إنجيل لوقا – الإصحاح ٢٣
محاكمة يسوع وموته ودفنه
أولاً. أمام بيلاطس وهيرودس
أ ) الآيات (١-٧): الوالِي بِيلاطُسُ يَستَجوِبُ يَسُوع
١فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلَاطُسَ، ٢وَٱبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ ٱلْأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». ٣فَسَأَلَهُ بِيلَاطُسُ قَائِلًا: «أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟». فَأَجَابَهُ وَقَالَ: «أَنْتَ تَقُولُ». ٤فَقَالَ بِيلَاطُسُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْجُمُوعِ: «إِنِّي لَا أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا ٱلْإِنْسَانِ». ٥فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئًا مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى هُنَا». ٦فَلَمَّا سَمِعَ بِيلَاطُسُ ذِكْرَ ٱلْجَلِيلِ، سَأَلَ: «هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» ٧وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْكَ ٱلْأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ.
- وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلَاطُسَ: لم تعطي الحكومة الرومانية السلطان للقادة اليهود على تنفيذ حكم الإعدام. ولهذا السبب بعينه أحضر القادة اليهود يسوع أمام بيلاطس الحاكم الروماني لمنطقة اليهودية.
- توقع القادة اليهود نتيجة إيجابية عند ذهابهم إلى بيلاطس. والتاريخ يظهر أنه كان رجلاً قاسياً وغير رحيم وغير حساس لمشاعر الآخرين. ولهذا اعتقدوا بأن بِيلَاطُسَ سيُنفذ حُكم الإعدام على يسوع بكل تأكيد.
- كتب باركلي (Barclay): “وصف فيلو، الباحث اليهودي القديم من الإسكندرية، بيلاطس كالتالي: كان فاسداً ومتعجرفاً ويسلب الناس ويهينهم باستمرار، كما وكان قاسياً ويأمر بإعدام الناس دون أي محاكمة عادلة أو حتى إدانة. وحشيته لا تنتهي.”
- إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ ٱلْأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ: وفي ذات الوقت، عرف القادة اليهود أن بيلاطس لن يهتم بتهمة التجديف أمام المجلس الديني. ولهذا قدموا لبيلاطس ثلاثة اتهامات كاذبة:
- كان يسوع ثورياً (يُفْسِدُ ٱلْأُمَّةَ).
- ويحرض الناس على عدم دفع ضرائبهم (وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ).
- ويدعى أنه ملك ويريد مقاومة قيصر (إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ).
- فَسَأَلَهُ بِيلَاطُسُ قَائِلًا: «أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟»: لا يسعنا إلا أن نتساءل ما فكر به بيلاطس عندما رأى يسوع لأول مرة، عندما رأى هذا الرجل المضروب والمغطى بالدماء أمامه. لم يبدو يسوع كملك عندما وقف أمام بيلاطس، ولهذا سأل الحاكم الروماني بسخرية: أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟
- “من الواضح أن بيلاطس لم ينزعج من التهمة الموجهة ضد يسوع. لماذا؟ لأنه لم يرى في يسوع، للوهلة الأولى، أي مظهر للعظمة يجعله يقلق أو حتى يبذل أي جهد. نجد في متى ١١:٢٧ تأكيداً على السخرية عندما سأل بيلاطس: أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟” بروس (Bruce)
- أَنْتَ تَقُولُ: لم يعطِ يسوع إجابة عظيمة ولم يقدم معجزة فورية لإنقاذ حياته. بل قدم لبيلاطس نفس الجواب البسيط الذي قدمه لرئيس الكهنة (متى ٦٤:٢٦).
- إِنِّي لَا أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا ٱلْإِنْسَانِ: كان هذا حُكم بيلاطس. على الرغم من أن بيلاطس كان قاسياً وبلا رحمة ولكنه لم يكن غبياً. كان بإمكانه أن يرى دوافع القادة اليهود ولم تكن لديه أية مشكلة في أن يقول: إِنِّي لَا أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا ٱلْإِنْسَانِ.
- فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ (أَصَرُّوا): ورداً على ذلك، أصر القادة اليهود أكثر وأكدوا اتهامهم بأن يسوع هو زعيم التمرد ( (إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ). وكانت هذه جريمة تقلق أي حاكم روماني.
- وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ: بقيَّ بيلاطس متحيراً وغير مستعد للدفاع عن حُكمه بأن يسوع لم يكن مذنب. فأرسل يسوع إلى هيرودس، لأنه كان من الجليل، وهي المنطقة التي كان يحكمها هيرودس.
- كتب كلارك (Clarke): “تقع كلٍ من مدينة الناصرة التي عاش بها المسيح إلى أن أصبح في الثلاثين من عمره ومدينة كفرناحوم التي عاش بها في السنوات الأخيرة من حياته في القسم الجنوبي لمدينة الجليل، وهي المنطقة التي كان يحكمها هيرودس انتيباس كرئيس ربع. ربما كان بيلاطس سعيداً بهذه الفرصة ليقدم الولاء لهيرودس، الذي من المحتمل أن يكون قد أزعجه سابقاً، ويحاول الآن في أن يكون له صديقاً.”
- كما وعلّقَ بايت (Pate): “كانت كلمة “أَرْسَلَهُ” تعني إرسال سجين من سلطة إلى أخرى (أنظر أعمال الرسل ٢١:٢٥).”
ب) الآيات (٨-١٢): المحاكمة أمام هيرودس أنتيباس، ابن هيرودس الكبير
٨وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدًّا، لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. ٩وَسَأَلَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. ١٠وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَادٍ، ١١فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاسًا لَامِعًا، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلَاطُسَ. ١٢فَصَارَ بِيلَاطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا.
- وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدًّا، لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ: سمع هيرودس الكثير عن يسوع بالتأكيد، ولكن اهتمامه الوحيد كان الرغبة في التسلية والترفيه. ابن هيرودس الكبير لم يأخذ يسوع على محمل الجد.
- علّقَ سبيرجن (Spurgeon): “أشار بعض الكُتّاب القُدامى أنه كما كان هناك أربعة أناجيل تُكرم الرب، كان هناك أربعة قضاة لإهانته. حنان وقيافا وبيلاطس وهيرودس.”
- وَتَرَجَّى أَنْ يَرَى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ: أعطى هيرودس كل اهتمامه ليسوع، وفَرِحَ جِدًّا وأراد أن يسمع من يسوع (حسب شروط هيرودس الخاصة طبعاً) وأراد أن يرى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. ومع كل هذا، لم يكن اهتمام هيرودس في يسوع صادقاً. كان هدفه إدانته وليس مدحه.
- عبر هيرودس في وقت ما عن اهتمامه بالأمور الدينية. فسمع كلمة الله من يوحنا المعمدان (مرقس ٢٠:٦) ولكنه استمر في الخطية وقسى قلبه ضد الله وكلمته، وهكذا أصبح ضمير هيرودس ميت.
- أراد هيرودس عند هذه المرحلة أن يسمع من يسوع ما يريد أن يسمع فقط (وَسَأَلَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ). أراد أن يثبت يسوع نفسه، وطالب بمعجزة. وهكذا حال الكثيرين اليوم، يطلبون معجزة من يسوع كدليل على إثبات نفسه. وربما سيفكر فيهم يسوع كما فكر في هيرودس.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “لم يملك هيرودس أية مشاعر تجاه يسوع ولكنه كان يتوق لشيء جديد، ويملك رغبة شديدة للتسلية ولرؤية شيء يفاجئه. نرى هنا أمير ماكر يتكهن ما عسى أن تكون المعجزة. معتبراً أن العرض الإلهي ما هو إلا حيلة أو خدعة من ساحر.”
- وَسَأَلَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ: حَكَمَّ هيرودس منطقة الجليل، حيث خدم يسوع معظم وقته. وكانت لديه فرص لا حصر لها لسماع يسوع أكثر من مرة، فلم يتكلم يسوع في اجتماعات سرية تُعقد في أماكن خفية. كل هذا جعل يسوع يعرف تماماً حقيقة هيرودس: فهو لم يكن مخلصاً في طلبه للحق.
- ربما فكر هيرودس بهذه الطريقة: “دعونا نسمع جواباً من المعلم العظيم! دعونا نرى معجزة من رجل المعجزات!” وربما فكر يسوع في الرد عليه هكذا: “ليس لدي ما أقدمه لك يا من قتلت قريبي يوحنا المعمدان.” كتب سبيرجن (Spurgeon): “الذي تجاوب مع المتسولين العُمي عندما طلبوا الرحمة، نراه يصمت عند طلب الأمير لمعجزة الذي كان يسعى لإرضاء فضوله الساخر فقط.”
- فهم يسوع أن هيرودس كان رجلاً بائساً وضحلاً وبالتالي لم يقدم له شيئاً. نفس الرجل الذي قتل يوحنا المعمدان اعتبر يسوع الآن صانع معجزات ويريد استخدامه لتسليته الخاصة. ورغم أنهم كانوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَادٍ، إلا أن يسوع لم يُجيب هيرودس بشيء.
- فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ: أظهر احتقار واستهزاء هيرودس رأيه الحقيقي في يسوع. عندما رفض يسوع تسليته، سلى هيرودس نفسه عن طريق الإساءة إليه.
- علّقَ موريس (Morris): “بينت سخرية هيرودس أنه لم يأخذ التهمة على محمل الجد. وهذا المخيف بهذه الحادثة. فردة فعل هيرودس، الذي وقف أمامه ابن الله، كانت الِاستهزاء والمزاح فقط.”
- فَصَارَ بِيلَاطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ: ما يميز ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، هو أن هيرودس وبيلاطس صَارَ صَدِيقَيْنِ. لم يجدا أرضٍ مشتركة من قبل، أما الآن فاشتركا في مقاومة يسوع.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “أتمنى أن يكون هناك مؤمنين حقيقيين متخاصمين، يعتبرون أنه من العار أن يصبح هيرودس وبيلاطس أصدقاء، بينما يبقوا هم على خلاف أمام السيد. فالأعداء، هيرودس وبيلاطس، أصبحوا أصدقاء بسبب السيد، أفليس بالأولى على أتباع يسوع أن يصيروا أصدقاء ويتركوا نزاعاتهم؟”
- نرى في لوقا الإصحاح ٢٣ ثلاثة مجموعات مختلفة تكره وترفض يسوع.
- القادة اليهود: كانوا يكرهون يسوع بدافع الخوف والحسد.
- بيلاطس: عَرَفَ من هو يسوع، ولكنه لم يكن مستعداً للتجاوب معه خوفاً على فقدان شعبيته.
- هيرودس: لم يأخذ يسوع على محمل الجد. فقد أنصب اهتمامه الأول على التسلية والترفيه.
ج ) الآيات (١٣-١٧): المحاكمة الثانية أمام بيلاطس
١٣فَدَعَا بِيلَاطُسُ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْعُظَمَاءَ وَٱلشَّعْبَ، ١٤وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هَذَا ٱلْإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا ٱلْإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. ١٥وَلَا هِيرُودُسُ أَيْضًا، لِأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لَا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. ١٦فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». ١٧وَكَانَ مُضْطَرًّا أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِدًا…
- وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا ٱلْإِنْسَانِ عِلَّةً … وَهَا لَا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ: أعلن بيلاطس بوضوح وببلاغة براءة يسوع من أي جريمة. وكان هذا نتيجة لفحصه الدقيق ليسوع وللأدلة المقدمة ضده.
- فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ: لم يقترح بيلاطس معاقبة يسوع عقاباً خفيفاً. فقد كان من المعروف عند الرومان أن التأديب يعني الجلد الوحشي. وتأتي الضربات من سيور جلدية ينتهي كل منها بكرتين من العظم أو الرصاص. فكان الجلد يُسلخ عن الظهر جراء تلك الضربات، ولم يكن من غير المألوف أن يموت المجرم جراء هذه الجلدات قبل الصلب.
- لم يكن هذا عدلاً. فالرجل البريء لا يستحق حتى العقاب الخفيف، ناهيك عن العقاب القاسي التي اقترحته الكلمات: “فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ.”
- وَكَانَ مُضْطَرًّا أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِدًا: اِعتقد بيلاطس أنه سيتمكن من مساعدة يسوع على الهروب من الموت. وكان يخطط للإفراج عن شخص كما اعتاد أن يفعل كل عيد فصح.
- ربما فكر: “إذا ادّعى هذا الرجل أنه ملك وكان معادياً ولو بسيطاً لروما عندها سيحبه الحشد. وهؤلاء القادة اليهود لا يريدون إطلاق سراحه، أما الحشد فحتماً سيتعاطف معه.”
د ) الآيات (١٨-٢٥): اختيار الحشد
١٨فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: «خُذْ هَذَا! وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!». ١٩وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لِأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ. ٢٠فَنَادَاهُمْ أَيْضًا بِيلَاطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ، ٢١فَصَرَخُوا قَائِلِينَ: «ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!». ٢٢فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هَذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». ٢٣فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. ٢٤فَحَكَمَ بِيلَاطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. ٢٥فَأَطْلَقَ لَهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لِأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ.
- خُذْ هَذَا! وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!: كان بيلاطس مقتنعاً بأن الحشد سيطالب بإطلاق سراح يسوع حتماً، ولكنهم فعلوا العكس تماماً، فالحشد أدان يسوع. وبسبب هذا، لم يمتلك بيلاطس الشجاعة لمعارضة كل من القادة اليهود والحشد.
- فَصَرَخُوا قَائِلِينَ «ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!»: يا له من مشهد غريب للغاية: حاكم روماني قاسي لا يرحم يحاول المحافظة على حياة معلم يهودي يعمل معجزات ضد رغبة القادة اليهود والحشد.
- كتب موريس (Morris): “تعطي صرخاتهم الصاخبة انطباعاً بأن الشغب بدأ في التزايد. وبدَا واضحاً لبيلاطس أن الوضع سيزداد سوءً قريباً.”
- قد نعتقد أن الكثيرين في هذا الحشد كان يصرخ “أوصنا” قبل بضعة أيام قليلة فقط. ولكن من المحتمل أن معظم الذين صرخوا “ٱصْلِبْهُ!”كانوا من سكان أورشليم المحليين، وليس من الزوار القادمين من الجليل والمدن الأخرى الذين رحبوا بيسوع يوم دخوله أورشليم.
- فَأَطْلَقَ لَهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لِأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ: رفض الحشد يسوع واحتضن بَارَابَاسَ. يعني اسم بَارَابَاسَ “ابن الأب” أو “ابن السيد أو المعلم،” وكان إرهابياً وقاتلاً.
- أفضل شخص يمكنه أن يقول: “مات المسيح عني” هو باراباس. فكان يعرف تماماً ما يعنيه أن يموت المسيح بدلاً عنه؛ البار بدل الجاني.
- وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ: هذا ما توصل إليه بيلاطس وكان قراره صائباً جزئياً. ولكن بالمعنى الأوسع، أُسِلَمَ يسوع لمشيئة أبيه السماوي وللقصد الأبدي – المُعد قبل تأسيس العالم – وحتماً سيتحقق.
ثانياً. موت يسوع ودفنه
أ ) الآية (٢٦): سِمْعَان يَحْمِل صَّلِيبَ يَسُوع
٢٦وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلًا قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ ٱلْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ.
- وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ: كانت حالة يسوع البدنية ضعيفة حتى قبل جلده. ومن المعقول أن نفترض أن يسوع كان في حالة بدنية جيدة قبل ليلة اعتقاله.
- “الخدمة التي قام بها يسوع (السفر سيراً على الأقدام في جميع أنحاء فلسطين) من شأنها أن تمنع أي مرض أو ضعفٍ جسدي بشكل عام.” (الدكتور ويليام إدواردز في مقالة بعنوان “الموت الجسدي ليسوع المسيح” من مجلة الجمعية الطبية الأمريكية، ٣/٢١/٨٦).
- ولكن خلال ١٢ ساعة (بين الساعة ٩ مساء يوم الخميس و٩ صباح يوم الجمعة) عانى يسوع من أمورٍ كثيرة سواء الجسدية منها أو النفسية.
- عانى يسوع من ضغط عاطفي شديد وهو في بستان جثسيماني، وكان هذا واضحاً من عرقه الذي صار كَقَطَرَاتِ دَمٍ (لوقا ٤٤:٢٢). كتب إدواردز (Edwards): “على الرغم من أن هذه كانت ظاهرة نادرة للغاية (التعرق الدموي)، ولكنها تحدث لمن يعاني من ضغط عاطفي شديد أو اضطراب في الدم يؤدي إلى النزيف. ونتيجة للنزيف في الغدد العرقية، يصبح الجلد هشاً ورقيقاً.”
- عانى يسوع من الضغط العاطفي لتخلي تلاميذه عنه.
- عانى يسوع من الضرب الشديد في بيت رئيس الكهنة.
- عانى يسوع من عدم النوم لليلة كاملة.
- عانى يسوع وأجبر على السير أكثر من ٤ كيلومتر.
- كل هذه العوامل جعلت يسوع ضعيفاً للغاية.
- قبل أن يحمل الصليب، جُلد يسوع كما وعد بيلاطس في وقت سابق (أَنَا أُؤَدِّبُهُ، لوقا ١٦:٢٣). علّقَ ادواردز (Edwards): “كان الجلد هو التمهيد الأولي قبل كل عمليات الإعدام الرومانية، ولم يعفى منه سوى النساء وأعضاء مجلس الشيوخ أو الجنود الرومان (باستثناء الفارين من الجندية).”
- كان الهدف من الجلد هو إضعاف الضحية إلى أن ينهار وثم يموت. كتب إدواردز (Edwards): “عندما يضرب الجند الرومان الضحية مراراً وتكراراً وبكل عزيمة، تمزق السيور الجلد وما تحته من أنسجة نتيجة لتكرار الضرب، وتتمزق العضلات أيضاً وتأخذ شكل شرائح مهترئة. ومن شدة الألم والنزيف يدخل الجسم في حالة صدمة. وكانت كمية النزيف تحدد عادة المدة التي سيعيشها الضحية قبل الصلب.”
- وأضاف إدواردز (Edwards): “دخل يسوع في حالة ما قبل الصدمة بسبب الألم الشديد والنزيف. كما وأصبحت بشرته هشة بسبب التعرق الدموي. فالإساءات البدنية والعقلية التي تعرض لها من اليهود والرومان، فضلاً عن نقص الغذاء والماء والنوم، ساهمت كلها في إضعاف جسده عموماً. لذلك، حتى قبل الصلب الفعلي، كانت حالة يسوع خطيرة وربما حرجة.”
- وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ: جردوا يسوع من ملابسه قبل أن يأخذوه بعيداً. وكان هذا مؤلم جداً لأنه فتح الجروح التي بدأت تلتئم.
- كتب إدواردز (Edwards): “عندما مزق الجنود الرداء عن ظهر يسوع، فتحوا الجروح الناتجة عن الجَلد مرة أخرى.”
- وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ: عندما مضوا بيسوع إلى الصلب، كان – مثل كل ضحايا الصلب – مضطراً لحمل الخشبة التي كان سيُعلق عليها.
- وكان وزن الصليب عادة ١٣٦ كيلو. ولكن كانت الضحية لا تحمل سوى العارضة التي تزن ما بين ٣٤ و٥٧ كيلو. وكان يحملها وهو عاري تقريباً، ويداه مربوطتان بالخشبة.
- عادة ما كان العمود الأفقي للصليب يثبت في مكان مرئي خارج أسوار المدينة وبجانب طريق رئيسي. ومن المرجح أنه في كثير من الحالات، مر يسوع أمام هذه الأعمدة التي كان سيصلب على أحدها في وقت لاحق.
- أَمْسَكُوا … رَجُلًا: كانت حالة يسوع الجسدية تتطلب أن يحدث هذا. كان اسم الرجل سِمْعَانَ،وهو من قَيْرَوَانِ التي تقع شمال أفريقيا (ليبيا الحديثة).
- مما لا شك فيه أن سمعان كان يزور أورشليم وقت عيد الفصح من بلده التي كانت تبعد حوالي ٨٠٠ ميل أو ١٣٠٠ كيلومتراً. وربما قد سمع القليل عن يسوع أو ربما لم يسمع عنه قط، ولكن بكل التأكيد لم يرغب بأن تكون له أي علاقة مع رجل حكم عليه بالموت كمجرم.
- على أية حال، كان الرومان هم صناع القرار، ولم يكن لسمعان أي اختيار – أَمْسَكُوا به، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ. ربما اختاروه لأنه كان واضحاً أنه غريب وسط الجموع.
- وبشكل رائع، نستطيع أن نقول أن سمعان اِختبر حقاً ما يعنيه حمل الصليب واِتباع يسوع. وهناك أدلة تشير إلى أن أبناءه أصبحوا من القادة في الكنيسة الأولى (مرقس ٢١:١٥ ورومية ١٣:١٦).
ب) الآيات (٢٧-٣١): يسوع يخاطب بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ
٢٧وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَٱلنِّسَاءِ ٱللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. ٢٨فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لَا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلَادِكُنَّ، ٢٩لِأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ! ٣٠حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلْآكَامِ: غَطِّينَا! ٣١لِأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟».
- وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ: كان شائعاً أن يتبع جُمْهُورٌ كَثِيرٌ المجرم في طريقه إلى الصلب. فقد كان المقصود من هذه العملية أن تكون حدثاً عاماً.
- وفقاً لعادات الصلب، كان جندي روماني يسير وبيده لافتة تحمل اسم الشخص وجريمته، وينادي باسم المجرم وبالجريمة التي أرتكبها طيلة الطريق نحو الصلب. وعادة ما كانوا يتجنبون الطريق المختصر حتى يتسنى لأكبر عدد من الناس رؤية كيف تتعامل الإمبراطورية الرومانية مع أعدائها.
- يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لَا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلَادِكُنَّ: ولسبب وجيه، كانت بعض النسوة يَلْطِمْنَ وَيَنُحْنَ عندما رَأيْن يسوع يعامل بهذه الطريقة. فقال لهم يسوع: “لا تبكينَ عليَّ، بل ابكينَ على الذين رفضوني.”
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “أما بالنسبة للكلمات نفسها، فهي جديرة بالملاحظة بشكل خاص، لأنها آخر كلمات نطق بها المخلص قبل موته. كل ما قاله بعد ذلك كان عبارة عن صلوات.”
- طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ: علّقَ بايت (Pate): “عادة ما كانت العادات اليهودية تفعل العكس تماماً؛ تُشيد بالأمومة وتشجب العاقر. ولكن بسبب صعوبة الأيام زمن سقوط أورشليم ستفضل الأمهات أن لا يكون لديهم أطفال بدلاً من رؤيتهم يمرون بالمحنة التي تنتظرها المدينة.”
- لِأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟: الفكرة هنا: “إذا كان هذا هو مصير البريء (مُشيراً إلى نفسه)، فماذا سيحدث للمذنب؟”
- قال يسوع هذه الكلمات مشيراً لمعناها القريب، عالماً بالمصير القادم على أورشليم. كتب سبيرجن (Spurgeon): ” اِستَطاعَ يسوع بعيونه النبوية والمليئة بالهدوء أن يرى مستقبل أورشليم المحاصرة والأسيرة. وكان يتحدث وكأنه يسمع صرخات الذعر الرهيبة حين دخل الرومان إلى المدينة وقتلوا الشباب والشيوخ والنساء والأطفال.”
- كما ونطق بهذه الكلمات مشيراً لمعناها الأبعد، عالماً بالمصير القادم على الذين يرفضونه. وأضاف سبيرجن: “لا تبكوا على موت المسيح، بقدر بكائكم على خطاياكم التي جعلت موته ضرورياً للمغفرة. فلا تحتاج أن تبكي على الصلب، بل على تعدياتك وخطاياك التي سمرت الفادي على خشبة ملعونة. فالبكاء على مخلص يموت هو كالرثاء على العلاج، ولكن الحكمة تقتضي أن تنوح على المرض.”
ج ) الآيات (٣٢-٣٣): صلب يسوع
٣٢وَجَاءُوا أَيْضًا بِٱثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلَا مَعَهُ.٣٣وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَٱلْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ.
- وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ»: يوجد مكان قريب خارج أسوار مدينة أورشليم يُصلب فيه المجرمون يدعى «جُمْجُمَةَ» أو الجلجثة حيث مات يسوع من أجل خطايانا وتمم خلاصنا.
- كتب بايت (Pate): “انتقد اللاهوتي فيتزميير في تعليقه على الآية ٣٢ قائلاً أن رواية طريق الجلجثة لا تتحدث عن المحطات الأربعة عشر للصلب، مثل سقطات يسوع المتكررة، ولقائه مع والدته أو مع فيرونيكا (الصورة طبق الأصل). هذه التقاليد، وإن كانت عاطفية بالتأكيد، ليس لها أي أساس تاريخي.”
- صَلَبُوهُ هُنَاكَ: في الأيام التي كُتب فيها العهد الجديد، لم تكن ممارسة الصلب تحتاج لأي تفسير. وفي الأجيال العديدة اللاحقة، لم يُقدر معظم الناس ما يختبره الشخص في محنة الصلب.
- كتب إدواردز (Edwards): “على الرغم من أن الرومان لم يخترعوا الصلب، إلا أنهم أتقنوه بشكل جيد واستخدموه كشكل من أشكال التعذيب ولتنفيذ عقوبة الإعدام، وهو مُصمم ليؤدي إلى موت مرعب مؤلم بطيء.”
- الجَلد مع الصلب جعل الموت على الصليب قاسٍ للغاية. فيتمزق الظهر أولاً من الجَلد، وعند نزع الرداء تفتح الجروح مرة أخرى لأن الرداء يكون قد التصق بتجلطات الدم التي تكونت مسبباً آلاماً لا تطاق. وتتفتح الجروح مرة أخرى عند القائه على الصليب ليثبتوا يديه ورجليه، إضافة إلى تلوث الجروح بالأوساخ. وعندما يُعلق على الصليب يتسبب كل نفس بمزيد من الألم لأن الجروح التي على الظهر تحتك بالخشبة القاسية.
- وعند تثبيت المسامير على الصليب يمر المسمار بين عظم الرسخ، وقد يخترق العصب الأوسط مسبباً ألم ناري شديد في الذراعين وقد ينتج عنه شلل جزئي لعضلات اليد فتأخذ اليد شكل المخلب.
- بالإضافة إلى الألم الشديد، كان أهم ما يعانيه المصلوب هو التنفس بشكل طبيعي. فوزن الجسم، يسحب الذراعين والكتفين إلى أسفل، مما يجعل عضلات التنفس في حالة شهيق ثابتة وبذلك تعيق الزفير. ونقص الأكسجين يؤدي إلى تقلصات شديدة في العضلات، مما يعيق التنفس. وللحصول على نفسٍ جيد، كان على الضحية أن يدفع ضد القدمين ويثني المرفقين ويسحب الكتفين. وضع كل ثقل الجسم على القدمين ينتج ألماً شديداً، وثني المرفقين يلوي اليدين المعلقة على المسامير. كما أن رفع الجسم من أجل التنفس يتسبب بألم شديد لأن الظهر الممزق يحتك بخشبة الصليب الخام. وكل جهد للحصول على التنفس الطبيعي كان مؤلماً ومرهقاً ويؤدي إلى الموت السريع.
- كتب إدواردز (Edwards): “لم يكن من غير المألوف أن تدخل الحشرات في الجروح المفتوحة أو العيون والأذن والأنف، وأن تتغذى الطيور الجارحة على هذه المواضع أيضاً. كما كان من الطبيعي أيضاً أن تترك الجثة مُعلقة على الصليب لتلتهمها الحيوانات المفترسة.”
- مسببات الموت على الصليب كثيرة، منها: صدمة دموية نتيجة النزيف المستمر أو التعب من محاولة التنفس لفترة أطول أو الجفاف أو النوبات القلبية نتيجة الإجهاد أو هبوط القلب الاحتقاني مما يؤدي إلى تمزق عضلات القلب. وبعد كل هذا إن لم تمت الضحية بالسرعة الكافية، تكسر الساقين، وحينها لن تتمكن الضحية من التنفس بسبب وضعية الجسم على الصليب.
- ما مدى سوء الصلب؟ تأتي الكلمة excruciating (الألم الشديد) في اللغة الإنجليزية من الكلمة الرومانية “نتيجة الصليب (out of the cross).” علّقَ كلارك (Clarke): “تأمل كم هي بشاعة الخطية في نظر الله بأن تتطلب مثل هذه التضحية!”
- صَلَبُوهُ هُنَاكَ: كان أهم ما في معاناة يسوع أنه لم يكن ضحية للظروف بأي حال من الأحوال، بل كان يملك السلطان الكامل. قال يسوع عن حياته في ١٨:١٠ لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. من الرهيب أن تجبر على تحمل هذا العذاب، ولكن من الرائع أن تختاره بحرية بدافع المحبة.
- كان الصليب من أهم أعماله على الأرض، وهذا ينعكس بوضوح حتى في التاريخ القديم. فالإشارات المستمرة عن يسوع في الأدب القديم، خارج الكتاب المقدس، تسلط الضوء على وفاته على الصليب.
- رسالة كتبها مارا بار سيرابيون لابنه (حوالي ٧٣م)
- يوسيفوس المؤرخ اليهودي المعروف (حوالي ٩٠م)
- تاسيتُس المؤرخ الروماني (حوالي ١١٠-١٢٠م)
- التلمود البابلي (حوالي ٢٠٠ م)
- كان الصليب من أهم أعماله على الأرض، وهذا ينعكس بوضوح حتى في التاريخ القديم. فالإشارات المستمرة عن يسوع في الأدب القديم، خارج الكتاب المقدس، تسلط الضوء على وفاته على الصليب.
- مَعَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَٱلْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ: في موته، أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ – وصُلب بين مجرمين.
د ) الآيات (٣٤-٣٨): يسوع على الصليب
٣٤فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا. ٣٥وَكَانَ ٱلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَٱلرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ ٱلْمَسِيحَ مُخْتَارَ ٱللهِ!». ٣٦وَٱلْجُنْدُ أَيْضًا ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلًّا، ٣٧قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ!». ٣٨وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هَذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ».
- يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ: محبة يسوع لَا تَسْقُطُ أَبَدًا. فعندما كان على الصليب، صلى من أجل الجنود الذين جلدوه، طالباً من الله الآب أن لا يحسب هذه الخطية ضدهم.
- ربما صلى يسوع بهذه الطريقة من أجل أعدائه طوال خدمته. وقد سُمِعتْ صلاته وسُجلت رغم أنه لم يكن في مكانٍ هادئٍ للصلاة.
- طبق يسوع وصيته: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ (متى ٤٤:٥) من خلال هذه الصلاة.
- لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ: ميز يسوع في صلاته عمى أعدائه. ولكن هذا لا يعفي ذنب من علقه على الصليب. في صلاة يسوع وضع أعدائه في أفضل مكانة ممكنة أمام الآب. وعلينا نحن أيضاً أن نصلي بنفس الطريقة ونتبع نفس النمط.
- كتب كلارك (Clarke): “الجهل لا يبرر أي جريمة، ولكنه على الأقل يقلل من وحشيتها. ومع ذلك، كان يعرف هؤلاء جيداً أنهم يصلبون رجلاً بريئاً؛ ولكنهم لم يعرفوا أنه بهذا العمل كانوا يحملون أنفسهم وبلادهم أشد دينونة. في صلاته: يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، تمم النبوة القائلة: وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ المذكورة في إشعياء ١٢:٥٣.”
- وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا: لم يحتفظ يسوع على الصليب بأي ممتلكات مادية. حتى الملابس التي كانت على ظهره أخذوها واقتسموها واقترعوا عليها. وهذا يدل على أن يسوع نزل إلى أدنى مستوى ليحقق خلاصنا. ترك كل شيء – حتى ملابسه – وأصبح فقيراً تماماً لأجلنا كي نصبح أغنياء تماماً فيه.
- تقول الآية في كورنثوس الثانية ٩:٨ شيئاً شبيهاً: فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ.
- وَٱلرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ … وَٱلْجُنْدُ أَيْضًا ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ: لم يُكّرم يسوع أو ينال التشجيع وهو مُعلق على الصليب. بل سخروا منه واستهزأوا به. وقال أعدائه الدينيين: “خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ ٱلْمَسِيحَ مُخْتَارَ ٱللهِ.” ولكن لأنه لم يخلص نفسه، أصبح قادراً على خلاص الآخرين. ويمكننا القول بحق أن المحبة هي من ثبتت يسوع على الصليب وليس المسامير.
- وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هَذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ»: نقرأ في يوحنا ٢١:١٩ بأن القادة الدينيين اعترضوا على هذا اللقب. ورأوا أنه غير صحيح، لأنهم لم يؤمنوا بأن يسوع كان حقاً ٱلْيَهُودِ. كما اعتقدوا أنه أمر مهين، لأنه يُظهر أن لدى الحكومة الرومانية القدرة على إذلال وتعذيب حتى مَلِكُ ٱلْيَهُودِ. مع ذلك، لم يغير بيلاطس شيئاً، وعندما طُلِبَ منه أن ينزل النقش، أجاب: مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ (يوحنا ٢٢:١٩).
- كتب فرانس (France): “كانت التهمة المكتوبة (أو تيتولوس titulus) تُحمل عادة أمام المجرم وهو في طريقه إلى الإعدام، أو تُعلق حول عنقه، وثم تثبت على الصليب، مما يعزز الأثر الرادع للعقوبة.”
- كتب تراب (Trapp): “أعلن هذا النقش الذي وضع على صليب مخلصنا أنه الملك على كل ديانة: إشارة لليهود وللحكمة اليُونَانِيَّةٍ وللقوة الَرُومَانِيَّةٍ.”
هـ) الآيات (٣٩-٤٣): اللص على الصليب يجد الخلاص
٣٩وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!». ٤٠فَأجَابَ ٱلْآخَرُ وَٱنْتَهَرَهُ قَائِلًا: «أَوَلَا أَنْتَ تَخَافُ ٱللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ ٤١أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لِأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ٤٢ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». ٤٣فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ».
- وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ: شارك أحد المجرمين المصلوبين أيضاً بالسخرية والازدراء على يسوع. وقال إِنْ كان يسوع حقاً ٱلْمَسِيا، فَعليه أن يخَلِّصْ المصلوبين معه (فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا).
- فَأجَابَ ٱلْآخَرُ وَٱنْتَهَرَهُ: يشير متى (متى ٤٤:٢٧) ومرقس (مرقس ٣٢:١٥) أن كلاهما سخر من يسوع. وعلى الرغم من أن كليهما سخر من يسوع في البداية، أي في الساعات الأولى التي قضوها على الصليب، إلا أن أحد المجرمين ابتدأ يرى الأمور بشكل مختلف، ووضع في النهاية ثقته في يسوع.
- احترم المجرم الثاني الله (أَوَلَا أَنْتَ تَخَافُ ٱللهَ).
- عَلِمَّ خطيته (تَحْتَ هَذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ … أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لِأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا).
- عَرفَّ يسوع (وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ).
- دعا يسوع (قَالَ لِيَسُوعَ).
- دعا يسوع رباً (قَالَ لِيَسُوعَ … يَا رَبُّ).
- آمن بما قاله يسوع عن نفسه (ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ).
- آمن بوعد الحياة الأبدية الذي قدمه يسوع.
- “هذه النقطة جديرة بالملاحظة، إذ يبدو أن هذا الرجل هو أول من آمن في شفاعة المسيح.” كلارك (Clarke)
- ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ: تجاوب يسوع مع ثقة المجرم الثاني، مؤكداً له أن حياته بعد الموت ستكون في محضره وأنه سيكون في ٱلْفِرْدَوْسِ، وليس في الجحيم.
- نرى هنا أمر رائع: إذ يمكننا القول أن الحديث على سرير الموت هذا كان المثل الكتابي الوحيد لخلاص شخص في اللحظة الأخيرة. فالكتاب المقدس لم يذكر سوى مرة واحدة فقط هذا النوع من المحادثة، وذلك لكي لا يفشل أحد. ولكن السبب في ذكر هذا المثل مرة واحدة فقط، كي لا يفترض أحد أن هذا ربما سيتكرر ثانية ويترك أمر خلاصه لآخر وقت. فعلينا ألا نتوانى في الرجوع إلى يسوع.
- والأمر المهم هنا أن هذا اللص، الذي وضع ثقته بيسوع في اللحظة الأخيرة، سيذهب إلى نفس السماء التي سيذهب إليها أي مؤمن آخر. وقد لا يبدو هذا عدلاً، ولكن في الإطار العام يعطي كل المجد لنعمة الله، وليس لأي استحقاق بشري فيما يتعلّقَ بموضوع الخلاص بالذات. ففي السماء، سنُغمر جميعنا بكل فرحٍ ومكافأة، ولكن درجة أمانتنا على الأرض ستُحدد حجم الفرح والمكافأة، مع أننا جميعنا سنحصل على الملء الكامل.
- فِي ٱلْفِرْدَوْسِ: علّقَ بايت (Pate): “كلمة فردوس (paradeisos) هي كلمة فارسية وتعني ’الحديقة أو المتنزه‘ واستخدمت في الترجمة السبعينية للإشارة إلى جنة عدن (سفر التكوين ٨:٢). ثم أصبحت تشير إلى الفرح والابتهاج الذي سيتمتع به شعب الرب في المستقبل حسب إشعياء ٣:٥١. وفي هذا المقطع تشير إلى حالة الفرح والابتهاج الذي وعد به يسوع هذا المجرم مباشرة بعد الموت.”
- كان هذا مهم للغاية بالنسبة ليسوع وكلفه شيئاً حتماً. فلم يكن من السهل عليه أن يقول هذه الكلمات بسبب كل الألم الذي كان يعاني منه حينها. علّقَ إدواردز (Edwards): “بما أن الكلام يخرج أثناء الزفير، فلا بد أن هذه الكلمات البسيطة سببت المزيد من الصعوبة والألم ليسوع.”
- كانت الإجابة التي قدمها يسوع للمجرم الثاني تتجاوز توقعاته.
- فكر اللص على الصليب بفترة زمنية بعيدة، أما يسوع فقال له: ٱلْيَوْمَ.
- طلب اللص على الصليب أن يذكره الرب فقط، أما يسوع فقال له: ستَكُونُ مَعِي.
- كل ما تمناه اللص على الصليب هو الملكوت فقط، أما يسوع فوعده بٱلْفِرْدَوْسِ.
و ) الآيات (٤٤-٤٦): موت يسوع
٤٤وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. ٤٥وَأَظْلَمَتِ ٱلشَّمْسُ، وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسْطِهِ. ٤٦وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. ٤٧فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللهَ قَائِلًا: «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا ٱلْإِنْسَانُ بَارًّا!».
- وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ: يُظهر الظلام الملحوظ على الأرض كلها عذاب الخليقة بسبب معاناة الخالق. كتب جيلدنهويس (Geldenhuys): “يسجل كل من أوريجانوس (في كتاباته بعنوان Contra Celsum) ويوسابيوس ( في Chron) كلمات مقتبسة من فليغون Phlegon (مؤرخ روماني) الذي أشار إلى كسوف الشمس الاستثنائي، فضلاً عن زلزال حدث في نفس وقت الصلب.”
- كتب المؤرخ الروماني فليغون (Phlegon): “في السنة الرابعة من أولمبياد ٢٠٢، كان هناك كسوف شمسي استثنائي: وفي الساعة السادسة، تحول اليوم إلى ليلة مظلمة، حتى أن النجوم كانت واضحة؛ وكان هناك زلزال.” (وردت في كتابات كلارك)
- حدث الصلب خلال موسم عيد الفصح، ودائماً ما يقام عيد الفصح عند اكتمال القمر. فكان الكسوف الطبيعي للشمس مستحيلاً أثناء اكتمال القمر.
- وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسْطِهِ: يدل انشقاق حجاب الهيكل من وسطه على أمرين على الأقل. أولاً، يستطيع الإنسان الآن من خلال الصليب أن يقترب من عرش النعمة بحرية. ثانياً، لا ينبغي لأحد أن يفكر ثانية أن الله يسكن في هياكل مصنوعة بالأيدي.
- ينوه متى في ٥١:٢٧ أن حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وذلك للتشديد على أن الله من شقه من فوق وليس الإنسان من الأرض.
- وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قال يسوع شيئاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وتكلم مع الله الآب في الكلمات التي تبعت. يخبرنا يوحنا ٣٠:١٩ ما قاله: «قَدْ أُكْمِلَ». وهي كلمة واحدة في اليونانية (tetelestai – وتعني “دُفع بالكامل”). كانت تلك صرخة المنتصر، لأن يسوع قد دفع دين خطايانا بالكامل، وانتهى الغرض الأبدي للصليب.
- في مرحلة ما قبل موته، وقبل أن ينشق الحجاب مِنْ وَسْطِهِ وقبل أن ينادي بصوت عظيم قَدْ أُكْمِلَ، عقد ٱلِٱبْنُ صفقة روحية مدهشة مع الآب. فوضع الآب على يسوع كل خطايانا وحَمَلَها بنفسه فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، وهكذا أرضى غضب الله الذي كان مُعلناً ضدنا.
- رغم بشاعة المعاناة الجسدية، إلا أن معاناة يسوع الروحية – حمل دينونة خطايانا على الصليب – كانت أبشع بكثير. فقد ارتعد يسوع عندما شرب الكأس – كأس غضب الله الصالح (لوقا ٣٩:٢٢-٤٦، مزمور ٨:٧٥، إشعياء ١٧:٥١، إرميا ١٥:٢٥). أصبح يسوع على الصليب، إذا جاز التعبير، عدواً لله وحُكِمَ عليه وأجبر على شرب كأس غضب الآب. فعل ذلك حتى لا نشرب نحن هذه الكأس.
- يضع إشعياء ٣:٥٣-٥ هذه الفكرة بصورة قوية جداً: مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ ٱلنَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ ٱللهِ وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا.
- كتب كلارك (Clarke): “أيها القارئ! قطرة واحدة من هذه الكأس كانت ستهدم روحك إلى الأبد، وهذه الأوجاع كانت ستدمر الكون كله. لقد عانى بمفرده بدلاً عن الناس الذين لم يكونوا معه هناك. فأوجاعه كانت تكفيراً عن خطايا البشرية: وفي عملية الخلاص لم يكن لديه مُعين.”
- كما وعلّقَ بايت (Pate): “حقيقة أنه كان قادراً على الصراخ بصوت عظيم، رغم صعوبة التنفس بالنسبة لشخص مُعلق على الصليب، يشير إلى أن يسوع كان لا يزال المسيطر على مصيره.”
- يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي: قد أكمل يسوع عمله على الصليب، وبالصلاة أسلم روحه الحية إلى الله الآب كما وأسلم جسده إلى الموت على الصليب. وهذا يدل على أن يسوع تخلى عن حياته عندما أراد وبالطريقة التي أرادها. لم يأخذ أحد حياته منه، بل قدمها عندما أنهى عمله. فيسوع ليس ضحية علينا أن نحزن عليها، ولكنه المنتصر الغالب الذي علينا أن نعجب به.
- فعليك أن تحزن وترثي لحال أولئك الذين يرفضون عمل يسوع الكامل على صليب الجلجثة، وللوعاظ الذين لا يملكون قلب بولس الذي نقرأ عنه في كورنثوس الأولى ٢٣:١ عندما أعلن أن أساس رسالتنا أن نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوبًا.
- فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي: كتب كلارك (Clarke): “أو نستطيع القول: ’أُسلم روحي في يديك.‘ وهذا دليل آخر على أن الروح غير مادية (غير جسدية/غير دنيوية)، وستبقى رغم موت الجسد.”
- وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ: وبمجرد أن أكمل العمل على الصليب، لم يشعر يسوع بحاجته لِاحتمال المزيد من الألم. فأَسَلمَ روحه إلى الله الآب، وأسلم جسده إلى الموت على الصليب، والتقط نفسه الأخير.
- كتب بايت (Pate): “يبدو أن الكلمات في الآية ٤٦ “أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ” (أخذ نفسه الأخير) هي صدى لما نقرأه في سفر التكوين ٧:٢. حيث نقرأ أن الله نفخ في آدم نَسَمَةَ حَيَاةٍ، فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً. فأول إنسان أعطاه الله نسمة حياة كان آدم، وثاني إنسان أُخِذَ منه نسمة حياة كان يسوع. وقد دفع هذا الأخير عقاب خطايا الإنسان الأول كي يبدأ الخليقة الجديدة.”
ز ) الآيات (٤٧-٤٩): ردة فعل المارة على موت يسوع
٤٧فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللهَ قَائِلًا: «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا ٱلْإِنْسَانُ بَارًّا!». ٤٨وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا ٱلْمَنْظَرِ، لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ. ٤٩وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذَلِكَ.
- فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللهَ: عندما مات يسوع على الصليب، مجد قائد المئة الأممي الله على الفور وفهم من كان يسوع حقاً (بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا ٱلْإِنْسَانُ بَارًّا).
- لا بد أن قائد المئة شاهد العديد من الأشخاص يصلبون من قبل. ولكن كان هناك أمرٌ مميز في يسوع جعله يقول ما لم يقوله عن أي شخص
- هذه صورة لكل من يأتي إلى يسوع من خلال الصليب، وتحقيقاً لوعده: وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلْأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ (يوحنا ٣٢:١٢).
- وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا ٱلْمَنْظَرِ، لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ: رجع البعض إلى بيوتهم حزانى؛ فقد كانوا من المقربين جداً ليسوع ليشهدوا عن موته الرائع، ولكنهم لم يتذكروا وعده بأنه سيقوم ثانية.
ح ) الآيات (٥٠-٥٦): دُفِنّ يَسُوعَ فِي قَبْرٍ ليوسف مِنَ ٱلرَّامَةِ
٥٠وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيرًا وَرَجُلًا صَالِحًا بَارًّا. ٥١هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقًا لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ ٱلرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضًا يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللهِ. ٥٢هَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ، ٥٣وَأَنْزَلَهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. ٥٤وَكَانَ يَوْمُ ٱلِٱسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ. ٥٥وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ ٱلْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. ٥٦فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطًا وَأَطْيَابًا. وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱسْتَرَحْنَ حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ.
- هَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ: جرت العادة أن تترك جثث المجرمين على صلبانها لتتعفن أو لتلتهمها الحيوانات البرية. ولكن اليهود لم يرغبوا في مثل هذا المنظر المرعب خلال موسم عيد الفصح، وكان من المعروف أن يمنح الرومان الجثث للأصدقاء أو الأقارب لدفنها بشكل صحيح.
- لم يخدم يوسف يسوع بطرق عدة، ولكن خدمه بطريقة لم يفعلها أي شخص آخر. فلم يستطيع بطرس ويعقوب ويوحنا أو حتى النساء اللواتي خدمن يسوع أن يقدموا ليسوع قبراً، ولكن يوسف استطاع وفعل. علينا أن نخدم الله بكل وسيلة ممكنة.
- وَكَانَ يَوْمُ ٱلِٱسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ: لم يتمكنوا من إعداد جسد يسوع بشكل صحيح للدفن لأن السَّبتِ كانَ وَشيكاً. لذلك وُضِعَ جسد يسوع في قبر مُستعار على عُجالة.
- علّقَ جيلدنهويس (Geldenhuys): ” أكثر من يخيب الآمال وقت الأزمات هم من نوعية بطرس، الذين يقسمون الولاء التام ليسوع ويرفعون الشعارات الرنانة بالإضافة إلى الثقة العالية بالنفس، أما التلاميذ السريين والهادئين (مثل يوسف ونيقوديموس والمرأة) فلا يترددون في خدمة السيد بكل محبة ومهما كان الثمن.”
- وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ (فِي الصَّخرِ) حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ: هذا النوع من القبور كان باهظ الثمن. لقد كانت تضحية كبيرة بالنسبة ليوسف الرامي أن يقدم هذا القبر ليسوع، ولكن يسوع لن يستخدمه إلا لبضعة أيام.