رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ٦
سيرة بولس الذاتية
أولاً. جدية خدمة بولس وطبيعتُها
أ ) الآيات (١-٢): المسؤوليةُ في ضوء عرض الله العظيم
١فَإِذْ نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَهُ نَطْلُبُ أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ اللهِ بَاطِلاً. ٢لأَنَّهُ يَقُولُ: «فِي وَقْتٍ مَقْبُول سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ». هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ.
- عَامِلُونَ مَعَهُ: يرى بولس نفسه كعاملٍ رفيقٍ مع يسوع المسيح. إنهما شريكان، وقد أعطانا المسيحُ خدمة المصالحة ( كورنثوس الثانية ١٨:٥). وبما أن بولس هو بين سفراء المسيح ( كورنثوس الثانية ٢٠:٥)، فإنه يعملُ مع يسوع.
- إنها وظيفةٌ مذهلةٌ: عَامِلُونَ مَعَهُ! ليس الأمرُ أن الله كان محتاجًا إلى بولس، لكنه يريدُنا أن نكون عَامِلُونَ مَعَهُ لخيرنا. يشبهُ الأمرُ مثل ذلك الطفل الصغير الذي يمتلكُ لعبةً لآلة جزّ العشب متبّعًا أباه وهو يجزُّ العشب في المرج. ولكي ينتهي الأب من العمل بكفاءة، من المفترض أن يطلب من ابنه أن يبتعد لأنه عائقٌ في الطريق. لكنه أمرٌ جيدٌ أن يعمل الطفلُ مع أبيه! ولأنّ الأب يحبُّ طفله، فإنه يريدُه أن يعمل معه.
- ’عَامِلُونَ‘ كلمةٌ مهمةٌ في حدّ ذاتها. فيوجدُ ما هو حسنٌ ومهمٌّ في العمل ذاته حتى إن الله يريدُنا أن نكون عَامِلُونَ مَعَهُ. فإرادة الله لحياتنا ليست حالة من الاسترخاء والراحة والخمول – حتى لو فعلْنا كلّ هذه الأمور معه، فالله يريدُنا أن نكون عاملين معه، لا أن نجلس على المقاعد كمتفرجين.
- نحن عَامِلُونَ مَعَهُ. لم يقلْ بولسُ قطُّ إن الله يعملُ معنا. فالعمل ليس عملُنا والله هو الذي يساعدُنا في القيام به. فهو عملُه الذي يطلبُ منا أن نفعله معه. فبدلًا من أن نحاول أن نطلب من الله أن يساعدنا في عملنا، ينبغي أن نكتشف ما هو عملُ الله، ونفعله معه.
- صورةُ سفراء المسيح ( كورنثوس الثانية ٢٠:٥) مفيدةٌ على نحوٍ خاصٍ في فهم طبيعة كوننا عاملين معه. ويمكن أن يوصف السفيرُ بحقٍّ بأنه يعمل مع الملك. غير أن السفير لا يمتلكُ أيّ نفوذٍ أو سلطةٍ أو أجندةٍ من عنده – فكلُّ هذا مرتبطٌ بالملك. فالملك يفوّض نفوذه وسلطته للسفير ويكشفُ أجندته للسفير، ثم يتوقع منه أن ينفذ أجندته.
- ننَطْلُبُ (نتوسلُ إليكم): أخبرنا بولس أن الله كان يتوسل من خلال خدمة الرسل ( كورنثوس الثانية ٢٠:٥). والآن نرى أن بولس يتوسل لدى المؤمنين في كورنثوس. وتعني كلمة ’ننَطْلُبُ‘ هنا: يتوسلُ ويرجو. وفكبرياء بولس لا يمنعُه من أن يتوسل، حيثُ إن الأبدية على المحك.
- أَنْ لاَ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ اللهِ بَاطِلاً: من الواضح أن مؤمني كورنثوس سبق أن قبلوا نِعْمَةَ اللهِ. ولو لم يقبلوا نعمة الله، لما كانوا مؤمنين بالمسيح أصلًا. ولكن بعد أن حصلوا عليها، كان من الممكن أن يقبلوا نِعْمَةَ اللهِ بَاطِلاً، فيكونوا بذلك مذنبين، ولهذا يرجوهم بولسُ أن لا يفعلوا ذلك.
- ماذا يعني أن تقبل نِعْمَةَ اللهِ بَاطِلاً؟ يعني هذا أنه يمكنُك أن تقبل صلاح الله وفضله، ومع ذلك تعيق عمل النعمة في حياتك. ويعني أن تقبل فضل الله وأن تفشل في ما تحدّث بولسُ عنه في كورنثوس الأولى ١٠:١٥ «وَلكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي.»
- حسب الآية في كورنثوس الأولى ١٠:١٥، لو لم يعمل بولس بجدٍ كما فعل، لظلّت نعمةُ الله تعطى له، لكنْ إلى درجةٍ ما ستكونُ قد أعطيتْ بَاطِلاً، أي عبثًا. فالنعمةُ حسب تعريفها هي عطية مجانية، لكن كيفية قبولها سيساعدُ في تقرير كيفية فاعليتها. “غالبًا ما يستخدم القديس بولس تعبير النعمة ليشير إلى الأفضال والامتيازات المقدمة لأعضاء الكنيسة، وهي ليست مقصورةً على النعمة المعطاة في أية لحظةٍ مميزةٍ (كلحظة الخلاص)… فالنعمة تقدّمُ بغض النظر عن إيمان الشخص وطاعته، لكنها لن تفيده من دون إيمانه وطاعته.” برنارد (Bernard)
- لا تعطى النعمةُ بسبب أية أعمالٍ في الماضي أو في الحاضر أو أعمال موعودة. غير أنها تُعطى للتشجيع على العمل، ولكن لا يعني هذا أن العمل غيرُ ضروري. فلا يريدُنا اللهُ أن نقبل نعمته ونبقى سلبيين. وقد عرف بولس جيدًا أن الله يعطي نعمته، وأن علينا أن نعمل بجدٍ، فيتمّ عملُ الله.
- يجُد مؤمنون كثيرون بالمسيح صعوبةً عند هذه النقطة بالذات. فهل يفترضُ أن الله هو الذي ينبغي أن يفعل ذلك أم أنا؟ والجواب هو “نعم!” عن السؤالين. فاللهُ يعمل، وأنا أعمل… ثقْ بالله واعتمدْ عليه ثم اشرع بالعمل باذلًا كلّ جهدك! فهذه هي الطريقةُ التي نرى بها عمل الله وهو يُنجزُ. ولكن إن أهملتُ مسؤوليتي في الشراكة، فلن تنجز نعمةُ الله كلّ ما يمكنُ أن تفعله، وبالتالي تكون قد أعطيت بَاطِلًا.
- “يمكنني أن اختبر نعمةُ الله في قلبي وحياتي الآن، في هذه اللحظة. فنعمةُ الأمس غيرُ كافيةٍ على الإطلاق لأعباء اليوم، فإذا لم أتعلمْ أن أمسك بموارد السماء كلّ يومٍ من حياتي من أجل الأشياء الصغيرة والكبيرة، فإني سأصبحُ، كمؤمنٍ بالمسيح، جافًا وعقيمًا وبلا ثمرٍ في خدمة الربّ.” ريدباث (Redpath)
- هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ: يريدُ بولس باقتباسه >إشعياء ٨:٤٩ أن يعطي المؤمنين في كورنثوس إحساسًا بالإلحاح أو الاستعجال. لدى اللهّ وَقْتٌ مَقْبُولٌ لنا لنعمل مع نعمته. ولدى الله يَوْمُ خَلاَصٍ لن يدوم إلى الأبد. فليس هذا هو الوقت لأن تُلتهم حياةُ المؤمنين بالمسيح بالاسترخاء والراحة والتركيز على الذات. آن الوقتُ للانشغال من أجل الربّ وأن نكون عاملين معه.
ب ) الآية (٣): كيف أثرت هذه المسؤولية في بولس: رغبتُه في أن يكون بلا لومٍ كخادمٍ للإنجيل.
٣وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ لِئَلاَّ تُلاَمَ الْخِدْمَةُ.
- وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ: كان بولس مستعدًا لفعل أيّ شيءٍ تقريبًا ليتأكد من أنه لا يجعلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ. كان مستعدًا عن التنازل عن راتبه كخادمٍ للإنجيل ( كورنثوس الأولى ٣:٩-١٥)، وكان مستعدًا لأن يكون آخرون أكثر بروزًا. وكان مستعدًا لأن يعمل بجدٍّ ويحتمل المشقات. ولم يكن بولس يخشى أن يهين أحدًا على حساب إنجيل المسيح ( كورنثوس الأولى ١٨:١-٢٥) لكنه لم يكن يسمحُ لأسلوب الخدمة أن يُعثر أحدًا.
- لِئَلاَّ تُلاَمَ الْخِدْمَةُ: وبطبيعة الحال، كان المؤمنون بالمسيح قد لاموا خدمة بولس وقاموا بتشويهها. وما يعنيه بولس هو لِئَلاَّ تُلاَمَ الْخِدْمَةُ بحقٍّ. فلم يكن بوسع بولس أن يفعل شيئًا حيال الاتهامات الباطلة سوى أن يحيا بطريقةٍ يرى بها الشخصُ المتزنُ المنصفُ أن تلك الاتهامات لا أساس لها.
ج ) الآيات (٤-١٠): مؤهلاتُ بولس كخادمٍ بلا لومٍ
٤بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ: فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، ٥فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي اضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ، ٦فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ، ٧فِي كَلاَمِ الْحَقِّ، فِي قُوَّةِ اللهِ بِسِلاَحِ الْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ. ٨بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ، بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ. كَمُضِلِّينَ وَنَحْنُ صَادِقُونَ، ٩كَمَجْهُولِينَ وَنَحْنُ مَعْرُوفُونَ، كَمَائِتِينَ وَهَا نَحْنُ نَحْيَا، كَمُؤَدَّبِينَ وَنَحْنُ غَيْرُ مَقْتُولِينَ، ١٠كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ، كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ، كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ.
- فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ (نمدحُ) أَنْفُسَنَا: سيستعرضُ بولس سيرته الذاتية أمام مؤمني كورنثوس. وها هي الأشياء التي سيُدرجُها والتي ستكون بمثابة مديحٍ له أمامهم.
- فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ: كان الصبرُ أول مؤهلات بولس. وتفيدُ الكلمة اليونانية المترجمة إلى صبر (hupomone) فكرة الاحتمال بدلًا من فكرة “الانتظار.”
- غالبًا ما ننظرُ إلى الصبر كشيءٍ سلبيٍّ – أي القدرة على الاحتمال وانتظار حدوث شيءٍ. ولكن ليست هذه هي الفكرة التي استخدمها بولس هنا. فالصبرُ هو احتمالٌ نشطٌ بدلًا من أن يكون انتظارًا سلبيًا. “لا تحملُ الكلمةُ اليونانية (hupomone) فكرة الجلوس مكتوف اليدين وترْك تيارٍ من المتاعب يجتاحُك في استسلامٍ سلبيٍّ. بل هي تصفُ القدرة على احتمال الأشياء بروح الانتصار.” باركلي (Barclay).
- فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ: بعد أن ذكر بولس الرسول، السفير والعامل مع المسيح، في سيرة بولس الذاتية الصبر، يذكر الآن السبب وراء احتياجه للصبر والقدرة على الاحتمال. أولًا، بسبب الصراعات العامة ومحن الحياة. فكثيرًا ما كان بولس تحت الضغط والإجهاد النفسي (هذه هي الفكرةُ وراء كلمة شَدَائِد)، والعوز والضيق.
- “تدلُّ كلمة الضيق على اضطرابٍ أو قلقٍ شديدٍ وعلى شدٍّ نفسيٍّ أو تصف شخصًا محشورًا في مكاٍن بحيثُ لا يعرفُ كيف يدبّرُ نفسه أو يتحركُ، وهي تعني مجازيًا الرغبة في المشورة حيثُ لا يعرفُ ما ينبغي أن يفعل أو أيّ طريقٍ يسلكُ.” بووله (Poole)
- فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي اضْطِرَابَاتٍ: عندما يواصلُ بولس سيرته الذاتية، يكتبُ عن المعاناة التي أوقعها عليه أشخاصٌ بشكلٍ مباشرٍ. وتتحدثُ الجلداتُ (ضَرَبَاتٍ) عن الجروح التي تتركُها السياطُ. وتشيرُ السجونُ إلى الفترات المتكررة التي حُبس فيها، بينما تتحدثُ الاضطراباتُ عن العنف الذي مارسه الرعاعُ الغاضبون ضدّه.
- “وفي هذه الأيام، ليس العنفُ بل الاستهزاءُ أو التسلّي بالاحتقار الذي تمارسُه الجموعُ ضدّ المؤمن بالمسيح هو التي يتوجبُ الصمودُ أمامه.” باركلي (Barclay)
- فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ: يواصلُ بولس سيرته الذاتية بوصف المشقات التي أوقعها على نفسه. فلم يجبرْه أحدٌ على أن يكدّ هكذا أو أن يقضي ليالي أرقةً كثيرةً أو أن يمتنع عن الطعام كثيرًا. وكانت هذه محنًا حقيقيةً، لكن بولس اختارها طوعًا كعاملٍ مع يسوع المسيح. وهو لا يتذمرُ هنا، لأنه هو اختارها بنفسه، لكنها كانت ذات صلةٍ بالحاجة إلى الصبر.
- عرف بولس أنه كان محتاجًا إلى الصبر والاحتمال، وعرف أشياء كثيرةً في حياته جذبتْه إلى السعي إلى ذلك. فكان بعضُها محنًا عامةً من محن الحياة، وكان بعضُها آلامًا جلبها آخرون بشكلٍ مباشرٍ، وكانت بعضُها الآخر محنًا أوقعها على نفسه. فلم تكن كلُّ المحن متشابهةً لكنها جميعًا جعلتْه يحتاجُ إلى الصبر والاحتمال.
- فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلاَ رِيَاءٍ، فِي كَلاَمِ الْحَقِّ، فِي قُوَّةِ اللهِ بِسِلاَحِ الْبِرِّ لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ: هنا يبدأُ بولس بوصف الموارد التي استغلّها في الانتصار على الشدّة. فإذا أدرج محنهُ بصدقٍ، فإنه سيدرجُ بصدقٍ أيضًا ثمر الروح وقوة الله في حياته.
- نعم، كانت محنُ بولس كما هي مدرجةٌ في كورنثوس الثانية ٤:٦-٥ أكثر بكثيرٍ من تلك التي يمرُّ بها معظمُ الناس. غير أنه حصل على بركاتٍ أكثر بكثيرٍ من تلك التي يحصلُ عليها معظمُ الناس، حسب كورنثوس ٦:٦-٧.
- يصوّرُ تعبيرُ ’لِلْيَمِينِ وَلِلْيَسَارِ‘ عن فكرة حمل أسلحةٍ دفاعيةٍ وهجوميةٍ في الوقت نفسه. ولعلّ ما خطر بباله ’التقدمُ والتعرُّضُ للهجوم.‘ “بشكل خاص، الدرع والسيف؛ فهو يحملُ الدرع على اليد اليسرى والسيف على اليمنى. فنحن نملك كَلاَمِ الْحَقِّ وقُوَّةِ اللهِ كدرعٍ لحمايتنا من جميع الجوانب، وفي كلّ مكانٍ وفي كلّ المناسبات.” كلارك (Clarke)
- بِمَجْدٍ وَهَوَانٍ، بِصِيتٍ رَدِيءٍ وَصِيتٍ حَسَنٍ. كَمُضِلِّينَ وَنَحْنُ صَادِقُونَ، كَمَجْهُولِينَ وَنَحْنُ مَعْرُوفُونَ، كَمَائِتِينَ وَهَا نَحْنُ نَحْيَا، كَمُؤَدَّبِينَ وَنَحْنُ غَيْرُ مَقْتُولِينَ، كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ، كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ، كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ: يذكرُ بولسُ في ختام سيرته الذاتية مراجعه، ذاكرًا في الوقت نفسه كيف ينظرُ إليه العالمُ واللهُ.
- وصف العالمُ (بما فيه المؤمنون الدنيويون في كورنثوس) بولس بهذه الكلمات: هوان… صيت رديء… مُضل… مجهول…. مائت…. مؤدّب… حزين… فقير… لا شيء له.
- أما في المرجع الإلهيّ، فيصفُ اللهُ بولس بكلماتٍ كهذه: مجد (كرامة)… صيت حسن… صادق… معروف… حي… غير مقتول… دائمًا فرح… يغني كثيرين… يملك كل شيء.
- أيُّ وصفٍ منهما كان صحيحًا – وصْفُ العالم أم وصفُ الله؟ تعطي الآية في كورنثوس الثانية ١٨:٤ الجواب. فالعالمُ، حسب الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، على صوابٍ. وأما حسب الأَشْيَاءِ الَّتِي لاَ تُرَى، فإن تقييم الله وتقديره صحيحٌ. فأيُّ تقييمٍ مهمٌّ بالنسبة لك؟
ثانياً. يتحدثُ بولس للكورنثيين كأبٍ
أ ) الآيات (١١-١٣): رغبةُ بولس في المصالحة
١١فَمُنَا مَفْتُوحٌ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْكُورِنْثِيُّونَ. قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ. ١٢لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ. ١٣فَجَزَاءً لِذلِكَ أَقُولُ كَمَا لأَوْلاَدِي: كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُتَّسِعِينَ!
- أَيُّهَا الْكُورِنْثِيُّونَ: أمضى بولس وقتًا كافيًا في ترسيخ المبادئ. وهو الآن يقدمُ مناشدةً مؤثرة للمؤمنين في كورنثوس. ونحن نستطيعُ أن نستشعر العمق والقوة في رغبته في قلبه وهو يصرخُ: “أَيُّهَا الْكُورِنْثِيُّونَ!”
- فَمُنَا مَفْتُوحٌ… قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ: يمارسُ بولس هنا ما كرز به في أفسس ١٥:٤ “صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ.” فقد أحبّ الكورنثيين بصدقٍ وبقلبٍ مفتوحٍ، غير أنه سيكلّمُهم الآن بصدقٍ وبحريةٍ كاملة.
- لَسْتُمْ مُتَضَيِّقِينَ فِينَا بَلْ مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ: لعب المؤمنون الكورنثيون دور “الضحية” أمام بولس. ولكن بولس، بدافع غيرته المقدسة، كان حازمًا معهم في مراتٍ سابقةٍ (كورنثوس الأولى ١٨:٤-٢١؛ كورنثوس الثانية ٢٣:١). والآن، يرجّحُ أنهم كانوا مُتَضَيِّقِينَ بالأذى الذي تسبّب بولسُ لهم. فعلى الأرجح أنهم قالوا: “نود أن نتصالح معك يا بولس، لكن الألم الذي تسبّبت فيه لنا يقيّدُنا، ولا نستطيع التغلب عليه.”
- لكن المشكلة الحقيقية كانت تكمن في أن المؤمنين الكورنثيين كانوا مُتَضَيِّقِينَ فِي أَحْشَائِكُمْ. فلم يكن بولس هو الذي لم يحبّهم بما يكفي (فهذا هي مزاعمهم كضحايا). ولكنهم هم من أحبوا كثيرًا! ولهذا فإن مشاعرهم قيّدتْهم أو ضيّقتهم.
- فما الذي أحبّوه على نحوٍ زائدٍ؟ أولاً، قد أحبّوا العالم على نحوٍ زائدٍ، وسيتعامل بولس مع هذه المحبة في الآية التالية، وأيضًا أحبّوا أنفسهم على نحوٍ زائدٍ ورفضوا أن يتعاملوا مع نظراتهم الأنانية والدنيوية إلى بولس.
- كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُتَّسِعِينَ: يريدُ بولس أن يرى نفس الصدق الفاحص للذات في المؤمنين الكورنثيين الذي أظهره لهم للتوّ. فكان عليهم أن يفعلوا ذلك إذا أرادوا التصالح. ويمكنُ أن تُشفى شقّةُ الخلاف بين بولس وكنيسة كورنثوس، لكن الأمر منوطٌ بهم. إذ كان عليهم أن يكونوا أيضًا مُتَّسِعِينَ!
ب) الآيات (١٤-١٨): يطلبُ بولس منهم أن يضيّقوا محبتهم.
١٤لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ ١٥وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ ١٦وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: «إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. ١٧لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، ١٨وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ».
- لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: يخاطبُ بولسُ مشاعر الكورنثيين الفياضة. فقد كانوا في شركة مع غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وهذا منعهم من التصالح مع بولس.
- أخذت فكرةُ ’لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ‘ من سفر التثنية ٩:٢٢ التي حرّمتْ جمْع حيوانين مختلفين معًا تحت نيرٍ. فهي تتحدثُ عن ضمّ شيئين لا ينبغي ضمُّهما.
- بأية طرقٍ أصبح المؤمنون الكورنثيون تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِين؟ كيف يمكنُنا أن نفعل هذا؟ من المؤكد أن الزواج من شخصٍ غير مؤمنٍ، هو من أكثرُ الطرق شيوعًا في تطبيق هذا المبدأ. “أدلى رجل حكيم وتقي تعليقًا حول هذه النقطة: ’إن الرجل التقيّ الذي يتزوجُ من امرأةٍ لم تتجدد سيتراجعُ عن إيمانه أو سيحملُ صليبًا بقية حياته.‘ ويمكنُ أن يقال الأمرُ نفسُه عن المرأة التقية التي تتزوج من رجلٍ لم يتجدد. فلا يستطيعُ مثلُ هؤلاء الأشخاص أن يضرعوا إلى الله قائلين في الصلاة الربانية: ’لا تُدخلْنا في تجربةٍ.‘ فهم يلقون بأنفسهم في تلك التجربة.” كلارك (Clarke)
- غير أن بولس يعني أكثر بكثيرٍ من مجرد الزواج من شخصٍ غير مؤمنٍ. فهو ينطبقُ حقًا على أية بيئةٍ يمكنُ فيها أن يؤثر العالمُ في تفكيرنا. فعندما نشاكلُ هذا العالم ولا نتغيرُ عن شكلنا بتجديد أذهاننا ( رومية ٢:١٢)، فإننا ننضمُّ معًا إلى غير المؤمنين بطريقةٍ غير تقيةٍ.
- يمسُّ هذا على نحوٍ خاصٍ مسألة التأثير. فلا يقولُ بولس إنه لا ينبغي أبدًا للمؤمنين بالمسيح أن يخالطوا غير المؤمنين (فهو يوضحُ هذا بشكلٍ كبيرٍ في كورنثوس الأولى ٩:٥-١٣). فالمبدأُ هو أننا موجودون في العالم، لكننا لسنا من العالم، والأمرُ شبيهٌ بالسفينة التي ينبغي أن تكون في الماء، لكن لا ينبغي أن يكون الماءُ فيها. فإذا كان العالمُ يؤثرُ فينا، فإنه من الواضح أننا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِين. وقد يأتي هذا النير غير المتكافئ أو التأثير غير التقي، من خلال كتابٍ أو فيلمٍ أو برنامجٍ تلفزيونيٍ أو مجلةٍ أو حتى من خلال أصدقاء مؤمنين بالمسيح دنيويين. ولا يميز معظم المؤمنين بالمسيح الأشياء التي تسمح بالتأثير في أذهانهم وحياتهم.
- نحبُّ جميعنا أن نعتقد أنه يمكنُنا أن لا نتأثر بأمور هذا العالم الشرير، وأننا أقوياء بما يكفي لدرء تأثيره السلبي. ولكن يتوجب علينا أن نأخذ كلمات الكتاب المقدس مأخذ الجدّ: “لاَ تَضِلُّوا: «فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ»” (كورنثوس الأولى ٣٣:١٥). وينبغي أن نرجع إلى السؤال البسيط في رومية ٢:١٢ هل نحن نشاكلُ هذا الدهر (العالم)، أم أننا نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا؟
- كان المؤمنون الكورنثيون يفكرون بعقليةٍ دنيويةٍ، لا كأشخاص أتقياء. وقد اكتسبوا هذه النظرة إلى الحياة – أو على الأقلّ بقيوا فيها – بسبب معاشراتهم الرديئة. ويطلب بولس منهم أن يكسروا أنيار الشركة هذه مع غير الأتقياء.
- لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟: كان المؤمنون الكورنثيون محبّين بشكلٍ جنوني، بمعنى أنهم كانوا يسمحون بقبول الإِثْم مع الْبِرِّ والظُّلْمَة مع النُّور وبَلِيعَال مع الْمَسِيحِ.
- بَلِيعَال كلمة مستعارة من اللغة العبرانية، وهي تعني ’التفاهة‘ أو الإثم. وهي تُستخدم هنا للإشارة إلى إبليس. “لا يُستخدم هذا التعبير في العهد الجديد إلا في هذا الموضع، لكنه استُخدم كثيرًا في العهد القديم للإشارة إلى أشخاصٍ مشهورين بإثمهم وسلوكهم الفاضح.” بووله (Poole)
- أَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟: عندما يستخدم بولس تعبير ’شَرِكَةٍ‘ فإنه يشير إلى التأثير أكثر من الحضور. “يقالُ إن الطرفين في شركةٍ يكونان متحدين جدًا بحيثُ ما يخصُّ الواحد يخصُّ الآخر أو ما يصحُّ للواحد، يصحُّ للآخر أيضًا.” هودج (Hodge)
- أَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟: من الواضح أن المؤمنين الكورنثيين ما زالوا يواجهون صعوبةً في مسألة الأوثان التي أشار بولسُ إليها في كورنثوس الأولى الأصحاحات ٨-١٠ وقد أثّر ارتباطُهم بالأَوْثَان في تفكيرهم، جاعلًا إياه دنيويًّا أكثر فأكثر.
- أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ: كتب بولس في كورنثوس الأولى ١٩:٦-٢٠ عن المؤمنين بصفتهم هياكل الله. وهنا يشير إلى الكنيسة ككلٍّ على أنها الهيكل. ولأن الهياكل أماكن مقدسة يجب حمايتُها من أي شيءٍ يدنّسُها، فعلينا إذاً أن نحمي قلوبنا كأماكن مقدسةٍ أمام الرب.
- يخبرنا حزقيال ٢٦:٣٧-٢٧ أن الله موجود في هيكله (وَأَجْعَلُ مَقْدِسِي فِي وَسْطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ. وَيَكُونُ مَسْكَنِي فَوْقَهُمْ)، ويخبرنا إشعياء ١١:٥٢ كيف ينبغي أن نجعل الهيكل مكانًا مقدّسًا (اِعْتَزِلُوا، اعْتَزِلُوا. اخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. لاَ تَمَسُّوا نَجِسًا). لذا يذكرنا الوعدُ ’فَأَقْبَلَكُمْ‘بأن هذا ليس انفصالًا من الشرّ فحسبُ، بل هو انفصالٌ لله أيضًا. “المسألة ليست ببساطة التخلص من كلّ رغبةٍ دنيويةٍ في قلبك وحياتك – فهذا أمر مستحيل! لكن أن تفتح قلبك على مصراعيه لكلّ محبة الله في المسيح، والسماح لتلك المحبة بأن تجتاحك إلى أن يمتلئ قلبُك بالمحبة.” ريدباث (Redpath)
- يقتبس بولس إرميا ٩:٣١ ليُظهر فائدة الانفصال عن العالم: علاقةٌ حميميةٌ مع الله (وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا). فهنالك وعدٌ مجيدٌ لأولئك المستعدين لأن يفصلوا أنفسهم من التأثيرات الدنيوية من أجل التقوى.
- عندما يقتبس بولس هذه النصوص، فإنه لا يقتبسها حرفياً من الأصل العبري أو الترجمة السبعينية. “إذ تكشفُ المقارنة بين النصين أنه لم يشعر بأنه كان ملزمًا بالاقتباس الحرفّي الدقيق، بل استخدم المعنى بهدف تطبيقه بما يتناسب مع ظروف قُرّائه.” هيوز (Hughes)
- اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا: تتعلقُ هذه الدعوة بالتعلُّق الزائد الذي ذكره بولس في كورنثوس الثانية ١٢:٦. فيمكنُنا أن نحبّ بشكلٍ مفرط حقًا، معتقدين أننا ببساطةٍ نضيفُ محبة الله من دون شجب أفكار إبليس وهذا العالم. ولكن تذكّر أن إحدى البذار التي لم تنمو في مثل الزارع، نزلت في أرضٍ خصيبةٍ أكثر مما ينبغي. إذ يمكنُ أن تساعد في نموّ أيّ شيءٍ على الإطلاق.
- يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: تعبّرُ الكلمةُ اليونانيةُ القديمةُ (pantokrater) عن هذا اللقب ’الْقَادِرُ‘ والتي تعني: “الذي يدُه فوق كلّ شيءٍ.” وتُستخدم هذه الكلمة في العهد الجديد مرةً ثانيةً فقط في سفر رؤيا يوحنا. ويريدُنا بولس أن نفهم أن إله السماء المتسيّد هو الذي يعرض علينا التبنّي كأبناءٍ له عندما نكرس أنفسنا له.
- تنبعُ الدعوة إلى الطهارة والنقاوة والتكريس من عرض المصالحة المذكور في نهاية كورنثوس الثانية الأصحاح الخامس. “لا يستطيع أحد أن يقبل المصالحة مع الله ويبقى في الخطية، لأن شجب الخطية متضمّنٌ في قبول المصالحة. ولا يفترض بولس أبدًا أن البشر يمكن أن يقبلوا منفعةً واحدةً للفداء ويرفضون أخرى. فلا يمكنُهم أن يقبلوا الغفران ويرفضوا التقديس.” هودج (Hodge)