رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ٧
تعزّى بولس بتوبة المؤمنين في كورنثوس
أولاً. تطهير وتكميل
أ ) الآية (١أ): في ضوء وعود الله
١فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ.
- فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ: هذه هي خلاصة بولس الطبيعية لنصّ كورنثوس الثانية ١٤:٦-١٨. كتب بولس في ذلك النصّ عن الحاجة إلى الانفصال عن العالم وتأثيره لكي نحيا حياةً قريبةً من الله.
- هذِهِ الْمَوَاعِيدُ: يُقْرن وصية: ’اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا‘ في كورنثوس الثانية ١٧:٦، بوعد: ’فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ‘ (كورنثوس الثانية ١٧:٦-١٨). فإذا فصلنا أنفسنا عن تصرفات وأفكار العالم، فإننا موعودون بعلاقةٍ أوثق باللهٍ.
ب) الآية (١ب): أمران ينبغي فعلُهما في ضوء وعود الله
١… أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ.
- لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ: هذا هو ما ننزعُه نحن. فهنالك تطهيرٌ لا ينجزُه في حياتنا إلا اللهُ. ولكن هنالك أيضًا تطهيرًا يريدُنا اللهُ أن نفعله بالتعاون معه. يكتب بولس هنا عن تطهيرٍ لا يفعلُه اللهُ من أجلنا ونحن مكتوفو الأيدي: إنه تطهيرٌ ذاتيٌّ لنتمتع بعلاقة حميمية مع الله وهو تطهير يتجاوز التطهير العام للخطية.
- هنالك جانبٌ رئيسيٌّ للتطهير يأتي إلينا عندما نثق بيسوع وعمله من أجلنا. وعملُ التطهير هو في واقع الأمر عملُ الله فينا وليس عملنا. وهذا هو معنى الآية في يوحنا الأولى ٩:١ “إن اعْترفْنا بخطايانا فهُو أمينٌ وعادلٌ، حتّى يغْفر لنا خطايانا ويُطهّرنا منْ كُلّ إثْمٍ”.
- لكن هنالك جانبًا آخر من التطهير يريدُنا الله أن نفعله بإرادتنا وجهودنا، ولكنه ليس عملنا باستقلالٍ عن الله، بل عملٌ ينتظر إرادتنا وجهودنا: لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا. وهذا الجانب التطهيريُّ مرتبطٌ بشكلٍ رئيسيّ بالحميمية مع الله وفائدتنا للخدمة.
- “كيف يمكنُ لهؤلاء أن يتوقعوا من الله أن يطهّر قلوبهم بينما عيونُهم وآذانهم وأياديهم منغمسةُ في ما هو محرّمٌ وفي كلّ ما يميلُ إلى تفعيل ميول الروح الشريرة وزيادتها؟” كلارك (Clarke)
- مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ: غالبًا ما لا نفكر في الطهارة أمام الربّ إلا في إطار الطهارة الجسدية مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ فقط، ولكن هنالك أيضًا دَنَسِ… الرُّوحِ الذي نحتاج إلى التطهُّر منه.
- التعامل مع دَنَسِ الْجَسَدِ أسهلُ أحيانًا من التعامل مع دَنَسِ… الرُّوحِ. فأثناء خدمة يسوع الأرضية، وجد الذين تلطّخوا بدَنَسِ الْجَسَدِ (مثل الزواني والعشارين) أنه سهلٌ عليهم أن يأتوا إلى يسوع. أما الذين تلطّخوا بدَنَسِ… الرُّوحِ (مثل الكتبة والفريسيين) فقد استصعبوا اللجوء إلى يسوع.
- إن كبرياءنا وناموسيّتنا وتركيزنا على الذات وبرّنا الذاتيّ ومرارتنا وبُغضنا يمكن أن يكون التعاملُ معها أسوأ بكثيرٍ من التعامل مع خطايا الجسد الواضحة. “هنالك تلويثٌ للروح مستقلٌّ عن تلويث الجسد. فيمكنُ أن تدنّس الروحُ بطرقٍ كثيرةٍ. واعتقد أحيانًا أن خطايا الروح أكثرُ فتكًا من خطايا الجسد.” مورغان (Morgan)
- “ليتنا كنا أكثر اهتمامًا بتطهير دنس الروح. وأنا أميلُ إلى الاعتقاد بأن بعض الأشخاص يلوّثون أرواحهم بإهمالٍ. وأنا أقصدُ بهذا أنهم يفعلون ذلك عن عمدٍ.” سبيرجن (Spurgeon)
- مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ: هذا أمرٌ ينبغي أن نضيفه. فبولس لا يكتب عن حالة الكمال الخالي من الخطية. إذ يحملُ تعبير ’مُكَمِّلِينَ‘ فكرة ’الاكتمال‘ و’السلامة الكلية.‘ فبولسُ لا يتحدثُ عن حالة كمالٍ خالٍ من الخطايا، بل عن قداسةٍ تامةٍ تدلُّ على السلامة الكلية.
- ليس كافيًا أن نُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ. فالحياة المسيحية ليست مجرد التخلص من الشرّ فحسب، لكن بفعل الخير والتحلي بالصلاح دائمًا.
- نُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا: لاحظ أن بولس يشمل نفسه مع المؤمنين الكورنثيين الذين يحتاجون إلى التطهر. فإن كان بولس يشملُ نفسه في فئة الذين يحتاجون إلى التطهر، فماذا عنّا نحن؟
- “اعتقدُ أنه كلما اقتربْنا إلى السماء، صرنا أكثر وعيًا بنقائصنا وعيوبنا. وكلما حصلنا على مزيدٍ من النور، نكتشفُ ظلمتنا. وما يعُدُّه بعض الأشخاص بالكاد خطيةً سيكون تدنيسًا فظيعًا لضميرٍ حساسٍ. فليس الأمر أننا نصبحُ خطاةً أكبر عندما نكبرُ، لكن تصيرُ لدينا حساسيةٌ أدقُّ تجاه الخطية، ونحن نراها خطية الآن بينما كنا لا نلاحظُها في أيام جهلنا.” سبيرجن (Spurgeon)
- “أتذكرُ رجلًا قال إنه عاش مدة ستّ سنواتٍ من دون أن يخطئ في الفكر أو الكلام أو العمل. أدركتُ أنه ارتكب خطيةً عندئذٍ إن لم يكنْ قد ارتكب خطيةً من قبلُ. إذْ ينمُّ نطقُهُ بمثل هذا الأمر عن الكبرياء والتباهي.” سبيرجن (Spurgeon)
- لكن يتوجبُ علينا أن نحرص على أن نُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا ولا أن ننشغل بتطهير الآخرين. فنحن في معظم الأوقات نقلقُ حول قداسة الآخرين لا قداستنا نحن! “يطيبُ لنا أن نطهّر الآخرين ونحاول إجراء إصلاحٍ أخلاقيٍّ بين جيراننا… فمن السهل أن نكتشف أخطاء الآخرين وأن نستجمع كلّ قوانا لننتقدهم بقسوةٍ.” سبيرجن (Spurgeon)
ثانياً. كلماتٌ شخصيةٌ حول علاقة بولس بالكورنثيين
أ ) الآيات (٢-٣): مناشدةُ بولس: اِقْبَلُونَا (افتحوا قلوبكم لنا)
٢اِقْبَلُونَا. لَمْ نَظْلِمْ أَحَدًا. لَمْ نُفْسِدْ أَحَدًا. لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ. ٣لاَ أَقُولُ هذَا لأَجْلِ دَيْنُونَةٍ، لأَنِّي قَدْ قُلْتُ سَابِقًا إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا، لِنَمُوتَ مَعَكُمْ وَنَعِيشَ مَعَكُمْ.
- اِقْبَلُونَا: كتب بولسُ في كورنثوس الثانية ١١:٦-١٣ “فَمُنَا مَفْتُوحٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْكُورِنْثِيُّونَ. قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ… كونوا أنتم أيضًا متسعين.” ثم تناول في كورنثوس الثانية ١٤:٦-١:٧ الدنيوية التي حالت دون وجود علاقةٍ صريحةٍ ببولس كما ينبغي. والآن، عندما يكتبُ اِقْبَلُونَا، فإنه يعودُ إلى الفكرة التي تركها في كورنثوس الثانية ١١:٦-١٣.
- كان بولس صادقًا بشكلٍ كاملٍ مع مؤمني كورنثوس. وهو الآن يخبرُهم أنه يتوجب عليهم أن يكونوا منفتحين على رؤية الحقيقة حول بولس وخدمته.
- صدّق مؤمنو كورنثوس أشياء سيئةٍ كثيرةٍ حول بولس – بأن الله لم يكن يستخدمُه، وأنه لم يكنْ يملكُ ذلك النوع من الصورة أو السلطة أو القوة التي ينبغي أن يمتلكها رسولٌ – لكن مشكلتهم لم تكنْ مشكلة معلوماتٍ، بل مشكلةُ متعلقةً بقلوبهم. فكانت قلوبُهم مفتوحةً للعالم لا لبولس. وقد طلب منهم بولس في النصّ الذي تناول النير غير المتكافئ أن يغلقوا قلوبهم أمام العالم. والآن حان الوقت أن يفتحوا قلوبهم له.
- لَمْ نَظْلِمْ أَحَدًا. لَمْ نُفْسِدْ أَحَدًا. لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ: يذكّرُ بولسُ مؤمني كورنثوس بما يعرفونه بالفعل. فرغم ما قاله بعض مثيري المتاعب حول بولس، إلا أنه لم يكن لديهم سببٌ وجيهٌ لانتقاده.
- عندما يقول بولس، ’لَمْ نَطْمَعْ فِي أَحَدٍ،‘ لنتذكرْ أنه كان ينظمُ عملية جمع تبرعاتٍ للمؤمنين الفقراء في اليهودية، وأنه كان مسؤولًا عن مبلغٍ لا بأس به من المال ( كورنثوس الأولى ١:١٦-٤).
- لاَ أَقُولُ هذَا لأَجْلِ دَيْنُونَةٍ: لم يكن يرغب بولس في إدانة مؤمني كورنثوس، بل في استرداد روابط الشركة التي كانت بينه وبينهم ذات يومٍ. فقد أحبّ بولس الكورنثيين بصدقٍ: لأَنِّي قَدْ قُلْتُ سَابِقًا إِنَّكُمْ فِي قُلُوبِنَا، لِنَمُوتَ مَعَكُمْ وَنَعِيشَ مَعَكُمْ.
- واجه بولس مؤمني كورنثوس، لكنه لم يرد أن يدينهم. فيمكنك أن تواجه أحدهم من دون أن تدينه، مع أن الذين تواجههُم نادرًا ما يعتقدون ذلك.
ب) الآيات (٤-٧): تشجّع بولس بالأخبار السارة التي سمعها عن مؤمني كورنثوس.
٤لِي ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ بِكُمْ. لِي افْتِخَارٌ كَثِيرٌ مِنْ جِهَتِكُمْ. قَدِ امْتَلأْتُ تَعْزِيَةً وَازْدَدْتُ فَرَحًا جِدًّا فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا. ٥لأَنَّنَا لَمَّا أَتَيْنَا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيْءٌ مِنَ الرَّاحَةِ بَلْ كُنَّا مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ، مِنْ دَاخِل مَخَاوِفُ. ٦لكِنَّ اللهَ الَّذِي يُعَزِّي الْمُتَّضِعِينَ عَزَّانَا بِمَجِيءِ تِيطُسَ. ٧وَلَيْسَ بِمَجِيئِهِ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي تَعَزَّى بِهَا بِسَبَبِكُمْ، وَهُوَ يُخْبِرُنَا بِشَوْقِكُمْ وَنَوْحِكُمْ وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي، حَتَّى إِنِّي فَرِحْتُ أَكْثَرَ.
- لِي ثِقَةٌ كَثِيرَةٌ بِكُمْ. لِي افْتِخَارٌ كَثِيرٌ مِنْ جِهَتِكُمْ: نعم، كان بولس جسورًا في انتقاده للكورنثيين، لكنه كان جسورًا أيضًا في الافتخار بهم.
- قَدِ امْتَلأْتُ تَعْزِيَةً وَازْدَدْتُ فَرَحًا جِدًّا فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا… وَهُوَ يُخْبِرُنَا بِشَوْقِكُمْ وَنَوْحِكُمْ وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي، حَتَّى إِنِّي فَرِحْتُ أَكْثَرَ: رغم المحن التي واجهها بولس (من الداخل والخارج على حدٍّ سواء)، إلا أنه وجد فرحًا، وكان جزءٌ من ذلك الفرح بسبب الأخبار السارة التي سمعها عن مؤمني كورنثوس.
- ازْدَدْتُ فَرَحًا جِدًّا فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا: يمكنُ أن تعاد ترجمةُ ’ازْدَدْتُ فَرَحًا جِدًّا‘ إلى ’فاض فرحي‘ أو ’فرحي لا يوصفُ.‘ ويعتقدُ بعضُهم أن الله يريدنا أن نحتمل الضيقات بهدوء من دون أية عاطفة وبلا تعابير على الوجه. ويريدُ الله لنا أن نفيض فرحًا فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا.
- جلب الله التعزية لبولس بالسماع عن العمل الذي قام به مؤمنو كورنثوس. “لا يمكنُ لأية ظروفٍ أو محنةٍ شخصيةٍ أن تعتّم السرور عندما نرى النفوس وهي تنمو في نعمة الربّ يسوع.” مورغان (Morgan)
- عندما يتحدث بولس عن مَجِيءِ تِيطُسَ، فإنه يواصل كلامه حيثُ توقّف في كورنثوس الثانية ١٣:٢. وبمعنى ما، فإن نص كورنثوس الثانية ١٤:٢– ٤:٧ يمثلُ استطرادًا طويلًا واحدًا، بإرشاد من الله طبعاً، وهو يحتوي على بعض أغنى كنوز العهد الجديد.
- لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيْءٌ مِنَ الرَّاحَةِ بَلْ كُنَّا مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: أمضى بولس وقتًا صعبًا في مكدونية، لكن جاء تيطس إلى بولس عندما كان في مكدونية، وجلب خبرًا جيدًا كيف أن مؤمني كورنثوس كانوا يوجّهون أنظارهم ثانيةً إلى يسوع وبولس.
- رغم كلّ خيبة أمل بولس من الكورنثيين، وفي وسط ضيقاته في الخدمة، كانت لديه ثقةٌ ورجاءٌ حقيقيان لأن تيطس جلب خبرًا طيبًا حول الأمور التي كانت تجري في كورنثوس.
- أعلن بولس في كورنثوس الثانية ٣:١ أن الله هو إِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ. وهنا اختبر تلك التعزية من خلال مجيء تيطس والأخبار الآتية من كورنثوس. فقد اختبر بولس تعزية الله من خلال أدواتٍ بشريةٍ. وغالبًا عندما نبتعد عن الناس، فإننا نبتعد عن التعزية التي يريدُ الله أن يعطينا إياها.
- مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ، مِنْ دَاخِل مَخَاوِفُ: كانت هذه هي حياة بولس في الخدمة. كانت حياة بركةٍ عظيمةٍ، لكنها كانت أيضًا حياة خُصُومَات ومَخَاوِف كثيرةٍ. فمن خَارِجٍ، كان بولس في صراعٍ دائمٍ مع أعداء الإنجيل والمؤمنين ذوي العقلية الدنيوية. ومن دَاخِلٍ، كان بولس يصارع الإجهاد والقلق في الخدمة.
- بِشَوْقِكُمْ وَنَوْحِكُمْ وَغَيْرَتِكُمْ لأَجْلِي: أخبر تيطس بولس أن مؤمني كورنثوس لم يتخلوا عن بولس كليًا. بل إن هذه الأمور (الشوق والنوح والغيرة) أثبتت أن الله كان يعملُ حقًا في مؤمني كورنثوس، فكانت معرفةُ ذلك تعزيةً لبولس.
ج ) الآيات (٨-١٢): الرسالة السابقة وتأثيرها
٨لأَنِّي وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُمْ بِالرِّسَالَةِ لَسْتُ أَنْدَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فَإِنِّي أَرَى أَنَّ تِلْكَ الرِّسَالَةَ أَحْزَنَتْكُمْ وَلَوْ إِلَى سَاعَةٍ. ٩اَلآنَ أَنَا أَفْرَحُ، لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ. لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ لِكَيْ لاَ تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ. ١٠لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتًا. ١١فَإِنَّهُ هُوَذَا حُزْنُكُمْ هذَا عَيْنُهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ، كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ: مِنَ الاجْتِهَادِ، بَلْ مِنَ الاحْتِجَاجِ، بَلْ مِنَ الْغَيْظِ، بَلْ مِنَ الْخَوْفِ، بَلْ مِنَ الشَّوْقِ، بَلْ مِنَ الْغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ الانْتِقَامِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ فِي هذَا الأَمْرِ. ١٢إِذًا وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَيْسَ لأَجْلِ الْمُذْنِبِ وَلاَ لأَجْلِ الْمُذْنَبِ إِلَيْهِ، بَلْ لِكَيْ يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ اللهِ اجْتِهَادُنَا لأَجْلِكُمْ.
- وَإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُمْ بِالرِّسَالَةِ: أيةُ رِسَالَة؟ يرجّحُ أنها ليست رسالة كورنثوس الأولى، لكنها كانت رسالةً كتبها بولس بين رسالتي كورنثوس الأولى والثانية.
- من المفيد لنا أن نتذكر تتابُع الأحداث. كانت الأمور تجري بشكلٍ سيئٍ بين المؤمنين في كورنثوس. وفي محاولةٍ من بولس لإعادتهم إلى المسار الصحيح، قام بزيارةٍ سريعةٍ غير مخططٍ لها بدت أنها جعلت الأمور تتدهور (“الزيارة المحزنة” المذكورة في كورنثوس الثانية ١:٢). وبعد فشل تلك الزيارة، قرر بولس ألا يزور كورنثوس ثانية في ذلك الوقت. وبدلًا من ذلك، أرسل تيطس إليهم برسالة توبيخٍ قوي. وكان بولس قلقًا جدًا من كيفية استجابة الكورنثيين لتلك الرسالة، متسائلًا إن كانوا سيرجعون إلى يسوع أم أن الرسالة ستغضبُهم وتنفّرُهم. وعندما عاد تيطس حاملًا الأخبار من مؤمني كورنثوس، تنفّس بولس الصعداء.
- لَسْتُ أَنْدَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ: عندما كتب بولس تلك “الرسالة المحزنة” التي حملها تيطس، لم يستمتع بمواجهتهم بهذه الشدة، مع أنهم كانوا يستحقون ذلك. ولهذا كتب قائلًا: مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. وفي الوقت نفسه، عندما رجع تيطس وأخبر بولس عن استجابة الكورنثيين (شوقكم… نوحكم… غيرتكم المذكورة في كورنثوس الثانية ٧:٧) فرح بولس بالتأثير الذي تركته الرسالة. ولهذا كتب: لَسْتُ أَنْدَمُ.
- تِلْكَ الرِّسَالَةَ أَحْزَنَتْكُمْ وَلَوْ إِلَى سَاعَةٍ: “في الخطية، تمرُّ اللذة، بينما يبقى الندم والحزن. ولكن في التوبة، يمرُّ الندم والحزن، ويبقى السرور إلى الأبد. فسرعان ما يسكبُ الله دهن الابتهاج في القلوب الكسيرة.” تراب (Trapp)
- لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ: يفرّقُ بولس بوضوح بين الندم (حَزِنْتُمْ) والتوبة. فالندم ليس التَّوْبَة. فهما أمران مختلفان! إذ يمكن أن يكون المرءُ نادمًا على خطيته من دون التَّوْبَة عنها. فالندم يصف الشعور، لكن التَّوْبَة تصف تغييرًا في كلٍّ من الفكر والحياة.
- “ليست التوبةُ ندمًا (حزنًا) فقط. فقد لا تكون التوبة مصحوبةً بالندم والحزن في ذلك الوقت، لكن الندم يتبعُ دائمًا، ندمٌ (حزن) على الماضي. لكن التغيير في الفكر هو الشيءُ العظيمُ.” مورغان (Morgan)
- لا ينجزُ الندمُ وحده شيئًا. إذ ندم بطرس على إنكاره للمسيح، وتاب. وندم يهوذا على أنه خان المسيح، لكن بدلًا من أن يتوب، قتل نفسه.” سميث (Smith)
- قد تبدو كلمة ’التَّوْبَة‘ قاسية للكثيرين، لكنها جانبٌ جوهريٌّ من رسالة الإنجيل. وقد وصفت بأنها “أوُل كلمةٍ في رسالة الإنجيل.” فعندما كرز يوحنا المعمدان، قال: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ» (متى ٢:٣). وعندما بدأ يسوعُ يكرزُ قال: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ» (متى ١٧:٤). وعندما كرز بطرس في يوم الخمسين، طلب من مستمعيه أن يتوبوا (أعمال الرسل ٣٨:٢).
- ما الذي كان على مؤمني كورنثوس أن يندموا عليه؟ يمكنُك أن تختار! قد يكون أي عدد من الأمور، لكن من المؤكد أنها شملت ما يلي: من المرجحّ أنه كان بينهم أشخاصٌ مناوئون لبولس انتقدوا الرسول الغائب بقسوةٍ ومن دون إنصافٍ، ولم يدافع الكورنثيون عن أبيهم الروحيّ التقيّ أمام هؤلاء المنتقدين.
- لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ: جعل بولس الكورنثيين يحزنون على خطيتهم، لكنه فعل ذلك بأسلوب حكيم تسوده المحبة. إذ استخدم الحقيقة لا الأكاذيب أو المبالغة. وكان صادقًا، فلم يستخدم أجندةً خفيةً وتلاعبًا. فببساطةٍ، قال الحقّ بمحبةٍ. ولا يستطيع أيُّ واعظٍ أو أيُّ شخصٍ أن يقول إنه يستخدم نفس طريقة بولس، وليس صوابًا أن نحزن شخصًا بأسلوب بعيد عن مَشِيئَةِ اللهِ.
- تبين الجملة: لِكَيْ لاَ تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ (وَهَكَذَا لَمْ نُؤذِكُمْ نَحْنُ فِي شَيءٍ) أهمية أن نحزن الناس يحزنون أو ندفعهم للتوبة بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ. ربما تنجح في أن تُشعرهم بفظاعة ما فعلوه (حزن، ندم)، لكنك ستخسر علاقتك بذلك الشخص. فيمكنُك أن تربح المعركة لكنك ستفقدُ الحرب. أراد بولس أن يحمي علاقته بمؤمني كورنثوس، ولهذا لم يحزنهم إلا بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ.
- لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ: هل يعني هذا أننا نخلصُ بالتوبة؟ ليس تماماً. فالتوبة “ليست أساس خلاصنا، لكنها جزء منه وشرط ضروري له. فالذين يتوبون يخلصون وأمّا غيرُ التائبين فيهلكون. ولهذا فإن التوبة تؤدي للخلاص.” هودج (Hodge)
- لا يتوجب أن نفكر في التوبة على أنها شيءٌ ينبغي لنا أن نفعله قبل أن نكون قادرين على المجيء إلى الله. فالتوبة تشبه مجيئنا إلى الله. فلا يمكنُك أن تلتفت نحو الله من دون الابتعاد عن الأشياء التي هو ضدّها. “يبدو أن الناس يقفزون إلى الخلاص بسرعةٍ هذه الأيام. وأنا لستُ ضد هذه القفزة المبهجة، لكن أرجو أن لا تكون التوبةُ، صديقتي القديمةُ، ميتةً. فأنا واقعٌ في حبّ التوبة بشكل ٍكبيرٍ. ويبدو لي أنها الأخت التوأم للإيمان.” سبيرجن (Spurgeon)
- لا يُنتجُ الندم في حد ذاته أي شيءٍ ما عدا مشاعر مزعجةً، لكن الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَة. وبما أن التوبة تغييرٌ في كلٍّ من التفكير والعمل، يمكننا أن نميّز إن كان الحزن بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ حقًا إن كان يُنْشِئُ تَوْبَة. وهكذا فإن الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ لا يمكنُ أن يقاس بالمشاعر أو الدموع، بل فقط بما ينشئُه أو ينتجُه.
- “إلى أي مدى ينبغي أن تندم أو تحزن، في رأيك؟ وما هو الغرض من ندمك على خطيتك؟ إن هدفه هو أن يوصلك إلى الثقة بالعمل الكفاريّ لربّنا يسوع المسيح. فليس ندمُك هو الذي يطهّرُك من الخطية، بل دمُه. وصلاح الله هو الذي يقتادُ المرء إلى التوبة. فهل دفعك حزنُك على الخطية في وقتٍ ما إلى إلقاء كل أثقالها عند قدمي المخلّص المصلوب والمقام؟ إن لم يحدث هذا قبلاً، فهذا هو ما يسمّيه بولس الحزن الذي ينشئ موتًا.” ريدباث (Redpath)
- التوبة الحقيقية تعمل وتتخذ إجراءاتٍ. “إذا تبت وحياتك تناقض توبتك (حسب تعبير ترتليان (Tertullian))، فإن الله يغفرُ لك مع تناقضٍ أيضًا! فإذا تُبت لكن ما زلت في خطيتك، فإن الله سيغفرُ لك، لكنه سيرسلُك إلى الجحيم! فهناك عفوٌ مع تناقضٍ!” (كتب جون تراب (John Trapp) هذه الكلمات القاسية الصاعقة)
- بِلاَ نَدَامَةٍ: سبب هذا أن الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يقومُ بعملٍ رائع. ربما لا يُنتجُ مشاعر مريحةً، لكنه ينجزُ عملًا عظيمًا. وأما حُزْنُ الْعَالَمِ فمختلفٌ لأنه حُزْنُ الْعَالَمِ يُنْشِئُ مَوْتًا.
- عندما نحزن حسب العالم، فإن لهذا تأثير مميت على حياتنا وينتج عنه الاستياء والسخط والمرارة. ويمكننا أن نندم على هذا النوع من الحزن. أما الحزن الذي بحسب مشيئة الله فينتج عنه توبةً للخلاص بِلاَ نَدَامَةٍ. “لقد لعن أيوب يوم مولده، لكن لم نسمع قط بشخصٍ لعن يوم ميلاده الجديد.” تراب (Trapp)
- “توجد في التوبة عذوبةٌ مُرّةٌ أو مرارةٌ عذبةٌ – ولا أدري أيًا من التسميتين هو الصحيح. وكلما أخذت منها، يكونُ أفضل لك. أستطيعُ أن أقول حقًا إنني بالكاد أعرف فرحًا أكثر روعةً من وضع رأسي في حضن أبي السماويّ وأقول: “أبي، أبي، لقد أخطأتُ، لكنك غفرت لي. وأنا أحبُّك حقًا!” سبيرجن (Spurgeon)
- كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ: مِنَ الاجْتِهَادِ، بَلْ مِنَ الاحْتِجَاجِ، بَلْ مِنَ الْغَيْظِ، بَلْ مِنَ الْخَوْفِ، بَلْ مِنَ الشَّوْقِ، بَلْ مِنَ الْغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ الانْتِقَامِ. بيّنت هذه الأشياء كلُّها أن حزن مؤمني كورنثوس أنتج توبةً حقيقيةً.
- مِنَ الاجْتِهَادِ: تبيّنُ التوبة اجتهادنا. فتعني التوبة الدوران إلى الخلف، ويحتاج الأمر اجتهادًا لكي يبقى المرء على هذا الوضع. فإذا استسلم المرء بسهولة، فإنه لن يسلك أبدًا في التوبة، رغم أنه قد يقوم بأعمال توبةٍ.
- مِنَ الاحْتِجَاجِ (جَعَلَكُمْ تُدَافِعونَ عَنْ بَرَاءَتِكُمْ): تبيّنُ التوبة براءتنا. تعني التوبة التخلص من الذنب والخزي، ومن معرفة أننا أحضرنا خطيتنا إلى الله وأننا الآن نسلك بالطريقة الصحيحة.
- مِنَ الْغَيْظِ (السخط): تبيّنُ التوبة غيظنا. فنحن ساخطون على أنفسنا بسبب حماقتنا في الخطية. وهذا الموقف هو الذي يجعل التوبة تدوم. “أنا سعيدٌ لأن الكتاب المقدس يسمح لي بأن أثور غضبًا على إبليس! فعندما أفكر أنه كانت لديه الوقاحة على أن يطرحني ويجعلني أفعل هذا الأمر، فهذا مدعاةٌ للسخط عليه! فيا لهذا السخط والغضب المحموم على الخطية وكلّ أجناد إبليس!” ريدباث (Redpath)
- مِنَ الْخَوْفِ: تبيّن التوبة خوفنا من أن نقع في الخطية نفسها مرةً أخرى. لا يتحدث بولس هنا عن خوف الله بقدر ما يتحدث عن خوف الخطية، وخوفنا من ضعفنا تجاه الخطية.
- مِنَ الشَّوْقِ: تبيّن التوبة شوقنا. فهذا قلبٌ يتوقُ حقًا إلى الطهارة والتقوى ولا يريد أن يخطئ ثانيةً. ويُعبّرُ عن هذا الشَّوْقِ من خلال الصلاة والاعتماد الكليّ على الله.
- مِنَ الْغَيْرَةِ: تبيّن التوبة غيرتنا. تتحدث الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى غيرةٍ أو حماسةٍ عن الحرارة. فنحن حارّون تجاه الله وبرّه. ونحن حارّون ضدّ الخطية والنجاسة. فبدلًا من الكسل، لدينا غيرة في مسيرتنا مع الربّ.
- مِنَ الانْتِقَامِ (تبرئة): تبيّن التوبة تبرءتنا. فأنت مبرّأٌ كمؤمنٍ بالمسيح رغم أنك أخطأت. ولا يستطيع أحد أن يشك في هذا لأن قياس المؤمن بالمسيح ليس إنْ كان يخطئُ أم لا يخطُئ، لكن إن كان يتوبُ أم لا.
- أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ: عندما تتسمُ التوبة بالخصائص المذكورة سابقًا، نكون أَبْرِيَاء من الذنب والخطية، وتختفي لطخةُ الخطية. ونستطيع أن نحسّ بهذا، ويستطيعُ الآخرون أن يروا ذلك. “طوبى للرجل الذي جعل مذاق الخطية المر يدوم طيلة حياته. والآن مع القلب المتغيّر والروح المتجددة، يثابر في طرق الله من دون أن يفكر أبدًا في الرجوع إلى الخلف. لكنه صمّم عبر الفيضانات أو ألسنة اللهيب أن يشقّ طريقه إلى السماء، ولكي يكون بنعمة الله سيدًا على كلّ خطيةٍ تهاجمُه.” سبيرجن (Spurgeon)
- فِي كُلِّ شَيْءٍ أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ: أظهرت أعمالُ توبتهم أنهم أَبْرِيَاء. فلم تكن الكلماتُ أو المشاعرُ هي التي أظهرت أنهم أبرياء، بل أعمالهُم.
- “الحزن الذي يقودُ إلى التوبة هو حزنٌ يؤدي إلى تغييرٍ في القصد والنية والعمل، وليس حزن الدموع الكسول. فليس هو البكاء عند سريرك لأنك فشلت ثانية، وليس هو ندم عبثي يتمنى لو أن الأمور لم تحدث قط ويتمنى أن يعيش تلك اللحظات مرة أخرى. لا، ليس هكذا. إنه تغييرٌ في القصد والنيّات، تغييرٌ في الاتجاه والعمل.” ريدباث (Redpath)
- فِي هذَا الأَمْرِ: يستخدم بولس التعقل التقيّ بعدم إثارة الموضوع مرةً أخرى من البداية. لقد سبق أن أخطأ أحدُهم (الْمُذْنِبِ) وهنالك شخصٌ أُسيء إليه (الْمُذْنَبِ إِلَيْهِ). لكن لم تكن هنالك حاجة إلى الخوض في هذه المسألة الشائكة مرةً أخرى.
- وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَيْسَ: لم يكن القصد من وراء الرسالة المحزنة أن يتحيّز مع أيّ طرفٍ في النزاع بين مؤمني كورنثوس. إذ كان قصده أن يبين اهتمامه (يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ اللهِ اجْتِهَادُنَا لأَجْلِكُمْ).
- كان اهتمام بولس بمؤمني كورنثوس واضحًا لكن مذهلًا. “حسب كل المظاهر، لم تكن هنالك قط أيةُ كنيسةٍ أقل استحقاقًا من محبة الرسول من هذه الكنيسة في ذلك الوقت، غير أنه لم يحبّ كنيسةً أخرى أكثر منها.” كلارك (Clarke)
د ) الآيات (١٣-١٦): كيف نظر تيطس إلى مؤمني كورنثوس بعد زيارته
١٣مِنْ أَجْلِ هذَا قَدْ تَعَزَّيْنَا بِتَعْزِيَتِكُمْ. وَلكِنْ فَرِحْنَا أَكْثَرَ جِدًّا بِسَبَبِ فَرَحِ تِيطُسَ، لأَنَّ رُوحَهُ قَدِ اسْتَرَاحَتْ بِكُمْ جَمِيعًا. ١٤فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ افْتَخَرْتُ شَيْئًا لَدَيْهِ مِنْ جِهَتِكُمْ لَمْ أُخْجَلْ، بَلْ كَمَا كَلَّمْنَاكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ بِالصِّدْقِ، كَذلِكَ افْتِخَارُنَا أَيْضًا لَدَى تِيطُسَ صَارَ صَادِقًا. ١٥وَأَحْشَاؤُهُ هِيَ نَحْوَكُمْ بِالزِّيَادَةِ، مُتَذَكِّرًا طَاعَةَ جَمِيعِكُمْ، كَيْفَ قَبِلْتُمُوهُ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ. ١٦أَنَا أَفْرَحُ إِذًا أَنِّي أَثِقُ بِكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
- رُوحَهُ قَدِ اسْتَرَاحَتْ بِكُمْ جَمِيعًا: كانت خبرة تيطس في كورنثوس وتقريرُه عن مؤمني كورنثوس دليلًا أكيدًا على أنهم تغيّروا في فكرهم.
- إِنْ كُنْتُ افْتَخَرْتُ شَيْئًا لَدَيْهِ مِنْ جِهَتِكُمْ: كان بولس قد تفاخر أمام تيطس آملًا بأن مؤمني كورنثوس سيتجاوبون استجابةً ملائمةً للرسالة القاسية. ويرجّحُ أن تيطس لم يكن على نفس هذا القدر من الأمل! لكن افْتِخَارُنَا أَيْضًا لَدَى تِيطُسَ صَارَ صَادِقًا.
- وَأَحْشَاؤُهُ هِيَ نَحْوَكُمْ بِالزِّيَادَةِ: يطمئنُ بولس مؤمني كورنثوس على أن تيطس يحبُّهم أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ويرجّحُ أن تيطس رأى كثيرًا من القباحة بينهم، ولهذا كان لديه تحامُلٌ عليهم. ولهذا يريدهم بولس أن يعلموا، بعد أن رأى التقرير عن توبتهم، أن تيطس أحبّهم الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
- أَنَا أَفْرَحُ إِذًا أَنِّي أَثِقُ بِكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ: هل كان بولس ساخرًا هنا؟ يرجّحُ أن الأمر ليس كذلك. بل كان على الأرجح يحاول أن يشجّع مؤمني كورنثوس، مظهرًا لهم أنه مقتنعٌ بأن توبتهم كانت حقيقيةً.
- “وهكذا من خلال مديحه لهم، ربحهم أكثر، مع أنه سبق أن تعامل معهم بحدّةٍ أكبر. وهكذا، فإن الحامض والحلو يشكّلان معًا أفضل صلصةٍ.” تراب (Trapp)
- في نهاية هذا الأصحاح، يمتدحُ بولس مؤمني كورنثوس، ويبدو أنهم في حالة انتصارٍ. لكن في “الرسالة المحزنة” (المذكورة في كورنثوس الثانية ١:٢) لم يكن هنالك مديحٌ. فما هو الفرق؟ كان الفرقُ هو توبتهم الحقيقية التي أخبر تيطس بولس عنها وعلّق عليها بولس في هذا الأصحاح.
- نرى عبر هذا الأصحاح مدى اهتمام بولس بعلاقته بمؤمني كورنثوس. ويبيّنُ هذا أن الناس كانوا مهمّين لبولس قدر أهمية خدمته. فلم يُرد أن يقوم بالخدمة على حساب علاقاته بالناس.