رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ٢
خطة إبليس وانتصار يسوع
أولاً. تغييرُ خطط بولس: أسبابٌ أخرى وراء إساءة تفسير المؤمنين في كورنثوس لعدم مجيءِ بولس إليهم مرةً أخرى.
أ ) الآيات (١-٢): بولس يتذكرُ زيارته المحزنة إلى أهل كورنثوس.
١وَلكِنِّي جَزَمْتُ بِهذَا فِي نَفْسِي أَنْ لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضًا فِي حُزْنٍ. ٢لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يُفَرِّحُنِي إِلاَّ الَّذِي أَحْزَنْتُهُ؟
- وَلكِنِّي جَزَمْتُ: يواصل بولس الفكرة التي بدأها في الأصحاح الأول مدافعًا عن نفسه ضدَّ تهم المؤمنين في كورنثوس. فقد انتقده بعضُهم لأنه قام بتغيير خططِه للسفر ولم يأتِ إليهم كما خطّط. فاستخدموا تغيير خططِه ذريعةً ليقولوا عنه: “إنه لا يُعتمد عليه، وهو غيرُ جديرٍ بالثقةِ. ولهذا لا ينبغي أن نستمع إليه على الإطلاق.” لكن بولس يشرح أنه كانت هناك أسبابٌ كثيرةٌ دفعته إلى عدم المجيءِ كما خطّط، من بينِها أنه كان يشفق على الكورنثيين (كورنثوس الثانية ٢٣:١).
- لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضًا فِي حُزْنٍ: كانت زيارة بولس الأخيرة إلى كورنثوس ممتلئةً بالصراع والمشاكل، ولذلك جَزَمْ أن لا يقوم بزيارةٍ محزنةٍ ثانيةٍ إلى أهل كورنثوس.
- “بسبب الفضائح الموجودة بينهم، لم يكن بمقدور بولس أن يراهم بشكلٍ مريح. ولهذا عزم ألا يراهم على الإطلاق إلى أن تتولد لديه قناعةٌ أن تلك الشرور قد تم التخلص منها.” كلارك (Clarke)
- لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يُفَرِّحُنِي: عرف بولس أيضًا أن زيارةً مؤلمةً ثانيةً لن تكونَ جيدةً بالنسبة له. إذ يمكنُ للصراع المستمر مع المؤمنين في كورنثوس أن يُلحقَ ضررًا بالغًا بعلاقتِه بهم.
- يبدو أن بولس اعتقد أنه من الأفضل أن يعطي المؤمنين الكورنثيين بعض المجال، ويتيح لهم الفرصة ليتوبوا وأن يسوّوا أمورهم معًا في هذا الشأن. إذ لم يُرِد أن يوبخَهم وينذرهم طيلة الوقت. وبما أن هذا ما كان في قلب بولس، عرف أن زيارةً أخرى من نفس النوع لن تكون ذات فائدةٍ كبيرةٍ له أو للمؤمنين في كورنثوس.
ب) الآيات (٣-٤): بدلًا من قيامِ بولس بزيارةٍ أخرى، كتبَ رسالةً.
٣وَكَتَبْتُ لَكُمْ هذَا عَيْنَهُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ مِنَ الَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ، وَاثِقًا بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ. ٤لأَنِّي مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا، بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي عِنْدِي وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ.
- وَكَتَبْتُ لَكُمْ هذَا عَيْنَهُ: فهِمَ بولس في حكمته في ضوء الظروف كلِّها أن رسالةً ستكونُ أفضل من زيارةٍ شخصيةٍ. إذ يمكنُ لرسالةٍ أن تبيّن قلب بولس، لكن من دون إتاحة فرصةٍ كبيرةٍ لتدهور العلاقات بينه وبينهم، وأيضًا ستعطيهم مجالًا للتوبة وتصويب علاقتهم بالله وببولس مرةً أخرى.
- أين هذه الرسالة التي يتحدث عنها بولس؟ يرى بعض الباحثين الجيدين أن رسالة كورنثوس الأولى هي “الرسالةُ المحزنةُ.” ولكن يبدو أنه أفضل أن نفكر فيها كرسالةٍ أخرى ليست لدينا الآن. فهل يعني هذا أن هنالك شيئًا مفقودًا من كتابنا المقدس؟ لا، على الإطلاق. فليست كلُّ رسالةٍ كتبها بولس وحيًا كتابيًا لكل شعب الله في كل العصور. ويمكنُنا أن نتأكد من أن ما كتبه بولس في رسالته المفقودة كانت ملائمةً تمامًا للمؤمنين في كورنثوس في ذلك الوقت، لكنها ليست ملائمةً لنا، وإلا لَحفظَها اللهُ لنا. فلا ينبغي أن نفكر أن كلَّ شيءٍ كتبه بولس أو أيُّ كاتبٍ من كُتّابِ الوحي في الكتاب المقدس وحيٌ بالضرورة.
- حَتَّى إِذَا جِئْتُ لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ: أمِلَ بولس أن تؤدي رسالته هذه إلى التخلص من العمل الأليم المُعيقِ. وعندئذٍ، عندما يزورهم شخصيًا، ستكون زيارةً ممتعةً لأنهم سيكونون قد استغلوا الفرصة التي أتاحها لهم لتصويب أمورِهم.
- مِنَ الَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ: كان السلوك السيّئُ للمؤمنين في كورنثوس أكثر مدعاةً للقلق بالنظر إلى الكيفية التي كان عليهم أن يعاملوا بها الرسول الذي قدّم لهم الكثير.
- “كلُّ الشرور، كعناصر، مثيرةٌ جدًا للقلق، عندما تخرج عن مكانها الصحيح، مثل فجور الأساتذة الجامعيين وظلم القضاة وعدم اللطف والتصرف غيرِ اللائقِ مع الرعاة.” تراب (Trapp)
- مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: لم يجدْ بولس متعةً في مواجهة المؤمنين في كورنثوس. فقد كان هذا أمرًا صعبًا عليه، وقد فعله بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ. ولم يكن هدفُه لِكَيْ يحْزَنُوا، بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي عِنْدِي وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ.
- سيحتاج المؤمنون الكورنثيون إلى بعض النضج لكي يتقبّلوا تقويم بولس لهم على هذا النحو. فمن السهل علينا أن ننظر إلى شخصٍ يقدّمُ التقويمَ والتصحيحَ لنا كعدوٍ وعلى أنه ضدُّنا. ولكن عادةً ما يجلب الآخرون التقويم والتصحيح لنا لأنهم يحبوننا، كما أَحبَّ بولس مؤمني كورنثوس. فلم يكنْ قصدُه أن يحزنَهم، بل أن يعبر عن محبته لهم.
- “ما كان لي أن أعلمَ بوجود قدرٍ من عدمِ الرضا عني – إذ لم أكنْ أدركُ ذلك – لولا أن شخصًا آخر واجهَني بهذا بقوةٍ. ولكني تعاملتُ مع الشخصِ المقاومِ لي بكلِّ كياسةٍ وودٍّ، ولم أسمعْ منه انتقادًا لهذا الأمر مرةً أخرى. فلو عاملتُ هذا الشخصَ الصالح كخصمٍ، لبذل كلَّ ما بوسعه للقيام بدوره الموكولِ إليه ونفّذَه كنقطةٍ تُحسَبُ له بطريقةٍ تستحقُّ المديح والاحترام.” سبيرجن (Spurgeon)
- كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ: “كُتبتْ رسائلُ القديسِ بولس بدموعٍ لا بحبرٍ.” تراب (Trapp)
ثانياً. مناشدةُ بولس أن يسامحوا الأخ الذي أخطأ
أ ) الآيات (٥-٧): يوصي بولس المؤمنين في كورنثوس بأن يسامحوا الأخ الذي أخطأَ (وتابَ) بينهم.
٥وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَحْزَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْزِنِّي، بَلْ أَحْزَنَ جَمِيعَكُمْ بَعْضَ الْحُزْنِ لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ. ٦مِثْلُ هذَا يَكْفِيهِ هذَا الْقِصَاصُ الَّذِي مِنَ الأَكْثَرِينَ، ٧حَتَّى تَكُونُوا بِالْعَكْسِ تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هذَا مِنَ الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ.
- إِنْ كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَحْزَنَ: يُظهِرُ بولس حكمةً ورأفةً رعويتين. فهو يشير إلى شخصٍ معينٍ بين الكورنثيين، لكنه لا يسمّيه. ومن المؤكد أن هذا الرجل سعيدٌ لأن اسمه غير مدونٍ في كلمة الله الأبدية.
- من هو هذا الرجل؟ يرجَّحُ أنه نفس الرجل الذي طلب بولس من المؤمنين في كورنثوس أن يواجهوه في كورنثوس الأولى الأصحاح الخامس. وقد استخدم هذا التعبير في كلتا الرسالتين في وصف الرجل الذي كان يعيش حياةَ انحلالٍ أخلاقيٍّ مع زوجة أبيه.
- يختلفُ بعض المفسرين حول هذه النقطة، حيث يعتقدون أن بولس يتحدث هنا عن رجلٍ آخر تمامًا. وهم يعتقدون أن هذا الرجل أخطأ بتوجيه إهانةٍ مباشرة لبولس أثناء “زيارته الأليمة.” ولكن تخبرنا الآية في كورنثوس الثانية ١٠:٢ أن بولس توقع من المؤمنين في كورنثوس أن يسامحوا الرجل “أولًا” وعندئذٍ سيسامحُه بولس. فلو أن الإهانة كانت مسألةً شخصيةً تمسُّ بولس، لتوقّعنا أن يكون الأمرُ معكوسًا. ولكن يقول بولس بوضوح إن هذا الرجل لم يحزنه (فَإِنَّهُ لَمْ يُحْزِنِّي). فيبدو إذاً أن إساءتُه لم تكن موجهةً إلى بولس، ولهذا فمن المرجح أن يكون هذا الرجل هو من طالب بولس بمواجهته في كورنثوس الأولى ٥.
- لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ: من الواضح أن هذا الرجل كان تحت تأديب الكنيسة، كما أوعز بولس في كورنثوس الأولى ٥، وتلقى الْقِصَاصُ الَّذِي مِنَ الأَكْثَرِينَ. وعلى ما يبدو أن الرجل تاب بعد هذا القصاص، لكن المؤمنين في كورنثوس رفضوا أن يقبلوه ثانيةً! ولهذا يطلب منهم بولس أن لا يثقلوا عليه، أي أن لا يكونوا قاسيين عليه فوق الطاقة، وأن يَعُدّوا أن القصاص الذي تلقّاهُ يكفيه، وأن تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ.
- نجد في كورنثوس الأولى ٥ أن بولس وبّخ بشدةٍ المؤمنين في كورنثوس على موقفهم غير المتوقع من الرجل وخطيته. وأمرهم قائلًا: “بأن يسلَّمَ مثلُ هذا للشيطانِ لهلاكِ الجسدِ” (كورنثوس الأولى ٤:٥-٥)، وأن يضعوه خارج الحماية الروحية والاجتماعية لعائلة الكنيسة إلى أن يتوب.
- ونجحت الخطة! قام المؤمنون في كورنثوس بتطبيق الْقِصَاص. وعلى ما يبدو أن الرجل تابَ. والآن، يتوجب على بولس أن يطلب من الكنيسة أن تستردَّ الرجل التائب.
- تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ: كانوا على نفس القدر من الخطأ في منع الغفران للرجل واسترداده عندما تاب كما كانوا يرحّبون به بأذرعٍ مفتوحةٍ عندما كان منغمسًا في الخطية. قد أخطأ المؤمنون في كورنثوس في حالتي التطرف، فكانوا إما متساهلين أكثر مما ينبغي أو قاسيين أكثر مما ينبغي.
- طلب منهم بولس أن يفعلوا ما هو أكثر من المسامحة. إذ طلب منهم أن يعزوه: تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ. “قد تكون هنالك مسامحةٌ قضائيةٌ، وهي صعبةٌ لأنها تترك النفس واعيةً بالماضي دائمًا. وأما التعزية فهي تنسى. وهكذا ينبغي أن نفعل نحن أبناءه.” مورغان (Morgan)
- “إن كان هنالك افتقارٌ إلى التأديب إلى حدٍّ كبيرٍ في الكنيسةِ اليوم، فإن هنالك افتقارًا أيضًا إلى نعمة الغفران وتعزية الذين أخطأوا وتابوا توبةً حقيقيةً. ومن المؤسف أنه في مراتٍ كثيرةٍ لا تحصى تمَّ ابتلاع نفوسٍ بالفعل من الحزن المفرط بسبب فظاظة المؤمنين وشكِّهم تجاهَهم بسبب إساءةٍ ما ارتكبوها… فالمحبةُ لا تتجاهل القداسةَ أبدًا، والقداسةَ لا تذبح المحبةَ أبدًا.” مورغان (Morgan)
- لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هذَا مِنَ الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ: كان موقفُهم القاسي من ذلك الرجل ينطوي على خطرٍ حقيقيٍّ: فبحجبِهم الاسترداد والغفران عن ذلك الرجل، كانوا يخاطرون بتدميره، الأمرُ الذي قد يتسبب في أن يُبْتَلَعَ مِنَ (يَتَمَلَّكَهُ) الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ.
- “هذا قولٌ من أقوالِ أوستن (Austin): ليحزن الرجل على خطيته، ثم فليفرح بسبب حزنِه. ولكن إذا تجاوز الحزنُ الخطية وعطلنا عن أداء واجباتِنا، يصبحُ حزنًا آثمًا بالفعل رغم أنه حزنٌ على الخطية.” تراب (Trapp)
- إن عمل استرداد الخطاة هو بنفس أهمية عمل التوبيخ. ويقتبسُ تراب (Trapp) مثلًا متطرفًا لفشل الاسترداد: “لقد أحرق أنصار البابا بعض الذين تراجعوا تابوا تحت التعذيب الشديد، قائلين إنهم سيخرجونهم من العالمِ بينما كانوا في ذهنٍ جيدٍ.”
ب) الآيات (٨-١١): فهمُ خطة إبليس في هذه المسألة
٨لِذلِكَ أَطْلُبُ أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ. ٩لأَنِّي لِهذَا كَتَبْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟ ١٠وَالَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضًا. لأَنِّي أَنَا مَا سَامَحْتُ بِهِ إِنْ كُنْتُ قَدْ سَامَحْتُ بِشَيْءٍ فَمِنْ أَجْلِكُمْ بِحَضْرَةِ الْمَسِيحِ، ١١لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ.
- لِذلِكَ أَطْلُبُ أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ: بما أن الرجل تجاوب مع التقويم وتاب، آن الأوان للمحبة والشفاء. وكان عليهم أن يؤكدوا له محبتهم (أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ).
- “عندما نُشعِر المسيء بأنه هو نفسه محبوبٌ رغم إيقاع العقاب على خطيته وأن الغاية من العقاب في نهاية الأمر لم تكن تعريضه للألم بل تهدف إلى خيره ومصلحته، فإن من المرجحِ جدًا أن يُقادَ إلى التوبةِ.” هودج (Hodge)
- لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ (إنْ كُنْتُمْ سَتَصْمُدُونَ أمَامَ الامْتِحَانِ): كتب بولس بلهجةٍ شديدةٍ في كورنثوس الأولى ٥ ونجح المؤمنون في كورنثوس في الامتحان بالامتثال إلى ما طلب منهم بولس أن يفعلوه. وهو الآن يضعُهم في الامتحان مرةً أخرى: لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ، طالبًا منهم أن يُبدوا محبةً للأخ التائب.
- أراد بولس من المؤمنين في كورنثوس أن يكونوا طائعين في كل شيء. فهل سيجدون أنه كان أسهل عليهم أن يطيعوا عندما طلب منهم أن يكونوا “حازمين” من أن يطيعوا عندما طلب منهم أن يُظهروا المحبة ويستردوا الأخ؟
- وَالَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضًا: كان الرجل المسيء قد أخطأ إلى بولس أيضًا إما بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. وتوقّعَ بولس من المؤمنين في كورنثوس أن يأخذوا زمام المبادرة وإظهار المحبة للرجل واسترداده.
- حتى لو اضطرت الكنيسة إلى التعامل مع شخصٍ ما بصفته غير مؤمنٍ كمسألة تأديبٍ كنسيٍّ، يتوجبُ علينا أن نتذكرَ أنه ينبغي لنا أن نعامل غير المؤمنين بمحبةٍ واهتمامٍ، آملين أن نربحَهم ليسوع، متلهّفين إلى توبتِهم.
- لا يوجد تناقضٌ أو عدمُ ثباتٍ: “وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ.” (لوقا ٣:١٧)
- لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ: عرف بولس أن هذه قضيةٌ تدعو إلى قلقٍ خاصٍ لأن إبليس ينتظرُ الفرصة السانحة لكي يستغلَّ أخطاءَنا أو يَطْمَعَ فِينَا ككنيسةٍ وكأفرادٍ.
- يصفُ تراب (Trapp) كيف أن الشَّيْطَان يحبُّ أن يستغلَّ ويَطْمَعَ: “هذا التاجرُ المحتالُ الخبيثُ، مصّاصُ الدماءِ الجشعُ، ذاك الذي يلتهمُ لا بيوت الأرامل فحسب، لكن النفوس أيضاً.”
- يَطْمَعَ فِينَا: استخدمت الكلمةُ اليونانيةُ (pleonekteo) في أربعِ آياتٍ أخرى في العهد الجديد (كورنثوس الثانية ٢:٧، ١٧:١٢-١٨، تسالونيكي الأولى ٦:٤). وهي تحملُ فكرة خداع شخصٍ ما وتجريده من شيءٍ يمتلكُهُ… فعندما نجهلُ خطط إبليس، فإنه يكونُ قادرًا على أن يأخذ منا الأشياء التي تخصُّنا في يسوع، مثل السلام والفرح والشركة والإحساس بالغفران والانتصار.
- لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ: يمكنُ أن يُستخدم عدم إظهارهم للمحبة للرجل التائب كخطة من إبليس.
- إن منعَ الغفران عن الشخص التائب هو لعبةُ إبليس. “لا يوجد ما هو أكثر خطرًا من أن نعطي إبليس فرصةً لدفع خاطئٍ إلى هاوية اليأس. فإذا لم نلجأْ إلى تعزية الذين تحركوا إلى اعترافٍ صادقٍ بخطاياهم، فإننا نلعب لعبة إبليس.” كالفن (Calvin)
- أَفْكَارَهُ (مكائده): يمتلكُ إبليسُ أدوات (خطط) يستخدمُها ضدَّنا لكي يستغلَّنا. وقد استطاع بولس أن يقول إنه لم يكن يجهلُ خطط إبليس، لكن مؤمنين كثيرين بالمسيح لا يستطيعون قول الشيء نفسِه.
- تمثلت خطة إبليس ضدّ الرجل الخاطئ أولًا في التركيز على الشهوة، ثم استخدام اليأس وفقدان الرجاء. وتمثلت خطته ضدّ الكنيسة أولًا في التساهل مع الشر، ثم استخدام القساوةِ غير المبررة في العقاب. وتمثلت خطته ضدّ بولس في جعله يحسُّ بالضغط النفسيِّ والانزعاج تجاه المؤمنين في كورنثوس حتى إنه فقد السلام وصار أقلَّ فاعليةً في الخدمة.
- عرّفَ كالفن (Calvin) معنى كلمة ’أَفْكَارَهُ‘ كالتالي: “المكايد المتقنة والحيل التي ينبغي للمؤمنين أن يكونوا واعين لها، وسوف يدركون هذه الحيل إن سمحوا لروح الله بأن يسود عليهم.” فهل تسمح لروح الله بأن يجعلك واعيًا بخطط إبليس ضدّك الآن؟ ما هي نقطة ضعفك التي يحاول أن يستغلَّها؟ أين يحاول إبليس أن يحصل على موطئ قدمٍ في حياتك؟ هل نحن نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ؟
ثالثاً. انتصار يسوع المسيح
أ ) الآيات (١٢-١٣): ما فعله بولس في طريقِه إلى مكدونية.
١٢وَلكِنْ لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاسَ، لأَجْلِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَانْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي الرَّبِّ، ١٣لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي. لكِنْ وَدَّعْتُهُمْ فَخَرَجْتُ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ.
- انْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي الرَّبِّ: كان بولسُ مهتمًّا بالخدمة حيثما كان يفتح الله له بابًا. فالطريقة الوحيدة لكي يبارك الله عملَنا هي أن تكون الخدمة منه.
- عندما نرى بابًا مفتوحًا، يمكننا أن نثق بأن الله سيبارك الخدمة. “حيثما يضع السيد نورًا، فإن هنالك عملًا ما ينبغي عملُه؛ وحيثما يرسلُ فَعَلَتَه، فإن هنالك حصادًا ما للجمع.” تراب (Trapp)
- لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي: رغم أنه كان هنالك بابٌ مفتوحٌ، إلا أن بولس شعر بأنه لن يقدر على القيامِ بكل ما يلزم إذا لم يكن تِيطُس موجودًا هناك. فلم يَعُدَّ بولس خدمته كعرضٍ يقومُ به شخصٌ واحدٌ فقط، وعرف أنه كان محتاجًا إلى أشخاصٍ آخرين معه وإلى جانبِه.
- يذكرُ بولس في كورنثوس الثانية ١٣:٢ مغادرته إلى مكدونية، ويكتب في كورنثوس الثانية ٥:٧ عن وصوله إلى مكدونية. لهذا، يُدعى النصُّ ما بين كورنثوس الثانية ١٤:٢ وحتى ٤:٧ أحياناً: “الاستطرادَ الكبيرَ” (أو إنحرف غريب عن الموضوع). وفي هذا القسم الموسّع يصف بولس خدمته كرسولٍ ويدافع عنها.
ب) الآية (١٤): يسوع، القائد المنتصر
١٤وَلَكِنْ شُكْرًا لِلَّهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
- شُكْرًا لِلَّهِ الَّذِي يَقُودُنَا: تعامل بولس مع نقد المؤمنين في كورنثوس الذين اتهموه بأنه غيرُ موثوقٍ به ولا يمكن الاعتماد عليه لأنه غير خططه للسفر. وقد أراد، أكثر من أي شيءٍ آخر، أن يعرف المؤمنون في كورنثوس أنه يتبع يسوع المسيح بصفته آمِرَهُ الأعلى. وأهم خطة أراد بولس أن يعلنَها لمؤمني كورنثوس هي خطة أنه يتبع يسوع المسيح فقط وليس سواه.
- الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ: يستعير بولس هنا صورةً من العالم الروماني يرى فيها يسوع كقائدٍ غازٍ منتصرٍ في موكبٍ انتصاريٍّ. إذ كان يقام موكبٌ انتصاريٌّ للقادة الناجحين لدى عودتهم من فتوحاتهم وغزواتهم.
- “استعيرت هذه الفكرة من انتصارات روما القديمة التي كان ينظر إليها العالم في ذلك الوقت على أنها المشهد الأمجد الذي يمكن للخيالِ أن يتصورَه.” ماير (Meyer)
- “كان القائد المنتصر في الموكب الانتصاري يسير عبر شوارع روما حتى يصل مقر الحكم… وكان يأتي أولًا مسؤولو الولاية وأعضاء مجلس الشيوخ. ثم تدوّي الأبواقُ. وكان القائد يعرض الغنائم التي غنِمَها من البلد المغزوِّ… ثم كانت هنالك صور للأرض المغزوة ونماذج من القلاع والسفن المقهورة. وكان يتبع ذلك ذبحُ ثورٍ أبيض في تلك المناسبة. ثم كان يمشي الأمراء والقادة والجنرالات الأسرى في سلاسل، وبعد وقتٍ قصيرٍ سيُزجّون في السجنِ، وعلى الأرجحِ أنهم سيُعدمون فورًا. ثم يأتي الحراس حاملين قضبانهم يتبعهم موسيقيون مع قيثاراتِهم. ثم يأتي الكهنة وهم يؤرجحون مباخرهم مع الرائحة العذبة للبخور المحترق. وبعد ذلك يأتي القائد الأعلى نفسه. وأخيرًا يأتي الجيش مرتديًا مختلف أنواع النياشين مطلقين هتافات الانتصار. ومع تحرُّك الموكب عبر الشوارع، وهم مزينون جميعًا بالنياشين والغار وسط هتافات الجماهير… جعل هذا كلُّه ذلك اليوم يومًا مجيدًا ربما لا يحدث إلا مرةً واحدةً في العمر.” باركلي (Barclay)
- “هذه هي الصورة التي كانت في ذهن بولس. فهو يرى المسيح يسير منتصرًا عبر العالم، ويرى نفسه في ذلك الموكب المنتصر. وهو انتصارٌ كان بولس متأكدًا من أنه لا يوجد شيءٌ يمكن أن يوقفه.” باركلي (Barclay). ويرى بولس نفسه مشتركًا في انتصار يسوع، قائد جيش الرب، بينما يرى نفسه واحدًا من ضباط الرب الرئيسيين!
- يَقُودُنَا: أراد بولس أن يعرف مؤمنو كورنثوس أنه يتبعُ قائده الأعلى، يسوع المسيح. ويكادُ بولس يرى موكب يسوع الانتصاري يتحركُ متعرّجًا في طريقه عبر الإمبراطورية الرومانية كلّها، وعبر العالمِ كلّه.
- وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ: الرائحة هي الشذى في شكل بخورٍ. وقد كانت شائعةً في مواكب الانتصار الرومانية. وهذه الرَائِحَةَ، في ذهن بولس، مثل معرفة الله، يمكن للناس أن يشموّها عندما يمرُّ الموكب الانتصاري.
- لا يبقى إحساسٌ قويٌّ في الذاكرة مثل الرائحة. ولا يوجد شيءٌ نتذكره بقوة أكثر من الروائح الذكية، ربما ما عدا الروائح الكريهة. “وهكذا، تمنّى الرسول أن تكون حياته عطرًا جميلًا يطفو في الهواء، مذكِّرًا إيانا – ومذكرًا الله قبل كل شيءٍ، بالمسيح.” ماير (Meyer)
- رائحة المسيح الذكية! لا تقتصر هذه على ما نفعله بقدر طريقتنا أو أسلوبنا في فعله؛ ليس في كلماتنا أو أعمالنا بقدر العذوبة والحنان والكياسة والكرم والرغبة في بعث السرور في الآخرين لبنيانهم. إنها النفَسُ والشذى الخارجان من حياة مغروسة في المسيح وتستمدُّ عبيرها من الشركة معه. فاعمل على أن تلفَّ نفسك حول سيدك.” ماير (Meyer)
ب) الآيات (١٥-١٦أ): يعني الموكب الانتصاري أشياء مختلفة لأشخاصٍ مختلفين.
١٥لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ للهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي الَّذِينَ يَهْلِكُونَ. ١٦لِهؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ…
- لِهؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ: كانت رائحة البخور التي تُحرق للآلهة في المواكب الانتصارية الرومانية عذبةً للمواطن الروماني. ولكنها كانت رائحة سيئة لأسير الحرب في المواكب الذي سيُعدم أو يباع عبدًا قريبًا جدًا.
- لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ للهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي الَّذِينَ يَهْلِكُونَ: وبنفس الطريقة، فإن رسالة الإنجيل رسالةُ حياةٍ لبعضهم ورسالةُ دينونةٍ للذين يرفضونها (يوحنا ١٧:٣-٢١).
- “يحدثُ الأمُر نفسُه حتى يومنا هذا للذين يقبلون رسالة الإنجيل والذين يرفضونها: إنها وسيلةُ الخلاص للأول، ووسيلةُ الهلاك للثاني؛ لأنهم لا يخلصون لأنهم لا يؤمنون برسالة الإنجيل فقط، لكنهم يدانون لأنهم يرفضونها أيضًا.” كلارك (Clarke)
ج ) الآيات (١٦ب-١٧): بولس يصف خدمته بإيجازٍ
١٦ب… وَمَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهذِهِ الأُمُورِ؟ ١٧لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، لكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ اللهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ.
- وَمَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهذِهِ الأُمُورِ؟ عندما يفكرُ بولس في عظمة خطة الله، فإنه يتساءل إن كان هنالك من هو كُفْوءٌ للعبِ دورٍ فيها. “لا يوجد من هو كفؤٌ في حد ذاته. ولكن يتوجب أن يكرز أحدهم بالمسيح، ويشرع بولس في إظهار أنه كفؤٌ لذلك.” روبرتسون (Robertson)
- “إنه عملٌ عظيمٌ أن تقوم أولًا باستشارة فكر الله وإرادته واكتشافِها عن طريق الدراسة والتأمل، ثم إيصالِها بأمانٍة إلى الناس من دون غرورٍ أو أفكار فاسدةٍ (لا تعمل إلاّ على تشويه كلمة اللهِ المكروز بها)، وثم تطبيقها على ضمائر الذين يسمعونها. فمن هو المؤهل لمثل هذه المهمة؟ أي من يمكنه الكرازة بالإنجيل كما ينبغي.” بووله (Poole)
- لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ: تحمل ُكلمةُ ’غَاشِّينَ‘ فكرة ’إضافةِ الماءِ‘ من أجل الربح الخسيس. وهذا ما كان يفعله بائعُ النبيذ الذي كان يضيف الماء للحصول على ربحٍ أكبر. فلم يكن بولس مثل أولئك الذين يضيفون الماء على (يخففون) رسالة الإنجيل من أجل الربح.
- يعلقُ تراب (Trapp) على ’غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ‘ كالتالي: “هذا هو ’أَعْمَاقَ الشَّيْطَانِ‘ – رؤيا يوحنا ٢٤؛ حيث يكون خدامُ الله الأمناء غرباء تمامًا.”
- كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ (نَتَكَلَّمُ الصِّدقَ فِي المَسِيحِ): الكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى إخلاص هي (eilikrineia) وتعني ’نقيّ‘ أو ’شفافّ.‘ يقول باركلي (Barclay): “ربما تصفُ هذه الكلمة شيئًا يحتمل فحصَه برفعه إلى نور الشمس والنظر إليه بينما تشعُّ الشمس من خلاله.” فلم تحمل رسالة بولس دوافع أو أجنداتٍ خفيةً.
- نَتَكَلَّمُ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ: كان بولس واعيًا على الدوام بأن أول مستمعٍ إليه في الخدمة هو اللهُ نفسه. فكلُ كلمةٍ قالها إنما قالها أمام الله.