إنجيل لوقا – الإصحاح ٩
الكرازة والإعلان عن ملكوت الله
أولًا. إرسال ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ للكرازة وَشِفَاءِ أَمْرَ
أ ) الآيات (١-٢): يسوع يدعو التلاميذ ويرسلهم
١وَدَعَا تَلَامِيذَهُ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ، ٢وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللهِ وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى.
- وَدَعَا تَلَامِيذَهُ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ: يصف لوقا ١٢:٦-١٦ اختيار يسوع لتَلَامِيذَهُ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ. كانوا معه كمجموعة لبعض الوقت، والآن فوضهم يسوع للقيام ببعض من أعماله.
- وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ: لم يدعو يسوع الاثني عشر لإتباعه فقط، ولكنه أَعْطَاهُم قُوَّة لفعل ما دعاهم ليفعلوا. وهذا المبدأ يطبق علينا اليوم: فالله يؤهل الذين يدعوهم. قد لا يكون الإعداد واضح تماماً قبل بداية الخدمة، لكنه سيكون أوضح مع مرور الوقت.
- لم يفوض يسوع الخدمة للتلاميذ دون منحهم القوة والسلطان (وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا) للقيام بذلك العمل.
- كتب كلارك (Clarke): “على القارئ أن يلاحظ، أولاً: أن لوقا ذكر كل من الشياطين والأمراض؛ وهذا يعني أن الأمرين مختلفين تماماً. ثانياً: شفاء هذين الأمرين لم يكن متشابهاً؛ فالشياطين تُطرد، والأمراض تُشفى.”
- وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللهِ: تعني كلمة يكرز ببساطة إعلان خبرٍ ما للآخرين. تم إرسال التلاميذ للإعلان عن مَلَكُوتِ ٱللهِ الذي أتى، وأن يخبروا عن طبيعة هذا المَلَكُوتِ.
- قد يكرزوا في الهواء الطلق مثل زوايا الشوارع أو الأسواق، أو في المجمع إن سنحت لهم الفرصة للكلام، أو مع مجموعة صغيرة أو مع فرد.
- أينما كان المكان أو مع من، كان محور الرسالة الأساسي هو:
- الملك قد جاء؛ المسيا حل بيننا.
- ملكوته يخالف كل توقعاتنا.
- يتكون ملكوته من التائبين والمؤمنين.
- لا نبالغ إن قلنا أن يسوع اِستخدم كل وسائل الإعلام المتاحة في عصره. فعلى الرغم من أنهم لم يملكون صحف أو إذاعة أو إنترنت أو أي وسائل إعلام أخرى حينها كما نملك اليوم، إلا أن يسوع اِستخدام كل الوسائل الإعلامية التي كانت متاحة له، واِستخدامها بشكل جيد.
- وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ ٱللهِ وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى: أرسل يسوع تلاميذه ليفعلوا أكثر من مجرد الوعظ، فقد أرسلهم لفعل الخير بقدرة إلهية؛ وليباركوا الفرد بالكامل (روحياً وجسدياً)، وَيَشْفُوا ٱلْمَرْضَى.
- منحهم قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ ٱلشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ كان مقترناً بالكرازة بالإنجيل. والأمرين يسيران جنباً إلى جنب.
ب) الآيات (٣-٦): ما ميز الملكوت الذي كرزوا به كان البساطة والإخلاص وأهمية التجاوب السريع
٣وَقَالَ لَهُمْ: «لَا تَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ: لَا عَصًا وَلَا مِزْوَدًا (حَقِيبَةً) وَلَا خُبْزًا وَلَا فِضَّةً، وَلَا يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. ٤وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا، وَمِنْ هُنَاكَ ٱخْرُجُوا. ٥وَكُلُّ مَنْ لَا يَقْبَلُكُمْ فَٱخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا ٱلْغُبَارَ أَيْضًا عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ». ٦فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
- لَا تَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ: لم يحتاج التلاميذ إلى معدات متطورة للكرازة برسالة بسيطة. وجود الكثير من الأشياء ربما كان سيعطل رسالتهم المُلحة.
- من المتعارف عليه بين المعلمين اليهود في ذلك الوقت بأنه لا يجوز لك دخول منطقة الهيكل وبحوزتك عصا أو حذاء أو كيس نقود، لأنك تريد تجنب مظاهر إرتباطك بأي عمل آخر غير خدمة الرب. وهكذا كان حال التلاميذ الذين كانوا يقومون بعمل مقدس (الكرازة بالإنجيل وشفاء المرضى)، لهذا كان عليهم ألا يعطوا إنطباعاً بأن لديهم دافعٍ آخر.
- كتب باركلي (Barclay): “نراه يتكلم مرة أخرى بكلمات يألفها الشخص اليهودي. يخبرنا التلمود: ’لا يجوز لأحد الذهاب إلى جبل الهيكل ومعه عصا وحذاء وحزام من المال أو بقدمين مغبرة.‘ وكانت الفكرة من وراء هذا أن يدخل الشخص الهيكل، تاركاً وراءه شؤون العالم الدنيوي، مثل تجارته وأعماله، وأن يُظهر ذلك بوضوح للجميع.”
- يلاحظ بايت (Pate) أن يوسيفوس (Josephus) كتب عن الأسينيون (Essenes) (طائفة صوفية يهودية قديمة) أنه كان لديهم قواعد مماثلة حول السفر بحمل خفيف، وبثقة كبيرة أن احتياجاتهم ستسدد حتماً (من كتاب ليوسيفوس بعنوان حروب اليهود، ص ١٢٤-١٢٥).
- لَا عَصًا وَلَا مِزْوَدًا (حَقِيبَةً) وَلَا خُبْزًا وَلَا فِضَّةً: السَفر بحملٍ خفيف يجعلهم أيضاً يعتمدون على الله. فعدم وجود الكثير معهم سيجعلهم يثقون بالرب لتسديد كل احتياجاتهم. إذا كان الواعظ نفسه لا يثق بالله، فكيف يمكنه أن يخبر الآخرين بأن يثقوا بالله؟
- ويُعلّق ليفيلد (Liefeld): ” قد تكون الحقيبة هي ما يستخدمها الفلاسفة المتجولين والمتسولين الدينيين.”
- وَكُلُّ مَنْ لَا يَقْبَلُكُمْ: لم تكن وظيفتهم كوعاظ في المقام الأول تغيير عقول الناس. كان عليهم تقديم الرسالة بإقتناع تام، وإن رفضها المستمعين، يمكنهم أن يتركوا المكان، وأن ينفضوا ٱلْغُبَارَ عَنْ أَرْجُلِهم.
- جرت العادة إن دخل أي شخص يهودي مدينة أممية، أن ينفض الغبار عن قدميه عند مغادرته المدينة، وكأنه يقول: “لا أريد أخذ أي شيء من هذه المدينة الأممية معي.” طلب يسوع من تلاميذه أن يتعاملوا مع رفض المدن اليهودية لرسالتهم كما لو كانت مدن أممية.
- فَلَمَّا خَرَجُوا: فعلوا بالفعل كما أمرهم يسوع. كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، الإرسالية التي أعطاها لهم يسوع والقوة والسلطان لإتمام تلك الإرسالية.
ج) الآيات (٧-٩): حيرة هيرودس عند سماعه عن خدمة يسوع
٧فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ ٱلرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ، وَٱرْتَابَ، لِأَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ». ٨وَقَوْمًا: «إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ». وَآخَرِينَ: «إِنَّ نَبِيًّا مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ». ٩فَقَالَ هِيرُودُسُ: «يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هَذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا؟». وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ.
- وَٱرْتَابَ … لِأَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ» .. وَقَوْمًا: «إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ».. وَآخَرِينَ: «إِنَّ نَبِيًّا مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ»: ليس هناك ما يدل على أن هيرودس (هيرودس أنتيباس، ابن هيرودس الكبير) كان رجلاً مهتماً بالأمور الروحية. لكنه كان مهتماً في يسوع لأنه صار مشهوراً وكان صانع معجزات، وربما نظر إليه كمنافس. كان هيرودس يستمع بإهتمام عما يقوله الناس عن يسوع (كما نقرأ في لوقا ١٩:٩).
- اعتقد البعض أن يسوع كان رسولاً أتى ليدعو الأمة للتوبة، مثل يُوحَنَّا المعمدان. واعتقد البعض أن يسوع كان صانع معجزات شهير، مثل إِيلِيَّا (الذي تنبأ ملاخي عن عودته قبل مجيء المسيح – ملاخي ٥:٤-٦). كما واعتقد البعض أن يسوع كان نَبِيًّا مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ، ربما كان النبي الذي وعد موسى أنه سيأتي (تثنية ١٥:١٨-١٩).
- الإشاعات والتكهنات حول من هو يسوع جعلت هيرودس يشعر بالإرتياب – خاصة لأنه كان يشعر بالذنب حيال قتله ليوحنا المعمدان. فالضمير الشرير يأتي دائماً بالإرتباك والحيرة.
- لِأَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ»: كانت آخر مرة كتب فيها لوقا عن يوحنا المعمدان عندما كان في السجن وتساءل إن كان يسوع هو المسيا المُنتظر (لوقا ١٨:٧-٢٣). نعلم الآن أن هيرودس أمر بإعدام يوحنا في السجن، لأنه وبخه على زواجه من زوجة أخيه (متى ١:١٤-١٢).
- وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ: أراد هيرودس أَنْ يَرَاهُ، ولكنه لم يكن باحثاً صادقاً. أراد أن يراه إما لإشباع فضوله أو أن يفعل به ما فعل مع إبن عمه يوحنا. ذكر لوقا هذا الأمر ليؤكد الخطر المتزايد المحيط بيسوع.
- يذكر لوقا هيرودس مرة أخرى هنا. في وقت لاحق، قيل ليسوع أن هيرودس كان يريد أن يقتله. فأجابهم يسوع: «ٱمْضُوا وَقُولُوا لِهَذَا ٱلثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي ٱلْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أُكَمَّلُ» (لوقا ٣٢:١٣).
- يخبرنا لوقا أيضاً أن يسوع التقى أخيراً بهيرودس صباح يوم الصلب. كان هيرودس في أورشليم حينها، وعندما سمع أن بيلاطس يريد إرسال يسوع إليه، شعر بالسعادة والحماس – فقد أراد هيرودس رؤية معجزة من يسوع. ولكن يسوع لم يفعل أمامه أية معجزة. وعندما سأله العديد من الأسئلة، لم يجيبه بأي شيء. بناءاً على ذلك، ابتدأ هيرودس يعامل يسوع بازدراء وسخر منه بوضع رداء أُرجُواني عليه وأرسله ثانية إلى بيلاطس.
د ) الآية (١٠): عودة الرُسل
١٠وَلَمَّا رَجَعَ ٱلرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَٱنْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا.
- ٱلرُّسُلُ: عندما تركوا يسوع في لوقا ١:٩ كانوا يدعون التلاميذ – أي “المتعلمين.” وعندما عادوا من خدمتهم الكرازية، صاروا “ٱلرُّسُلُ” أي “أولئك المُرسلين بسلطان ورسالة.” بالتأكيد هم ما زالوا تلاميذ، ولكنهم عرفوا كلٍ من الرسالة والسلطان بطريقة أفضل بكثير بعد خدمتهم.
- أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا: أراد يسوع أن يعرف كيف سارت الأمور. فيسوع يهتم بنتائج خدمتنا.
- فَأَخَذَهُمْ وَٱنْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ: فعل يسوع هذا لخدمة ومباركة أولئك الذين أوكّلهم على خدمته. يعطي يسوع رعاية خاصة لبركة وخدمة أولئك الذين يخدمونه.
ثانيًا. إشباع الخمسة آلاف
أ ) الآية (١١): يسوع يخدم الجُمُوع
١١فَٱلْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱللهِ، وَٱلْمُحْتَاجُونَ إِلَى ٱلشِّفَاءِ شَفَاهُمْ.
- فَٱلْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ: ذهب يسوع إلى بَيْتَ صَيْدَا ليبارك ويخدم تلاميذه بعد خدمتهم. لم يتمكنوا من إبقاء ٱلْجُمُوعُ بعيداً لفترة طويلة؛ فتَبِعُوهُ هناك أيضاً.
- فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱللهِ، وَٱلْمُحْتَاجُونَ إِلَى ٱلشِّفَاءِ شَفَاهُمْ: خدم يسوع الجُمُوع المحتاجين والباحثين عنه في ثلاثة طرق:
- قَبِلَهُمْ: يشير هذا إلى موقفه القلبي. لم يهرب من الحشد أو يطلب منهم أن يتركوه وشأنه. بل خدمهم بكل حب وقَبِلَهمْ.
- مَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ ٱللهِ: يتحدث هنا عن تعليمه. وكما كان يفعل في خدمته، علّم يسوع الجُمُوع عن ملكوت الله.
- وَٱلْمُحْتَاجُونَ إِلَى ٱلشِّفَاءِ شَفَاهُمْ: لم يقدم يسوع لهم تعليماً روحياً فحسب، ولكنه عمل معجزات في وسطهم أيضاً.
ب) الآيات (١٢-١٥): يسوع يتحدى تلاميذه لتسديد احتياجات الجُمُوع
١٢فَٱبْتَدَأَ ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ ٱلِٱثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: «ٱصْرِفِ ٱلْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى ٱلْقُرَى وَٱلضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا، لِأَنَّنَا هَهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلَاءٍ». ١٣فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا: «لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلَّا أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَامًا لِهَذَا ٱلشَّعْبِ كُلِّهِ». ١٤لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: «أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ». ١٥فَفَعَلُوا هَكَذَا، وَأَتْكَأُوا ٱلْجَمِيعَ.
- ٱصْرِفِ ٱلْجَمْعَ: بعد اليوم الطويل (فَٱبْتَدَأَ ٱلنَّهَارُ يَمِيلُ)، نظر التلاميذ إلى الْجَمْعَ وكأنهم مصدر للإزعاج. وقد جاءوا إلى بيت صيدا، كيسوع، ليبتعدوا عن الْجَمْعَ وليس لخدمتهم.
- في الواقع، ليس من العدل أن ننتقد التلاميذ لرغبتهم بصرف الْجَمْعَ. ربما لم يتخيلوا أن يسوع كان يريد أن يُشبع الجمع بمعجزة أو كان بإمكانه فعل ذلك. اعتقدوا أنهم يفعلون خيراً بصْرِفِ ٱلْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى ٱلْقُرَى وَٱلضِّيَاعِ … فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا.
- «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»: بدى هذا الطلب غريباً بالنسبة للتلاميذ، بل صادماً. وكان من الواضح أنهم لا يملكون أية موارد لإطعام ولو حفنة من الناس. تحدى يسوع بهذا التصريح كلٍ من إيمانهم وتعاطفهم مع الجمع.
- عرف كلٍ من يسوع والتلاميذ بالْجَمْع الكثير وباحتياجاتهم. ولكن تعاطف يسوع (متى ١٤:١٤) ووعيه بقوة الله دفعاه لإشباع الجمع.
- يحاول الملحدين والمشككين أن يقنعوا الشعب الجائع بأنهم ليسوا جوعى على الإطلاق.
- يقدم المتدينون السطحيون للشعب جائع بعض الطقوس أو الكلمات الفارغة التي لن تُشبع أبداً.
- يعرض الممثلون الدينيون على الشعب الجائع فيديو يحتوي على إضاءة خاصة وموسيقى عصرية.
- يقدم المُضيف للشعب الجائع عرضاً مليئاً بالحركات السريعة والأصوات الصاخبة بحيث لا يحظون بلحظة للتفكير.
- أما يسوع فيقدم خبز الحياة للشعب الجائع.
- عرف كلٍ من يسوع والتلاميذ بالْجَمْع الكثير وباحتياجاتهم. ولكن تعاطف يسوع (متى ١٤:١٤) ووعيه بقوة الله دفعاه لإشباع الجمع.
- «أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ»: أراد يسوع أن يقوموا بهذا العمل بترتيب وبنظام، وأرادهم أيضاً أن يستمتعوا بالوجبة. يشير طلب يسوع هذا أنه لم يكن يريد إشباعهم جسدياً فقط؛ سيحصل هذا وهم وقوف. كانت الفكرة هي وضعهم في جو يشبه الوليمة لكي يستمتعوا بما يُقدم.
- أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ سهل عملية عد الجمع، وأعطى توثيقاً أكثر دقة بأنهم كانوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ.
ج ) الآيات (١٦-١٧): أشبع الجُمُوع
١٦فَأَخَذَ ٱلْأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلَامِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. ١٧فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ ٱلْكِسَرِ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً.
- فَأَخَذَ ٱلْأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ: أخذ يسوع القليل الذي كان معهم (ذكر هذا لأول مرة في لوقا ١٣:٩) وشكر الله عليه. سيكون من السهل أن نفكر أن مثل هذه الكمية الصغيرة من الطعام لا قيمة لها لإطعام مثل هذا الحشد الكبير، ولكن يسوع استخدم ما كان متوفراً.
- حسب رواية يوحنا (في يوحنا ٨:٦-٩) نعلم أن هذه ٱلْأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ كانت مع صبي صغير. فقد اقترضوا ما كان معهم من ولد صغير.
- في سفر ملوك الثاني ٤٢:٤-٤٤، نقرأ عن أَلِيشَع الذي أطعم مئة رجل بعِشْرِينَ رَغِيفاً مِنَ الشَّعِيرِ وَسَنابِلَ طَرِيَّةً – وَفضُلَ عَنْهُمْ. تُظهر لنا معجزة إطعام الخمسة آلاف بأن يسوع أعظم من أليشع ومن موسى.
- وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ: عندما بَارَكَهُنَّ يسوع قبل تقديم الوجبة، لم يفعل ذلك ليبارك الطعام، بل ليبارك الله الذي وفر الطعام. ففكرة الصلاة قبل وجبات الطعام ليست لمباركة الطعام؛ بل لتقديم البركة – أي تقديم الشكر – لله الذي باركنا بتوفير الطعام لنا.
- رغم أنه لم يكن كثيراً، بارك يسوع الآب على الطعام الذي كان لديه. ربما صلى صلاة يهودية مألوفة قبل الوجبة: “مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ، ٱلرَّبُّ إِلَهُنَا، مَلِكُ الكون، الذي يُخرج الخبز من الأرض.”
- ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلَامِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ: أظهرت هذه المعجزة سلطان يسوع الكامل على الخليقة. مع ذلك، أصر على القيام بهذه المعجزة من خلال تلاميذه. كان بإمكانه أن يفعلها مباشرة، ولكنه أراد أن يستخدم التلاميذ.
- لم يعرف أحد من أين جاء هذا الخبز فعلاً. ولكن أظهر يسوع قدرة الله على توفير الموارد التي لا نستطيع رؤيتها أو حتى نتصورها بأي شكل من الأشكال. فمن الأسهل أن نملك الإيمان عندما نعتقد أننا نعرف كيف سيسدد الله الِاحتياج، ولكن غالباً ما يوفر الله بطرق غير متوقعة.
- فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا: بطريقة معجزية، ضاعف يسوع الخبز والسمك، حتى شبع الخمسة آلاف رجل وكل من كان معهم. كان واضحاً أن يسوع هو من صنع المعجزة، وليس التلاميذ – هم ببساطة قاموا بتوزيع المعجزة التي قدمها يسوع.
- إذا بقي أحدهم جائعاً فإن السبب هو رفضهم الخبز من يسوع أو لأن الرسل لم يوزعوا الخبز على الجميع. فقد قدم يسوع الكثير ليكفي الجميع.
- الثقة بأن يسوع قادر على تسديد كل احتياجاتنا – حتى وإن كان بأعجوبة – يجب أن يكون لها قيمة كبيرة في حياتنا؛ كانت كذلك بالنسبة لمؤمنين الكنيسة الأولى. نجد في الفن المسيحي المبكر، وعلى جدران سراديب الموتى وأماكن أخرى كثيرة، أن صور اللأرغفة والسمك كانت مألوفة للغاية.
- نحن لا نملك الكثير لنقدمه للآخرين، ولكن عندما نضع ما نملك بين يدي يسوع، يمكنه أن يفعل أشياء عظيمة. يمكنه أن يلمس ويبارك حياة الآخرين باستخدام مواهبنا.
- كتب مورغان (Morgan): “إشباع الجُموع هو صورة رائعة لما يجب أن تكون عليه خدمة المؤمنين تجاه تسديد احتياجات العالم من حولهم. واجبهم كمؤمنين أن يسلموا كل ما يملكوا لله ويطيعونه، مهما شكك العالم بحكمته الدنيوية طريقة خدمتهم.”
ثالثاً. ملكوت الله والصليب
أ ) الآيات (١٨-٢٠): فَهِمَّ بطرس حقيقة يسوع
١٨وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى ٱنْفِرَادٍ كَانَ ٱلتَّلَامِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَهُمْ قَائِلًا: «مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ أَنِّي أَنَا؟». ١٩فَأَجَابُوا وَقَالوا: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ». ٢٠فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ: «مَسِيحُ ٱللهِ!».
- وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى ٱنْفِرَادٍ كَانَ ٱلتَّلَامِيذُ مَعَهُ: بدأ هذا المشهد بيسوع وهو يصلي والتلاميذ معه. لا نعرف تماماً ما إذا كانوا معه أثناء صلاته، أم أنهم قاطعوه وهو يصلي. ولكن عندما انتهى من الصلاة، سألهم يسوع: «مَنْ تَقُولُ ٱلْجُمُوعُ أَنِّي أَنَا؟».
- لم يسأل يسوع هذا السؤال لأنه لم يعلم رأي الناس أو لأنه يحتاج لمعلومات من التلاميذ. بل سأل السؤال لأنه كان سيستخدمه لطرح سؤال أكثر أهمية لاحقاً.
- كان ج. كامبل مورغان (G. Campbell Morgan) مقتنعاً بأن التلاميذ قاطعوا يسوع أثناء صلاته، فكتب: “من الدراسات المتأنية لروايات الإنجيل نصل إلى استنتاج بأن ربنا لم يصلي أبداً مع تلاميذه. ففي كثير من الأحيان كان يتركهم ويذهب للصلاة بمفرده. فصلاته وهو معهم لم تكن صلاة مشتركة، بل كانت منفصلة. فمستوى صلاته كان مختلفاً.”
- «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ»: الذين اعتقدوا أن يسوع كان يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، لم يعرفوا الكثير عنه، لأن يوحنا ويسوع خدموا في نفس الفترة. كان كلٍ من يوحنا من المُصلحين الوطنيين الذين وقفوا ضد الحُكام الفاسدين في يومهم، وبسبب تشابههم مع شجاعة يسوع وبره، ربطهم الناس به.
- عندما قال الناس أن يسوع هو يوحنا أو إيليا، ربما كانوا يأملون بمسيا يحررهم سياسياً، ويُطيح بالقوى الفاسدة التي قمعت شعب إسرائيل.
- «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ ٱلْقُدَمَاءِ قَامَ»: من الجيد أن يعرف التلاميذ كيف فكر ٱلْجُمُوعُ في يسوع. ولكن كان على يسوع أن يسألهم كأفراد: من تقولون إني أنا؟
- افترض يسوع أن للتلاميذ رأيٌ مختلف عن ٱلْجُمُوعُ. لأنهم لم يتسلموا حكمة عادية كباقي البشر. كان يجب عليهم أن يعرفوا من هو يسوع.
- يطرح هذا السؤال على كل من يسمع عن يسوع؛ وكل فرد سيدان حسب إجابته. نحن في الواقع نجيب على هذا السؤال يومياً من خلال إيماننا وتصرفاتنا. إذا كنا نؤمن حقاً أن يسوع هو من يقول عن نفسه، فإن هذا سيؤثر على الطريقة التي نعيش بها.
- «مَسِيحُ ٱللهِ!»: عرف بطرس حقيقة يسوع أفضل من الجمع، وعرف أن يسوع هو مَسِيحُ ٱللهِ والفادي الذي وعد به العهد القديم. المسيا المنبثق من قلب الله، وليس بمشيئة رجل.
ب) الآيات (٢١-٢٢): يكشف يسوع عن طبيعة مأموريته الحقيقية
٢١فَٱنْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لَا يَقُولُوا ذَلِكَ لِأَحَدٍ، ٢٢قَائِلًا: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ».
- فَٱنْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لَا يَقُولُوا ذَلِكَ لِأَحَدٍ: كان يسوع سعيداً لأن تلاميذه عرفوا حقيقته، ولكنه لم يرغب أن يكشف عن هويته الحقيقية لعامة الشعب قبل الوقت المناسب. لم يكن بإمكان الجُموع أن يفهموا أن يسوع هو حقاً المسيا، وأن عليه أن يتألم – كان على التلاميذ أن يعرفوا ذلك أولاً.
- كتب باركلي (Barclay): “قبل أن يكرزوا بأن يسوع هو المسيا، كان عليهم أولاً أن يتعلموا ما يعنيه ذلك.”
- إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا: بعد سماعه ما يقوله الجموع عنه، أخبرهم يسوع عن سبب مجيئه الحقيقي: يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ. لم يكن هذا ما توقعه أو أراده التلاميذ أو الجُموع على الإطلاق.
- كانت هذه صدمة كبيرة لكل الذين توقعوا أو أملوا أن يأتي المسيا كالمحرر السياسي والقومي. وللتشبيه فقط: لا يمكننا أن نتصور ما ستكون عليه ردة الفعل إن أعلن المرشح للرئاسة أنه في نهاية حملته سيذهب إلى العاصمة حيث سيُرفض ومن ثم يُعدم.
- يَنْبَغِي أَنَّ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا: كلمة يَنْبَغِي هامة للغاية. لم تكن هذه مجرد خطة أو فكرة أو توقع؛ بل كانت تحقيقاً لخطة الله لخلاصنا قبل تأسيس العالم (بطرس الأولى ٢٠:١، ورؤيا يوحنا ٨:١٣).
- وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ: كانت القيامة أمراً لا بد منه تماماً مثل أي جانب آخر من آلامه؛ كان يَنْبَغِي أن يقوم أيضاً من الأموات.
ج ) الآية (٢٣): يسوع يدعو من يريد إتباعه أن يتبع خطواته
٢٣وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي.
- وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: كان سيئاً بما فيه الكفاية أن يسمع التلاميذ من يسوع أنه ينبغي أن يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا وَيُرْفَضُ وَيُصلب. والآن يخبرهم أن عليهم أن يفعلوا الشيء ذاته؛ أو على الأقل يكونوا مستعدين لذلك.
- فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي: عرف الجميع ما قصده يسوع بهذه الكلمات. ففي العالم الروماني، وقبل أن يموت أحدهم على الصليب، كان عليه أن يحمل صليبه (أو على الأقل الخشبة الأفقية للصليب) إلى موقع الصلب.
- عندما كان الرومان يصلبون مجرماً، لم يعلقوه على الصليب فحسب، بل كانوا يعلقون الصليب عليه أولاً.
- دائماً ما يؤدي حمل الصليب إلى الموت على الصليب. لا أحد يحمل الصليب لغاية المتعة. لم يحتاج السامعين أي تفسير عن الصليب؛ كانوا يعرفون أنه أداة قاسية للتعذيب والموت والإذلال. إذا حمل أحدهم صَلِيبَهُ، فليس هناك رجعة. كانت رحلة في اتجاه واحد.
- عادة ما كانت الصلبان في العالم الروماني تفرض على الشخص (فلم يكن طوعاً). تُفرض عليهم بغض النظر عن مدى استعدادهم. نجد يسوع هنا يطلب من أتباعه أن يحملوا الصليب طوعاً.
- هذا لا يعني أنه بإمكاننا أن نختار طريقة موتنا كأتباع ليسوع؛ ولكن عندما نواجه ظروف غير مرغوب فيها، علينا أن نختار تحملها كطريقة للموت اليومي لإعطاء المجد ليسوع.
- فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ: جعل يسوع من إنكار النفس مساوياًلحمل الصليب. وتُعَّبر العبارتين عن نفس الفكرة. فالصليب ليس ترويجاً للنفس أو تأكيداً للذات. والشخص الذي يحمل الصليب يعرف أنه لا يستطيع أن يُخلص نفسه، وأن النفس مقدرٌ لها الموت.
- إن إنكارك لنفسك يعني أن تعيش حياة مركزها الآخرين. الشخص الوحيد الذي عمل هذا بشكل كامل كان يسوع، وعلينا أن نتبع خطواته.
- وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ: أوضح يسوع أنه يتكلم عن الأمور الروحية هنا عندما أضاف جملة: كُلَّ يَوْمٍ. فلا يمكن لأحد أن يُصلب حرفياً كلَّ يوم. بل علينا أن نعيش كُلَّ يَوْمٍ كما عاش يسوع على الأرض.
- هذا ببساطة معنى اِتِّباع يسوع. وكما حمل يسوع الصليب، على أتباعه أن يحملوه أيضاً. وكما عاش منكراً لذاته، هكذا على أتباعه أن يفعلوا.
د ) الآيات (٢٤-٢٧): لماذا علينا أن نحمل الصليب ونتبع يسوع
٢٤فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهَذَا يُخَلِّصُهَا. ٢٥لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلْإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ ٢٦لِأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلَامِي، فَبِهَذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ ٱلْآبِ وَٱلْمَلَائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ. ٢٧حَقًّا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هَهُنَا قَوْمًا لَا يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللهِ».
- فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهَذَا يُخَلِّصُهَا: علينا إتباع يسوع هكذا لأنها الطريقة الوحيدة التي نستطيع من خلالها أن نحيا. يبدو من الغريب أن نقول: “أنت لن تعيش أبداً إلى أن تسير نحو موتك مع يسوع” هذا هو القصد من وراء هذه الآية. فلا يمكنك الحصول على حياة مُقامة من الأموات دون الموت أولاً.
- هذا وعد قوي ومؤكد عن الحياة بعد الموت، الحياة الأبدية. فإذا لم يكن هناك حياة بعد الموت عندها لن يكون هناك أي معنى لما قاله يسوع، ولا يوجد مكافأة للموت شهيداً أو حتى للعيش شهيداً.
- أنت لا تفقد البذور عندما تزرعها، على الرغم من أنها تبدو ميتة ومدفونة. في الواقع، عندما تضعها في التراب، أنت تُطلِقُها لتكون ما خُلقت من أجله.
- لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلْإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ: يعني تجنب السير مع يسوع عن طريق إنكار النفس أننا ربحنا ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وينتهي بنا المطاف بخسارة كل شيء.
- كان أمام يسوع الفرصة ليربح العالم كله إن سجد للشيطان (لوقا ٥:٤-٨)، ولكنه وجد الحياة والنصرة في الطاعة بدلاً من ذلك.
- ومن المدهش أن الناس الذين يعيشون بهذه الطريقة هم من يتمتعون بسعادة حقيقية. فتسليم حياتنا ليسوع بالكامل، والعيش لخدمة الآخرين، لا يسلبنا حياتنا، بل يضيف إليها.
- لِأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي وَبِكَلَامِي، فَبِهَذَا يَسْتَحِي ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ: ليس من السهل أن نسير مع يسوع في صف المحكوم عليهم بالإعدام. هذا يعني أننا نربط أنفسنا مع شخص كان محتقراً ومُهاناً – ولكن إذا كنا نستحي به، هو سيستحي بنا أيضاً.
- يا لها من دعوة راديكالية لإتباع يسوع المسيح. فهو يريد أن يعرف ما إذا كنا سنستحي به أو بكلامه. فإن لم يكن يسوع هو الله، فإن دعوته هذه ستكون بمثابة دعوة لعبادته شخصياً وكأنه يدعونا لعبادة شخص آخر غير الله؛ ولكن لأنه هو الله، فهي دعوة لتقديم العبادة الكاملة لله وحده.
- لِأَنَّ مَنِ ٱسْتَحَى بِي: ليس من الغريب أن يستحي البعض من يسوع أثناء خدمته على الأرض؛ ولكن من المذهل أن يستحي به أحد اليوم، لأنه:
- كشف في مجد كامل عن محبته المُضحية.
- كشف في سلطان كامل عن قيامته المجيدة.
- صعد إلى السماء وتعظم في الأعالي.
- يحب ويصلي من أجل شعبه من السماء.
- فمن سيستحي بكل هذا؟
- ومع هذا، هناك من يَسْتَحِي به. فالذي يستحي عادة يملك إيمان معين؛ لأنه لا يمكن أن يستحي من أمر لا يؤمن به. هو يؤمن، ولكنه لم يضع ثقته الكاملة بهذا الإيمان. فمعنى أنك تستحي:
- أنك لا تريد أن تظهر معه في الأماكن العامة.
- أنك لا تريد التحدث عنه.
- أنك ترغب في تجنبه إن أمكن.
- يستحي البعض بسبب الخوف أو بسبب الضغط الاجتماعي، ويستحي البعض الآخر بسبب الكبرياء الفكري أو الثقافي. إن فكرنا بالأمر بشكل موضوعي، فإن هذا يعتبر ظاهرة غريبة. عندما يستحي المرء أو يخجل أو يشعر بالعار حيال يسوع، فهذا يعني أنه لا يريد التحدث عنه.
- حَقًّا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ ٱلْقِيَامِ هَهُنَا قَوْمًا لَا يَذُوقُونَ ٱلْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللهِ. بعد هذه الدعوة المتطرفة لإتباع يسوع حتى الموت، نراه يضيف وعداً بمجد عظيم (يَرَوْا مَلَكُوتَ ٱللهِ). أراد يسوع منهم أن يعرفوا أن الأمر ليس كله معاناة وموت، فنهاية كل شيء لن يكون الموت.
رابعاً. التجلي
أ ) الآيات (٢٨-٢٩): تجلي يسوع أمام بطرس ويوحنا ويعقوب
٢٨وَبَعْدَ هَذَا ٱلْكَلَامِ بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ لِيُصَلِّيَ. ٢٩وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لَامِعًا.
- أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَلٍ لِيُصَلِّيَ. ما بدأ كاجتماع صلاة على قمة الجبل تغير بسرعة ليصبح عرضاً مشرقاً لمجد يسوع. وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي، تغيرت هيئة وجهه أمام أعين التلاميذ.
- كتب بات (Pate): “رغم أن لوقا لا يسمي اسم الجبل، إلا أنه ومنذ عهد أوريجانوس، قال البعض أنه جبل الطور أو تابور (طابور)، الذي يقع غرب بحر الجليل. وقال آخرين أنه جبل حرمون (أو جبل الشيخ) الذي يقع شمال قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ، وهو مكان اعتراف بطرس.”
- صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً: بعد الإعداد للمشهد بعناية ووضع الصلاة في سياقها المناسب، شرح لوقا كيف تغير وجه يسوع فيما يُعّرف بالتجلي.
- وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لَامِعًا. ترجمة أخرى لهذه العبارة تحمل فكرة: “يشع مثل البرق.” تغير مظهر يسوع بأكمله وصار يلمع ويشع كالضوء.
- نقرأ في (متى ٢:١٧) عن واقعة التجلي: أَضَاءَ وَجْهُهُ كَٱلشَّمْسِ، ونلاحظ هنا أن كلٍ من متى ومرقس استخدما كلمة التجلي لوصف ما حدث ليسوع. ولوقت قصير للغاية، إتخذ يسوع مظهر ملك المجد اللائق به بدل من مظهر الرجل البسيط.
- لم تكن هذه معجزة جديدة، ولكنها وقفة مؤقتة لمعجزة مستمرة. فالمعجزة الحقيقية أن يسوع أستطاع أن يخفي مجده في معظم الأوقات.
- هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً: كانت هذه مرحلة مهمة في خدمة يسوع لأنه بدأ يقول للتلاميذ أنه سيذهب إلى الصليب، وأن عليهم أن يتبعوه روحياً. كان من السهل عليهم أن يفقدوا ثقتهم في يسوع بعد تصريحه هذا الذي يبدو انهزامي. ولكن ها هو يُظهر مجده كملك في التجلي على كل ملكوت الله.
- هذا من شأنه أن يعطي ثقة كبيرة للتلاميذ، إن أصغوا جيداً. فقد عرف يسوع تماماً ما كان يفعله. فسيبقى ملك المجد حتى وإن وعد أنه سيتألم ويموت ويقوم ثانية.
- أظهر يسوع بطريقة عملية أن حاملي الصليب سيحصلون على المجد في النهاية. فالصليب ليس النهاية؛ بل النهاية هي مجد الله.
ب) الآيات (٣٠-٣١): ظهور إيليا وموسى مع يسوع
٣٠وَإِذَا رَجُلَانِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، ٣١اللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَكانا يَتَكَلَّمانِ عَنْ مَوتِهِ الَّذِي يُوشِكُ أنْ يَحدُثَ فِي مَدينَةِ القُدسِ.
- وَإِذَا رَجُلَانِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ: لم يكن يسوع وحده في هذا العرض المليء بالمجد. ظهر رَجُلَانِ معه أيضاً، ويبدو أن التلاميذ ميزوا أنهما مُوسَى وَإِيلِيَّا.
- تمييزهما الفوري لهؤلاء الرجال اللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ دون مقدمة مسبقة يظهر أننا سنتمكن من التعرف على بعضنا البعض في السماء. لن تكون هناك حاجة لبطاقات عليها أسمائنا للتعارف.
- يبدو أنهم تمتعوا بحديث رائع معه. ويُعلّق ماير (Meyer): “قد يكون التجلي هو أنسب مثال على الطريقة التي يجب أن يدخل فيها آدم وذريته السماء، وليس الموت الذي ورثناه جميعاً من خلال الخطية.”
- مُوسَى وَإِيلِيَّا، اللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ: يتساءل الكثيرون لماذا هذين الرجلين بالتحديد من العهد القديم، وليس آخرين. لم يكونوا إبراهيم أو داود أو يشوع أو يوسف أو دانيال؛ بل مُوسَى وَإِيلِيَّا.
- قد يكون ذلك لأن الله أخذ كلٍ من موسى وإيليا إليه (يهوذا ٩ وملوك الثاني ١١:٢). وربما مثل موسى الذين ماتوا وذهبوا إلى المجد، وإيليا من صعدوا إلى السماء دون موت (كما هو مذكور في تسالونيكي الأولى ١٣:٤-١٨).
- ويمكننا القول أيضاً أنهما يمثلان الناموس (مُوسَى) والأنبياء (إِيلِيَّا). تجمع العهد القديم للقاء يسوع على جبل التجلي.
- ذكر يوحنا في نبوته في سفر رؤيا يوحنا (٣:١١-١٣) كلٍ من مُوسَى وَإِيلِيَّا، ومن المرجح أنهما الشاهدين المذكورين فيها.
- وَكانا يَتَكَلَّمانِ عَنْ مَوتِهِ الَّذِي يُوشِكُ أنْ يَحدُثَ فِي مَدينَةِ القُدسِ: من بين كل المواضيع التي كان بإمكانهم مناقشتها، نجدهم يختارون هذا الموضوع. كما ويبدو أن مُوسَى وَإِيلِيَّا كانا مهتمين بتنفيذ خطة الله من خلال يسوع؛ وَكانا يَتَكَلَّمانِ عَنْ مَوتِهِ الَّذِي يُوشِكُ أنْ يَحدُثَ فِي مَدينَةِ القُدسِ.
- يمكننا أن نتصور موسى وإيليا يـتسائلان: “أأنت حقاً مزمع أن تتمم الأمر؟” وربما يتساءل موسى: “حاولت أن أتحمل الإدانة عوضاً عن شعبي، ولكن الله لم يقبل. فهل ستنجح أنت؟” وقد يضيف إيليا: “لقد اضطهدني كل من آخاب وإِيزَابَلَ، وكان الأمر صعباً علي جداً وكنت أحياناً أصاب بحالات اكتئاب روحي عميق. فهل ستحتمل أنت؟”
- وَكانا يَتَكَلَّمانِ عَنْ مَوتِهِ: ويُعلّق تراب (Trapp): “الكلمة اليونانية المستخدمة هنا تشير إلى الخُرُوجِ، وهي إشارة إلى خروج شعب إسرائيل من مصر.” كما وويُعلّق بايت (Pate): “يصور جزء كبير من هذا المصطلح، معاناة يسوع والموت الذي سيمر به كوسيلة لأخذ المجد الإلهي.”
ج) الآية (٣٢): نوم التلاميذ في محضر يسوع وموسى وإيليا
٣٢وَأَمَّا بُطْرُسُ وَٱللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ. فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ ٱلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ.
- وَأَمَّا بُطْرُسُ وَٱللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ: هذا يقودنا للاعتقاد بأن التلاميذ ربما رأوا وسمعوا مجرد جزء بسيط من هذا اللقاء بين يسوع وموسى وإيليا. وربما استمر اللقاء لفترة أطول وناقشوا به المزيد من المواضيع.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “من المحتمل جداً أنه كان قد قضى ساعات عدة في الصلاة قبل التجلي، ومن الجدير بالذكر أيضاً أن التجلي حدث أثناء صلاته. كل بركة تأتي على الكنيسة وعلى أعضاءها، تأتي من خلال الصلاة.”
- قَدْ تَثَقَّلُوا بِٱلنَّوْمِ: من العجيب أن نرى أشخاصاً ينامون وهم في محضر كل هذا المجد العظيم. وبشكل مماثل نلاحظ أن النوم الروحي يبعد الكثيرين عن رؤية أو اختبار مجد الله.
- فَلَمَّا ٱسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ: رغم أن المجد كان حاضراً طيلة الوقت، إلا أنهم رَأَوْا مَجْدَهُ فقط عندما ٱسْتَيْقَظُوا. عندما استيقظوا رَأَوْا مَجْدَهُ وحده، دون أي ذكر لمجد موسى أو إيليا. فبالمقارنة مع مجد يسوع، كانا وكأنهم غير موجودين أصلاً.
- وأضاف سبيرجن (Spurgeon): “رأى الرسل أعظم الأنبياء وأعظم معلم للناموس، ولم يأتي بعد يسوع من كان أعظم منه، ومع ذلك يسجل الوحي المقدس ويقول: رَأَوْا مَجْدَهُ، وَٱلرَّجُلَيْنِ ٱلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ.”
- وَٱلرَّجُلَيْنِ ٱلْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ: عندما يقرأون الكثيرون هذه الكلمات يتخيلون أن يسوع كان يطفو في الهواء مع موسى وإيليا. ولكن يقول النص بوضوح أنهم كانوا وَاقِفَيْنِ معه.
د ) الآيات (٣٣-٣٤): عرض بطرس غير الحكيم لبناء ثَلَاثَ مَظَالَّ
٣٣وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ «يَا مُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلَاثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةً». وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. ٣٤وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذَلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي ٱلسَّحَابَةِ.
- يَا مُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا؛ فَلْنَصْنَعْ ثَلَاثَ مَظَالَّ: وكالعادة أوقع بطرس نفسه في ورطة عندما فتح فمه، ويقول الوحي: وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ.
- وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ: توضح هذه الكلمات أن بطرس قال ما قاله عندما بدأ موسى وإيليا يهمان في المغادرة. فلم يرغب بطرس لمشهد المجد أن ينتهي.
- ربما فكر هكذا: هذا ما ينبغي أن يكون! إنسوا فكرة الألم والرفض والصلب؛ ودعونا نبني بعض المظال لنعيش بهذه الطريقة مع يسوع الممجد في كل الوقت. ما اقترحه بطرس ليس من شأنه أن يبعد الصليب عن يسوع فحسب، بل سيبعده عن بطرس أيضاً.
- اِرتكب بطرس خطأً إضافياً في اقتراح صُنع المَظَالَّ، إذ وضع يسوع على نفس المستوى مع موسى وإيليا؛ خيمة واحدة لكلٍ منهم.
- وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذَلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ: عندما قال بطرس هذا الكلام، ظَلَّلَتْهُمْ سحابة من المجد، وتدعى تلك السحابة في العهد القديم بالشكينة Shekinah والتي تعني مَجْدُ ٱلرَّبِّ.
- وتحمل نفس فكرة تُظَلِّلُكِ المذكورة في لوقا ٣٥:١، والتي تعني نزول مجد الله على مريم وقبولها البشارة بميلاد الطفل يسوع.
- فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي ٱلسَّحَابَةِ: قال بطرس والآخرين جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا في البداية، ولكن عندما إزداد المجد، بدأوا يشعرون بالخوف كما يشعر الخاطئ في محضر الله.
- ربما لم يدرك بطرس ما نطق به قبلاً، ولكنه عرف جيداً ما رآه الآن – فسحابة المجد كانت حقيقية، وكان مستيقظاً تماماً عندما رأها مع التلاميذ.
- ويُعلّق سبيرجن (Spurgeon): “لم نحلم بديانتنا، ولم تأتينا في رؤية بالليل. ولكن عندما كنا مستيقظين تماماً، رأينا مجد المسيح.”
هـ ) الآيات (٣٥-٣٦): الصوت النازل من سحابة المجد
٣٥وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلًا: «هَذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَهُ ٱسْمَعُوا». ٣٦وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَدًا فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ.
- وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلًا: «هَذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَهُ ٱسْمَعُوا»: أوضح الصوت النازل من سحابة المجد أن يسوع لم يكن على قدم المساواة مع موسى وإيليا. بل هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ – لَهُ ٱسْمَعُوا.
- كان كلٍ من موسى وإيليا عظماء، ولكل منهم مكانة هامة في خطة الله التي توضحت عبر التاريخ. ولكن عندما نقارنهم بيسوع المسيح، ابن الله الوحيد، لم يكونوا مهمين – فالتركيز كله والاهتمام يجب أن ينصب على شخص المسيح وحده.
- ربما لم يَعي بطرس تماماً ما قاله قبلاً، ولكنه عرف جيداً ما سمعه – كان الصوت من السماء حقيقياً، وكان مستيقظاً تماماً عندما سمعه.
- وَلَمَّا (توقف) ٱلصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ: وكأنها طريقة الله في حصر التركيز على يسوع وحده، فالله لن يسمح لهم بالتركيز على موسى وإيليا لمدة طويلة.
- وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَدًا فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ: بعدما انتهى المشهد، لم يخبر بطرس ويوحنا ويعقوب أحد بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ – فمن سيصدقهم أصلاً؟
- وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَدًا فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ، لم يتمكنوا من الصمت حيال الأمر لفترة طويلة. تذكر بطرس بوضوح تلك الحادثة وأشار إليها في بطرس الثانية ١٦:١-١٨، كما وأشار إليها يوحنا في إنجيله (١٤:١). تذكر كلاهما هذا الاختبار القوي حينما ظهر يسوع بكل مجده وبينَّ دوره الفريد كالمسيا الأعظم حتى من موسى وإيليا.
- رغم عظمة هذا الاختبار الرائع، إلا أن الحدث نفسه لم يحدث أي تغيير في حياة التلاميذ بقدر ما فعلت الولادة الثانية. فالولادة الثانية بالروح القدس هي أروع معجزة، وأعظم عرض لمجد الله من أي وقت مضى.
خامساً. مجد الله يعمل
أ ) الآيات (٣٧-٤٠): طلب من والد صبي به شيطان
٣٧وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ ٱلْجَبَلِ، ٱسْتَقْبَلَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. ٣٨وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ صَرَخَ قَائِلًا: «يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ٱبْنِي، فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. ٣٩وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِدًا، وَبِٱلْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضًا إِيَّاهُ. ٤٠وَطَلَبْتُ مِنْ تَلَامِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا».
- إِذْ نَزَلُوا مِنَ ٱلْجَبَلِ: بعد أن نزل يسوع والتلاميذ من الجبل بعد التجلي المُشع، تقابلوا مباشرة مع مشاكل تتعلق بالشياطين والمعارضين ليسوع.
- كتب مورغان (Morgan): “هناك الجبل؛ وهنا الوادي. هناك قديسين ممجدين؛ وهنا المجنون. هناك الملك في مجده السماوي؛ وهنا من يملكون إيمان ضعيف والمتحير.”
- يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ٱبْنِي: ٱبْنِي: شعر الأب (وكان محقاً بذلك) أن كل ما على يسوع فعله هو أن ينظر إلى ابنه، وبالتأكيد سيتحنن المخلص ويساعد الصبي المُصاب.
- وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِدًا، وَبِٱلْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضًا إِيَّاهُ: يتناسب الوصف مع ما نسميه بنوبة الصرع. عرف يسوع في هذه الحالة، (وأثبت ذلك) أن قوة شيطانية كانت وراء المشكلة، وليس مجرد أسباب فسيولوجية.
- وَطَلَبْتُ مِنْ تَلَامِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا: نجح التلاميذ في إخراج الشياطين في السابق (لوقا ١:٩). ربما كان هذا الشيطان أقوى أو أكثر عناداً.
- هناك نظام ورتب بين صفوف قوى الشيطان (أفسس ١٢:٦)، ومن الواضح أن بعض الشياطين أقوى (أكثر عناداً، وأكثر مقاومة) من غيرها. قال يسوع في إنجيل متى (٢١:١٧) أن سبب فشلهم كان عدم الصلاة والصوم. لا يعني هذا أن الصلاة والصوم يجعلنا أكثر قدرة على إخراج الشياطين. ولكن الفكرة هي أنه من خلال الصلاة والصوم نقترب إلى قلب الله، ويجعلنا ذلك أكثر انسجاماً معه.
- كان فشلهم في الواقع أمراً جيداً بالنسبة لهم، لأنه علّمهم:
- أن لا يخدموا وكأن الخدمة مجرد عمل أو وظيفة.
- تفّوق يسوع وعظمته.
- أن يطلبوا حضور يسوع.
- أن يطرحوا كل مشاكلهم عند أقدام يسوع.
- كتب كلارك (Clarke): ” لم يفشلوا لأنهم طلبوا الإيمان بل لأنهم طلبوا النجاح.”
ب) الآيات (٤١-٤٢): أخرج يسوع الشياطين الذين فشل التلاميذ في إخراجهم
٤١فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ وَٱلْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمِ ٱبْنَكَ إِلَى هُنَا!». ٤٢وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَزَّقَهُ ٱلشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ، فَٱنْتَهَرَ يَسُوعُ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ، وَشَفَى ٱلصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَبِيهِ.
- أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ وَٱلْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟: يبدو أن يسوع كان محبطاً من التلاميذ. فخدمته كادت تنتهي، لهذا شعر بالإحباط بسبب ضعف إيمان التلاميذ.
- وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَزَّقَهُ ٱلشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ: عندما أحضر الأب ابنه المصاب في البداية عند يسوع، لم يكن هناك أي تحسن على الإطلاق، بل على العكس، بدت المشكلة اسوأ. ربما كانت هذه محاولة أخيرة يائسة يبذلها الشيطان للتمسك بالصبي وليُغرق الأب والتلاميذ والجميع في يأس أعمق.
- ٱلشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ: كتب باركلي (Barclay) تعليقاً على هذا: “عندما أتى إلى يسوع، صَرَعَهُ الشيطان. وهي نفس الكلمة المستخدمة عندما يضرب الملاكم ضربته القاضية لخصمه ويسقطه أرضاً.”
- شرح سبيرجن (Spurgeon) في عظته بعنوان “ضربة الشيطان الأخيرة” كيف يبدأ الشيطان بضرب الشخص الذي يسكنه بقوة عندما يبدأ بالإقتراب من يسوع ويفكر بأخذه كمخلص شخصي: “رأيت رجالاً يقعون في خطايا كبيرة لمجرد إصغائهم لدعوة يسوع والتفكير بموضوع الخلاص بجدية، وكيف أثرت تلك الخطية عليهم بشكل كبير. وإن لم أكن أعرف جيداً، لفقدت الأمل في إمكانية خلاصهم.”
- عرض سبيرجن (Spurgeon) بعض الأكاذيب التي يستخدمها الشيطان ليسقط الرجال أرضاً ويصرعهم أثناء اقترابهم من يسوع:
- “لم يختارك الله.”
- “أنت خاطئ كبير.”
- “لقد فات الأوان.”
- “لا فائدة في محاولة – استسلم.”
- “هذا الأمر لن ينفعك.”
- فَٱنْتَهَرَ يَسُوعُ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ، وَشَفَى ٱلصَّبِيَّ: لم يخيفه هذا العرض الأخير من القوة الشيطانية، بل شفى يسوع الصبي وحرره. ما كان صعباً جداً على التلاميذ لم يكن صعباً بتاتاً على يسوع.
ج) الآيات (٤٣-٤٥): يسوع يذكر تلاميذه بمأموريته
٤٣فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ ٱللهِ. وَإِذْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: ٤٤«ضَعُوا أَنْتُمْ هَذَا ٱلْكَلَامَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ». ٤٥وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هَذَا ٱلْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفًى عَنْهُمْ لِكَيْ لَا يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هَذَا ٱلْقَوْلِ.
- فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ ٱللهِ: كشف يسوع عن مجده بطريقتين مذهلتين: التجلي وإخراج شيطانٌ صعب. مع ذلك، ذَكَرَ تلاميذه أن مهمته لم تتغير؛ وٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ، وسيموت وسيموت على الصليب من أجل خطايانا.
- ضَعُوا أَنْتُمْ هَذَا ٱلْكَلَامَ فِي آذَانِكُمْ: علّقَ كلارك (Clarke): “يمكنكم توجيه انتباهكم لكلمات أخرى من حين لآخر – أما فيما يتعلق بآلامي وموتي عليكم أن تضعوا هذا الكلام في آذانكم دائماً. وعليكم أن تسمحوا لهذا الكلام أن يحتل مكاناً خاصاً في تأملاتكم وتفكيركم على الدوام.”
- وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هَذَا ٱلْقَوْلَ: على الرغم من أن يسوع ذَكَرَ التلاميذ مراراً بمعاناته وقيامته، إلا أنهم لم يتذكروا كلامه إلا بعد القيامة (لوقا ٦:٢٤-٨).
- فَلَمْ يَفْهَمُوا: يقول تراب (Trapp): “كانوا مسلوبي العقل بكل ما هو جسدي ويتعلق بالأمور الأرضية.”
سادساً: الخصائص المميزة لعظمة ملكوت الله
أ ) الآيات (٤٦-٤٨): العظمة الحقيقية تُظهر نفسها في هيئة طفل صغير، وفي اختيار المكانة الأخيرة، وليس في المفاهيم المتعارف عليها للعظمة.
٤٦وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ ٤٧فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، ٤٨وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبِلَ هَذَا ٱلْوَلَدَ بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي، لِأَنَّ ٱلْأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا».
- مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟: اِنْشغل بال التلاميذ كثيراً بمسألة العظمة. ويبدو أنهم طرحوا هذا السؤال معتقدين أن يسوع قد اختار أحدهم ليكون الأعظم، أو ربما أرادوا من يسوع أن يختار بينهم.
- كتب باركلي (Barclay): “اقترح القديس بيدا المُكرم (Venerable Bede) أن هذا الخلاف بدأ لأن يسوع اصطحب معه بطرس ويوحنا ويعقوب إلى الجبل لهذا شعر الآخرين بالغيرة.”
- نستطيع أن نتخيل كيف تجادل التلاميذ عن من كان الأعظم (كما فعلوا في لوقا ٤٦:٢٢ وأماكن أخرى)، ثم قالوا: “دعونا نترك القرار ليسوع.”
- كانوا يفكرون على الأغلب في المكانة والترقية التي سينالونها تحت حكم المسيا الملك. كتب سبيرجن (Spurgeon) تعليقاً على هذا: “تحدث عن تَعَرَّضَهُ لِلإِذْلاَلِ وَالْمَهانَةِ وهم يفكرون بالرفعة والترقية في نفس اللحظة.”
- فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ: كان بإمكان يسوع أن يجيبهم عن السؤال “من الأعظم؟” بالإشارة إلى نفسه. بدلاً من ذلك، وجه يسوع نظرهم إلى طبيعته من خلال ولد أقامه في الوسط واستخدمه كمثل.
- سمع يسوع حديثهم، ولكن الأهم من ذلك عَلِمَ فِكْرَ قَلْبِهِمْ وفهم دوافعهم.
- كان الولد نموذجاً رائعاً عن العظمة. وكأن يسوع أراد أن يقول للتلاميذ من خلال مثل الولد: “إن كنت تريد أن تكون عظيماً، إذاً تعلم من هذا الولد الصغير.” فلم يكن للأولاد أية أهمية تذكر في تلك الثقافة: فلم يشكلوا أي تهديد لأحد، ولم تكن لديهم أية مكانة اجتماعية، ولم يَكُدّوا وراء النجاح والطموح. عندما تصبح كالولد الصغير فأنت إذاً في طريقك نحو العظمة. لا ينبغي لأحد أن يعتقد أن الولد الصغير يكشف لنا كل ما هنالك عن العظمة أو عن ملكوت الله، ولكنه يُظهر بعض الأمور الهامة.
- كتب بايت (Pate): “المبدأ الذي أراد يسوع توضيحه: هناك تغيير في القيم في ملكوت الله. الأقل سيصبح الأول؛ والأصغر سيصبح عظيماً.”
- أشار يسوع إلى ولد صغير، ولم يشر إلى بطرس. فإذا كان بطرس هو البابا الأول، حسب لاهوت الكنيسة الكاثوليكية والتاريخ، فقد كان ينبغي عليه أن يُعلن أن بطرس كان الأعظم بينهم.
- مَنْ قَبِلَ هَذَا ٱلْوَلَدَ بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: قال يسوع أن الولد كان يشبهه أو إنعكاساً له، كما يعكس هو صورة عن أبيه الذي في السماوات. وبشكل غير مباشر، وعن طريق استخدام الولد كمثال، أشار يسوع إلى أنه الأعظم في ملكوت الله.
- نعلم أن هناك شخص واحد بينهم هو أعظم من الجميع في الواقع: وهو يسوع المسيح. وهذا يعني أنه كان متواضعاً جداً كالولد الصغير، ولم يشعر بالقلق إزاء مكانته أو مقامه، ولم يطالب بأن يكون محط أنظار الجميع، ولم يكن قادراً على خداع أحد، ولم يشعر الآخرين بالخوف في محضره.
- وبما أن طبيعة يسوع تشبه الأطفال البسطاء، فإن طريقة تعاملنا مع البسطاء مثل الأطفال (مَنْ قَبِلَ هَذَا ٱلْوَلَدَ بِٱسْمِي يَقْبَلُنِي) تُظهر طريقة تفكيرنا بطبيعة يسوع.
- كتب باركلي (Barclay): “هناك تقليد قديم يتحدث عن طفل ترعرع ليصبح أغناطيوس الأنطاكي (Ignatius of Antioch)، والذي أصبح فيما بعد خادماً مهماً في الكنيسة وكاتباً عظيماً وأخيراً شهيداً للمسيح.” ويضيف كلارك (Clarke) إلى أن هذا التقليد أتى من الكاتب المسيحي نيسيفوروس (Nicephorus)، ويشير إلى قتل أغناطيوس على يد تراجان (Trajan) سنة ١٠٧ م. ويضيف:”لا يمكنك الاعتماد عليه كثيراً، لكونه ضعيفاً وساذجاً.”
- نستطيع المقارنة بين ما يفعله الشيطان مع الأطفال (كما هو مذكور في لوقا ٣٩:٩)، وما يفعله يسوع معهم.
- لِأَنَّ ٱلْأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا: تحدى يسوع أولاده ليصبحوا كالأطفال “الأصغر.”فالرغبة في الحصول على الثناء والتقدير من الآخرين لا يليق بالمؤمن. يريد يسوع من أولاده أن يختاروا أن يكونوا الأصغر، وأن يفضلوا الآخرين على أنفسهم، وأن يفعلوا ذلك بإختيارهم لا عن اضطرار.
- من السهل علينا أن نحتقر الأشخاص البسطاء. فهم فاشلون، ولن ينجحوا أبداً أو يتقدموا في عالمنا التنافسي والعدائي. فنحن في الواقع نحتقر يسوع عندما نحتقر الناس المتواضعين والبسطاء.
- هذا الجانب من التواضع وتفضيل الآخرين على الذات في الإيمان المسيحي كثيراً ما كان موضع استهزاء واحتقار. مجد نيتشه وآخرون السلطة والقوة، وكانوا يعتبرون أن يسوع وأتباعه ضعفاء ويستحقون التجاهل. في النهاية، مات نيتشه وفقد مصداقيته إلى حد كبير؛ أما يسوع وأتباعه فعاشوا وغيروا حياة الكثيرين وغيروا ثقافات من خلال القوة التي حصلوا عليها لأنهم كانوا الأصغر.
ب) الآيات (٤٩-٥٠): العظمة الحقيقية ليست حصراً على أحد
٤٩فَأجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا». ٥٠فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَا تَمْنَعُوهُ، لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا».
- «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا»: لا بد وأن هذا كان مُحبطاً للتلاميذ، لأنه أظهر أن أتباع يسوع الآخرين كانوا قادرين على إخراج الشياطين عندما فشلوا هم (لوقا ٤٠:٩). فلا عجب أن يوحنا أرادهم أن يتوقفوا!
- «لَا تَمْنَعُوهُ، لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا»: علمهم يسوع بكلامه هذا أن يكونوا أكثر اِنفتاحاً. فالكثيرين يرتكبون بعض الأخطاء حين يقدمون الرسالة، ومع ذلك يقدمون يسوع بطريقة ما. دع الله يتعامل معهم. فالذي لا يعمل ضد يسوع الذي نعرفه من الكتاب المقدس فَهُوَ مَعَنَا، بطريقة أو بأخرى.
- رأى بولس العديد من الرجال يعظون عن المسيح بدوافع متعددة، حتى أن بعضهم بدوافع شريرة – ومع ذلك كان يفرح لأنهم يُنَادُونَ بِٱلْمَسِيحِ (فيلبي ١٥:١-١٨).
ج ) الآيات (٥١-٥٣): تتميز العظمة الحقيقية بالعزيمة الراسخة
٥١وَحِينَ تَمَّتِ ٱلْأَيَّامُ لِٱرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، ٥٢وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلًا، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. ٥٣فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لِأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَ أُورُشَلِيمَ.
- وَحِينَ تَمَّتِ ٱلْأَيَّامُ لِٱرْتِفَاعِهِ: هذه بداية قسم جديد في إنجيل لوقا. توجه يسوع نحو أورشليم لِٱرْتِفَاعِهِ (لِيُرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ).
- سوف يُرفع إلى مدينة أورشليم المرتفعة
- سوف يُرفع على الصليب
- سوف يُرفع إلى السماء في صعود ممجد
- ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ: قام يسوع بهذه الرحلة الأخيرة نحو أورشليم بثبات وعزيمة يتناسبان مع صعوبة المهمة التي أمامه.
- يتنبأ إشعياء ٧:٥٠ عن المسيا، الخادم العظيم: وَٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ يُعِينُنِي، لِذَلِكَ لَا أَخْجَلُ. لِذَلِكَ جَعَلْتُ وَجْهِي كَٱلصَّوَّانِ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَا أَخْزَى. هذا هو يسوع الذي ثَبَّتَ وَجْهَهُ كما كتب إشعياء – لينطلق إلى أورشليم كي يتألم ويموت.
- لا تعني جملة ثَبَّتَ وَجْهَهُ أن يسوع أصبح قاسياً أو غاضباً، بل تعني التركيز، التركيز الملائم للأوقات الصعبة.
- هناك نوعان من الشجاعة – شجاعة اللحظة: والتي لا تتطلب تفكيراً مسبقاً. والشجاعة المصممة: فترى الصعوبات قادمة ولكنها تسير بثبات نحوها. وهذا ما كان يملكه يسوع، فقد رأى الصليب في الأفق، ومع ذلك ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ.
- وعظ سبيرجن (Spurgeon) عظة رائعة من إشعياء ٧:٥٠ بعنوان: وجه المخلص كالصوان. ويشرح فيها الأشياء التي اختبرت عزيمة يسوع:
- عروض من العالم.
- إقناع الأصدقاء.
- عدم جدوى عملائه.
- سهولة تراجعه إن رغب بذلك.
- تهكم أولئك الذين سخروا منه.
- كثرة التوتر والألم على الصليب.
- وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلًا: كتب كلارك (Clarke): “وتعني حرفياً الملائكة؛ ولكن هذا يثبت أن كلمة ملاك تشير إلى الرسل من أي نوع، سواء الإلهية منها أو الإنسانية. وكان الرسل في هذه الحالة ربما يعقوب ويوحنا.”
- فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ: لم يستقبل هؤلاء السامريين يسوع لأنه ذهب إلى أورشليم. فلم تكن هناك علاقات جيدة مع اليهود، وكانوا متحيزين ضدهم. قد نرى في هذه الفئة (سواء عن معرفة أم لا) المقاومة التي قد تقف في طريق الذين ثبتوا وجههم لعمل مشيئة الله.
- كتب بايت (Pate): “أن أصل السامريين هو تزاوج يهود المملكة الشمالية من المستوطنين الأمم في العام ٧٢٢ قبل الميلاد (ملوك الثاني ٢٤:١٧). هذه الفئة المختلطة من اليهود والأمم وضعوا ترجمتهم الخاصة لأسفار موسى الخمسة (الأسفار السامرية الخمسة)، وقاموا ببناء معبدهم الخاص على جبل جيرازيم (جبل الطور) (انظر يوحنا ٢٠:٤)، الذي دمره في وقت لاحق جون هيركانوس (عام ١٢٨ قبل الميلاد)، كما واحتفلوا بعيدهم الخاص للفصح.”
- كتب باركلي (Barclay): “كان غريباً على يسوع أن يتخد هذه الطريق ليتجه نحو اورشليم؛ ولكن الأغرب هو محاولته إيجاد الترحيب من قرية سامرية.”
د ) الآيات (٥٤-٥٦): تتميز العظمة الحقيقية بالرحمة وليس بالدينونة
٥٤فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالَا: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟». ٥٥فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! ٥٦لِأَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ». فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى.
- «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟»: غضب يعقوب ويوحنا من استقبال السامريين السيء ليسوع، وعرضوا أن يدمروا المدينة بإنزال دينونة رهيبة من أجل خاطر يسوع.
- من المثير للاهتمام وربما المسلي أن يعقوب ويوحنا كانا واثقين تماماً في قدرتهما على فعل هذا، خاصة بعد فشلهم بإخراج الشيطان من الصبي مؤخراً. يُظهر رد فعلهم الغاضب لماذا أطلق عليهم يسوع اسم بُوَانَرْجِسَ أَيِ ٱبْنَيِ ٱلرَّعْدِ. (مرقس ١٧:٣).
- كتب تراب (Trapp): “من المفضل أن نتشاور أولاً مع الكلمة (الكتاب المقدس)، قبل أن نرفع اليد أو القدم للانتقام.”
- فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا: لم يكن ما قالوه مناسباً – وإن كان نيابة عن يسوع. وتصميم يسوع المذكور في الآيات السابقة لا يعني أنه كان صعباً أو غاضباً.
- عندما رأوا وجه يسوع الذي كان كالصوان اعتقدوا أنه يعني الحزم واللؤم. فهم لم يفهموا أنه يعني التركيز التام، وكان هذا التركيز مُنصبّاً على محبته غير العادية للناس. وجه الصوان هذا سينتهي عند الصليب، وهذا الصليب هو أعظم تمثيل للمحبة، وليس أعظم تمثيل للغضب.
- يقتبس باركلي (Barclay) عن ويسلي (Wesley) ويقول: “الشيء الوحيد الذي أقاومه بعنف هو ضيق الروح والغيرة، وفكرة أن عقيدتنا وحدها هي الصحيحة. هذا التعصب البائس يجعل الكثيرين يعتقدون أن الله لا يمكنه أن يعمل سوى مع من يحملون مثل هذا الفكر.”
- «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لِأَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ»: أوضح يسوع أن فشلهم هنا كان لسببين:
- أولاً: لم يعرفوا أنفسهم. ربما اعتقدوا أنهم أصبحوا كيسوع، أو أنهم يعكسون صفات الله. ولكنهم كانوا مخطئين، ولم يمثلوا الله ولا قلبه. فقد أحب الله السامريين وأرادهم أن يتوبوا ويخلصوا.
- ثانياً: لم يعرفوا يسوع ولم يعرفوا إرساليته. فقد جاء ليخلص الهالك، لا أن يحرقه بنار من السماء.
- يعني إتباع يسوع أن نكون رحماء مع الآخرين، بدلاً من القسوة عليهم. وعلينا أن نتذكر أن الله قال: «لِيَ ٱلنَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (رومية ١٩:١٢). كتب كلارك (Clarke): “على تلاميذ هذا المسيح الذي مات بدلاً عن أعدائه، ألا يفكروا أبداً في الإنتقام لأنفسهم.”
هـ) الآيات (٥٧-٥٨): تظهر العظمة الحقيقية في التضحية.
٥٧وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». ٥٨فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ».
- «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي»: بسبب المعجزات أثناء خدمة يسوع، بدى أن إتباعه كان له بريق خاص أكثر من الواقع. لا بد وأن يسوع تلقى العديد من هذه العروض العفوية.
- «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ»: لم يقل يسوع للرجل: “لا يمكنك أن تتبعني.” ولكن قال له الحقيقة، دون أن يرسم صورة خيالية عن حقيقة إتباعه. وهذا عكس التقنيات المستخدمة من قبل العديد من الإنجيليين اليوم. أراد يسوع أن يعرف الرجل الواقع.
- كتب كارسون (Carson): “لا يعني هذا الكلام أن يسوع كان مفلساً أو بلا مأوى؛ ولكن طبيعة خدمته جعلته يتحرك بإستمرار، وهذا ما سيحدث مع أتباعه أيضاً.”
- سبب إبتعاد هذا الرجل هو لأن يسوع عاش حياة بسيطة جداً بالإيمان، واضعاً ثقته في أبيه السماوي الذي يسدد كل احتياج، دون الحاجة لموارد إضافية. وهذا بالتحديد ما يجذب المؤمن الحقيقي لإتباع يسوع، ويجعله يقول: “أرى هنا إنسان يعيش في الإيمان ومكتفياً بالقليل، يبدو أنه خيار جيد أن أتبعه وأتعلم منه.”
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “لدينا دليل جيد هنا كيف يغلق الله باباً أو يفتحه. وكيف يُحذر المتحمس الأجوف وكيف يقبل التائب.”
و ) الآيات (٥٩-٦٠): تعني العظمة الحقيقية أن نعطي يسوع الأولوية في حياتنا.
٥٩وَقَالَ لِآخَرَ: «ٱتْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلًا وَأَدْفِنَ أَبِي». ٦٠فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ ٱلْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَٱذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ ٱللهِ».
- وَقَالَ لِآخَرَ: «ٱتْبَعْنِي»: عرض الرجل في لوقا ٥٧:٩-٥٨ إتباع يسوع. أما هنا فحدث العكس تماماً، فيسوع هو من طلب من هذا الرجل أن يتبعه.
- «يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلًا وَأَدْفِنَ أَبِي»: حقيقة الأمر أن هذا الرجل لم يطلب الإذن لحفر قبر لأبيه الميت. بل أراد البقاء في منزل والده ورعايته إلى أن يموت الأب. ومن الواضح أن هذه كانت فترة مفتوحة ويمكن أن تستمر لفترة طويلة جداً.
- ويُعلّق موريسون (Morrison): “لم يكن هذا الرجل ممزقاً بين ما هو صواب وما هو خطأ. بل كان ممزقاً بين الصواب والصواب. وتردد بين مطلبين متنافسين، وكلاهما خُتم بختمٍ إلهي.”
- أراد الرجل أن يتبع يسوع حقاً، ولكنه لم يكن مستعداً بعد. وكان يعلم أنه أمر جيد وأن عليه أن يفعل ذلك، ولكنه شعر أن هناك سبباً وجيهاً آخر يمنعه من إتباع يسوع الآن. إتخذ الرجل الأول قرار إتباع يسوع بسرعة شديدة جداً؛ أما هذا فقد كان بطيئاً للغاية.
- «دَعِ ٱلْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَٱذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ ٱللهِ»: ضغط يسوع على الرجل كي يتبعه الآن، وأوضح بأن الالتزامات العائلية – أو أي التزام آخر – لا يجب أن يأخذ الأولوية، فإتباع يسوع يأتي أولاً.
- لم يقلق يسوع من تثبيط عزيمة التلاميذ المحتملين، على عكس العديد من الإنجيليين اليوم، فقد كان مهتماً في النوعية أكثر من الكمية. فيسوع لا يجامل أحد. وهذا ما يعنيه أن تكون تلميذاً ليسوع، وأراد أن يعرف الناس هذا منذ البداية.
ز ) الآيات (٦١-٦٢): تعني العظمة الحقيقية أننا نتبع يسوع بكل إخلاص ودون أي تأخير.
٦١وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلَكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَوَّلًا أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي». ٦٢فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللهِ».
- «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلَكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَوَّلًا أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي»: عرض الرجل السابق إتباع يسوع بعد تأجيل طويل وغير محدد. أما هذا فعرض أن يتبع يسوع بعد تأجيل قصير نسبياً.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “أيها الشاب، عندما تفكر في ترك هذا العالم، إحذر حفلات التوديع الأخيرة! فقد كانت السبب في تدمير الكثير من المتفائلين الذين اقتنعوا بالرحيل تقريباً؛ ولكنهم عادوا إلى الصحبة القديمة للوداع الأخير، ولم نراهم ثانية.”
- «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللهِ»: أكد يسوع بهذه الكلمات الالتزام الضروري لإتباعه. فعلى من يريد إتباع يسوع أن يملك نفس عزيمة المزارع الذي يحرث الحقل، إذ يفعل ذلك بكل قوته وناظراً للأمام دائماً.
- عندما يقوم الفلاح بزراعة حقله في تلك الأيام، كان ينظر إلى الأمام ويركز نظره على شيء يبعد مسافة بسيطة عنه (كالشجرة)، وهكذا يحصل على خطوط مستقيمة. ولكن إذا بدأ الفلاح يحرث وهو ينظر خلفه، فلن يحصل أبداً على خطوط مستقيمة. وهكذا حالنا عندما نتبع يسوع، فعلينا أن نثبت أعيننا عليه دائماً ولا نحيد عنه. ويُعلّق باركلي (Barclay): “لا يستطيع الحارث أن يحرث اخدود مستقيم ناظراً إلى الوراء.”
- يقوم الفلاح بعمل آخر بالغ الاهمية: وهو التمسك الجيد، فالفلاح الذي يتراخى لا يصلح أن يكون مزارعاً ولن يقوم بعمل جيد. علّقَ موريسون (Morrison): “غالباً ما يكون الفلاح غير متعلم وهو حتماً ليس شاعراً متخفياً. ولكنه يمتلك فضيلة هامة وهي التمسك بإحكام وبهدوء.”
- عاش يسوع هذا الكلام أكثر من أي شخص آخر؛ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ (لوقا ٥١:٩).