رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ١١
حماقةُ افتخار بولس
أولاً. لماذا يدافعُ بولس عن مؤهلاته
أ ) الآية (١): مقدمة: أرجو أن تحتملوني!
١لَيْتَكُمْ تَحْتَمِلُونَ غَبَاوَتِي قَلِيلاً! بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيَّ.
- لَيْتَكُمْ تَحْتَمِلُونَ غَبَاوَتِي قَلِيلاً: لا يسمّي بولس الدفاع عن رسوليته حماقة لأن هذا غباءٌ أو هراءٌ، بل يدعوه حماقةً لأنه يفعلُ ذلك عن مضضٍ، عالمًا أن وقته وجهوده يمكن أن تُصرف في أمورٍ أفضل. وهو يدعوه حماقةً لأن الأشياء التي يعرف أنها مشرفةٌ حول رسوليته ستُعدُّ حماقةً من قبل بعض مؤمني كورنثوس.
- بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيَّ: قد يسأل أحدهم: “يا بولس، إن كنت تعتقد أن هذا الأمر حماقةٌ، فلماذا تزعجُ نفسك بالحديث عنه أصلًا؟” غير أن الأمر يستحقُّ ذلك للأسباب التي سيعرضُها بولس في النصّ التالي.
ب) الآيات (٢-٤): مؤهلاتُ بولس الرسوليةُ مهمةٌ.
٢فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ. ٣وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ. ٤فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الآتِي يَكْرِزُ بِيَسُوعَ آخَرَ لَمْ نَكْرِزْ بِهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ رُوحًا آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ، أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ، فَحَسَنًا كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ.
- فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ: إنه لأمرٌ مهمٌّ أن يفهم مؤمنو كورنثوس أن مؤهلات بولس ويثقوا بها لأن بولس يغارُ على قلوبهم غيرةً تقيةً، (غَيْرَةَ اللهِ). وغيرةُ بولس أمرٌ جيد، وسيحسُّ بالمهانة إذا لم يفهم الكورنثيون معنى الرسولية.
- الغيرةُ البشريةُ رذيلةُ، لكن الربّ يقولُ: «أنا الربُّ إلهُك إلهٌ غيورٌ» (خروج ٥:٢٠). “غيرةُ الربّ هي المحبةُ العاملة. وهو يرفضُ أن يشارك قلب الإنسان مع أيّ منافسٍ، لا لأنه أنانيٌّ ولأنه يريدُ كلّ شيءٍ له، بل لأنه يعلمُ أن حياتنا الأخلاقية تعتمدُ على ولائنا لله… اللهُ لا يغارُ منّا بل من أجلنا.” (ريدباثRedpath في كتابه “الناموس والحرية”). فمشاركةُ غيرة الله على شعبه فضيلةٌ.
- “ولهذا، فإن غيرة الله هو اهتمامٌ بالقداسة والنزاهة وطهارة الأخلاق والمقاييس المسيحية. وبسبب هذا، فإنه يرفض أن يسمح بوجود منافسٍ على محبتنا له، لا بسبب جشعٍ أنانيٍّ يرغبُ في امتلاك كلّ شيءٍ، بل لأنه ببساطةٍ يعرفُ أن قصده العظيم من أجلنا في الطهارة وقداسة الحياة يعتمدُ على استسلامنا الشخصيّ وخضوعنا لقصده.” ريدباث (Redpath)
- لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ: من المهمّ أن يفهم مؤمنو كورنثوس مؤهلات بولس الرسولية وأن يثقوا بها لأن بولس مثلُ صديق العريس الذي يسهرُ على العروس في الفترة ما بين فترتي الخطوبة والزفاف.
- يعُدُّ بولس نفسه صديق يسوع العريس، وسيفعل ما بوسعه ليقدم العروس عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيح في يوم الزفاف – أي عندما يقفُ مؤمنو كورنثوس أمام يسوع ذات يومٍ.
- كانت لدى صديق العريس في الثقافة اليهودية في ذلك العصر (ذُكرتْ أيضًا في يوحنا ٢٩:٣) وظيفة مهمة. “أن يؤمن للعريس عذراء وأن يحرسها وأن يقدم شهادةً حول ميزاتها الجسدية ومؤهلاتها للحياة الزوجية القادمة. فعلى هذه الشهادة المقدمة من الصديق، يختارُ العريسُ عروسه. كان همزة الوصل بينها وبين عريسها المختار. فكان يحملُ كلّ رسائلها إليه وكلّ رسائله إليها: فقبل الزواج كانت الفتياتُ تحت حمايةٍ صارمةٍ في البيت مع آبائهنّ وأمهاتهن أو صديقاتهن.” وفضلًا عن ذلك، كان يُستدعي صديقُ العريس عند الضرورة “للدفاع عن معدن العروس الأخلاقيّ.” كلارك (Clarke)
- تذكّر أيضًا أن فترة الخطوبة لم تكنْ تُؤخذُ باستخفافٍ في ثقافة بولس. فإن كان أحدُهم غير وفيٍّ أثناء فترة الخطوبة، كان ذلك يُعد زنًا، فكان لا بد أن تُفسخ الخطوبةُ بالطلاق.
- كلّما نعطي قلوبنا لشيءٍ غير الله، فإننا نرتكبُ “زنًا روحيًا” أثناء فترة خطوبتنا.
- وَلكِنَّنِي أَخَافُ… تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ: من المهمّ أن يعرف الكورنثيون مؤهلات بولس الرسولية وأن يثقوا بها لأنه يعرف الطبيعة المعقدة لمكائد إبليس.
- إن بيت القصيد هو أن مؤمني كورنثوس لم يعجبوا بمؤهلات بولس الرسولية لأنهم كانوا يفكرون بطريقةٍ دنيويةٍ لا بفكر المسيح. فلم يعجبهم ضعفُ بولس البادي ومظهرُه غيرُ المثير للإعجاب. وكانت هذه نقطةً مهمةً لأن بولس شارك في ضعف يسوع الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. (فيلبي ٦:٢-٨). فلم تكن مؤهلاتُ بولس الرسوليةُ وحدها هي التي تتعرضُ للهجوم، بل طبيعةُ يسوع المسيح نفسُها أيضًا.
- كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا: فهم بولس أن خداع إبليس لحواء في جنة عدنٍ ( تكوين ١:٣-٥) مثلٌ جيدٌ لأساليب بولس في الخداع. فكانت كذبةُ إبليس على حواء (لن تموتا) محاصرةً بأنصاف الحقائق والخداع التحريضيّ. وكان مؤمنو كورنثوس مخدوعين “بالنصر” لأنه كان مغلّفًا بحقيقة الحياة المنتصرة التي نستطيع أن نحياها في يسوع المسيح.
- يذكّرُنا بيتان من الشعر للشاعر تينيسون (Tennyson) بكذبة إبليس على حواء: “الكذبةُ التي كلُّها كذبٌ يمكنُ التصدّي لها ومحاربتُها صراحةً، أمّا الكذبةُ التي نصفُها حقيقةٌ يصْعبُ مواجهتُها.”
- إِنْ كَانَ الآتِي يَكْرِزُ بِيَسُوعَ آخَرَ لَمْ نَكْرِزْ بِهِ: من المهمّ أن يفهم مؤمنو كورنثوس مؤهلات بولس الرسولية وأن يثقوا بها لأن بولس يعرف أنهم منجذبون إلى رسل زائفين يكرزون بِيَسُوعَ آخَرَ.
- عندما هاجم مثيرو المتاعب بين مؤمني كورنثوس والذين أثاروا الخلاف مع بولس، فإنهم لم يهاجموه وحده. بل هاجموا يسوع الحقيقيّ أيضًا بكرازتهم يَسُوعَ آخَر. فمن هو يسوعُ الآخرُ هذا؟ احتقر الكورنثيون صورة الضعف في بولس ومظهره غير المثير للإعجاب، ولهذا فإن على الأرجح أن “يسوع الآخر” لم يعرفْ أيّ ضعفٍ أو اضطهادٍ أو إذلالٍ أو معاناةٍ أو موتٍ. فيسوعُ “الخارق” هو يَسُوعَ الآخَر، وليس يسوع الحقيقيّ، فيسوعُ الآخرُ لا يستطيعُ أن يخلص.
- لَمْ نَكْرِزْ بِهِ… رُوحًا آخَرَ أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ: حذّر بولس مؤمني غلاطية من قبول يسوع آخر. “وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»! كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»!” (غلاطية ٨:١-٩)
- إِنْ كَانَ الآتِي: الرسولُ شخصٌ “يُرسل.” كان مثيرو المتاعب هؤلاء على نقيضٍ كامل من الرسل، فيمكن أن يقالُ عنهم: “الآتِي” أي الذين يأتون بمبادرةٍ منهم. وأما الرسولُ يمكن القول إن الله أرسله. وأما الرسلُ الزائفون هؤلاء، فقد أتوا وحدهم. لم يُرسلوا من الله.
- فَحَسَنًا كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ: لم تكمن المشكلة في أن هؤلاء المعلمين الزائفين قد جاءوا بين مؤمني كورنثوس قدْر ما كمُنتْ في أن مؤمني كورنثوس كانوا يحتملونهم.
- تعاني الكنيسة اليوم من نفس المشكلة. فليس أمرًا مستغربًا أنه يوجد معلمون زائفون في الكنيسة اليوم. فالمشكلةُ هي أن الكنيسة تحتملُهم وترحّبُ بهم. ولا بدّ لمؤمني هذا الجيل، شأنُهم شأنُ مؤمني كورنثوس، أن يقدموا حسابًا ليسوع على افتقارهم لروح التمييز في ما يتعلق بالمعلمين والقادة الزائفين الذين تقبلُهم الكنيسةُ وترحبُ بهم.
ج ) الآيات (٥-٩): تواضع بولس “الأحمق”
٥لأَنِّي أَحْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ. ٦وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيًّا فِي الْكَلاَمِ، فَلَسْتُ فِي الْعِلْمِ، بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ بَيْنَ الْجَمِيعِ. ٧أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَرْتَفِعُوا أَنْتُمْ، لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّانًا بِإِنْجِيلِ اللهِ؟ ٨سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى آخِذًا أُجْرَةً لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ، وَإِذْ كُنْتُ حَاضِرًا عِنْدَكُمْ وَاحْتَجْتُ، لَمْ أُثَقِّلْ عَلَى أَحَدٍ. ٩لأَنَّ احْتِيَاجِي سَدَّهُ الإِخْوَةُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنْ مَكِدُونِيَّةَ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتُ نَفْسِي غَيْرَ ثَقِيل عَلَيْكُمْ، وَسَأَحْفَظُهَا.
- لأَنِّي أَحْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ: يقارنُ بولس نفسه هنا مع بعض الذين يصفُهم بأنهم فائقو الرسل (الأكثرُ بروزًا). وعلى ما يبدو أن مؤمني كورنثوس كانوا يفضلون هؤلاء الرسل على بولس نفسه.
- يختلفُ المفسرون بشدّةٍ حول هُوية “فَائِقِي الرُّسُلِ” هؤلاء. فيعتقد بعضهم أنهم رسلٌ حقيقيون آخرون مثل بطرس أو أَبُلُّوس (كما هو مذكورٌ في كورنثوس الأولى ١٢:١). وهذا أمرٌ غيرُ محتمل. ويرجّحُ أن بولس يتحدث بشكلٍ ساخرٍ عن الرسل الزائفين الذين زعموا أنهم يتفوّقون على بولس.
- في اللغة اليونانية الأصلية، فإن الفكرة وراء “فَائِقِي الرُّسُلِ” هي أنهم “خارقون فوق العادة.” ويرجحُ أن بولس كان يكتب بروح السخرية مشيرًا إلى أولئك الذين فكّروا وروّجوا لأنفسهم على أنهم “رسلٌ خارقون رائعون.”
- أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا: بغض النظر عن هوية “فَائِقِي الرُّسُلِ،” فإن بولس لن يدّعي أنه أدنى منهم. وسيشرحُ في وقتٍ لاحق كيف أنه (بطريقةٍ غير محتملةٍ) أعظمُ من “فَائِقِي الرُّسُلِ” المفترضين هؤلاء.
- وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيًّا فِي الْكَلاَمِ: لم يكنْ بولس، حسب مقاييس البلاغة اليونانية، مدرّبًا في الكلام. فكانت القدرةُ على التكلم بطريقةٍ مصقولةٍ ومتطورةٍ ومسليةٍ أمرًا شائعًا في زمن بولس. وقد كان آخرون (مثلُ “فَائِقِي الرُّسُلِ” الذين أحبّهم مؤمنو كورنثوس كثيرًا) قادرين على التكلم على هذا النحو، لكن لم يكن بولس قادرًا أو راغبًا في أن يعظ بهذه الطريقة. إذ لم يكنْ مهتمًا بتلبية مقاييس الناس حول المتكلم المصقول أو المسلّي. إذ كان اهتمامُه منصبًا على الكرازة بالإنجيل بأمانة.
- تُروى قصةٌ عن حفلة عشاءٍ حيثُ كان متوقعًا من الضيوف أن يقفوا بعد الوجبة ويتلوا شيئًا للمجموعة. فكان هنالك ممثلٌ مشهورٌ حاضرًا، فقام بتلاوة المزمور الثالث والعشرين بأسلوبٍ دراميٍّ وعاطفةٍ قويةٍ، وجلس بعد تصفيقٍ حادٍّ. ثم وقف رجلٌ بسيطٌ جدًا وبدأ يتلو المزمور نفسه. لم يكنْ فصيحًا، ولهذا اعتقد الحاضرون أن إلقاءه كان غريبًا نوعًا ما. ولكن الإلقاء كان نابعًا من القلب. ولهذا عندما انتهى جلست المجموعةُ في صمتٍ وقورٍ. فكان واضحًا أن أداء هذا الرجل البسيط كان أكثر قوةً من أداء الممثل. فقال له الممثلُ لاحقًا: “أنا أعرفُ المزمور، لكنك تعرفُ الراعي نفسه.”
- كان هذا هو الفرق بين وعظ بولس ووعظ “فَائِقِي الرُّسُلِ.” فلم يكن يملكُ بولسُ الأداء الملمّع وجهورية المتكلم العظيم، لكنه عرف الله، ولهذا كرز بالإنجيل بقوةٍ.
- بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ بَيْنَ الْجَمِيعِ: لم يكن بمقدوره أن يعطي مؤمني كورنثوس الوعظ المصقول والمسلّي الذي يريدونه، ولا يرغبُ في أن يفعل ذلك أصلًا، لكنه أعطى نفسه بالكامل لهم، وأظهر معرفته فِي كُلِّ شَيْءٍ. فلم يكنْ متكلمًا مصقولًا (حسب مقاييس عصره)، لكنه كان متكلمًا صادقًا وشفّافًا.
- أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي… لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّانًا بِإِنْجِيلِ اللهِ؟ في ثقافة ذلك العصر، إن لم يكن يتلقّى المتكلمُ مالًا لقاء كلامه، غالبًا ما كان لا يُعْبأ به كمتكلمٍ سيّئٍ ومعلّمٍ لا قيمة له. وقد نظر معظمُ الناس إلى أيّ شخصٍ متكلمٍ لا يتلقّى مالًا على أنه مجردُ هاوٍ. ولكن بولس لم يكن يعبأ برأي الآخرين عندما يتعلقُ الأمرُ بقلبه الراغب في الكرازة بالإنجيل من دون أن يُتهم بأنه يفعلُ ذلك من أجل المال.
- أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً؟ يبيّنُ هذا بولس وهو يستخدم أقصى درجةٍ من السخرية الأدبية. فقد كان الكورنثيون الذين احتقروا بولس دنيويين جدًا في اعتقادهم بأن بولس يمكنُ أن يكون في حالة خطيةٍ لأنه بشّرْهم مَجَّانًا بِإِنْجِيلِ اللهِ.
- سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى آخِذًا أُجْرَةً لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ: إن الكلمة التي استخدمها بولس للإشارة إلى السلب قويةٌ. فقد كانت تُستخدمُ لتجريد جنديٍّ ميتٍ من درعه.
- يشيرُ بولس إلى حقيقة أنه تلقّى دعمًا من مؤمنين آخرين أثناء وجوده في كورنثوس. وكان بمقدوره أن يقول سَلَبْتُ كنائس أخرى، بمعنى أنه كان يفترضُ على أهل كورنثوس أن يدعموه عندما كان يخدمُ بينهم ( كورنثوس الأولى ٤:٩-١١). ولكنه لم يثقل على أحدٍ منهم.
- لأَنَّ احْتِيَاجِي سَدَّهُ الإِخْوَةُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنْ مَكِدُونِيَّةَ: كانت الكنائس الأخرى التي سلبها بولس تقعُ في منطقة مَكِدُونِيَّةَ بما فيها كنيسةُ فيلبي. وقد شكرهم بولسُ على كرمهم في يلبي ١٤:٤-١٨.
د ) الآيات (١٠-١٥): بولسُ ضدّ الرسل الزائفين
١٠حَقُّ الْمَسِيحِ فِيَّ. إِنَّ هذَا الافْتِخَارَ لاَ يُسَدُّ عَنِّي فِي أَقَالِيمِ أَخَائِيَةَ. ١١لِمَاذَا؟ أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ؟ اَللهُ يَعْلَمُ. ١٢وَلكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ. ١٣لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ. ١٤وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! ١٥فَلَيْسَ عَظِيمًا إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ. الَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ.
- إِنَّ هذَا الافْتِخَارَ لاَ يُسَدُّ عَنِّي (لَنْ يَمْنَعَنِي أحَدٌ مِنَ الافتِخَارِ بِهَذَا): كان بمقدور بولس، كرسولٍ حقيقيٍّ، أن يفخر بأنه لم يأخذ أيّ مالٍ، وأنه كان مهتمًا بنزاهة الرسالة أكثر من احتياجاته الخاصة.
- لِمَاذَا؟ أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ؟ اَللهُ يَعْلَمُ: كان افتخارُ بولس بضعفه وصورته غير المثيرة للإعجاب محرجةٌ لمؤمني كورنثوس. فلماذا أحرجهم على هذا النحو؟ لأنه إنما كان يحبُّهم ويبحثُ عن طريقةٍ لإرجاعهم من التفكير الدنيويّ.
- وَلكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ: أراد بولس أن يفضح فائقي الرسل هؤلاء بصفتهم محتالين. فإن كان بولس محتاجًا إلى السخرية اللاذعة أو إحراج مؤمني كورنثوس لفضحهم، فإنه مستعدٌّ لأن يستخدم تلك الأدوات.
- لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ: هنا يصبحُ بولس أكثر مباشرةً وصراحةً. ومن دون استخدام السخرية، يدعو الذين يذمّونه في كورنثوس (أو على الأقلّ القادة بينهم) رسلًا كذبةً وفعلةً ماكرين.
- قليلون جدًا من المؤمنين بالمسيح الآن يريدون التعامل مع حقيقة أنهم ما زالوا رسلًا كذبةً وفعلةً ماكرين بين المؤمنين بالمسيح. وعلى أيّة حالٍ، كانوا موجودين بوضوحٍ في أيام بولس، وما زالوا موجودين حتى يومنا هذا.
- الرُسُل الكَذَبَة هم الذين يغيّرون شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ. وفي واقع الأمر، لا يستطيعُ أحدٌ أن يغيّر نفسه إلى رسولٍ حقيقيٍّ ليسوع. فهذه دعوةٌ من الله. “فلم يكن هؤلاء قطّ رسلًا للمسيح، لكنهم اتّخذوا هذا الشكل وهذه الصورة لكي يحصلوا على ميزةٍ أكبر للخداع.” بووله (Poole) وكما سيشرحُ بولس في العبارة التالية، فإن الذين يغيّرون أنفسهم هم أكثرُ شبهًا بإبليس منهم بالله.
- وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! فَلَيْسَ عَظِيمًا إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ: حتى إبليسُ يمكنُ أن يظهر كملاك نورٍ، وكذلك يظهرُ الرسلُ الكذبةُ بمظهر “الصلاح.” وهكذا، فإن بولس يبيّنُ لمؤمني كورنثوس مدى حمق الاعتماد على الصورة والمظاهر الخارجية.
- إنه لأمرٌ سهلٌ جدًا أن ينخدع كلُّ الناس، بمن فيهم المؤمنون بالمسيح، بالصورة والمظاهر الخارجية. ولن يدرك كثيرون الشرّ إلا إذا أعلن نفسه صراحةً على أنه شرٌّ. ولكن هذا النهج سينتهي في النهاية إلى احتضان الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ الذي يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! فلو قُدر للشيطان أن يظهر أمام جمهورٍ بشريٍّ، فسيجرّبون بقوةٍ بأن يعبدوه كمخلوقٍ ذي جمالٍ سماويٍّ تقريبًا. وسيُعدُّ ملاك نورٍ.
- ورغم ذلك، فمن الحمق أن ينخدع مؤمنو كورنثوس – أو نحن اليوم – بالصور والمظاهر الخارجية.
- كان هيوز (Hughes) محقًا في ملاحظته أنه في الكنيسة اليوم عندما قال: “ما على الفرد إلاّ أن يقدم أكثر المزاعم بُعدًا عن المعقولية حتى يحصل على أتباعٍ متحمسين مفتقرين إلى حسن التمييز.”
- “يقالُ عادةً إن لإبليس ثلاثة أشكالٍ يمكنُ أن يجرب الناس بها: ١. الحية الماكرة ٢. الأسد الزائر ٣. ملاك نور. وغالبًا ما يُقنعُ الناس، بصفته ملاك نور، بأن يفعلوا باسم الدين أشياء مدمرةً. ومن هنا تأتي كلُّ حالات الاضطهادات وحرق الكنائسٍ بدعوى تطهير الكنيسة من الهرطقة، وبالتالي تأتي كلُّ أهوال محاكم التفتيش الجهنمية. ويتّخذُ إبليسُ في الاضطهاد الوثنيّ شكل أسدٍ يدمرُ تراث الربّ. ومن خلال حواسنا ورغباتنا الجامحة، فيخدعُنا كثيرًا كالحية الماكرة، بحيثُ يساءُ فهمُ عمل الطبيعة الفاسدة غالبًا على أنه عملُ الروح القدس.” كلارك (Clarke)
- حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ: هذه هي الدينونةُ الفظيعةُ المحفوظةُ للرسل الزائفين: أن يُدانوا حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ.
ثانيًا. مؤهلاتُ بولس كرسولٍ “أحمق”
أ ) الآيات (١٦-٢١): حماقةُ الافتخار
١٦أَقُولُ أَيْضًا: لاَ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنِّي غَبِيٌّ. وَإِلاَّ فَاقْبَلُونِي وَلَوْ كَغَبِيٍّ، لأَفْتَخِرَ أَنَا أَيْضًا قَلِيلاً. ١٧الَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ الرَّبِّ، بَلْ كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ، فِي جَسَارَةِ الافْتِخَارِ هذِهِ. ١٨بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يَفْتَخِرُونَ حَسَبَ الْجَسَدِ، أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضًا. ١٩فَإِنَّكُمْ بِسُرُورٍ تَحْتَمِلُونَ الأَغْبِيَاءَ، إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ! ٢٠لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْخُذُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَرْتَفِعُ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ! ٢١عَلَى سَبِيلِ الْهَوَانِ أَقُولُ: كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ! وَلكِنَّ الَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ، أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ: أَنَا أَيْضًا أَجْتَرِئُ فِيهِ.
- لاَ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنِّي غَبِيٌّ… لأَفْتَخِرَ أَنَا أَيْضًا قَلِيلاً: إنه لأمرٌ سهلٌ أن نستشعر كلًا من سخرية بولس وتردده في الترويج لنفسه. فهو يفضلُ الحديث عن يسوع. ولكن هذه الرسالة أُعيقت بسبب تجاهل الكورنثيين لمؤهلات بولس كرسولٍ حقيقيٍّ، كممثلٍ حقيقيٍّ ليسوع.
- ليس بولس مثل الحمقى “الحقيقيين” الذين يفتخرون بمؤهلاتهم. وسيتضحُ ذلك عندما يبدأُ بولس بعرض مؤهلاته كرسولٍ حقيقيٍّ.
- الَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ الرَّبِّ، بَلْ كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ: لا يتكلمُ بولس بِحَسَبِ الرَّبِّ بمعنى أن دفاعه عن مؤهلاته يتركزُ على نفسه. فلم يكن بولس يحبُّ التكلم عن نفسه. إذ كان سعيدًا أن يكتب: “فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا.” (كورنثوس الثانية ٥:٤)
- يشعر بولس بأنه مجبورٌ على الكتابة عن نفسه: بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يَفْتَخِرُونَ حَسَبَ الْجَسَدِ، أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضًا. ولكن افتخار بولس لن يكون شبيهًا على الإطلاق بافتخار كَثِيرِينَ حَسَبَ الْجَسَدِ.
- فَإِنَّكُمْ بِسُرُورٍ تَحْتَمِلُونَ الأَغْبِيَاءَ، إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ! ومرةً أخرى، يستخدمُ بولس السخرية اللاذعة. فإن كان مؤمنو كورنثوس عقلاء أو حكماء بما يكفي للاستماع إلى حمقى كثيرين، فمن المؤكد أنهم يستطيعون لأن يستمعوا إلى بولس بعض الوقت!
- لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! مؤمنو كورنثوس، شأنُهم شأنُ كثيرين اليوم، مستعدون أن يحتملوا الإساءة من “فائقي الرسل” معتقدين بطريقةٍ ما أن احتمال مثل هذه العبودية أمرٌ روحيٌّ.
- ربما يشيرُ الاستعباد الذي يتحدثُ عنه بولس إلى الرسل الزائفين الناموسيين الذين يحاولون أن يُبقوا الشعب تحت عبودية الناموس – غير أن هنالك احتمالًا آخر مساويًا، وهو أن العبودية التي يشيرُ إليها بولس هي الهيمنةُ والسلطةُ الشخصيتان اللتان فرضهما فائقو الرسل على الآخرين. وغالبًا ما يرافقُ التأكيد على الصورة والمظهر الخارجيّ نهجٌ استبداديٌّ في القيادة. ولعلّ هذا يفسّرُ إشارة بولس إلى الاستعباد.
- إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْخُذُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَرْتَفِعُ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ! لقد فُتن الكورنثيون “بفائقي الرسل” حتى إنهم كانوا مستعدين أن يقبلوا منهم كلّ أنواع المعاملة السيئة. فكانوا معجبين بصورة سلطة “فائقي الرسل” وقوّتهم حتى إنهم خضعوا بوداعةٍ لهذا النوع من المعاملة.
- هل يمكنُ أن يقبل مؤمنو كورنثوس أن يُضربوا على وجوههم؟ يرجحُ أنهم كانوا يقبلون ذلك لأنه لم يكنْ شيئًا غير شائعٍ أن تقوم السلطاتُ الدينيةُ في ذلك الزمن (خارج نطاق خدام يسوع الحقيقيين) بضرب الذين يُعدّون فاجرين على وجوههم (أعمال الرسل ٢:٢٣؛ تيموثاوس الأولى ٣:٣).
- من المؤسف أن أشخاصًا كثيرين كانوا أكثر ارتياحًا “لفائقي الرسل” المستبدّين من الحرية المتاحة لهم في يسوع.
- عَلَى سَبِيلِ الْهَوَانِ أَقُولُ: كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ! يواصلُ بولس سخريته معترفًا بأنه “ضعيفٌ” بحيث لا يستطيعُ أن يسيء إلى خِرافِه بالطريقة التي كان يمارسُها “فائقو الرسل.” فهو مذنبٌ حسب التهمة الموجهة إليه!
- وَلكِنَّ الَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ، أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ: أَنَا أَيْضًا أَجْتَرِئُ فِيهِ: كان فائقو الرسل يجترئون في الإعلان عن عظمتهم. ولهذا فإن بولس سيجترئُ أيضًا في فعل ذلك، لكنه في قيامه بهذا فإنه يتكلمُ بحماقةٍ (أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ). وتتضمنُ بقيةُ الإصحاح الافتخار الأحمق لبولس بالأشياء التي تبرهنُ أنه رسولٌ حقيقيٌّ.
ب) الآيات (٢٢-٣٣): مؤهلاتُ بولس الرسوليةُ
٢٢أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. ٢٣أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ، فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ، فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ، فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً. ٢٤مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ٢٥ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. ٢٦بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. ٢٧فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ. ٢٨عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذلِكَ: التَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ، الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ. ٢٩مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟ ٣٠إِنْ كَانَ يَجِبُ الافْتِخَارُ، فَسَأَفْتَخِرُ بِأُمُورِ ضَعْفِي. ٣١اَللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ، يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ. ٣٢فِي دِمَشْقَ، وَالِي الْحَارِثِ الْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ الدِّمَشْقِيِّينَ، يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي، ٣٣فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيل مِنَ السُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ.
- أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا: كان نسبُ بولس البشريُّ كافيًا جدًا لتؤهله كرسولٍ. فلم يكن من نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ فحسبُ، لكنه كان إسرائيليًا. ولم يكنْ إسرائيليًا فحسبُ، بل كان عبرانيًا أيضًا، ما يعني أنه كان يرجعُ في أصله إلى منطقة اليهودية بالمقابلة مع اليهود الذين وُلدوا من أشخاصٍ من مناطق بعيدةٍ عن منطقة اليهودية.
- نشأ بولس في طرسوس في كليكية ( أعمال الرسل ٣٩:٢١)، لكن على ما يبدو أن والديه كانا يهوديين من منطقة اليهودية انتقلا إلى طرسوس إما بعد ولادته أو قبْلها.
- يعرفُ بولس جيدًا أن نسبه الجسديّ لا يجعلُه رسولًا أو خادمًا ليسوع، لكن كثيرين من “فائقي الرسل” إما قالوا أو لمحّوا إلى أهمية ذلك. ولأن بولس عرف سخافة هذه المسألة، فقد قدّم لكلامه هذا بقوله “أقول في غباوة.” ولكي يوضح النقطة التي أرادها (أن يفضح حماقة فائقي الرسل ولكي يمجد يسوع)، سوف يواصلُ حُجته.
- أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: ادّعى “فائقو الرسل” أنهم خُدَّامُ الْمَسِيح. فعندما استخدموا هذا اللقب، يرجح أنه كان لقبًا مشرفًا ومميزًا. أما بولس، فسيزعمُ أنه أيضًا بين خُدَّامُ الْمَسِيحِ، ولكنه سيشرحُ أنه يعني شيئًا مختلفًا تمامًا عمّا عناهُ هؤلاء.
- إن الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى خادمٍ هي (diakonos) تشير إلى خادمٍ متواضعٍ أو عاملٍ وضيعٍ. وكان “فائقو الرسل” قد نفخوا فيها فكرة أن اللقب ينطوي على تمجيدٍ وامتيازٍ. ولم تكن لدى بولس أيةُ مشكلةٍ في لقب الخادم، ولكن كانت لديه مشكلةٌ كبيرةٌ في فهم هذا اللقب الذي روّج له فائقو الرسل والذي قبله مؤمنو كورنثوس. وسيشرحُ بولس في القسم التالي ما يؤهلُه ليُدعى خادمًا للمسيح. ويفترضُ أن نتوقع أن يكون مختلفًا نوعًا ما عمّا يزعمُه فائقو الرسل كمؤهلاتٍ لهم.
- فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ: “أنا خادمٌ للمسيح لأني أعملُ بجدٍّ أكثر من أيّ الرسل الآخرين من أجل يسوع.” قال بولس هذا بوضوحٍ شديد في كورنثوس الأولى ١٠:١٥ “أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ.”
- وبالمقابل، رأى هؤلاء أن كون المرء خادمًا للمسيح مسألةُ امتيازٍ لا أكثرُ. فبحسب تفكيرهم، الخادم هو من يعمل أقلّ ومن يخدمه الآخرون أكثر.
- فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ: “أنا خادمٌ للمسيح لأني ضُربتُ مراتٍ كثيرةً من أجل يسوع.” تلقّى بولس ضرباتٍ من كلّ من اليهود (مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً) ومن الرومان (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيّ).
- تقول الآية في سفر التثنية ٣:٢٥ “أَرْبَعِينَ يَجْلِدُهُ. لاَ يَزِدْ، لِئَلاَّ إِذَا زَادَ فِي جَلْدِهِ عَلَى هذِهِ ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً، يُحْتَقَرَ أَخُوكَ فِي عَيْنَيْكَ.” وحسب ذلك، قيّد معلمو الشريعة عدد الجلدات التي يمكنُ أن تعطى إلى ٣٩ جلدةً (أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً). ولم يفعلوا هذا بدافع من الرحمة، لكنهم كانوا يخشون من احتمال خطأٍ في العدد وتجاوز عدد الجلدات عن أربعين بالصدفة.
- تصفُ كتابةٌ يهودية قديمة إجراءات الجلدات في محكمةٍ يهوديةٍ: “تُربطُ يدا المجرم إلى عامودٍ. ثم يقومُ خادمُ المجمع إما بسحب ملابسه أو تمزيقها إلى أن يعرّى الصدرُ والكتفان. ويوضعُ حجرٌ أو طوبةٌ خلفه يقفُ عليها الخادمُ وهو يحملُ في يده سوطًا مصنوعًا من الجلد مقسّمًا إلى أربعة أذيالٍ. ويقومُ الجلاّدُ بجلد المجرم ثُلْث عدد الجلدات على صدره، وثلثًا آخر على كتفه اليمنى، وثلثًا آخر على كتفه اليسرى. والرجلُ الذي يتلقّى العقوبة لا يجلسُ ولا يقفُ، لكنه يبقى طيلة الوقت في حالة القرفصاء، ويقومُ خادمُ المجمع بضربه بكلّ قوته بيدٍ واحدةٍ.” (المشنا ٢:٢٢؛ اقتبسه كلارك Clarke)
- فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ: “أنا خادمٌ للمسيح لأني أمضيتُ وقتًا كثيرًا في السجن لأجل يسوع.” يتحدثُ بولس عن كونه في السجن عدة مرّاتٍ، رغم أن سِفر أعمال الرسل لا يتحدثُ إلا عن حادثةٍ واحدةٍ حتى كتابة رسالته الثانية إلى كورنثوس (في فيلبي – أعمال الرسل ٢٠:١٦-٢٤). ويذكّرُنا هذا بأن أعمال الرسل، رغم روعته، ليس سجلًا كاملًا.
- فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً: “أنا خادمٌ لأني كنتُ قريبًا من الموت مراتٍ كثيرةً لأجل يسوع.” ونحن نعرف أن بولس اقترب من الموت عندما حاول حشدٌ أن يعدموه رجمًا بالحجارة في لسترة (أعمال الرسل ١٩:١٤)، لكن كانت هنالك مراتٌ كثيرةٌ أخرى.
- لا بد أن تكون الحادثةُ في لسترة (المسجّلة في أعمال الرسل ١٩:١٤) هي ما أشار بولس إليها عندما قال: “مَرَّةً رُجِمْتُ.”
- ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً: “أنا خادمٌ للمسيح لأني سافرتُ أميالًا كثيرةً لأجل يسوع واحتملتُ مشقاتٍ كثيرةً لأجل يسوع.” وفي عالمنا اليوم، يمكنُ أن يكون برنامجُ سفرٍ كثيرُ الانشغال صعبًا على أيّ شخصٍ. ولكن فكّرْ كيف كان الوضعُ في العالم القديم!
- نقرأُ عبر سفر أعمال الرسل عما لا يقلُّ عن ١٨ رحلةً قام بها بولس بالسفينة، وقد حدث نصفُها قبل كتابة رسالته الثانية إلى كورنثوس. وبما أن سِفر أعمال الرسل سجلٌ غيرُ كاملٍ، لا بدّ أنه كانت رحلاتٌ أكثرُ. ويقولُ بعضُ المؤرخين إنه لا يوجدُ أيُّ شخصٍ آخر في العالم القديم كُتب عنه أنه سافر على نطاقٍ واسعٍ كما فعل بولس.
- بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ: “أنا خادمٌ للمسيح لأني أحتملتُ أخطارًا كثيرةً لأجل يسوع.”
- كلُّ هذه الأخطار تزيدُ من صعوبة حياة بولس القاسية الممتلئة بالإجهاد والضغط النفسيّ:
- بِأَخْطَارِ سُيُول: تشيرُ هذه إلى الأخطار العظيمة التي واجهها بولس وهو يقطعُ الأنهار أثناء سفره.
- بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ: كان أحدُ أسوأ أخطار السفر في العالم القديم السارقين المستعدين لسلب المسافرين المعزولين في أيّ مكانٍ (كما وضّح يسوعُ ذلك في لوقا ٣٠:١٠).
- بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ: تعرّض بولس لرعاعٍ عدائيين كثيرين في المدن التي كرز فيها ( أعمال الرسل ٥٠:١٣، ٥:١٤، ١٩:١٤، ١٩:١٦، إلخ).
- بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أمضى بولس في أسفاره أيامًا وليالي كثيرةً محفوفةً بالمخاطر في البرية.
- بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ: يشيرُ هذا إلى المرّات الكثيرة التي تحطمت فيها السفينةُ به والصعوبات التي واجهها أثناء أسفاره البحرية.
- بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ: تعرض بولس إلى خطرٍ من أولئك الذين زعموا أنهم إخوةٌ في الإيمان وأصدقاءُ له، لكنهم كانوا إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ (نجدُ مثلًا لاحقًا في تيموثاوس الثانية ١٤:٤).
- فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ: نحن معزولون في عالمنا الحديث عن كثيرٍ من هذه الصعوبات التي واجهها بولس. إذ يمكنُنا أن نحصل على الماء والطعام والدفء بسهولةٍ أكبر بكثيرٍ مما كان يمكنُ أن يفعله بولس. فقد عاش بولس حياة مرسلٍ صعبةً، يسافرُ ويكرزُ بالإنجيل.
- ليس مجردُ حقيقة صعوبة حياة بولس هي التي جعلته خادمًا للمسيح. إذ يعيشُ أشخاصٌ كثيرون حياةً صعبةً جدًّا لكنهم ليسوا بأية طريقةٍ من الطرق خدّامًا للمسيح. وأمّا بالنسبة لبولس، فقد قبل كلّ هذه المخاطر والمشقات بمحض اختياره الحرّ لأنه كان يمكنُ أن يحيا حياةً مختلفةً لو أراد، لكنه لم يُرد ذلك. أراد أن يخدم يسوع، وإذا كانت تلك المشقاتُ جزءًا من خدمة يسوع، فإنه مستعدٌّ أن يقبلها.
- كيف يمكنُ لشخصٍ عاش مثل هذه الحياة أن يكون سعيدًا؟ لأنه مات عن نفسه! لأنه كان بمقدوره أن يقول: “مع الْمسيح صُلبْتُ، فأحْيا لا أنا، بل الْمسيحُ يحْيا فيّ. فما أحْياهُ الآن في الْجسد، فإنّما أحْياهُ في الإيمان، إيمان ابْن الله، الّذي أحبّني وأسْلم نفْسهُ لأجْلي.” ( غلاطية ٢٠:٢) وبسبب ذلك، استطاع بولس أن يمارس ما كرز به عندما كتب: “نفتخرُ في الضيقات” ( رومية ٣:٥). فلم يكن هذا مجرد “كلامٍ روحيٍّ” من بولس. إذ عاشه فعلًا. كان بمقدور بولس أن يقول ويعني ما كتبه سابقًا في كورنثوس الثانية ١٧:٤-١٨: “لأنّ خفّة ضيقتنا الْوقْتيّة تُنْشئُ لنا أكْثر فأكْثر ثقل مجْدٍ أبديًّا. ونحْنُ غيْرُ ناظرين إلى الأشْياء الّتي تُرى، بلْ إلى الّتي لا تُرى. لأنّ الّتي تُرى وقْتيّةٌ، وأمّا الّتي لا تُرى فأبديّةٌ.”
- لا بدّ أن “فائقي الرسل” والمؤمنين الكورنثيين الذين ابتلعوا أكاذيبهم الدنيوية اعتقدوا أن بولس كان مجنونًا عند هذه النقطة. فلم يجدوا شيئًا يفتخرون به في المشقات التي افتخر بها بولس. فبالنسبة لهم، كانت هذه المشقاتُ تقولُ: “ليس اللهُ معي. أنا خاسرٌ. أنا ضعيفٌ. لستُ سعيدًا. حياتي صعبةٌ أكثرُ مما ينبغي.” فلم يكونوا يفتخرون إلا بصورة القوة ومظهر النجاح. فإذا لم يمتلكوا هذه الصورة، فإنهم يحسون بأن الله ضدّهم. وكان هذا تفكيرهم لأن عقليتهم دنيويةٌ بدلًا من أن يمتلكوا عقلية يسوع كما هي في فيلبي ٥:٢-١١.
- “هذا هو الثمنُ الذي دفعه بولس. فما هو ردُّ فعلك لهذا؟ هل تهنئُ نفسك على أنك نجوت منها؟ لو عشنا أسبوعًا واحدًا من نوع حياة بولس لكان قد قُضي علينا، لكنه عاشها طوال عمره وافتخر في ضعفاته.” ريدباث (Redpath)
- كانت الأخطار في حياة بولس كثيرةً وكافيةً حقًا لقتل أيّ إنسانٍ، لكن ما كان لأيّ شيءٍ أن يقتله إلا عندما أتمّ اللهُ قصده في حياته على الأرض.
- كلُّ هذه الأخطار تزيدُ من صعوبة حياة بولس القاسية الممتلئة بالإجهاد والضغط النفسيّ:
- عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذلِكَ: التَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ، الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ: إضافةً إلى كلّ المخاطر التي تضغطُ على الأعصاب، والتي سبق أن ذكرها بولس، عاش يوميًا حاملًا تثقُّلًا آخر: الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ.
- لم تكن الأخطارُ التي سبق أن ذكرها بولس أحداثًا يوميةً، لكن اهتمامه بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ لم يفارقْه قطّ. فلم تكنْ أعباءُ بولس جسميةً فحسبُ، بل عاطفيةً أيضًا.
- مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟ لم يكن اهتمامُ بولس العميقُ منصبًّا على نفسه، بل على الآخرين، على كلّ من يضعفُ وكلّ من يعثرُ. كانت لديه أعباءٌ كثيرةٌ، لكنْ قليلةٌ جدًا منها كانت متصلةً بشخصه. فقد كان بولس، شأنُه شأنُ يسوع، شخصًا متمحورًا على الآخرين.
- يعلّقُ ريدباث (Redpath) على “التَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ” كالتالي: “لا أستطيعُ أن أوصل إليكم بشكلٍ كافٍ في اللغة الإنجليزية قوّة هذه العبارة. حاولتُ أن أتصورها من منظور شخصٍ يتعرضُ للخنق تحت بطانيةٍ أو يتعرضُ للهجوم والسحق من حيوانٍ ضخمٍ. إذ ما كان بإمكانه أن يستخدم كلمةً أقوى من هذه ليقول ما مفادُه: ’هذا الذي يضغطُني إلى أسفلُ بثقله، هذا الذي عليّ كحمْلٍ لا يطاقُ، هذا الذي هو عبءٌ، هذا الذي لا أستطيعُ أن أتخلصُ منه ليلًا أو نهارًا. هذا هو حالي دائمًا. ليست لديّ عطلةٌ منها أبدًا. فهي تتراكمُ عليّ كلّ يومٍ. رعايةُ الكنائس جميعها، والرأفةُ بها، والاهتمامُ بها، وقلقي عليها.”
- لم يكنْ اهتمامُه (قلقُه) العميقُ “هرجًا خاليًا من الإيمان.” “لم يكن هذا القلقُ متمركزًا على الأخبار المزعجة التي تناهت إلى مسامعه فحسبُ، بل أيضًا على معرفته بمكر عدوّ النفوس المتوحّش الذي أدرك بولس أنه لن يتوقف عند أية محاولةٍ لإحباط عمل الإنجيل.” هيوز (Hughes)
- إِنْ كَانَ يَجِبُ الافْتِخَارُ، فَسَأَفْتَخِرُ بِأُمُورِ ضَعْفِي: ما هو افتخارُ بولس؟ ما هي مؤهلاتُه كرسولٍ؟ إنها نُدوبُه – الأمورُ المتعلقةُ بِأُمُورِ ضَعْفِه. ربما يشيرُ بولسُ بكلمة ضعف إلى مرضٍ أو ضعفٍ جسميٍّ. ولكن يرجحُ أنه يشيرُ إلى حياة المشتقة والإجهاد التي عاشها ككلٍّ.
- ما كان يمكنُ أن يخطر يومًا ببال الرسل الزائفين، فائقي الرسل، أن يفتخروا بمثل هذه الأمور. فقد كانوا يعتقدون أن الضعف يجعلُ المرء ضعيفًا وبعيدًا عن الله. ورغم ذلك، لم يكنْ بولس ليهتمّ إن كان بدا أحمق في عيون العالم أو في عيون الذين في الكنيسة الذين يفكّرون مثل العالم. فقد عاش بولس بمنظورٍ أبديٍّ، لا من منظورٍ دنيويٍّ.
- “لن أفتخر بإمكاناتي الطبيعية أو المكتسبة، ولا بما فعله اللهُ من خلالي. بل سأفتخرُ بما تألمتُ من أجله.” كلارك (Clarke)
- اَللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ، يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ: يدركُ بولس أن ما كتبه للتوّ ربما يبدو غير قابلٍ للتصديق بالنسبة لبعض الأشخاص، وربما يشكُّ بعضُهم في حقيقة معايشته لمثل هذه المشقات أصلًا. ويرجحُ أيضًا أن أشخاصًا أكثر يمكنُ أن يشكّوا في أن بولس كان يفتخرُ حقًا في هذه الضيقات. ولهذا يستخدمُ بولس لغةً قويةً ليعلن أن الله شاهدٌ على أنه يقولُ الحقّ.
- “’اللهُ يعلمُ.‘ ماذا يعلمُ؟ إنه يعلمُ كلّ المعاناة وكلّ المحن وكلّ الحقائق التي أشار إليه، وأنه انتصر على طول الطريق. ’اللهُ يعلم.‘ هذا هو سرُّ افتخاره العميق.” مورغان (Morgan)
- فِي دِمَشْقَ… فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيل (سَلِّةٍ) مِنَ السُّورِ: ربما كان هذا أول خطرٍ حقيقيٍّ واجههُ بولس لأجل يسوع ( أعمال الرسل ٢٣:٩-٢٥). وهو يعودُ بفكره إلى هذا الحدث المبكر، ربما معتقدًا أن هروبه من دمشق كان مجرد “تدريبٍ على الاضطهاد.” فكأنه يقول: “هكذا بدأتْ خدمتي، وهكذا هي تستمرُّ.”
- يعلق هيوز (Hughes) حول هروب بولس في دمشق: “كان حدثًا أكد، في بداية خدمته، ضعفه الكامل وهشاشته.”
- يوضّحُ هذا الحدثُ بقوةٍ النقيض بين شاول الطرسوسيّ وبولس الرسول. فقد سافر شاولُ الطرسوسيُّ إلى دمشق محملًا بالقوة والسلطة للقبض على شعب الله. وأما بولسُ الرسولُ فغادر دمشق في تواضعٍ في سلةٍ. فهل هناك وصفٌ أكثرُ للضعف من إنزاله في سلةٍ من فوق سورٍ؟ “هل يمكنُنا أن نفكر في أيّ شيءٍ أكثر احتمالًا من سلب إنسانٍ كلّ إحساسٍ بالكرامة من ذلك؟” مورغان (Morgan)
- تعودُ الإشارة إلى الْحَارِثِ الْمَلِكِ وهروب بولس من دمشق إلى ما بين ٣٧-٣٩م. وعندما نأخذُ في اعتبارنا السنوات الثلاث المذكورة في غلاطية ١٨:١، وأن هذا الحدث وقع في نهاية تلك السنوات الثلاث، يمكنُنا أن نخمّن أن بولس تجدّد ما بين ٣٤ و٣٦م.