذين يُبتلون به.” كروز (Kruse)
- أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لِيَلْطِمَنِي: يبدو بطريقة غريبة، أن الشوكة التي أُعْطِيتُ – بسماح من الله – كانت رَسُولًا من الشيطان (مَلاَكَ الشَّيْطَانِ).
- يرجحُ أن إبليس سارع لينتهز سماح الله له بأن يبتلي بولس، وقد فعل هذا بخبثٍ ورغبةٍ في الأذى تجاه بولس. ولكن كان لدى الله قصدٌ في هذا كلّه، فأرسل مَلاَكَ الشَّيْطَانِ لكي يمنع بولس من الكبرياء (لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ).
- لِيَلْطِمَنِي: يعني هذا أن هذه الشوكة في الجسد أي مَلاَكَ الشَّيْطَانِ، لُكم بولس. أحسّ بولس أن ملاكًا من الشيطان أوْسعهُ ضربًا (وآذاه جسميًا وعاطفيًا).
- هل كان بولس يُلكمُ من إبليس؟ من كان يخطرُ هذا بباله؟ “ربما نظرت إلى وجه مؤمنٍ بالمسيح دائم الابتسام؛ لا يبدو عليه أيُّ قلقٍ، وهو سعيدٌ ومشعّ دائمًا. وعندما كنت تفكرُ في اختباراتك الخاصة، قلت في نفسك: ’ليتني مثلُه! يبدو أنه لا يعاني من أية مشكلاتٍ. وهو غيرُ مضطرٍّ إلى التعامل مع ما أنا مضطرٌّ للتعامل معه.‘ لكن ربما عشتُ مدةً طويلةً كافيةً، كما فعلتُ أنا، لتعرف أن أكثر الوجوه سطوعًا وإشعاعًا أحيانًا تختبئُ في ضغوطاتٍ عظيمةٍ، وغالبًا فإن الإنسان الأكثر مباركةً من الله هو الذي يتعرضُ لأكثر لكمات إبليس.” ريدباث (Redpath)
- إنه لأمرٌ مثيرٌ للاهتمام أن نضع في اعتبارنا ما كان يمكنُ أن يقوله مرشدٌ من دون منظورٍ كتابيٍّ لبولس. تخيل أن بولس يخبرُ هذا المرشد عن ضعفه الكبير، وعن شوكته المزعجة في جسده، وكيف أنه يحسُّ بالضعف والعجز على الاستمرار بسببها. يمكنُنا أن نتخيل أن المرشد هذا يقول: “إن ما تحتاجُ إليه يا بولس هو نظرةٌ ذهنيةٌ إيجابيةٌ لكي تواجه هذه المشكلة.” أو ربما يقول: “يا بولس، إن القوة اللازمة لقهر هذا الضعف موجودٌ فيك. ينبغي لك أن تنظر إلى الإنسان الداخلي لتجد موارد النجاح.” وربما يقول المرشدُ لبولس بعد ذلك: “أنت تحتاج إلى مجموعة دعمٍ من الأفراد المهتمين بأمرك.” وربما يقترحُ المرشدُ على بولس أن يتناول دواءً ضدّ الكآبة أو ربما يقدّمُ له تحديًا، “إن كان لديك إيمانٌ حقيقيٌّ، فستتحررُ من هذه الشوكة في الجسد.” قد يكونُ بعضُ هذه النصائح أمرًا لا بأس به في ظروفٍ مختلفةٍ، لكن بولس سيأخذُ مشكلته إلى المرشد الأعظم الذي سيكونُ لديه شيءٌ مختلفٌ ليقوله.
ج ) الآية (٨): صلاةُ بولس حول الشوكة في جسده
٨مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي.
- مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ: فعل تمامًا ما طلب من الآخرين أن يفعلوه في وقت الضيق. إذ كان يؤمنُ بما كتبه في فيلبي ٦:٤ “لا تهْتمُّوا بشيْءٍ، بلْ في كُلّ شيْءٍ بالصّلاة والدُّعاء مع الشُّكْر، لتُعْلمْ طلْباتُكُمْ لدى الله.”
- تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: في واقع الأمر، صلّى بولسُ مرارًا وتكرارًا حول الشوكة في جسده. ربما تتخيلُ أنه عندما ظهرت الشوكةُ لأول مرةٍ، فكّر في نفسه: “لا توجدُ مشكلةٌ، سأرفعها للربّ في الصلاة.” لكن لم يحدثْ شيءٌ عندما صلّى بولسُ. ففكّر في نفسه: “يبدو أنها مشكلةٌ صعبةٌ” فصّلى ثانيةً. وعندما لم يحدثْ شيءٌ بعد صلاته الثالثة، عرف أن الله كان يحاولُ أن يقول له شيئًا.
- يعتقدُ بعضُهم أن بولس يستخدمُ مجازًا عبريًا يعني في الواقع أنه أكثرُ من ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. “لا يعني هذا ثلاث مرّاتٍ. إنه استخدامٌ عبرانيٌّ لهذا التعبير للإشارة إلى الاستمرار بلا توقفٍّ، مرارًا وتكرارًا.” مورغان (Morgan)
- يقولُ بعضُهم أن الصلاة من أجل أمرٍ أكثر من مرةٍ (مرتين وأكثر) دليلٌ على أن الشخص غيرُ روحيٍّ وقليلُ الإيمان. وسيكون هذا الأمر مفاجئًا لبولس الذي تضرّع إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وليسوع الذي صلّى نفس الكلمات ثلاث مرّاتٍ في بستان جثسيماني ( مرقس ٣٩:١٤-٤١).
- لكن لم يكن هنالك عيبٌ في صلاة بولس. “لا يهتم اللهُ بحساب صلواتنا أي كم مرةً نصلي، ولا بلاغة صلواتنا أي أناقة صلواتنا، ولا موسيقى صلواتنا أي إلى مدى تُطربُ الآذان؛ ولا منطق صلواتنا أي مدى منهجيتها. لكنه يحترمُ ويهتم بإخلاص صلواتنا أي كيف أنها تنبعُ من القلب. ولا يهتم بالمواهبُ، بل بالفضائلُ المسيحيةُ التي تنتصرُ في الصلاة.” تراب (Trapp)
- تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ: كانت صلاةُ بولس حول هذه المسألة مشبوبةً بالعاطفة. ونحن نتساءل إن كان قد فوجئ عندما لم تُستجب صلاتُه في المرة الأولى أو الثانية.
- أَنْ يُفَارِقَنِي: كانت صلاةُ بولس الأولية هي التخلص من معاناة هذه الشوكة في الجسد. فلم يكن بولسُ يحبُّ الألم الجسديّ بشكلٍ مرضيٍّ. فعندما كان يعاني، كانت أولُ غريزةٍ فيه أن يطلب من الله أن يرفع المعاناة.
- عندما لم يُستجبْ تضرُّعُهُ المشبوبُ بالعاطفة، لا بدّ أن هذا أقلقه. وقد أضاف بُعدًا آخر إلى محنته.
- كان لها بُعد جسمي، لأن الشوكة كانت في الجسد.
- كان لها بُعد ذهني، لأنه كان رسولًا من إبليس.
- كان لها بُعد روحي، لأن صلواته لم تُستجبْ.
- مِنْ جِهَةِ هذَا: ما هي هذه الشوكة في الجسد على نحو الدقة؟ لا نعلمُ ما يكفي لنحدد بدقةٍ، لكن هذا لم يمنع مفسرين ومعلمين كثيرين من الإدلاء بآرائهم.
- يرى بعضُهم أنها بشكلٍ رئيسيٍّ تحرُّشٌ روحيٌّ. ويراها آخرون أنها اضطهادٌ. ويقولُ آخرون إنها مرضٌ أو ضعفٌ جسميٌّ. ويقولُ بعضُهم إن صراع بولس كان مع أفكار الشهوة والخطية.
- ومن بين المؤمنين، يقدمُ ترتليان (Tertullian) أول تخمينٍ مدوّنٍ حول طبيعة مشكلة بولس. فقد اعتقد أن الشوكة في الجسد كان ألمًا في الأذنين أو صُداعًا.
- وفي عصورٍ أكثر حداثةً، قدّم السير ويليام رامزي (Sir William Ramsay) الرأي أن ضعف بولس كان نوعًا من الملاريا الشائعة. ويتعرضُ المصابون بهذا النوع من الملاريا عندما يتعرضون للإجهاد والضغط النفسيّ، ويشعرون بازدراء الذات وكراهيتها، ويعتقدون أن الآخرين يحسّون بالازدراء والكراهية على حدٍّ سواء. كما أن حُمّى الملاريا هذه تنتجُ صداعًا شديدًا يصفُهُ بعض المرضى بأنه “مثلُ قضيبٍ ساخنٍ جدًا يجتاحُ الجبين كلّه.”
- كلُّ واحدٍ من هذه الاقتراحات ممكنٌ، لكنْ كان لله قصدٌ محدد أكيد في عدم كشف طبيعة شوكة بولس. فلو عرفنا طبيعة شوكة بولس، عندئذٍ ربما يتشككُ كلُّ شخصٍ ابتُلي بشيء – ليس بالطريقة نفسها – أن اختبار بولس كان ذا صلةٍ به. إذ أراد اللهُ لكلّ واحدٍ يعاني من أيّ نوعٍ من الأشواك في الجسد أن يكون قادرًا على أن يضع نفسه مكان بولس. “بشكلٍ عامٍ، أجدُ أن كلّ مفسّرٍ اختار الشوكة المعيّنة التي اخترقتْ صدره.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (٩-١٠): تدبيرُ الله لبولس أثناء معاناته من شوكته في الجسد
٩فَقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. ١٠لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ.
- فَقَالَ لِي: كان لدى الله جوابٌ لبولس. لم يكن هو الجواب الذي أمل فيه بولس في بداية الأمر، لكن كانت لدى الله استجابةٌ لبولس. إذ غالبًا ما نغلقُ آذاننا لله إذا استجاب بطريقةٍ لم نأملْ فيها أو نتوقعْها.
- «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ»: بدلًا من أن يقوم الله بنزع الشوكة من حياة بولس، فقد أعطى الله وسيظلُّ يعطي بولس نعمته. فالنعمةُ التي أعطاها اللهُ لبولس كافيةٌ لتلبية كلّ احتياجٍ.
- كان بولسُ مستميتًا في رغبته في إيجاد راحةٍ من هذا العبء، لكن لا توجدُ إلا طريقتان للراحة – يمكنُ أن تأتي الراحةُ من رفع العبء أو بتقوية الكتف التي تحملُ العبء. فبدلًا من أن ينزع اللهُ الشوكة، قام بتشديد بولس في معاناته لها، وبيّن قوّته من خلال ضعف بولس البادي.
- لكي يفعل ذلك، كان على بولس أن يصدّق أن نعمة الله كافيةٌ. فنحن في واقع الأمر لا نصدقُ أن نعمة الله كافيةٌ إلى أن نصدق أننا نحن غيرُ كُفاةٍ. فبالنسبة لكثيرين منّا، ولا سيّما في الثقافة الأمريكية، فإن هذه مشكلةٌ هائلةٌ. فنحن نؤلّهُ الرجل “العصاميّ” ونريدُ أن نعتمد على أنفسنا. لكن لا نستطيعُ أن نتلقّى قوة الله إلى أن نعرف ضعفنا. ولا نستطيعُ أن نتلقّى كفاية نعمة الله إلى أن نعرف عدم كفايتنا.
- “تُخرجُ الضيقاتُ العظيمةُ قوة الله العظيمة. فإذا لم تحسّ قط بصراعاتٍ داخليةٍ وبأن نفسك تغرقُ، فأنت لا تعرفُ الكثير عن قوة الله الحافظة التي تجعلُك تتماسك. فعندما تنزل إلى أسفل فأسفل فأسفل إلى أعماق عذاب النفس ويهدد البحر بأن يغلق فمه عليك، يركب الربُّ على كروبٍ ويطير، نعم، يركب على أجنحة الريح وينقذ نفسك ويخطفك إلى سماء السرور الثالثة، عندئذٍ ستدركُ جلالة النعمة الإلهية. لا بدّ أن نحسّ بضعف الإنسان ونقرّ به وننوح عليه وإلا فلن تكتمل قوةُ ابن الله فينا أبدًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- تَكْفِيكَ نِعْمَتِي: كيف أحدثتْ نعمةُ الله فرقًا؟ وكيف لبّت احتياج بولس في تلك اللحظة؟
- استطاعت النعمة أن تلبّي احتياج بولس لأنها تعبرُ عن قبول الله وسروره بنا. فعندما نتلقّى نعمته، فإننا نستمتعُ بحالة رضى الله واستحسانه لنا. تعني النعمةُ أن الله يحبُّنا كثيرًا وأنه مسرور بنا وسوف يرعانا.
- استطاعت النعمة أن تلبّي احتياج بولس لأنها متاحة كلّ الوقت. فعندما نخطئُ أو نفشلُ، فإن هذا لا يخرجُنا خارج نعمة الله. وبما أن النعمة تعطي لنا مجانًا وبسخاءٍ في يسوع، فلا يمكنُ أن تؤخذ منا لاحقًا عندما نعثرُ أو نسقطُ. فعندما نأتي إلى الله من خلال دم يسوع، فإن نعمته جاهزةٌ أبدًا لكي تقابلنا وتخدم كلّ نواحي عدم كفايتنا.
- استطاعت النعمة أن تلبي احتياج بولس لأنها نفسُ قوة الله. إن قدرًا كبيرًا من قوة هذا العالم يعبّرُ عنه في أشياء لا تجلبُ إلا الأذى والدمار، لكن الله يحبُّ أن يرينا قوته من خلال صلاحه ونعمته. أحيانًا ما نربطُ الصلاح بالجبن أو التردد أو الخجل. وعندما نفعلُ ذلك، فإننا نتبنّى منظورًا دنيويًا حول القوة والقدرة، وننكرُ حقّ الله حول قوة النعمة والمحبة. فليست النعمةُ ضعيفةً أو جبانةً. بل هي قوةُ الله التي تملأُ كلّ ما نفتقرُ إليه.
- تَكْفِيكَ نِعْمَتِي: يمكنُك أن تؤكد أيّ جانبٍ يعجبُك من هذه الجوانب:
- ’تَكْفِيكَ نِعْمَتِي‘: نعمة الله هي لطفُه ومحبتُه العاملة فينا. وتعني أنه يحبُّنا وأنه مسرورٌ بنا. هل يمكنُك أن تسمعها من فم الله: ’تكفيك محبتي؟‘ أليست هذه حقيقة صحيحة؟
- ’تَكْفِيكَ نِعْمَتِي‘: نعمةُ من؟ إنها نعمةُ يسوع. أليست محبتُه كافيةً؟ أليس فضلُه ولطفُه كافيًا؟ هل سيفشلُ يسوعُ في هذا؟ تذكّرْ أيضًا أن يسوع عانى من الأشواك، ولهذا فإنه يعرفُ ويهتمُّ.
- ’تَكْفِيكَ نِعْمَتِي‘: إن نعمته لك الآن. وليس في يومٍ آخر لاحقٍ. بل الآن، في هذه اللحظة. تكفيك نعمتُه. هل اعتقدت أن شيئًا ما ينبغي أن يتغير قبل أن تكون نعمتُه كافيةً! وهل فكرت: “كانت نعمتُه كافيةً مرة، وقد تكون كافيةً مرةً أخرى، لكن ليس الآن، ليس مع ما أعانيه الآن.” ولكن رغم هذا الشعور، إلا أن كلمة الله قائمةٌ: ’تكفيك نعمتي.‘ كتب سبيرجن (Spurgeon): “يسْهُلُ أن نؤمن بالنعمة للماضي أو للمستقبل، لكن الاعتماد عليها في احتياجنا الفوريّ المباشر هو الإيمانُ الحقيقيُّ. أيها المؤمنُ، إن نعمة الله كافيةٌ لك الآن، إنها كافيةٌ لك في هذه اللحظة.”
- ’تَكْفِيكَ نِعْمَتِي‘: نعمته تكفيك. يشرحُ ريدباث (Redpath) هذا الجانب على أفضل وجهٍ: “هل ترى روح الدعابة في هذا الموقف؟ نعمةُ الله: نعمتُه كافيةٌ لي أنا الصغير! كم هو عبثيٌّ أن نفكر أن هذا يمكنُ على نحوٍ مختلفٍ! كما لو أن سمكةً صغيرةً يمكنُ أن تسبح في المحيط وتخاف أن تشرب ماء المحيط حتى يجفّ! من المؤكد أن نعمة المخلص والمصلوب المقام والممجد والمنتصر، وربُّ الكلّ كافٍ لي! ألا تعتقدُ أنه كان تواضعًا من الربّ أن يقول “تكفيك”؟
- ’تَكْفِيكَ نِعْمَتِي‘: تكفيك أنت. “أنا سعيدٌ جدًا أن الله لم يقل: “نعمتي كافيةٌ لبولس الرسول.” لو حدث هذا لأحسستُ بأني مستثنى. لكن الله جعل المسألة واسعةً مفتوحةً. يمكنُك أن تكون الضمير المتصل (ك) في “تكفيك.” فنعمةُ الله كافيةٌ لك أنت! هل تجاوزتها! هل أنت مختلفٌ إلى هذا الحدّ؟ هل شوكتُك أسوأُ من شوكة بولس أو أسوأُ من آخرين كثيرين عرفوا انتصار يسوع؟ بالطبع لا. هذه النعمةُ الكافيةُ لك أنت.
- “تُعلن هذه الكفايةُ من دون أية كلماتٍ تحدُّها، ولهذا فإني أفهمُ أن النصّ يعني أن نعمة ربّنا يسوع المسيح كافيةٌ لكي تحافظ عليك للتماسك، كافيةٌ لتقويك، كافيةٌ لتعزّيك، كافيةٌ لتجعل متاعبك مفيدةً لك، كافيةٌ لتمكّنك من التغلب عليها، كافيةٌ لإخراجك منها، كافيةٌ لإخراجك من عشرة آلافٍ مثلها، كافيةٌ لإيصالك إلى موطنك في السماء… آه يا أيها المؤمن، ليتهُ كان ممكنًا لي أن أعبّر عن كلّ هذه الكفاية في كلماتٍ، لكن هذا غيرُ ممكنٍ. دعني أتراجعْ عن كلامي: أنا سعيدٌ لأني لا أستطيعُ التعبير عنها في كلماتٍ، لأني لو استطعتُ ذلك لكانت محدودةً، ولكن بما أننا لا نستطيعُ أن نعبّر عنها، فالمجدُ لله على أنها لا تُستقصى. دعني هنا أقنعك أن تأخذ هذا الوعد شخصيًا لك في هذا الوقت، لأنه لا يلزمُ هنا أن يكون أيُّ مؤمنٍ تحت أيّ نوعٍ من المخاوف. ففي هذه اللحظة أيضًا، نعمةُ الربّ يسوع كافيةٌ.” سبيرجن (Spurgeon)
- “كتب جون بنيان (John Bunyan) النصّ التالي الذي يعبرُ تمامًا عمّا اختبرتُه بنفسي. يقولُ إنه كان ممتلئًا بالحزن والرعب، لكن فجأةً أضاءتْ هذه الكلماتُ قلبه بقوةٍ عظيمةٍ، وسمع ثلاث مرّاتٍ الكلمات نفسها وهي ترنُّ في أذنيه: ’تكفيك نعمتي. تكفيك نعمتي. تكفيك نعمتي.‘ وقال: ’بدأتُ أفكرُ أن كلّ كلمةٍ كانت كلمةً جبارةً بالنسبة لي: ’تكفيك نعمتي‘ فكل كلمة كانت وما زالت أكبر من أية كلماتٍ أخرى.‘ إن من اختبر هذه الكلمات ويعرفها جيدًا، كما تعرفُ النحلةُ كيف تمتصُّ العسل من الزهور، يستطيعُ أن يطيل التأمل في كلّ كلمةٍ منها ويتشرّب محتواها الذي لا يعبّرُ عنه.” سبيرجن (Spurgeon)
- فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ: جعل اللهُ بولس، من خلال ضعفاته، معتمدًا على نعمته وقوته، لكن هذا كلّه كان للخير. إذ جعلهُ اعتماده المستمرّ – بل المجبور – على الله أقوى مما كان يمكنُ على الإطلاق لو أن الإعلانات التي تلقّاها جعلتْه فخورًا ومكتفيًا بذاته.
- يعتقدُ كثيرون منا أن النضج المسيحيّ يحصلُ عندما نصلُ إلى نقطةٍ نكونُ فيها “مستقلين” نوعًا ما عن الله. والفكرةُ هي أننا أحكمنا السيطرة على حياتنا ولسنا بحاجة إلى أن نعتمد عليه كثيرًا من يومٍ إلى يومٍ ومن لحظةٍ إلى لحظةٍ. ولكن ليس هذا نضجًا روحيًا على الإطلاق… لقد وجّه اللهُ ظروف بولس بشكلٍ متعمدٍ لكي يكون في اتكالٍ دائمٍ على نعمته وقوته.
- يرى كثيرون الله كأبٍ نكبرُ في مرحلةٍ ما عن الاحتياج إليه. فحالما ننضجُ ونتغلبُ على بعض العوائق في الحياة، يمكنُنا أن نتخلص من الله تمامًا كما نتخلصُ من سلطة أبوينا. وفي هذا النمط، يعاملُ بعضُنا الله كما نعاملُ أبوينا. فنحن نعطيه قدرًا من الاحترام. نعطيه ما يستحقُّه – لكن لا نعودُ نحسُّ بأننا مضطرّون إلى طاعته بعدُ. ونحن مقتنعين بأننا انتقلنا من بيتنا الأصليّ. ونفكرُ أنه يمكنُنا أن نضع قواعدنا الخاصة في الحياة ما دمنا نشاركُ في العشاء (الربّاني) في بيت الله مرةً في الأسبوع ونعطيه شيئًا من الاعتراف.
- يُضْمرُ كثيرون حنينًا إلى اليوم الذي تصبحُ فيه الحياةُ المسيحيةُ “سهلةً.” فنحن نأملُ أن يأتي وقتٌ تصبحُ صراعاتُنا الرئيسية مع الخطية وراءنا، وعندما ننتقلُ إلى أشياء أكبر وأفضل من دون صراعٍ. لكن هذا اليوم وهمٌ. فإن كان الرسول بولس يختبرُ الضعف يوميًا باستمرارٍ، فمن نحن لنعتقد أننا سنتفوقُ عليه؟
- وفي واقع الأمر، فإن وهم القوة والاستقلال يتركُ المرء في حالةٍ أضعف فعلًا. “لا يوجدُ ما يعوقُ عمل الله أكثرُ من المسيحيّ المرتفع والفخور.” مورغان (Morgan)
- “ينبغي لخدام الإنجيل أن يتخلوا تمامًا عن كلّ أفكارهم حول ذكائهم وقدرتهم الذهنية وثقافتهم وكفايتهم للعمل، وأن يتعلّموا أنه لن يمتلئوا إلا بعد أن يفرغوا أنفسهم، وأنهم لن يكونوا جاهزين للخدمة إلا بعد أن يعرفوا أنهم لا شيء.” ماكلارين (Maclaren)
- “يعملُ اللهُ من خلال الرجل الذي نقاه وطهره من الداخل إلى الخارج، وأفرغ حياتُه بالكامل أمام الربّ إلى أن صار ضعيفًا بشكلٍ ميؤوسٍ منه، حتى لا يفتخر أيُّ جسدٍ في محضره.” ريدباث (Redpath)
- لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ: وفي نهاية المطاف، لا يستسلمُ بولس لمصيره، بل يرحّبُ به. فهو يُسر بأن الله أجبره على الاعتماد على نعمة الله وقوته أكثر فأكثر حتى إنه قادرٌ على القول: لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ.
- كان بولس على مثل هذا المستوى من القوة الروحية والنضج حتى إن الله تعمّد أن يُدخل شوكةً في جسده. فعندما ننظر إلى الشوكة في جسدنا نظرة صادقة سندرك ضعفنا وهذا سيجعلنا نعتمدُ كليًا على نعمة يسوع وقوته. ولكن حتى لو نمونا إلى مستوى قوة بولس الروحية ونضجه، فإن الله سيقولُ لنا أيضًا: “أريدُك أن تظلّ تعتمدُ عليّ في كلّ شيءٍ. هنالك شيءٌ لتعتمد عليّ من أجله.” هذه هي نقطةُ الانتصار، لا نقطةُ الإحباط.
- “لا يوجدُ في المنظور المسيحيّ أيُّ مكانٍ لعدم المقاومة والاستسلام المُحبط.” هيوز (Hughes)
- لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ: ليس سرورُ بولس بالضعفات تأملًا مرضيًا يلجأُ إليه الناسك الذي يعتقدُ أننا نبرّرُ أمام الله بمعاناتنا. لم يسع بولس إلى هذه الشوكة في جسده، بل جاءت إليه.
- “كان هنالك تصوّرٌ مؤذٍ جدًا في الكنيسة في تاريخٍ لاحقٍ، وهو مغازلةُ الاستشهاد، وممارسةُ الزهد، وحتى احتضانُ الأوساخ والمرض والعوز كوسيلةٍ لاكتساب رضا الله. وهذا التصورُ هو على نقيضٍ صارخٍ من فكر بولس وكلّ نعمة الإنجيل في العهد الجديد، فهذا التصوّرٌ يتحكمُ بطريقة حياة الفرد، بهدف جعله بارًا ومقبولًا أمام الله – وهو مفهومُ الأعمال لا مفهومُ الإيمان.” هيوز (Hughes)
- لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ: يا للانتصار! ماذا يمكنُ للعالم أن يفعل لشخصٍ بهذا الثبات في قبضة يسوع؟ فالله لم يسمح بوجود هذه الشوكة في جسد بولس لكي يعاقبه أو ليبقيه ضعيفًا من أجل الضعف. بل سمح بذلك لكي يبين قوته الإلهية التي تعمل من خلال بولس.
- فكّر في بولس، هل كان ضعيفًا أم قويًا؟ لم يكن هذا الرجلُ الذي سافر عبر العالم القديم ناشرًا رسالة إنجيل يسوع رغم أشرس الاضطهادات والذي احتمل تحطم السفينة به والسجون وكرز لملوكٍ وعبيدٍ وأسّس كنائس قويةً ودرّب قادتها، رجلًا ضعيفًا. ففي ضوء حياته وإنجازاته يمكنُنا أن نقول إنه كان قويًا جدًا. ولكنه لم يكن قويًا إلا لأنه كان يعرفُ نقاط ضعفه ونظر إلى خارج نفسه ساعيًا إلى قوة نعمة الله. إذا أردنا حياةً كهذه، يتوجبُ علينا أيضًا أن نفهم ضعفنا ونعترف به، وأن نلجأ إلى الله وحده من أجل النعمة التي ستقوّينا من أجل أيّة مهمةٍ. كان بولس الممتلئُ من النعمة هو الذي قال: “أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي.” (فيلبي ١٣:٤)
- “تُسقى الوديان بماء الأمطار لتجعلها مثمرةً، بينما تبقى قممُ الجبال العالية جافةً. يتوجبُ أن يكون الإنسانُ واديًا إذا أراد أن يتلقى المطر السماويّ لنعمة الله الروحية.” كالفن (Calvin)
- “من كلّ هذا أفهمُ أن أسوأ محنةٍ يمكنُ أن تصيب الإنسان يمكنُ أن تكون أفضل مقتنى يمتلكُهُ في العالم؛ ربما يكون ملاك الشيطان لخيره مثل ملاكه الحارس، وربما يكونُ لطمُ إبليس له جيدًا مثل ملاطفة الله له. وربما يكونُ ضروريًا لخلاص أنفسنا أن نمارس العمل، لا في مياه البحر العميقة فحسبُ، لكن أيضًا في المياه التي تلقي الطين والأوساخ. ربما يكونُ أسوأُ شكلٍ من المحنة أفضل نصيبٍ لنا حاليًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- وملخصُ القول، هو أن بولس، بدلًا من أن يستخدم هذا الاختبار في تمجيد نفسه (كما كان يفعلُ “فائقو الرسل” بين مؤمني كورنثوس)، فإنه يروي لنا كيف أن هذه الخبرة السماوية جعلتْه أكثر اتضاعًا من أيّ وقتٍ مضى.
- كان بمقدور كلّ أعداء بولس أن يروا الشوكة. ولم يستطيعوا أن يعرفوا كيف ولماذا كانت موجودةً. ولكن بولس عرف، ولهذا ابتهج حتى بهذه الشوكة في الجسد.
- وبطبيعة الحال، فإن أعظم مثالٍ لهذا المبدأ الذي يوصلُه بولس إلينا هنا هو يسوعُ نفسُه الذي عاش هذا المبدأ. “هل يمكنُ أن يكون أحدٌ على الأرض أكثر وداعةً من ابن الله ليعلّق على الصليب مكاننا لكي يفدينا من خطايانا؟ وكما تقابلت نقطة الضعف المطلق هذه بقوة الله الجبارة عندما أقامه من بين الأموات، فإني أتساءلُ إن كان ضغطُ الشوكة في حياة بولس تذكيرًا بقوة الصليب.” ريدباث (Redpath)
- لكن، لا يجب أن نفكر أن مجرد وجود شوكةٍ في حياتنا يعني أن مجد يسوع وقوته سيشع فينا ومن خلالنا. إذ قد تقاومُ نعمة الله وترفضُ أن تركز فكرك على يسوع، وعندئذٍ تجدُ أن شوكتك تلعنُك بدلًا من أن تباركك. “من دون قوة تقديس الروح القدس، فإن الأشواك هي نتاجُ الشرّ لا الخير. ففي أشخاصٍ كثيرين، لا يبدو أن الشوكة في الجسد قد حققتْ قصدًا جديرًا بالإعجاب على الإطلاق. بل خلقتْ رذيلةً أخرى بدلًا من إزالة تجربةٍ.” سبيرجن (Spurgeon)
هـ ) الآيات (١١-١٣): خاتمةُ “الافتخار الغبيّ” من بولس
١١قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنَا أَفْتَخِرُ. أَنْتُمْ أَلْزَمْتُمُونِي! لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ، إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا. ١٢إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ. ١٣لأَنَّهُ مَا هُوَ الَّذِي نَقَصْتُمْ عَنْ سَائِرِ الْكَنَائِسِ، إِلاَّ أَنِّي أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ؟ سَامِحُونِي بِهذَا الظُّلْمِ!
- قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنَا أَفْتَخِرُ: بما أن بولس بدأ هذا القسم في كورنثوس الثانية١:١٠، فقد أُجبر على الافتخار أكثر مما أراد أمام مؤمني كورنثوس. وكأنّ بولس يعتذرُ عن كتابته عن نفسه بهذه الكثرة، لأنه كان يفضلُ الكتابة عن يسوع.
- لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ، إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا: إن كان “افتخارُ” بولس غباوةً، فلماذا فعل ذلك أصلًا؟ لم يفعل ذلك لأجله، بل لأجل مؤمني كورنثوس. فهم لم يدافعوا عن معدن بولس الأخلاقيّ ومركزه كرسولٍ أمام فَائِقِي الرُّسُلِ الذين انتقدوا يسوع وجرّحوهُ.
- لم يكن وجودُ فَائِقِي الرُّسُلِ هو الذي أزعج بولس. بل كان تأثيرُهم الهدامُ بين مؤمني كورنثوس هو الذي أزعج الرسول الحقيقيّ.
- عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ… بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ: كان بمقدور بولس أن يشير إلى الآيات والعجائب والقوات التي صنعها بين مؤمني كورنثوس. فكانت كلُّ واحدةٍ منها دليلًا على مركزه الرسوليّ.
- مَا هُوَ الَّذِي نَقَصْتُمْ عَنْ سَائِرِ الْكَنَائِسِ: إن كان بولس أدنى بأية طريقةٍ كانت، فإنه كان كذلك في أنه رفض أن يأخذ مالًا من مؤمني كورنثوس. ولهذا يطلبُ منهم الغفران بروح السخرية: سَامِحُونِي بِهذَا الظُّلْمِ!
- “هذه سخريةٌ أدبية لطيفة، ورسالتُه ممتلئةٌ بمثل هذه السخرية الأدبية.” تراب (Trapp)
- “كان امتيازًا لكنائس المسيح أن تدعم خدمته للإنجيل بينهم. أما الذين لم يسهموا في خدمة الإنجيل فإما أنهم لم يكونوا مهتمّين بذلك على الإطلاق، أو لم يستفيدوا منها شخصيًا.” كلارك (Clarke)
ثانيًا. بولسُ يعلنُ رحلته الثالثة إلى كورنثوس
أ ) الآيات (١٤-١٨): لا يحاولُ بولس أن يخدع الكورنثيين.
١٤هُوَذَا الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ أَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ وَلاَ أُثَقِّلَ عَلَيْكُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ مَا هُوَ لَكُمْ بَلْ إِيَّاكُمْ. لأَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنَّ الأَوْلاَدَ يَذْخَرُونَ لِلْوَالِدِينَ، بَلِ الْوَالِدُونَ لِلأَوْلاَدِ. ١٥وَأَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ كُنْتُ كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ! ١٦فَلْيَكُنْ. أَنَا لَمْ أُثَقِّلْ عَلَيْكُمْ، لكِنْ إِذْ كُنْتُ مُحْتَالاً أَخَذْتُكُمْ بِمَكْرٍ! ١٧هَلْ طَمِعْتُ فِيكُمْ بِأَحَدٍ مِنَ الَّذِينَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْكُمْ؟ ١٨طَلَبْتُ إِلَى تِيطُسَ وَأَرْسَلْتُ مَعَهُ الأَخَ. هَلْ طَمِعَ فِيكُمْ تِيطُسُ؟ أَمَا سَلَكْنَا بِذَاتِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ؟ أَمَا بِذَاتِ الْخَطَوَاتِ الْوَاحِدَةِ؟
- هُوَذَا الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ أَنَا مُسْتَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ: قام بولس في زيارته الأولى إلى كورنثوس بتأسيس الكنيسة وبقي هناك سنةً وستة أشهرٍ ( >أعمال الرسل ١١:١٨). وكانت زيارتُه الثانية قصيرةً ومؤلمةً بين رسالتي كورنثوس الأولى والثانية. وهو الآن مستعدٌّ للمجيء للمرة الثالثة.
- وَلاَ أُثَقِّلَ عَلَيْكُمْ: يخبرُ بولس الكورنثيين أنه عندما يأتي، رغم أنه سيأخذُ تقدمةً للقديسين في اليهودية (كورنثوس الثانية ٨)، إلا أنه لن يقبل منهم مالًا لدعمه الشخصيّ، وسيواصلُ في دعم نفسه بنفسه، ولن يكون عبئًا عليهم (وَلاَ أُثَقِّلَ عَلَيْكُمْ).
- قد يُثقلُ الخادم على كنيسةٍ بحصول دعمٍ عندما لا يكونُ ذلك مناسبًا أو عندما يتلقّى دعمًا زائدًا جدًا. “من يتعبُ من أجل قضية الله ينبغي أن يُدعم بقضية الله. لكن ويلٌ للذي يفخّمُ نفسه ويثرى بغنائم المؤمنين الأمناء! ولا سيما أولئك الذين جمعوا ثروةً من فلوس المساكين! لا بدّ أن حبّ المال صار عرشًا له في قلبه. أما مجاهرتُه بالروحانية، فإنها ليست شيئًا. إنه قبرٌ مبيضٌّ، ومكرهةٌ في عيني الربّ.” كلارك (Clarke)
- لأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ مَا هُوَ لَكُمْ بَلْ إِيَّاكُمْ (فَأنَا لَسْتُ مُهتَمًّا بِمُقتَنَيَاتِكُمْ، بَلْ بِكُمْ أنْتُمْ): هذه شهادةُ كلّ خادمٍ تقيٍّ. فهو لا يخدم من أجل ما يمكنُ أن يحصل عليه من شعب الله، لكن من أجل أن يعطي لشعب الله. إنه راعي لا أجير.
- هذا هو قلب يسوع تجاهنا. فغالبًا ما نعتقد أن الله يريد فعلًا ما نملكُه، لكنه في الواقع يريدُنا نحن. إذ سعى يسوعُ إلى خيرنا من دون أية أنانيةٍ، وقلبُه هو نحونا، لا نحو ما يمكنُ أن يحصل عليه منا.
- “بولس مجردُ ظلٍّ باهتٍ للربّ يسوع، فإن كانت هذه الصفاتُ موجودةً في حياته، فإنها موجودةُ فقط لأنها كانت موجودةً بشكلٍ كاملٍ في حياة يسوع المسيح ربّنا.” ريدباث (Redpath)
- لأَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنَّ الأَوْلاَدَ يَذْخَرُونَ لِلْوَالِدِينَ، بَلِ الْوَالِدُونَ لِلأَوْلاَدِ: يفسّرُ هذا الأمر بشكلٍّ جزئيٍّ السبب الذي من أجله لم يرد بولس أن يتلقّى دعمًا من مؤمني كورنثوس. فبما أنه كان أباهم الروحيّ وأنهم كانوا “أولاده” الروحيين، كان منطقيًا أن لا يحسّوا بأيّ “تثقُّل” بدعمه.
- وفي الوقت نفسه، لا يشكلُ هذا مجاملةً لمؤمني كورنثوس. فبما أن بولس تلقى بالشكر دعمًا من كنائس أخرى ( فيلبي ١٠:٤-١٩)، فإننا نعلمُ أن هذه لم تكنْ سياسته تجاه الكنائس كلّها. وبدلًا من ذلك، فكأنّ بولس يقولُ: “أنتم أيها الكورنثيون غيرُ ناضجين بما يكفي لدعمي بعدُ. ما زلتم أطفالًا روحيين. فعندما تكبرون نوعًا ما، يمكنُكم أن تصبحوا شركاء معي في عملي وتدعموني. لكن إلى أن يحين ذلك الوقت، فإني مسرورٌ لأني أدعمُ نفسي.”
- وَأَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ: لم يُعرب بولس عن استيائه عن عدم دعم مؤمني كورنثوس له. ومن المؤكد أنه كان سيقدّرُ ذلك لو فعلوا، لأن دعمهم سيعكس طبيعتهم وهذا أهم بكثير من المبلغ نفسه. فالنسبة لبولس، كان مسرورًا لأن يعطي وينفق نفسه لأجلهم.
- هذا ما كان في قلب بولس، رغم أن الكورنثيين لم يقدّروا ذلك. وأضاف بولس بنغمةٍ مؤلمةٍ: وَإِنْ كُنْتُ كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ! نلمسُ جرحًا بالغًا في هذه الكلمات. غير أنه لم يسمحْ لهذا الجرح بأن يشله أو حتى أن يسلبه فرحه في الخدمة والحياة… فبكل سرور كان يُنفق ويُنفق لأجل مؤمني كورنثوس.
- يمكنُنا أن نعطي وأن نفعل هذا بطرقٍ كثيرةٍ. لكن هل تستاءُ عندما تعطي أو تخدمُ دون تقدير؟ تتمثلُ إحدى الطرق في قياس هذا الأمر في أن نرى ردّ فعلنا عندما لا تقدّرُ خدمتُنا. فهل تستاءُ لذلك؟ لم يقدر مؤمنو كورنثوس خدمة بولس، غير أنه لم يحسّ بالاستياء لذلك. بل كان … بكُلّ سُرُورٍ أُنْفقُ وأُنْفقُ لأجْل أنْفُسكُمْ.
- لكِنْ إِذْ كُنْتُ مُحْتَالاً أَخَذْتُكُمْ بِمَكْرٍ! (لَكِنْ رُبَّمَا لِأنَّنِي «مُحتَالٌ» اصطَدتُكُمْ بِمَكرِي): ومرةً أخرى، يكتبُ بولس بروح السخرية. إذ قام بعضُ مؤمني كورنثوس باتهام بولس بأنه كان محتالًا. ربما كان اتهامُهم له على هذا النحو: “لا شكّ أن بولس لن يأخذ أيّ مالٍ للدعم منكم، لكنه سيحتالُ عليكم بأخذ التقدمة التي يفترضُ أنها لمؤمني أورشليم، وبعدئذٍ سيضعُها في جيبه الخاصة.” ويستجيبُ بولس لهذه التهمة بسخريةٍ: “من المؤكد أنني محتالٌ. أخذْتُكُمْ بمكْرٍ، واحتلتُ عليكم بشكلٍ خارقٍ!”
- كان خصومُ بولس المذكورون في كورنثوس الثانية ٥:١١ و ١١:١٢ يخدمون، جزئيًا على الأقل، من أجل المال. فلم يحتملوا حقيقة أن بولس لم يهتمّ بالمال في الخدمة، ولهذا اتهموه بدوافعهم.
- اعتقد بعضُهم أن بولس كان يتكلمُ بجديةٍ هنا معترفًا بأنه محتالٌ وأنه استخدم المكر في خدمته لمؤمني كورنثوس. “يفترضُ أشخاصٌ كثيرون أن كلمات: ’كُنْتُ مُحْتَالاً أَخَذْتُكُمْ بِمَكْرٍ‘ هي كلماتُ بولس نفسه لا كلمات النمّامين، ولهذا خلصوا إلى نتيجة أنه أمرٌ مشروعٌ أن يُستخدم المكرُ والخداعُ [وما إلى ذلك] في الخدمة لتحقيق غاية جيدة. ولكن هذه العقيدةُ بغيضةٌ. ومن الواضح جدًا أن الكلمات هي كلماتُ المنتقدين، ولهذا يدافعُ عن نفسه ضدّ هذا الاتهام في الآيتين التاليتين.” كلارك (Clarke)
- هَلْ طَمِعْتُ فِيكُمْ (ألَعَلِّي قُمتُ بِاستِغلَالِكُمْ)؟: يبرهنُ بولس أن تهمة بأنه محتالٌ باطلةٌ. ويذكّرُ مؤمني كورنثوس بأنه لم يتصرف هو أو أحدٌ من رفاقه بطريقةٍ غير ملائمةٍ ماليًا أمامهم.
ب) الآيات (١٩-٢١): بولس يشجعُ الكورنثيين على التوبة قبل أن يأتي
١٩أَتَظُنُّونَ أَيْضًا أَنَّنَا نَحْتَجُّ لَكُمْ؟ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ نَتَكَلَّمُ. وَلكِنَّ الْكُلَّ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لأَجْلِ بُنْيَانِكُمْ. ٢٠لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ أَنْ لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ، وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ. أَنْ تُوجَدَ خُصُومَاتٌ وَمُحَاسَدَاتٌ وَسَخَطَاتٌ وَتَحَزُّبَاتٌ وَمَذَمَّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وَتَكَبُّرَاتٌ وَتَشْوِيشَاتٌ. ٢١أَنْ يُذِلَّنِي إِلهِي عِنْدَكُمْ، إِذَا جِئْتُ أَيْضًا وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنِ النَّجَاسَةِ وَالزِّنَا وَالْعَهَارَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا.
- أَتَظُنُّونَ أَيْضًا أَنَّنَا نَحْتَجُّ لَكُمْ (نُدَافِعُ عَنْ أنْفُسِنَا)؟ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ نَتَكَلَّمُ: كان بولس قلقًا من أن يؤخذ دفاعُه أمام الكورنثيين على أنه مجردُ تقديم أعذارٍ. ولكن بولس لا يقدمُ أعذارًا، فلا يوجدُ ما يبررُه. بل يقولُ بشجاعةٍ: أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ نَتَكَلَّمُ. فقد أعلن بولس الحقّ أمام الله، ولم يقدّمْ عذرًا أمام مؤمني كورنثوس.
- وَلكِنَّ الْكُلَّ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لأَجْلِ بُنْيَانِكُمْ: كان كلُّ شيءٍ فعله بولس من أجل بناء مؤمني كورنثوس في الربّ. فكان لكلّ رسالةٍ كتبها، وكلّ زيارةٍ قام بها، وكلّ صلاةٍ رفعها، كان هدفها بنائهم في يسوع المسيح. فكان قلبُه على مصلحتهم لا على مصلحته الشخصية.
- لو كان خصومُ بولس المذكورون في كورنثوس الثانية ٥:١١ و ١١:١٢ صادقين لقالوا: “نحن نفعلُ كلّ شيءٍ لبنائنا نحن.” لكن بولس كان رجلًا مختلفًا.
- “ليس قصدُه أن يزعج الكورنثيين، بل أن يعيدهم إلى رشدهم وأن يساعدهم في التخلص من التأثير المخدّر الذي أحْدثهُ فيهم الرسلُ الكذبة الذين غزوا مجتمعهم.” هيوز (Hughes)
- لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ أَنْ لاَ أَجِدَكُمْ كَمَا أُرِيدُ: كان بولس قلقًا من أن يجد المشكلات القديمة نفسها بين مؤمني كورنثوس لدى زيارته لهم في المرة الثالثة، ويجدهم غير تائبين بعدُ.
- ولكي يعرفوا بالضبط ما قصده بولس، فإنه يوضحُ الأمر: تُوجَدَ خُصُومَاتٌ وَمُحَاسَدَاتٌ وَسَخَطَاتٌ وَتَحَزُّبَاتٌ وَمَذَمَّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وَتَكَبُّرَاتٌ وَتَشْوِيشَاتٌ. وكانت هذه كلُّها ثمر التفكير الدنيويّ الذي جلبه الكورنثيون، ولا بدّ أن يتغير هذا كلُّه قبل مجيء بولس في زيارته الثالثة إلى كورنثوس.
- وَأُوجَدَ مِنْكُمْ كَمَا لاَ تُرِيدُونَ: في تطلُّع بولس إلى زيارته التالية، يوجهُ لهم تحذيرًا. فإن لم يكونوا في حالةٍ مُرْضيةٍ لبولس (أمام الربّ)، عندئذٍ سيجدونه في حالةٍ غير مُرْضيةٍ لهم.
- أَنْ يُذِلَّنِي إِلهِي عِنْدَكُمْ: إذا كان الكورنثيون عالقين في تفكيرهم الدنيويّ، فسيُذلُّ بولس بينهم. وسيكونُ لديه سببٌ يدعوه إلى التفكير هكذا: “لا بدّ أني لستُ رسولًا جيدًا جدًا أو قائدًا جيدًا لأن هؤلاء الكورنثيين يرفضون التجاوب معي.” مع أن هذه لم تكن الحقيقة كلّها، لكن ذلك سيذلُّ بولس رغم ذلك.
- وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ: إذا كان الكورنثيون متمرغين في الدنيوية عند مجيء بولس في المرة الثالثة، سيغضبُ وسيكونُ حازمًا. وسيُذلُّ رغم ذلك، وسينوحُ. لقد أحزنه التفكيرُ الدنيويُّ (والسلوكُ الدنيويُّ) كثيرًا، وجعله ينوحُ على كثيرين.
- “يكشفُ لنا بولس فكر الراعي الحقيقيّ المخْلص عندما يقولُ إنه سينظرُ إلى خطايا الآخرين بحزنٍ.” كالفن (Calvin)
- الَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنِ النَّجَاسَةِ وَالزِّنَا وَالْعَهَارَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا: لن يكون غضبُ بولس ونواحُه موجهين إلى الذين أخطأوا. بل على نحوٍ أكثر تحديدًا، سيكونان موجهين نحو الّذين أخْطأُوا منْ قبْلُ ولمْ يتُوبُوا. فبولس لم يطلب منهم الكمال، بل التوبة فقط.