رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ٤
خفَة ضيقتنا
أولاً. كيف ينبغي تقديمُ عهدٍ أمجد
أ ) الآيات (١-٢): كيف كرزَ بولس بالإنجيلِ الأمجد
١مِنْ أَجْلِ ذلِكَ، إِذْ لَنَا هذِهِ الْخِدْمَةُ كَمَا رُحِمْنَا لاَ نَفْشَلُ، ٢بَلْ قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا الْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، بَلْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ، مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ قُدَّامَ اللهِ.
- إِذْ لَنَا هذِهِ الْخِدْمَةُ… لاَ نَفْشَلُ: كرز بولس بإنجيله بجسارةٍ. فعندما وضع بولس في اعتباره عظمة دعوته، أعطاه هذا قلبًا ليواجه كلّ صعوباته. وغالبًا ما نَفْشَل لأننا لا نضع في اعتبارنا مدى عظم الدعوة التي قدّمها الله لنا في يسوع.
- إن الفكرة الكامنة وراء الكلمة اليونانية المترجمة إلى ’ نَفْشَل‘ هي ’القلب الجبان.‘ ولا تحمل هذه الكلمة اليونانية القديمة دلالة ًعلى الافتقار إلى الشجاعة فحسب، لكنها تحمل أيضًا دلالة السلوك السيئ الشريرّ.
- “ينبغي للواعظ أن يتحدث باسم الله وإلاّ فليخرس. أخي العزيز، إذا لم يرسلك الله برسالةٍ، فاذهب إلى فراشك لتنام أو إلى المدرسة أو اهتمّ بمزرعتك. فهل تعتقد أن رأيك مهم؟ إن أعطتك السماء رسالةً، فأعلنها بصوتٍ عالٍ كما ينبغي أن يتكلم الشخص المدعوّ لأن يكون فم الله.” سبيرجن (Spurgeon)
- كَمَا رُحِمْنَا: كرز بولس بإنجيله بتواضعٍ. فعرف أن دعوته المجيدة إلى الخدمة لم تكن بسبب إنجازاته الخاصة، بل برحمة الله. والرحمة حسب طبيعتها غير مستحقّةٍ.
- قَدْ رَفَضْنَا خَفَايَا الْخِزْيِ، غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ، وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ: كرز بولس بإنجيله بصدقٍ. والكلمة اليونانية القديمة المترجمة إلى ’غَاشِّينَ‘ هي فعل موجود في العهد الجديد بمعنى ’يميّع أو يخفف.‘ فبولس لم يكرز بإنجيلٍ مخفيٍّ (رَفَضْنَا خَفَايَا الْخِزْيِ) أو بإنجيلٍ مفسدٍ (مَكْرٍ… غَاشِّينَ)، بحيث يخلط الرسالة مع البراعة البشرية أو يخففها بالماء لكي يرضي جمهوره. إذ كرز بولس بإنجيل صحيحٍ.
- يفشل وعاظ كثيرون في هذه النقطة بالذات. فلديهم الإنجيل الحقيقيّ، لكنهم يضيفون إليه حكمتهم البشرية. وغالبًا ما يضيفون هذه الأمور الفاسدة أو المميّعة إلى الإنجيل لأنهم يتوهمون أن من شأن إضافتها أن يجعل الإنجيل أكثر فاعليةً أو يجتذب مزيدًا من المستمعين. وهم ما زالوا يفعلون ما أصرّ بولس على عدم فعله، غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ.
- “يخبرنا بعض مدرسي اللاهوت أنه يتعين عليهم أن يكيّفوا الحق مع تقديم العصر. ويعني هذا أنه يتوجب عليهم أن يغتالوه ويطرحوا جثته إلى الكلاب… ويعني هذا أن كذبةً شعبيةً ستحلّ محل حق مسيئ لهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- مَكْرٍ: تدلّ هذه الكلمة على “استعدادٍ خبيثٍ لتبنّي أية وسيلةٍ أو حيلةٍ لتحقيق الغايات التي هي أنانية محضة.” هيوز (Hughes)
- بِإِظْهَارِ الْحَقِّ: كرز بولس بإنجيلٍ حقيقيٍّ بشكلٍ صريح وعلنيٍّ. إذ بمقدور أيّ شخصٍ أن ينظر إلى ما كرز به بولس ويرى حقيقته. فلم يكرز بنظامٍ معقّدٍ من الأسرار الخفية.
- مَادِحِينَ أَنْفُسَنَا لَدَى ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ: كرز بولس بإنجيلٍ نزيهٍ مستقيمٍ. فكان بمقدور أيّ إنسانٍ أن ينظر إلى إنجيل بولس وخدمته، ثم يحكم عليه بضميره ويرى أنه ممتلئ بالنزاهة والاستقامة.
- هاجم بعض الناس بولس بالكلمات في حين هاجمه آخرون بأفعالٍ. غير أن بولس عرف أن خدمته ورسالته وجدا استحسانًا وموافقةً لدى ضَمِيرِ كلّ شخصٍ، حتى لو لم يقرّ بذلك.
- قُدَّامَ اللهِ: كرز بولس بإنجيله أمام الله. وكان مهمًا لدى بولس أن يعرف أن ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَانٍ سوف يستحسن أسلوب خدمته، لكن ما هو أهمّ بكثيرٍ هو أن يعرف أن ما فعله صواب قُدَّامَ اللهِ أي في نظره.
- “هنالك فحص أدق وأسمى من ضمير الإنسان. فكلّ خادمٍ للإنجيل مسؤول أمام الله في نهاية الأمر.” هيوز (Hughes)
- في مرحلةٍ لاحقةٍ من هذا الأصحاح، سيشير بولس إلى آلامه مرةً أخرى. فهو يوضح في هاتين الآيتين الأوليين أنه لم يعان لأنه كان خادمًا غير أمينٍ للإنجيل. فقد كان سهلًا على أعداء بولس أن يزعموا قائلين: “إنه يعاني لأن الله يعاقبه على عدم أمانته،” لكن هذا غير صحيحٍ على الإطلاق.
ب) الآيات (٣-٤): لماذا لا يتجاوب مزيد من الناس مع مثل هذا الإنجيل المجيد؟
٣وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُومًا، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ، ٤الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ.
- وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُومًا، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ: إن كان الناس لا يتجاوبون مع هذا الإنجيل المجيد، فليست هذه غلطة بولس أو غلطة إنجيله. فالهالكون فقط هم الذين يفوّتون الإنجيل.
- “لا ينتقص عمى غير المؤمنين من وضوح الإنجيل بأية طريقةٍ كانت. فالشمس لا تكون أقلّ تألّقًا وسطوعًا لأن الأعمى لا يدرك ضوءها.” كالفن (Calvin)
- ترجمة نسخة الملك جيمس للكتاب المقدس هذه الآية بشكل رائع: “إنه مخفيّ للهالكين.” ويحسن سبيرجن (Spurgeon) القول: “حسب هذا النصّ، إن من لا يؤمن بيسوع المسيح هو إنسان هالك. فأنت بالنسبة لله إنسان هالك، فأنت لست خادمه. وأنت بالنسبة للكنيسة هالك، فأنت لا تعمل من أجل الحقّ. وأنت بالنسبة للعالم هالك حقًا، لأنك لا تقدّم خدمةً دائمةً له. فقد خسرت نفسك الحق والفرح والسماء. وأنت هالك هالك هالك. ليس أنك ستهلك (في الأبدية) فقط، بل أنت هالك… هالك حتى في هذه اللحظة.”
- الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى: إن الْهَالِكِينَ والذين كتم الإنجيل عنهم (كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُومًا) هم أشخاص أعماهم إبليس، إِلهُ هذَا الدَّهْرِ.
- لا يعني هذا أنهم ضحايا أبرياء لعمل إبليس الذي عماهم. فعمل إبليس فيهم ليس السبب ’الوحيد‘ في كونهم عميانًا. تقول الآية في يوحنا ١٩:٣ “وهذه هي الدّينونة: إنّ النّور قد جاء إلى العالم، وأحبّ النّاس الظّلمة أكثر من النّور، لأنّ أعمالهم كانت شرّيرةً.” فرغم أن الناس يحبون الظلمة، ويختارون الظلمة، إلا أن إبليس يعمل جاهدًا على أن يبقيهم عميانًا عن إنجيل النور والخلاص المجيد في يسوع.
- نلاحظ أيضًا أن أذهان غير المؤمنين هي التي أعميت. وبطبيعة الحال، يعمل إبليس في قلب الهالك وعواطفه، لكن الساحة الرئيسية لمعركته هي ’الذهن.‘ ألا يمكننا أن نرى أن هنالك خطة لإبليس في العمل بجدٍّ على أن يفكروا ’أقلّ‘ ويتأملوا ’أقلّ‘ ويستخدموا أذهانهم ’أقلّ‘؟ ولهذا أيضًا اختار الله ’الكلمة‘ لبثّ الإنجيل، لأن الكلمة تلمس أذهاننا ويمكن أن تلمس أذهان الذين عماهم إله هذا الدهر.
- إِلهُ هذَا الدَّهْرِ: لا يستخدم هذا اللقب إِلهُ هذَا الدَّهْرِ للإشارة إلى إبليس في أيّ موضعٍ آخر من كلمة الله، لكن هذه الفكرة موجودة في نصوصٍ مثل يوحنا ٣١:١٢، ٣٠:١٤، >أفسس ٢:٢، ١٢:٦، يوحنا الأولى ١٩:٥.
- إبليس ’يسود‘ على هذا العالم بالمعنى الحقيقي لا بمعنى مطلقٍ، لأن “للربّ الأرض وملؤها، المسكونة، وكلّ الساكنين فيها.” ( مزمور ١:٢٤). ومع ذلك، يسوع لم يطعن في زعم إبليس أنه يسود على هذا الدهر الحالي (لوقا ٥:٤-٨)، فثمة شعور بأن الشيطان هو الحاكم ’المنتخب من الشعب‘ لهذَا الدَّهْرِ.
- “إن السيادة الشيطانية على العالم في واقع الأمر بادية أكثر منها واقعية وحقيقية. فالله وحده هو ’ملك الدهور‘ ( تيموثاوس الأولى ٧:١)، أي أنه الملك على كلّ عصرٍ سواء أكان ماضيًا أم حاضرًا أم مستقبلًا.” (هيوز). “إن إبليس هو الذي يُدعى هنا إله هذا الدهر، لأنه يسود على أكبر جزءٍ من العالم، وهم خدّامه وعبيده… ورغم أننا لا نجد موضعًا آخر يسمّى فيه إبليس إله هذا العالم، إلا أن مخلّصنا دعاه مرتين رئيس (أمير) هذا العالم.” بووله (Poole)
- يمكن أن تُفهم الحقيقة الكتابية المتمثلة في أن إبليس هو إِلهُ هذَا الدَّهْرِ على نحوٍ خطأٍ. إذ قام بعض المؤمنين لاحقًا (مثل المانويين) بترويج فهمٍ مزدوجٍ لله وإبليس، وأكّدوا هذه العبارة، إِلهُ هذَا الدَّهْرِ. فكان تفكيرهم يتجه إلى أن الله وإبليس ’خصمان متساويان‘ بدلًا من أن يفهموا أنه لا يمكن أن يكون إبليس بأية طريقةٍ كانت ندًّا لله. وكردّ فعلٍ لهذه العقائد الزائفة، قام كثيرون من المفسرين الأوائل (مثل أوغسطينوس وأوريجانوس ويوحنا فم الذهب وغيرهم) بتفسير هذه الآية على نحوٍ غريبٍ ’لتجريد الذخيرة‘ من الهرطقات. ولكن هذا خطأ. فلمجرد قيام شخصٍ ما بتحريف حقيقةٍ في اتجاهٍ ما، فإن هذا لا يعني أننا نستطيع أن نحرّفها أو نلويها في الاتجاه الآخر على سبيل ’التعويض.‘ يعلّق كالفن (Calvin) على هذا النهج بطريقةٍ جيدةٍ: “لأنهم كانوا يتعرضون لضغوطٍ شديدةٍ من خصومهم، كانوا أكثر حماسةً لإفحامهم من شرح ما قاله بولس.”
- وبدلًا من ذلك، يقدم كالفن (Calvin) معنى جيدًا لما ينبغي أن نفهمه من عبارة ’إِلهُ هذَا الدَّهْرِ‘: “يدعى إبليس إله هذا الدهر بطريقةٍ مشابهةٍ تمامًا لتسمية البعل إلهًا من قبل الذين عبدوه أو الإله الذي كان له رأس كلب والذي عبده المصريون.”
- غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: لا يستطيع إبليس أن يعمي إلاّ غَيْرِ الْمُؤْمِنِين. فإذا مللت عمل إِلهُ هذَا الدَّهْرِ في تعمية ذهنك، فضع ثقتك في يسوع وفي ما فعله من أجلك. وعندئذٍ لا يستطيع إبليس أن يعميك بعد.
- “إله هذا الدهر قادر على تعمية أذهان غير المؤمنين فقط… ورفض الإيمان هو السرّ والسبب الكامن وراء العمى الذي يصيب البشر.” مورغان (Morgan)
- لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ: يعني رؤية هذا المجد أنك خلصت، ولهذا يوجه إبليس طاقاته نحو تعمية الناس عن رؤية إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ.
- ينبغي لفهمنا لخطة إبليس مع غير المؤمنين أن يؤثر في كيفية صلواتنا من أجل الهالكين. فعلينا أن نطلب من الله أن يسطع بنوره لكي يقيد عمل إبليس ويعطينا الإيمان للتغلب على عدم الإيمان الذي يؤدي إلى العمى.
- تُضِيءَ لَهُمْ: كان بولس يعرف جيداً ما كان يتحدث عنه عندما كتب هذا. إذ كان نفسه معميًا تمامًا عن الحقّ إلى أن شّق الله ظلمة بولس بنوره. وفي واقع الأمر، عندما واجه بولس يسوع لأول مرةٍ، ضربه الربّ بعمىً فعليٍّ شفي فيما بعد، فانفتحت عيناه – روحيًا وجسديًا – ليرى مجد يسوع المسيح (أعمال الرسل ١:٩-٩).
- ليست الإنارة المذكورة هنا الكلمة اليونانية المعتادة المستخدمة للإشارة إلى النور. إنها كلمة مستخدمة في الترجمة السبعينية في مزمور ٣:٤٤ حيث تتكلم عن “نور وجهك،” وفي مزمور ١٤:٧٨ “وهداهم بالسحاب نهارًا والليل كلّه بنور نارٍ.” ويلاحظ هودج (Hodge): “ولهذا فإن الكلمة تدلّ على سطعانٍ يرسله جسم مشعّ.”
ثانياً. كنز في أوانٍ خزفية
أ ) الآيات (٥-٦): موضوع كرازة بولس: يسوع، لا الذات
٥فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا، وَلكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. ٦لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا: لم يصعد بولس إلى المنبر أو يقف أمام جمهورٍ ليكرز بنفسه. فهو لم يكن مهمًا، ولم يكن نقطة التركيز، بل يسوع كان نقطة التركيز، ولهذا يقول بولس بقوةٍ: فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا. وبدلًا من ذلك، يتوجب أن ينصبّ التركيز على الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا، فهو الذي ينبغي الكرازة به.
- ليس كلّ من يفتح كتابًا مقدسًا ويبدأ الحديث يكرز بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا. إذ يقوم وعاظ كثيرون حسنو النية بالكرازة بأنفسهم بدلًا من الكرازة بيسوع. فإذا كان التركيز منصبًا على القصص المضحكة أو خبرات الواعظ التي تلمس الحياة، فإنه ربما يكرز بنفسه.
- غالبًا ما يحبّ الناس أن يكرز الواعظ بنفسه. إذ قد ينمّ هذا عن كشفٍ وحميميةٍ، وهو في الغالب أمر مسلٍّ. وهو أيضًا أمر مغرٍ للواعظ لأنه يرى الشعب يتجاوبون عندما يركّز الرسالة على نفسه. ورغم ذلك، فإن بيت القصيد هو أن الواعظ نفسه لا يستطيع أن يحضرك إلى الله ويخلّص نفسك الأبدية. فيسوع وحده هو القادر على فعل ذلك. ولهذا اكرز بيسوع!
- هل من الخطأ أن يروي الواعظ نكتةً أو أن يستخدم قصةً من حياته؟ لا، لكن المسألة مسألة تناسبٍ. فكأني أسأل: “هل هو أمر لا بأس به أن تضع ملحًا في الحساء؟” نعم، لكن لا تضع كميةً زائدةً. ولكن إذا كان يطرح قدرًا كبيرًا من نفسه في الوعظ أسبوعًا بعد أسبوعٍ، فإن هذا خطأ. قال روبرتسون (T. Robertson) إن الكرازة بالنفس “سيئة بالتأكيد وموضوع مقزز عندما يختاره الواعظ.” ألا توجد رسالة أعظم من أنفسنا؟
- بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا: ليست المسألة أن بولس لم يكرز بنفسه فقط، لكنه لم يكرز أيضًا بإنجيل الإصلاح الأخلاقيّ أو بقائمةٍ من القوانين التي يتوجب عليك اتباعها لتكون علاقتك بالله سليمةً. فقد وعظ بيسوع مقدّمًا الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا.
- كان هدف بولس جلب الناس إلى يسوع، لا إحداث تغييراتٍ أخلاقيةٍ فيهم. “إن جعل غاية الكرازة غرس الفضيلة وجعل البشر أشخاصًا صادقين رصينين ومحبّين للإحسان وأوفياء هي جزء لا يتجزأ من حكمة العالم التي هي حماقة لدى الله، ومحاولة جلب ثمرٍ من دون أشجارٍ. وعندما يدرك إنسان أن يسوع المسيح ربّ، ويحبّه ويعبده بهذه الصيغة، عندئذٍ يصبح مثل المسيح. فما الذي يمكن لدعاة الأخلاق أن يطلبوا أكثر من هذا؟” هودج (Hodge)
- وَلكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ: عندما قدّم بولس نفسه، فإنه قدّمها هكذا، لا كربٍّ أو سيّدٍ، بل ببساطة عَبِيدًا لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوع.
- إنه أمر مهم أن بولس اعتبر نفسه عبدًا للمؤمنين في كورنثوس مِنْ أَجْلِ يَسُوع. ولو كان يفعل ذلك من أجل نفسه أو من أجل المؤمنين في كورنثوس، لما دام ذلك أو لتحوّل إلى أمرٍ جسديٍّ بسهولةٍ. فقد خدم بولس الآخرين مِنْ أَجْلِ يَسُوع، وفعل ذلك بشكلٍ أساسيٍّ ليرضي يسوع، لا ليرضي الإنسان.
- اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»: يقول بولس: “يستطيع الربّ الإله الذي خلق النور في العالم الماديّ أن يملأ قلبك بنورٍ روحيٍّ، ولو كان قد أعماك إله هذا الدهر.” إن عمل إبليس في التعمية كبير جدًا، لكن عمل الله في جلب النور أكبر.
- يقتبس بولس بشكلٍ مباشرٍ فكرة سفر التكوين ٣:١ عندما قال: “ليكن نور فكان نور.” فقد آمن بولس فعلًا برواية الخلق كما يصفها تكوين ١. فتقول الآية في سفر التكوين ٣:١ إن الله خلق النور بموجب أمرٍ، وقد آمن بولس بأن هذه هي الكيفية الدقيقة لما حدث.
- هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا: يصف بولس هنا تجديده الشخصيّ على نحوٍ دقيقٍ (أعمال الرسل ١:٩-٩). فبينما كان في طريقه إلى دمشق لاضطهاد المؤمنين بالمسيح وقتلهم، ’بغتةً‘ أبرق حوله نور من السماء. وكانت تلك أول مواجهةٍ مع يسوع في حياة شاول الطرسوسيّ (الذي صار معروفًا لاحقًا بالرسول بولس).
- يفترض أن تكون هذه طريقةً جيدةً لوصف كلّ مؤمنٍ بالمسيح: أشخاص ذوي قلوبٍ مشرقةٍ. فالله أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، ويفترض أن ينعكس هذا في حياةٍ ساطعةٍ من أجل يسوع المسيح.
- لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ: ما الذي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا بالضبط؟ إنه إِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ. فيفترض أن يكون لدى كلّ مؤمنٍ بالمسيح بعض المعرفة بمجد الله. فإن كان المرء مؤمنًا بالمسيح، لكنه يقول: “لا أعرف حقًا أيّ شيءٍ عن إِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ،” عندئذٍ ينبغي له أن يطلب الله بجديةٍ لكي يشرق بنوره في قلبه.
- لإِنَارَةِ: يعطينا الله نور معرفته، ولدينا المسؤولية في أن نخرجه. فقد ’أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا‘ أي في الداخل، لكي ’نشرق إلى الخارج‘ بدلًا من الاستمرار في الإشراق داخل أنفسهم، كما يبدو أن بعض المؤمنين بالمسيح يفعلون.
- تخيل رجلًا في غرفةٍ مشمسةٍ وهو يتمتع بأشعة الشمس كثيرًا حتى إنه يريد أن يحتفظ بها كلّها لنفسه. يقول: “سأغلق الستائر لئلا يخرج أيّ شيءٍ من هذا النور إلى الخارج!” فيعيد نفسه إلى الظلمة. فعندما نحاول أن نخزن النور داخل أنفسنا، فإن من المؤكد أننا سنفقده.
- فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: نحن نتوصل إلى مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ برؤيته فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فقد أعطانا الله عرضًا، صورةً، تمثيلًا لمجده: ابنه يسوع المسيح. قال يسوع: “اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ” ( يوحنا ٩:١٤). وصلّى أيضًا أن نرى مجده، مجد الله الآب: “لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي” ( يوحنا ٢٤:١٧).
ب) الآية (٧): كنز عظيم في مثل هذه الآنية المتواضعة.
٧وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا.
- هذَا الْكَنْزُ: الْكَنْزُ هو عظمة إنجيل يسوع المسيح ومجد الله الذي صار واضحًا من خلال هذا الإنجيل. فهذا هو نور الله عينه ونور معرفة مجد الله منعكسًا على وجه يسوع المسيح. هذا هو أعظم كنزٍ في الخليقة كلّها.
- لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ: عندما يعتبرنا بولس أواني خزفية، فإنه لا يستهين بالجسم البشريّ أو يعدّه مجرد وعاءٍ للنفس. بل هو ببساطةٍ يقارن “قيمة” نور الله ومجده، مع “قيمة” ما اختار الله أن يضع نوره ومجده فيه. فعندما تقارن بين الاثنين، فليس صعبًا أن تدهش كيف أن الله وضع مثل هذا الْكَنْز العظيم في أوانٍ خزفيةٍ.
- من هو مستحقّ أن يكون “إناءً” لنور الله ومجده؟ ليس أذكى رجلٍ ذكيًا بما يكفي، وليس أطهر رجلٍ طاهرًا بما يكفي، وليس أكثر شخصٍ روحانيةً روحيًا بما يكفي؛ وليس أكثر شخصٍ موهوبيةً موهوبًا بما يكفي. فكّلنا مجرد أوانٍ خزفيةٍ نحمل كنزًا عظيمًا فائق الوصف.
- أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ: كانت الأواني الخزفية شائعةً في كلّ بيتٍ في العالم القديم. ولكنها لم تكن قويةً قابلةً للديمومة (بالمقارنة مع الأواني المعدنية)، وكانت تصبح بلا قيمةٍ إذا انكسرت (وأما الزجاج فيمكن صهره مرةً أخرى). قال كروس (Kruse): “ولهذا كانت رخيصةً وذات قيمةٍ تافهةٍ في حدّ ذاتها.” لقد اختار الله أن يضع نوره ومجده في الصحون اليومية، لا في الأواني الصينية الفاخرة.
- نحن ننجذب دائمًا تقريبًا إلى الشيء المغلّف بأفضل غلافٍ، لكن غالبًا ما تأتي أفضل الهدايا في العبوة الأقلّ توقعًا. فلم ير الله حاجةً إلى “تغليف” يسوع عندما جاء كإنسانٍ إلى هذه الأرض. ولم يكن يحسّ بالإحراج لأنه كان يحيا كآنيةٍ خزفيةٍ. ولا يرى الله حرجًا في استخدام أوانٍ خزفيةٍ مثلنا.
- لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا: لماذا يضع الله مثل هذا الكنز الثمين في مثل هذه الأواني الضعيفة؟ لكي تكون فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا، لكي يكون واضحًا لكلّ إنسانٍ له عينان أن العمل الذي تمّ كان بفضل قوة الله، لا بفضل قوة الآنية.
- لماذا اختار الله الأواني الخزفية المحفوفة بالمخاطر بدلًا من آنيةٍ سماويةٍ آمنةٍ؟ لأن الأدوات “الكاملة” آمنة لكنها تجلب المجد لنفسها. وأما الأواني الخزفية فمحفوفة بالمخاطر لكنها تجلب مجدًا عميقًا لله.
- في قصة جدعون، كان تكسير الأواني هو الذي جعل النور يسطع جالبًا الانتصار إلى شعب الله (سفر القضاة ٢٠:٧). وسيرينا بولس في بقية الإصحاح كيف أن الله “يكسر” الأواني الخزفية ليكون فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا.
ج ) الآيات (٨-١٢): الألم في خدمة بولس جلب حياةً.
٨مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. ٩مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. ١٠حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا. ١١لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ. ١٢إِذًا الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلكِنِ الْحَيَاةُ فِيكُمْ.
- مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: تحمل هذه الكلمة فكرة شخصٍ تحت المطاردة. كان بولس رجلًا مطلوبًا بسبب خدمته ليسوع. نجد في أعمال الرسل ١٢:٢٣، ٤٠ أن أشخاصًا تآمروا معًا ونذروا أن لا يأكلوا أو يشربوا شيئًا إلى أن يغتالوا بولس. فكان يعرف ما تعنيه المطاردة.
- لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ: عاش بولس كشخصٍ مطلوبٍ للعدالة، وقد عنى هذا ضغطًا أو إجهادًا فظيعًا اختبره كلّ لحظةٍ من حياته. غير أن بولس لم ينسحق (غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ) بسبب هذا الإجهاد. فكان ما زال بمقدوره أن يخدم الربّ بشكلٍ مجيدٍ.
- مُكْتَئِبِينَ… مُتَحَيِّرِينَ… مُضْطَهَدِينَ… مَطْرُوحِينَ: كانت حياة بولس صعبةً، وقد كانت كذلك بسبب تكريسه المشبوب بالعاطفة ليسوع المسيح وإنجيله. لكن انظر إلى انتصار يسوع في حياة بولس، غير مكتئب… غير يائس… غير متروك… غير هالك. فقد عرف بولس قوة يسوع وانتصاره لأنه كان باستمرارٍ في مواقف لم تكن إلا قوة انتصار يسوع قادرةً على تلبية احتياجه.
- عندما نتكلم عن ألمٍ كهذا في يومنا، فإنه يسهل علينا أن نعتقد أننا إنما نقول “أشياء روحيةً” فقط، لأن بعضنا يعيش بشكلٍ مريحٍ ولا يعاني من شيءٍ على الإطلاق. غير أنه ينبغي لنا أن نتذكر أن كلّ شيءٍ قاله بولس حول المعاناة إنما قاله على الأرجح كشخصٍ عانى أكثر منك أو من أيّ شخصٍ ستقابله في حياتك. فلم تكن المعاناة أمرًا نظريًا بالنسبة لبولس، بل خبرةً حقيقيةً في الحياة.
- حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا: أراد بولس، كأيّ مؤمنٍ بالمسيح، أن تكون حياة يسوع ظاهرةً فيه. وقد عرف بولس أن هذا لن يحدث إلا إذا حمل أيضًا في الجسد إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوع. فبعض جوانب من عمل الله العظيم في حياتنا لا تحدث إلا من خلال المحن والمعاناة.
- عنى بولس بكتابته حول كوننا “حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ” أنه شعر وكأن موت المسيح كان يعمل داخله روحيًا. فهو يقول إن موت يسوع لم يكن حقيقةً تاريخيةً فحسب، بل هو أيضًا واقع روحيّ في حياته.
- يتحدث بولس في رسالته إلى أهل فيلبي عن مجد معرفة يسوع: (لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ) ( فيلبي ١٠:٣). فيتوق كثيرون إلى أن يعرفوا قوة قيامته لكنهم لا يريدون أن تكون لهم علاقة بشركة آلامه أو التشبّه بموته. غير أنه توجد روائح ذكية يمكن أن يطلقها الآن من خلال قارورةٍ مكسورةٍ. ولهذا كان بولس يبتهج بمعرفة كلّ من الآلام والمجد. فقد عرف أن الأمرين مرتبطان.
- لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ… إِذًا الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلكِنِ الْحَيَاةُ فِيكُمْ: عرف بولس أن الغنى الروحيّ الذي جلبه إلى المؤمنين في كورنثوس جاء بشكلٍ جزئي من خلال المعاناة الشبيهة بالموت التي احتملها في خدمته. فقد جعل الله بولس أكثر فاعليةً في الخدمة من خلال معاناته.
- نعتقد أحيانًا أنه إذا كان شخص ما روحيًا حقًا أو أن الله يستخدمه حقًا، فإنه سيحيا في حالةٍ ثابتٍة من الانتصار. ويعني هذا أن الحياة ستكون سهلةً دائمًا. ولكن فهمنا لما كتبه بولس هنا لا يخبرنا أن خدام الله قد يختبرون معاناةً شبيهةً بالموت فحسب، بل أيضًا أن لدى الله قصدًا صالحًا ومجيدًا في السماح بذلك.
- يروي كامبل مورغان ( Campbell Morgan) قصة واعظٍ شابٍ عظيم ٍكان مؤثرًا في مرحلةٍ مبكرةٍ من خدمته. ذات يومٍ طلب مورغان من ذلك الشاب أن يتكلم في كنيسته. وبعد العظة، سأل مورغان زوجته: “ألم يكن هذا رائعًا؟” فردت بهدوءٍ: “نعم، لكن سيكون أروع إن مر بألم.” فأضاف مورغان: “حسنًا، لقد عانى، وكان أكثر قوةً.”
- الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلكِنِ الْحَيَاةُ فِيكُمْ: نجد هنا المفارقة. احتقر المؤمنون في كورنثوس بولس بسبب معاناته الكبيرة وبسبب حياتهم العظيمة المتسمة ’بالانتصار‘ حسب اعتقادهم. ولم يفهموا أن حياة الانتصار فيهم لم تكن ممكنةً إلا بفضل جعل الله بولس خادمًا فعالًا من خلال المعاناة.
- “يعتقد المفسرون الممتازون أن هذه الكلمات كانت تعبيرًا ساخرًا ذكيًا يردّ فيها الرسول على جماعةٍ من هذه الكنيسة استنتجت من معاناته نقيض عقيدة بولس الصحيحة أو رضى الله عليه.” بووله (Poole)
د ) الآيات (١٣-١٥): إيمان بولس بالله المحيي
١٣فَإِذْ لَنَا رُوحُ الإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ الْمَكْتُوب: «آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ»، نَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِنُ وَلِذلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضًا. ١٤عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ. ١٥لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ.
- نَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِنُ وَلِذلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضًا: هذا مبدأ عظيم: الإيمان يخلق الشهادة. فقد آمن بولس حقًا بأنه كان لدى الله قصد في معاناته الشبيهة بالموت، وآمن أيضًا أنه عاش واختبر قيامة حياة يسوع. ولهذا، لم يتردد عن التكلم عنه.
- إذا لم تكن قادرًا على أن تقول: “نَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِنُ“، لا ينبغي لك أن تتكلم. “هذا هو أحد الأسرار العظيمة للقوة والنجاح في الخدمة المسيحية. فإن لم تكن تؤمن، فأغلق فمك. هذه كلمة للخدّام الشباب. فإذا لم تكن تؤمن، لا تتكلم.” مورغان (Morgan)
- عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ: عرف بولس هذا، ولهذا لم ييأس في معاناته. إذ كانت كلّ محنةٍ شبيهةٍ بالموت مجرد مقدمةٍ لقوة القيامة.
- جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ: كان هذا هدف بولس الفوريّ لخدمته. إذ كان قلبه يرغب في خدمة المؤمنين في كورنثوس ومدنٍ أخرى. وكانت لخدمة بولس هدف نهائيّ أيضًا، ألا وهو أن تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ. وفي نهاية المطاف، كان بولس مدفوعًا بمَجْدِ اللهِ.
- ينسى بعضهم الهدف الفوريّ ويركزون على الروحانيات غير الواقعية. وينسى آخرون الهدف النهائيّ ويركزون على الإنسان، حيث يصبحون إما متكبرين أو محبطين. وينبغي أن نضع الأمرين نصب أعيننا، كما فعل بولس.
ثالثاً. خفة ضيقتنا
أ ) الآية (١٦): لماذا لا نفشل
١٦لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا.
- لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ: بدأ بولس الأصحاح الرابع بهذا التصريح: إِذْ لَنَا هذِهِ الْخِدْمَةُ كَمَا رُحِمْنَا لاَ نَفْشَلُ. ثمّ ذكر في الإصحاح كلّ المعاناة الشبيهة بالموت، التي احتملها في الخدمة. فكأنّ بولس يتوقع الآن هذا السؤال: “كيف يمكنكم أن لا تفشلوا؟”
- إن كلمة ’لِذلِكَ‘ جزء من الجواب، لأنها تعيدنا إلى ما كتبه بولس للتوّ. شرح بولس للتوّ أن المحن التي تعرّض لها جعلت خدمته للمؤمنين في كورنثوس أكثر فاعليةً في إعطاء حياةٍ. وقد جعلت معرفته بذلك لا يفشل في وسط المحن والمعاناة.
- وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا: هنالك سبب آخر جعل بولس لا يفشل، وهو أنه رغم أن كلّ معاناته كانت تؤثر في الإنسان الخارج، إلا أن الداخل كان يتجدد ويتبارك.
- إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ: يحمل هذا التعبير نفس فكرة الأواني الخزفية في كورنثوس الثانية ٧:٤ والجسد المائت في كورنثوس الثانية ١١:٤. والرسالة هي نفسها: ’ففي الخارج نعاني ونضرب، لكن في الداخل يباركنا ويجددنا الله!‘
ب) الآيات (١٧-١٨): المجد الآتي الذي يفوق أية صعوباتٍ نواجهها اليوم
١٧لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا. ١٨وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ.
- خِفَّةَ ضِيقَتِنَا: عندما يكتب بولس ’خِفَّةَ ضِيقَتِنَا‘ ربما نتساءل إن كان قد واجه يومًا محنًا ’حقيقيةً.‘ فقد يفكر بعضهم: “حسنًا يا بولس، ربما كانت ضيقتك خفيفةً، لكن ضيقتي ليست كذلك. ليتك تعرف ما أعانيه! إنه أمر لا يطاق!”
- لم يكتب بولس وكأنه في مرحلة رياض الأطفال في مدرسة المعاناة. إذ حصل على شهادةٍ متقدمةٍ في الدراسات العليا. فقد وصف بعض معاناته بهذه التعابير في كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٢٨
- جلدات
- سجون
- ضرب
- رجم
- انكسار السفينة
- أخطار سيول
- لصوص
- أخطار من جنسي
- أخطار من الأمم
- أخطار في المدينة
- أخطار في البرية
- أخطار في البحر
- أخطار من إخوة كذبة
- في تعب وكد
- في أسهار مرارًا كثيرة
- في جوع وعطش
- في أصوام
- في برد وعري
- كانت تلك مجرد معاناةٍ جسميةٍ (مادية) خارجيةٍ. لكن ماذا عن الأحمال الروحية التي حملها والهجومات الروحية التي واجهها؟ “لقد تشكّل هذا الفكر اللاهوتيّ للألم على سنوات خبراته الشخصية لآلام المسيح.” هاريس (Harris)
- وهكذا، عندما يكتب بولس عن خِفَّةَ ضِيقَتِنَا، يمكننا أن نعرف أن الله يعني خفة ضيقتنا نحن. فإذا أمكن لبولس أن يقول إن ضيقته كانت خفيفةً، فماذا تكون ضيقتنا بالمقارنة؟
- لم يكتب بولس وكأنه في مرحلة رياض الأطفال في مدرسة المعاناة. إذ حصل على شهادةٍ متقدمةٍ في الدراسات العليا. فقد وصف بعض معاناته بهذه التعابير في كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٢٨
- خِفَّةَ ضِيقَتِنَا: لماذا ضِيقَتِنَا خفيفة وليست ثقيلةً؟ لأنها حتى أسوأ آلامنا، بالمقارنة مع ميزان الأبدية، وَقْتِيَّة. وهذا أمر صحيح جزئيًا، بمعنى أن معظم متاعبنا تأتي وتذهب، و”سيمرّ هذا أيضًا.” وهذا صحيح أيضًا بمعنى أن الحياة الطويلة حسب مقياس العالم ليست شيئًا في ميزان الأبدية. فحتى لو عاش المرء مئة سنةٍ وتألّم كلّ يومٍ، فإنها في ميزان الأبدية وَقْتِيَّة.
- خِفَّةَ ضِيقَتِنَا: لماذا ضِيقَتِنَا خفيفة وليست ثقيلةً؟ بسبب ما ينجزه الله فينا من خلال ضِيقَتِنَا: أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا.
- كلمة الله واضحة: “إنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ.” (رومية ١٧:٨). فالمجد مرتبط بالمعاناة، وسينجز الله فينا مجدًا أثقل بكثيرٍ من أية ضيقةٍ واجهناها هنا. “الضيقة ليست شيئًا نحتمله لكي نصل إلى المجد، بل إنها نفس العملية التي تخلق المجد. فمن خلال المخاض تأتي الولادة.” مورغان (Morgan)
- كأنّ بولس يقول: “هيا أخرج الميزان. ضع كلّ ضيقاتك على كفة، وضع إبهامك على الكفة ضاغطًا تلك الكفة. ثم دعني أضع ثقل المجد على الكفة الأخرى من الميزان، وسترى كيف أن ضيقتك خفيفة حقًا.”
- نعم، ضيقتنا خفيفة!
- ضيقتنا خفيفة بالمقارنة مع ما يعانيه الآخرون.
- ضيقتنا خفيفة بالمقارنة مع ما نستحقّه.
- ضيقتنا خفيفة بالمقارنة مع ما عاناه يسوع من أجلنا.
- ضيقتنا خفيفة بالمقارنة مع البركات التي نتمتع بها.
- ضيقتنا خفيفة عندما نختبر قوة نعمة الله الحافظة التي تقوّينا.
- ضيقتنا خفيفة عندما نرى المجد الذي تؤدي إليه.
- عندما نفهم هذا، يمكننا أن نقول مع بولس إنّ “ضيقتنا خفيفة.”
- ثِقَلَ مَجْدٍ: ليس سهلًا أن تقدّر ثقل المجد لأنه ثقل أبديّ. فغالبًا ما لا تكمن مشكلتنا في ما نعتقده حول خفة ضيقتنا بقدر ما تكمن في تقليلنا لثقل المجد الآتي.
- “إنه واضح في كلّ موضعٍ مدى تأثير لغة بولس العبرية في لغته اليونانية: تدل كلمة (chabad) على كون شيءٍ ثقيلًا وعلى كونه مجيدًا: ويوحّد الرسول في نصّه اليونانيّ هاتين الدلالتين ويقول ’ثقل مجدٍ.‘” دوود (Dodd) الذي اقتبسه كلارك (Clarke)
- وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى: عنى بولس هنا على نحوٍ خاصٍ حياته الخاصة وخدمته. ففي عيني العالم، كانت حياة بولس فشلًا ذريعًا. ففي ذروة عمله الذي كان يمكن أن يرتفع أكثر فأكثر، ترك كلّ شيءٍ من أجل حياة مشقاتٍ ومعاناةٍ واضطهادٍ، مع استشهادٍ في نهاية المطاف. أدرك بولس أن العالم لا يرى إلاّ ما هو خارجيّ، لا الأمور الأبدية غير المنظورة.
- عندما ننظر إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، فإن كلّ ما نراه هو خفة ضيقتنا. وربما لا تبدو خفيفةً جدًا! لكن عندما ننظر إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى، عندئذٍ نرى ونقدّر ثقل المجد الأبديّ.
- لا يقول بولس إن كلّ الضيقات تنتج مجدًا بشكلٍ آليٍّ. فمن الممكن أن نسمح للمعاناة بأن تدمّرنا وللضيقة بأن تملأنا بالمرارة وتجعلنا تعساء متمحورين على أنفسنا. ولكن إذا نظرنا إلى الأشياء الَّتِي لاَ تُرَى، عندئذٍ ستعمل ضيقتنا فينا ثقل مجدٍ أبديًا.