رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ٥
سفراء للمسيح
أولاً. مصير المؤمن بالمسيح
أ ) الآية (١): وجودنا في العالم الآتي
١لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ.
- لأَنَّنَا نَعْلَمُ: قام بولس للتو بمقارنة خفة ضيقتنا مع ثقل مجد أبدي أكثر فأكثر، والأشياء المنظورة والوقتية مع الأشياء الأبدية وغير المنظورة. ( كورنثوس ١٧:٤-١٨). والآن سيكتب بولس المزيد عن هذه المقارنات بين ما هو أرضي وأبدي.
- يظهر بولس شجاعة كافية في هذا النقاش لقول: لأَنَّنَا نَعْلَمُ. يستطيع المؤمنون بالمسيح أن يعرفوا طبيعة العالم الآخر لأننا نَعْلَم ما تقوله كلمة الله الأبدية.
- “نحن لا نعتقد أو نأمل فقط؛ فهذه هي شجاعة الإيمان وانتصار الثقة. وهذا هو ما يدعوه لاتيمر (Latimer) اللحوم اللذيذة في عيد الضمير الصالح. توجد أطباق لذيذة أخرى في هذا العيد، لكن هذه هي المأدبة.” تراب (Trapp)
- بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ: ينظر بولس إلى أجسادنا كخيام – هياكل مؤقتة، فلا يمكن النظر إليها على أنها الشخص بأكمله. فإذا نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا، يظل لدينا رجاء أبدي: فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ.
- نُقِضَ: هذه هي نفس الكلمة التي تستخدم ’لهدم خيمة.‘ وذات يوم، سيهدم الله الخيمة، وسنحصل على بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، مكان نسكن فيه على مدى الأبدية.
- “كثيرون مذعورون من المستقبل، غير أن بولس هنا ينظر إلى أسوأ ما يمكن أن يحدث له ويشبهه بمجرد هدم خيمة كان يسكنها لفترة قليلة.” سبيرجن (Spurgeon)
- يعني هذا أننا أكثر من مجرد أجسادنا، مما يشرح لماذا كان بمقدور بولس أن يعد كل الألم وعدم الارتياح في جسده ضيقةً خفيفةً بالمقارنة مع ثقل المجد الأبدي الآتي. إنه لخطأ أن نقول: ’جسدي ليس أنا.‘ ففي حقيقة الأمر، فإن جسدي هو أنا، لكنه مجرد جزء مني. فأنا أكثر بكثير من هذا الجسد.
- فِي السَّمَاوَاتِ… بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ: أجسادنا المستقبلة ليست مَصْنُوعة بِيَدٍ. فالله يصنعها على نحو خاص لكي تلائم بيئته السماوية الأبدية. فأجسادنا فِي السَّمَاوَاتِ… أَبَدِية.
- قال يسوع: “فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا” ( يوحنا ٢:١٤). وحسب الصياغة الحرفية لليونانية القديمة، فإن أفضل ترجمة لـ ’مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ‘ هي ’مكان السكن‘ أو ’مكان للإقامة.‘ ولكن في ضوء صفات الله، فإن تعبير ’مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ‘ ترجمة أفضل! سيكون هذا البناء مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ، مكانًا مجيدًا للبقاء فيه وأبدي. فيسوع كان وما يزال يُعد هذا المكان لنا منذ أن صعد إلى السماء.
- ليس الخلاص للنفس أو الروح فقط، لكنه للجسد أيضًا. فالله يخلص أجسادنا بالقيامة. ونحن ننتظر جسد جديد ممجد آت. “يوضع الأبرار في قبورهم متعبين منهكين، لكنهم لن يقوموا على هذه الحالة. يذهبون إلى هناك بحاجب مجعد وخد مجوف وجلْد مغضن، ولكنهم سيستيقظون في جمال ومجد.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (٢-٤): توقنُا إلى الجسد السماوي
٢فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ. ٣وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً. ٤فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ.
- فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ: ولهذا نَئِنُّ نحن المؤمنين لأننا نرى كلًا من محدوديات هذا الجسد وتفوق الجسد الآتي، مُشْتَاقِينَ إلى أجسادنا الجديدة.
- ليس كثيرون مُشْتَاقِينَ إلى السماء. ألعل السبب هو أنهم مرتاحون جدًا على الأرض؟ لا يعني هذا أن علينا أن نسعى وراء الضيقات، لكن ألا نكرس حياتنا للسعي وراء الراحة. فلا يوجد أي عيب في أن نشتاق إلى السماء، ولا عيب في أن نتفق مع بولس قائلين: فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ.
- مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ… وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً: يقول بولس ببساطة إننا سوف نَلْبَس في الأبدية ولن نكون عُرَاةً – أي أننا لن نكون أرواحًا بلا جسد.
- اعتقد الفلاسفة اليونانيون أن روحًا بلا جسد أسمى مستوى من الوجود. ونظروا إلى الجسد كسجن للنفس، ولم يجدوا ميزةً في أن يقام المرء في جسد آخر.
- ليست أجسادنا، بالنسبة لله، أمرًا سلبيًا. فالمشكلة لا تكمن في الجسد نفسه بل في هذه الأجساد الساقطة التي أفسدتها الخطية، والتي نعيش فيها. ولو كان هنالك شيء شرير متأصل في الجسد، لما أضاف يسوع ناسوته إلى ألوهته.
- لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا: ليست لدينا نحن المؤمنين أي توق إلى أن نكون روحًا محضةً وأن نتخلص من الجسد. فبدلًا من ذلك، فإننا مشتاقون إلى أن يكون لدينا جسد مقام بديع.
- في واقع الأمر لا نعرف الكثير عن حالة أجسادنا المقامة. “إن كنت بعد ذلك ترغب في معرفة المزيد عن هذا البيت، فإنه لا يسعني إلا أن أسدي لك النصيحة التي قدمها جون بانيان (John Bunyan) في حالة مماثلة. طرح سؤال على جون المعروف بالصدق لم يستطعْ أن يجيب عنه، لأن كلمة الله لم تتطرقْ إليه. ولهذا شجع جون صديقه على أن يحيا حياة التقوى، وأن يذهب إلى السماء، ليرى الجواب بنفسه.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ: لن تكون أجسادنا الجديدة عرضةً للموت (الْمَائِتُ). وبدلًا من ذلك، وكما كتب بولس في كورنثوس الأولى ٥٤:١٥ «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ». فعندما نتلقى أجسادنا الأبدية، ستهزم الحياة الموت بشكل كامل. فإذا ابتلعت حية فأرًا، يكون الفأر مهزومًا تمامًا. فهو ليس موجودًا بعد. وبطريقة مماثلة، سيبتلع الموت من الحياة (يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ).
- بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا: في العصور الوسطى، كان يدفن بعض المسيحيين في ثياب الرهبان مع أنهم لم يكونوا رهبانًا يومًا ما، على أمل أن يحصلوا على نتائج أفضل في يوم الدينونة. ولكن يقدم يسوع لنا ثوبًا أفضل بكثير.
ج ) الآيات (٥-٨): ثقتنا.
٥وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ. ٦فَإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. ٧لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ. ٨فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.
- وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ: يُعِدُّنا الله الآن لمصيرنا الأبدي. وهنا يربط فكرتي ’خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ‘ و’ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا‘ ( كورنثوس الثانية ١٧:٤). فخفة ضيقتنا هي (جزئيًا) الكيفية التي أعدَّنا بها الله – صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ.
- راح رجلٌ في وسط مِحَنِه الكثيرة المؤلمة يمشي في حيه السكني، فرأى طاقم بناءٍ يعملُ على كنيسة ضخمة. وقف وراقب حجارًا ماهرًا يعمل لفترة طويلة على حجر لكنه لم يرَ المكان الذي سيلائم هذا الحجر، لأنه بدا أن الكنيسة قد اكتملت. راقب الحجّار وهو يعمل على الحجر بتأنٍ وبأسلوب منهجي وهو يشكّلُهُ ببطء إلى نموذج دقيق. وأخيرًا، سأله: “لماذا تمضي كل هذا الوقت وأنت تقطع وتشكل هذا الحجر؟” فأشار الحجار الفنان إلى قمة البرج المكتمل تقريبًا وقال: “أنا أشكّلُهُ هنا لكي يلائم هناك فوق.” عرف الرجل الغارق في وسط محنِه فورًا أن هذه كانت رسالة الله له: فقد كان يُعَدُّ (يُشكّلُ/يُصنع) هنا لكي يلائم السماء فوق.
- الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ: عندما تكون المِحن على الأرض صعبةً، فليس سهلًا دائمًا أن نأخذ تعزيةً في مصيرنا السماوي. وقد عرف الله هذا، ولهذا أعطانا عَرْبُونَ الرُّوحِ. وهو يدعم وعد السماء بدفعة على الحساب الآن، أي الروح القدس.
- عَرْبُونَ (ضمان): وهي الكلمة اليونانية (arrhabon) التي تصف تعهدًا أو دفعةً جزئيةً تتطلب دفعات مستقبلةً، بحيث يحصل متلقي الضمان أو العربون حقًا قانونيًا في البضاعة المعنية. وتعني كلمة (arrhabon) في اللغة اليونانية الحديثة ’خاتم الخطوبة.‘
- يختبر مؤمنون كثيرون بركةً عظيمةً من الروح القدس الآن. وعندما نضع في اعتبارنا مدى عظمة هذا العربون، ينبغي أن نضع في اعتبارنا مدى عظمة العطية كلها التي سنحصل عليها.
- “الروح القدس جزء من السماء نفسها. فعمل الروح القدس في النفس هو برعم السماء. فالنعمة ليست شيئًا يمكن أن ينتزع منا عندما ندخل المجد، لكنه سيتطور إلى مجد. والنعمة لن تسحب منا وكأنها كانت قد أكملتْ قصدها، لكنها ستنضج إلى مجد.” سبيرجن (Spurgeon)
- فَإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ: لقد أعطى حضور الروح القدس في حياة بولس ثقةً. إذ طمأنه على أن الله كان يعمل فيه وأنه سيستمر في عمله. فإذا لم تكنْ قادرًا على أن تقول إنك واثق كُلَّ حِينٍ، فاطلبْ من الله سكيبًا جديدًا من الروح القدس في حياتك.
- يمكننا أن نكون واثقين في كُلَّ حِينٍ حتى في الأوقات العصيبة، إن طبقنا الآية في كولوسي ٢:٣ ’اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ.‘ “فما هي الطريقة للحفاظ على السلام عندما تحدث تغييرات في النفس؛ عندما نرفع أحيانًا إلى السماء ونطرح على الأرض بعد قليل؟ إن الطريقة الوحيدة هي ألا تحس بالارتفاع من دون حق بسبب الرخاء من الخارج أو من الداخل، وألا تكتئب من دون حق بسبب الشدائد أو الشكوك والمخاوف، لأنك تعلمت ألا تحيا على الأشياء التي في الخارج أو التي في الداخل، بل على الأشياء التي فوق، والتي هي طعام حقيقي للروح المولودة ثانيةً.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ: إن حضور الله الآن مسألة إيمان. فنحن الآن مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، بمعنى أننا مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ، أو على الأقل بمعنى حضوره المباشر المجيد. ولهذا يتوجب علينا بالإيمان أن نَسْلُكُ، لاَ بِالْعِيَانِ.
- لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ: هذا هو أحد المبادئ العظيمة والصعبة للحياة المسيحية. فلا بد أن الملائكة يذهلون كيف أننا نحيا ونخدم وأننا مستعدون لأن نموت من أجل إله لم نره قط. غير أننا نحبه ونحيا من أجله، لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ.
- لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ تعني أن تجعل الإيمان جزءًا من كل نشاط يومي. فالمشي (السلوك) ليس شيئًا رائعًا في حد ذاته، إنه من أكثر جوانب الحياة دنيويةً. ولكن الله يريدنا أن نَسْلُك بِالإِيمَان. “الرجل الذي يقول دائمًا: ’يمكنني أن ألقي عظةً بالإيمان،‘ لم يتعلمْ بعد روح المسيحية بعد. صحيح يا سيدي، لكن هل تستطيع أن تصنع معطفًا بالإيمان؟ ’أنا أستطيع توزيع النبذ وأن أزور المقاطعة بالإيمان.‘ هل يمكنك أن تطهو طعام العشاء بالإيمان؟ أعني بهذا: هل تستطيع أن تقوم بواجباتك المنزلية واليومية بروح الإيمان؟” سبيرجن (Spurgeon)
- سيأتي ذلك اليوم الذي لن نكون فيه بعد مُتَغَرِّبينَ عَنِ الرَّبِّ بالمعنى الذي يقصده بولس هنا. ففي ذلك اليوم لن نَسْلُك بِالإِيمَان، لكننا سنرى مجد الله وحضوره بِالْعِيَان.
- فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ: لأن بولس واثق (بشكل جزئي بناءً على ضمان الروح القدس) بمصيره الأبدي، هو ليس خائفًا من العالم الآخر. وفي الواقع، هو مسرور جدًا (وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى) بأن يتَغَرَّب عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.
- يتناول هذا النص سؤالًا يشغل أذهان كثيرين: ماذا يحدث للمؤمنين عندما يموتون؟ سيترك المؤمنون بالمسيح أجسادهم، وسيقامون في أجساد جديدة وسيكونون مع الرب. يتحدث بولس بوضوح ’أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ‘ يعني أننا سنكون حاضرين مع الرب… نَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.
- لكن هل سنحيا في السماء لفترة في حالة وسيطة بلا أجساد منتظرين القيامة؟ يعتقد بعضهم هذا بناءً على نصوص مثل رؤيا يوحنا ٩:٦-١١ و تسالونيكي الأولى ١٦:٤. ولكن يبدو هنا أن بولس يرى أن مثل هذه الحالة الخالية بلا أجساد غير مرغوب فيها. فإما أن يكون الأموات الحاليين في المسيح مع الرب في جسد روحي منتظرين جسدهم المقام النهائي، أو، بسبب طبيعة الأبدية اللازمنية، يكونون قد تلقوا أجساد قيامتهم بالفعل لأنهم يعيشون في الحاضر الأبدي.
- تبرهن حقيقة ’أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ‘ التي تعني أننا سوف نَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ زيف عقيدتين زائفتين. فهي تدحض عقيدة ’نوم النفس‘ (حيث تقول إن الأموات المؤمنين موجودون في حالة ما من الحياة يعلق فيها النشاط إلى أن تحدث القيامة)، وعقيدة ’المطهر‘ الزائفة (التي تقول إنه يتوجب على الأموات المؤمنين أن يتطهروا بشكل كامل من خلال معاناتهم الخاصة قبل أن يدخلوا إلى محضر الله).
- “لم يتوقع بولس أن يشْوى حيًا على مدى الألفيتين التاليتين، ثم يقفز من المطهر إلى الفردوس. لكنه توقع بالفعل أن يذهب، حالما يتحلل بيته الأرضي، إلى بيته الأبدي في السماء. ولم تخطر بباله حتى فكرة الرقاد في حالة من اللاوعي حتى القيامة.” سبيرجن (Spurgeon)
- نَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ (نَسْتَقِرَّ عِنْدَ الرَّبِّ): هذا هو ما يجعل السماء سماءً حقًا، ولهذا نتوق إلى أن نَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ. فالسماء ثمينة لنا لأسباب كثيرة. نريد أن نكون مع أحبابنا الذين سبقونا والذين نفتقدهم كثيرًا. ونريد أن نكون مع الرجال والنساء العظام الأتقياء الذين ماتوا قبلنا في القرون الماضية. ونريد أن نمشي على شوارع الذهب ونرى الأبواب اللؤلؤية ونرى الملائكة حول عرش الله يعبدونه ليل نهار. غير أن أيًا من هذه الأمور، مهما كانت ثمينةً، لا يجعل السماء سماءً. فما يجعل السماء سماءً حقًا هو حضور الرب بلا عوائق وبلا قيود. وستكون السماء مثل الجحيم إذا لم نكنْ حاضرين معه… نَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.
د ) الآيات (٩-١٠): هدف حياتنا في ضوء مصيرنا الأبدي
٩لِذلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضًا مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ. ١٠لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا.
- لِذلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضًا… أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ: بما أن ما نفعله الآن ستترتب عليه عواقب أبدية، يتوجب أن يكون هدفنا باستمرار إرضاء الله.
- “أنت مسؤول أمام مقر القيادة الرئيسية. فلا تهتم بما يعتقده أي شخص آخر عنك. فهدفك هو أن ترضي المسيح. وكلما قللت من اهتمامك بإرضاء الناس، ستكون أكثر نجاحًا في ذلك.” ماكلارين (Maclaren)
- مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ: لا نستطيع أن نفعل الآن شيئًا حول إرضاء الله عندما نكون متغربين عن أجسادنا وحاضرين مع الرب. فلم يأتِ ذلك اليوم بعد. ولكن يمكننا أن نفعل شيئًا حول إرضاء الرب عندما نكون غائبين (متغربين) عن حضوره المباشر ومستوطنين في هذه الأجساد.
- يتوجب أن نضع في اعتبارنا، قدر ما نعلم، أن هنالك فرصًا لإرضاء الله غير متاحة إلا ونحن مستوطنون في هذه الأجساد. فعندما نذهب إلى السماء، لن تكون هنالك حاجة إلى الإيمان أو إلى احتمال المحن أو إلى الشجاعة في إخبار الآخرين عن يسوع. ولكن الآن، بينما نحن مستوطنون في هذه الأجساد، فإن هذه فرصتنا الوحيدة في كل الأبدية لإرضاء الله في هذه النواحي.
- لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ: فعندما ننتقل من هذه الأجساد إلى العالم الآخر، يتوجب علينا جميعًا أن نقدم حسابًا لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا.
- ليس هذا هو العرش العظيم الأبيض (رؤيا يوحنا ١١:٢٠-١٥). يصف هذا التعبير الحكم على أعمال المؤمنين (مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا).
- ترد كلمة كُرْسِيِّ في اللغة اليونانية القديمة للعهد الجديد ككلمة واحدة (على خلاف الترجمة الإنجليزية التي تستخدم تعبير كرسي الدينونة أو كرسي القضاء). وتعني كلمة (Bema) حرفيًا ’درجة‘ كما في منصة مرتفعة أو مقعد مرتفع. فكان القضاة الرومانيون يجلسون ليمارسوا القضاء. “كان (bema) موضع توقير ومهابة لكل الشعب.” هودج (Hodge)
- لاَبُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ: فما الذي سيحكم عليه أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ؟ أولًا، سيحكم على ما فعلناه (بِحَسَبِ مَا صَنَعَ) ثانيًا، سيحكم على دوافعنا وراء ما فعلناه (خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا).
- يتوجب أن نعيش مدركين أن ما نفعله سيُحكمُ عليه. إنه أمر ممكن أن تكون لديك نفْس مخلصة وحياة مبددة. وسيتم تقييم هذا الأمر عند كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ. يفترض أن يكون هذا تشجيعًا لنا في خدمتنا للرب. ويفترض أيضًا أن يذكرنا بالمبدأ الموجود في عبرانيين ١٠:٦ “لأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ.” يعرف بولس أن متاعب هذه الحياة تستحق ذلك، لأننا سنكافأ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ.
- يتوجب أن نعيش مدركين أن دوافعنا سيُحكمُ عليها (تعبّر الآية في كورنثوس الأولى ١:١٣-٣ عن الفكرة نفسها). يستطيع المرء أن يفعل أشياء صائبةً لكن بقلب غير سليم. ومع ذلك، سيستخدم الله ذلك الرجل، بل قد يجلب بركةً عظيمةً من خلاله. ولكن في نهاية المطاف، سيحاسبه الله وكأنه لم يفعل شيئًا من أجل الرب، لأن دوافعنا وراء الخدمة لم تصمد أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ.
- يقدم بولس الفكرة نفسها بشكل أساسي في كورنثوس الأولى ١٢:٣-١٥، حيث يتحدث عن التقييم الآتي لعمل كل إنسان أمام الرب. ففي ذلك النص، يوضح بولس أن أعمالنا ودوافعنا ستُمتحنُ بالنار، وستحرقُ نارُ اللهِ المطهِّرةُ كلَّ شيءٍ ليس منه. فلن نعاقب على ما لم نفعله بطريقة جيدة للرب، بل سيحرق هذا كاملًا، وكأننا لم نفعلْه قط. وببساطة، سنكافأ على ما يتبقى. ومن المؤسف أن بعضهم سيصلون إلى السماء معتقدين أنهم صنعوا أشياء عظيمةً لله، وسيكتشفون عند كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ أنهم لم يصنعوا شيئًا حقًا.
- “إن ظهور المؤمنين أمام محكمة المسيح هو امتياز. وسيختص الظهور بتقييم الأعمال، وبشكل غير مباشر، بتقييم الأخلاق لا بتحديد المصائر. وسيختص بالمكافآت لا بالحالة.” هاريس (Harris)
هـ) الآية (١١): رسالتنا في ضوء المصير الأبدي
١١فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ الرَّبِّ نُقْنِعُ النَّاسَ. وَأَمَّا اللهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضًا.
- فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ (رعب) الرَّبِّ: ما الذي نعرفه عن مَخَافَةَ الرَّبِّ؟ نحن نعرف أننا، بعيدًا عن يسوع، أهداف لمَخَافَةَ الرَّبِّ. ونحن نعرف أيضًا أننا في المسيح قد تحررنا من مَخَافَةَ الرَّبِّ.
- نُقْنِعُ النَّاسَ: بما أننا نعرف مكان الناس بعيدًا عن يسوع ومكان الناس فيه، فإننا نُقْنِعُ النَّاسَ ليأتوا إلى يسوع ويعرفوا ما يعنيه التحرر من مَخَافَةَ الرَّبِّ.
- ليست الرسالة هنا: “احذروا من مَخَافَةَ الرَّبِّ،” رغم أن لهذا مكانًا في هذه الرسالة. وليست الرسالة هي: “إذا لم أقنع الناس، ربما أواجه مَخَافَةَ الرَّبِّ، ولهذا يحْسن بي أن أشمر عن ذراعي وأعمل.” فالرسالة بدلًا من ذلك هي: “لقد تحررت بالفعل من مَخَافَةَ الرَّبِّ، ويمكنك أن تتحرر أنت أيضًا منه. تعال إلى يسوع!” وفي واقع الأمر، فإن مَخَافَةَ الرَّبِّ قد وجهت إلى يسوع (على الصليب) لئلا توجه إلى الذين يثقون بهوية يسوع وبما فعله من أجلهم.
- نُقْنِعُ النَّاسَ: يجب أن يكون هذا قلب كل شخص يقدم رسالة الإنجيل، سواء أكان هذا على المنبر أم في أي مكان آخر. فنحن ننوي أن نُقْنِعُ النَّاسَ. فنحن ببساطة لا نقوم بطرح أفكار من دون اهتمام منا بكيفية استجابة الناس لها. فعلينا أن نكون مثل بولس الذي كان يرغب بقوة في أن يأتي الرجال والنساء إلى يسوع. يتوجب أن ننوي في قلوبنا وكلماتنا أن نُقْنِعُ النَّاسَ.
- وَأَمَّا اللهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضًا: عمل بولس بجد لكي يُقْنِعُ النَّاسَ، لكنه عرف أنه غير محتاج إلى أن يقنع الله. وبدلًا من ذلك، عرف أنه كان ظاهرًا لله. وتمنى أيضًا ألا يكون محتاجًا إلى إقناع المؤمنين في كورنثوس. فقد كان يرجو أن تكون رسالته وخدمته ظاهرتين (معروفتين جيدًا) في ضمائرهم.
- رأى بولس الحاجة إلى إقناع العالم بشخص يسوع وبعمله وبنزاهته كرسول للأخبار السارة. غير أنه عرف أنه لم يكن محتاجًا إلى أن يقنع الله، وقد كان محبطًا لأنه كان ضروريًا له أن يقنع المؤمنين في كورنثوس.
ثانياً. بولس يدافع عن خدمته ويصفها
أ ) الآية (١٢): ما الذي يدفع بولس إلى الدفاع عن خدمته أصلًا؟
١٢لأَنَّنَا لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضًا لَدَيْكُمْ، بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلافْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا، لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ عَلَى الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ لاَ بِالْقَلْبِ.
- لأَنَّنَا لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضًا لَدَيْكُمْ: هل كان بولس يتفاخر؟ هل كان يحاول ببساطة أن يمجد نفسه أمام مؤمني كورنثوس؟ لا، على الإطلاق. رغم أن بولس افتخر بضعفه ومحنه وصراعاته، إلا أنه لم يفعل ذلك للتباهي أمام المؤمنين في كورنثوس.
- بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلافْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا: وبدلًا من ذلك، أراد بولس أن يتيح الفرصة لمؤمني كورنثوس، بإخباره إياهم عن ضعفه ومحنه وصراعاته، لأن يفتخروا به… (لِلافْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا).
- يتحدث بولس هنا مستخدمًا السخرية الأدبية. فلم يكن المؤمنون في كورنثوس مهتمين بأن يفتخروا ببولس أو برؤية أي شيء صالح في محنه. بل على العكس تماماً، فبالنسبة لهم فإن محنه وضيقاته جعلته أقل شأناً كرسول وكرجل، لا أرفع شأناً. وقد عرف بولس ذلك جيدًا، لكنه كان سعيدًا لأن يتيح لهم الفرصة لِلافْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا!
- لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ عَلَى الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ لاَ بِالْقَلْبِ: كانت إحدى مشكلات مؤمني كورنثوس أنهم كانوا يحبون أولئك الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ (بالمظاهر) لاَ بِالْقَلْبِ. فكانوا يحتقرون بولس لأن مجده لم يكن بِالْوَجْهِ (بمظهرِه) لكن بِالْقَلْبِ فقط. فعندما أخبر مؤمني كورنثوس كيف كان الله يعمل من خلال صراعاته وضيقاته، كان هدفه: لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ على الذين كانوا يفكرون بهذه الطريقة.
- ما الذي تتفاخر به؟ هل أنت كالذين يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ لاَ بِالْقَلْبِ؟ تذكرْ ما قاله الرب لصموئيل في سفر صموئيل الأول ٧:١٦ فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: «لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْظَرِهِ وَطُولِ قَامَتِهِ لأَنِّي قَدْ رَفَضْتُهُ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ». نحن نُبهرُ بسهولة بصورة بشخص حتى إننا لا نرى في الغالب معدنهم أو لا يهمنا ذلك. فليست المسألة أن المظهر (الْوَجْه) غير مهم على الإطلاق، لكنه مهم بالمقارنة مع الْقَلْبِ.
ب) الآيات (١٣-١٥): ليس بولس مختلَّ العقلِ؛ لكنه مدفوعٌ بمحبة الله التي تلقاها.
١٣لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّهِ، أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ. ١٤لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. ١٥وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ.
- إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ: يقصد هنا أنه مختل العقل وأن تصرفه غير عقلاني. فعلى الأرجح أن المؤمنين في كورنثوس اعتقدوا أن بولس كان مجنونًا لأنه بدا قانعًا بحياة الألم والضيقات وعدم الراحة إن كانت تجلب المجد لله. وباتهامهم لبولس بأنه كان مجنوناً، يعني هذا أنه على الدرب الصحيح. فيسوع أيضًا قد اتهم بأنه كان مجنونًا. ( مرقس ٢١:٣ و يوحنا ٢٠:١٠).
- “يرجح أن بعضهم أشاع عنه أنه مشوش العقل. فقد اعتقد الوالي فستوس ذلك: «أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! الْكُتُبُ الْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى الْهَذَيَانِ!». وربما كان أعداؤه في كورنثوس يلمحون إلى أنه ليس مختل العقل فقط، بل إنهم عزوا اختلاله إلى سبب أقل استحقاقًا من الدراسة المكثفة والمعرفة العميقة.” كلارك (Clarke)
- إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّهِ، أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ: لا يريد بولس من المؤمنين في كورنثوس أن يعتقدوا بأنه يتصرف عن عمد بطريقة مجنونة حسب اعتقاد بعضهم، لمجرد التمثيل. فبدلًا من ذلك، فإنه يفعل هذا لله. ومرةً أخرى، إن أراد المؤمنون في كورنثوس أن يصدقوا أن بولس عاقل، يمكنهم أن يصدقوا أنه عاقل من أجلهم.
- “يخبرهم الرسول إن كان مختلًا بالفعل بأية طريقة يعتقدونها، فإنه مختل لله، أي من أجل كرامة الله ومجده: أو إذا كان متزنًا، فإن هذا من أجلهم هم. فمهما كانت حالته، فإنه في الحالتين يقدم خدمةً لله أو لهم.” بووله (Poole)
- لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا: بولس مدفوع بمَحَبَّة الْمَسِيح، أي محبة يسوع له. فقد اضطر بولس إلى فعل ما فعله في الخدمة لأنه اختبر محبة يسوع التي دفعته ليخدم الآخرين.
- هذا هو أعظم أساس للخدمة، حيث إنك تريد أن تعطي الآخرين شيئًا لأن يسوع أعطاك كل شيء. فعندما نختبر مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ، فإنها تلمسنا وتولد فينا الرغبة في أن نخدم الآخرين.
- أحس بولس بأن مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ له تَدْفَعه. إن سأله أحدهم: ’لماذا تفعل كل هذا؟ ولماذا كل هذا الألم والمحن؟‘ فسيجيبه بولس: ’أنا مضطر إلى ذلك. فقد اختبرت مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ. فمَحَبَّةَ الْمَسِيحِ في قلبي بمعنى أني أحب يسوع. ولأن مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تغمرني، أنا أحب الأشخاص الذين يحبهم يسوع. أنا محصور بمَحَبَّة الْمَسِيح!‘ “لقد كد الرسل كثيرًا، لكن كدهم انبثق عن دافع محبة يسوع المسيح. فكما كد يعقوب من أجل راحيل بدافع من محبته لها، كذلك يخدم القديسون الحقيقيون الرب يسوع تحت قيود المحبة كلية القدرة.” سبيرجن (Spurgeon)
- أن نقول مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا يعني أن لمحبة المسيح قوةً، وأن لديها القدرة على أن تغمرنا وتؤثر فينا. “حولت محبة المسيح طاقات بولس إلى قوة واحدة وقناة واحدة، ثم دفعتها بقوة رائعة إلى أن صار هو ورفقاؤه قوةً جبارةً من أجل الخير، قوة نشطة حيوية دائمة.” سبيرجن (Spurgeon)
- إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا: ما المقصود بأن يسوع مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ؟ المقصود هو أن موته كان قادراً على أن يخلص جميع الذين يأتون إليه وأن موته أظهر محبة الله للجميع، وليس المقصود أن الجميع مخلصون لأن يسوع مات (وهذه عقيدة الشمولية الزائفة).
- على الأرجح أن بولس استخدم في هذا السياق كلمة ’الجميع‘ ليعني ’جميع المخلصين.‘ ولا شك أن هنالك معنى يفيد أن يسوع مات من أجل العالم كله: «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا» ( يوحنا الأولى ٢:٢). ولكن كلمة ’الجميع‘ التي ذكرها بولس هنا تشير على الأرجح ’لجميع المخلصين‘ لأنه كتب أيضًا فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. ويمكننا القول أن الذين آمنوا بيسوع قد ماتوا وقاموا معه روحيًا (رومية ١:٦-٦).
- كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ: إن كان المسيح مات من أجلنا، فإن ما هو ملائم تمامًا هو أن نحيا لأجله. لقد أعطانا يسوع حياةً جديدةً، لا لنحيا لأجلنا، بل لأجله. والسؤال بسيط: هل تحيا لنفسك أم تحيا لأجل يسوع؟ “مات من أجلنا لكي نموت نحن عن ذواتنا.” كالفن (Calvin)
- خلقنا الله لغرض واحد، وهو أن نحيا لأجله لا لأنفسنا. ولكن فساد طبيعتنا هي التي تجعلنا نريد أن نحيا لأنفسنا لا للرب. تقول الآية في رؤيا يوحنا ١١:٤ حسب ترجمة الملك جيمس: «لأنك خلقتَ كلَّ الأشياءِ، ولأجلِ مسرتِك تُخلَقُ وخُلِقتْ.» فنحن قد خُلقنا لنحيا لأجل الله لا لأنفسنا. لقد عاش يسوع بشكل كامل لله الآب.
- ماذا تعني جملة أن يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ؟ لا يعني ذلك أن نقول: “أنا لن أحب أو أخدم أحدًا غير الله.” بل تعني أن محبتي وتكريسي لله ينبغي أن تنعكسا على الطريقة التي نخدم بها الآخرين. فعندما نقول إننا نحيا لله، لا يسعنا أن نستخدم هذا كعذر لإهمال خدمة الآخرين.
ج ) الآية (١٦): بسبب هذه الحياة الجديدة التي قدمها لنا يسوع، فإن الارتباطات الأرضية تصبح أقل أهميةً بكثير.
١٦إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ.
- لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ (لا ننظُرُ إلى أحدٍ من وجهة نظرٍ أرضيةٍ): لماذا؟
- لأننا لا ننظر إلى الأشياء التي ترى، بل إلى التي لا ترى. (كورنثوس الثانية ١٨:٤).
- لأن خيمتنا الأرضية ستنقض، لكن سنحصل على جسد جديد أبدي في السماوات (كورنثوس الثانية ١:٥).
- لأننا بالإيمان نسلك، لا بالعيان (كورنثوس الثانية ٧:٥).
- لأننا لا نفتخر بالوجه (المظهر)، بل بالقلب (كورنثوس الثانية ١٢:٥).
- ولهذه الأسباب كلها، لا ننظر إلى صورة الجسد ومظهره بل إلى جوهر القلب.
- وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ: حتى الذين عرفوا يسوع حسب الجسد وجدوا أن علاقتهم الجديدة معه من خلال الروح القدس كانت أفضل بكثير.
- لأن بولس يكتب أننا عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، يمكننا أن نفترض أن بولس سمع بيسوع أثناء خدمته الأرضية، ويرجح أنه حتى سمعه يعلم في أورشليم. وربما كان بولس بين الفريسيين الذين واجهوا المسيح كثيرًا! ومن المؤكد أن بولس نظر إلى الوراء بشغف متذكرًا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ. وفي الوقت نفسه، عرف أن علاقته بيسوع من خلال الروح القدس كانت أفضل بكثير.
- “عندما عرف بولس المسيح حسب الجسد، ظن أنه قائد لشيعة جديدة أو حزب جديد يهدد دينه المقدس. ولكنه يقول هنا إننا لا نراه هكذا بعد. فنحن نعرفه الآن في الروح وبالروح.” مورغان (Morgan)
- وهكذا فإن معرفته بالمسيح حسب الجسد لم تضمنْ شيئًا. “تبعت جماهير غفيرة يسوع شخصيًا ثم تخلوا عنه وطالبوا بصلبه.” هيوز (Hughes). حتى إن التلاميذ أنفسهم كانوا أتباعًا سيئين ليسوع إلى أن عرفوه بالروح في يوم الخمسين.
- لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ: يعتقد بعضهم أنه سيكون أفضل لو أن المسيح موجود معنا حَسَبَ الْجَسَدِ، لكن هذا ليس صحيحًا، وقد عرف يسوع هذا. ولهذا أخبر يسوع تلاميذه في إنجيل يوحنا ٧:١٦ «إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ.»
د ) الآية (١٧): قيامة يسوع تعطينا حياة جديدة.
١٧إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا.
- إِنْ كَانَ أَحَدٌ: هذا وعدٌ لأيِّ أحدٍ، أيِّ أحدٍ على الإطلاقِ. لا تهم طبقته أو جنسه أو جنسيته أو لغته أو مستوى ذكائه. فيستطيع أن يكون أي أحدٍ خليقة جديدة في يسوع المسيح!
- فِي الْمَسِيحِ: هذا وعد مقدم لأي أحدٍ هو فِي الْمَسِيحِ. ليس هذا وعدًا للذين في أنفسهم أو في ديانة البشر أو في شخص أو شيء آخر. إنه وعد للذين فِي الْمَسِيحِ.
- فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا: يعلّمُ بولس هنا المبدأ العظيم للتجديد. فالمسيح يغير الذين يأتون إليه بالإيمان والذين هم فِي الْمَسِيحِ. وليس المخلصون أشخاصًا غفر لهم فحسب، بل تغيروا إلى خَلِيقَة جَدِيدَة أيضًا.
- ليس من الإنصاف أن نتوقع من الذين ليسوا فِي الْمَسِيحِ أن يعيشوا وكأنهم خَلِيقَة جَدِيدَة. ولكن ليس من غير الإنصاف أيضًا أن نتوقع حياةً متغيرةً من أشخاص يقولون إنهم مؤمنون بالمسيح. “لا أعرف أية لغة، بل اعتقد أنه لا توجد أية لغة تستطيع أن تعبر عن تجديد أكبر أو أكثر شمولًا وجذريةً من تعبير ’خليقة جديدة.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- غير أن كوننا خَلِيقَة جَدِيدَة لا يعني أننا كاملون (بلا خطايا). بل يعني أن الله غيرنا وما زال يغيرنا.
- فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: من الذين يجعلنا خَلِيقَة جَدِيدَة؟ هذا أمرٌ لا يقدرُ إلا الله وحده على أن يفعله فينا. وليس هذا مجردَ “قلبِ صفحةٍ جديدةٍ” أو “تصحيحٍ للسلوكِ.” فحياة الخليقةِ الجديدةِ ليست شيئًا يفعلُه الله من أجلنا، بل فينا. ولهذا يُطلبُ منا أن نخلعَ… الإنسانَ العتيقَ… ونلبس الإنسانَ الجديدَ المخلوقَ بحسبِ اللهِ في البرِّ وقداسةِ الحقِّ (أفسس ٢٢:٤-٢٤).
- إن كونَنا خليقةً جديدةً عطيةٌ من اللهِ تلقّيناها بالإيمانِ. “من المؤكد أن الله هو منشئ الخليقة الثانية كما كان منشئ الخليقة الأولى.” هاريس (Harris). “هذه عبارة تعبر عن أعظم تغيير يمكن تخيله، ولا يمكن أن يجرى مثل هذا التغيير في النفس بأية قوة غير قوة الله.” بووله (Poole)
- إن عمل الخليقة الجديدة أعظم حتى من عمل الله في خلق العالم. “يا إخوتي، كان أكثر صعوبةً – إن كان يمكن تطبيق هذه التعابير على الله كلي القدرة – أن يخلق ذاك الذي خلق عالمًا كاملًا مؤمنًا بالمسيح. فما الذي كان موجودًا ليعمل به الله عندما خلق العالم؟ لم يكنْ هنالك أي شيء. فلم يكن هذا اللاشيء (العدم) عائقًا في طريق الله – فقد كان سلبيًا على الأقل. ولكن، يا إخوتي، بينما لم يكنْ في قلوبنا شيء يساعد الله في عمله، كان هنالك الكثير الذي يمكن أن يقاومه، وقاومه بالفعل. فإراداتنا العنيدة، وتحاملنا العميق، ومحبتنا المتأصلة للإثم… هذه كلها قاومتْك يا الله، وهدفتْ إلى إحباط مقاصدك… نعم، أيها الإله العظيم، كان أمرًا عظيمًا أن تخلق العالم، لكنه كان أعظم أن تخلق خليقةً جديدةً في يسوع المسيح.” سبيرجن (Spurgeon)
- إن الحياة كخليقة جديدة أمر يفعله الله فينا مستخدمًا إرادتنا وخياراتنا. ولهذا يتوجب علينا أن نتلقى عطية كوننا خليقةً جديدةً وأن نقبل تحدي أن نحيا حياةً الخليقة الجديدة معًا. وهذا كله عمل الله فينا، ويتوجب علينا أن نعترف بذلك. ويذكرنا هذا بأن المسيحية في جوهرها تدور كلها حول ما فعله الله من أجلنا، لا ما يمكننا أن نفعله من أجل الله. “أيها الأحباء، إذا لم يكنْ لديك تديُّنٌ أكبر مما فعلته في نفسك، ونعمة أكبر مما وجدت في طبيعتك، فإنه ليس لديك أي شيء. يتوجب أن يعمل الروح القدس في كل واحد منا إذا أردنا أن نرى وجه الله.” سبيرجن (Spurgeon)
- الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا: هذه لغة عمل الله الكامل في إعادة الخلق (رؤيا يوحنا ٥:٢١). يريد الله أن يفعل شيئًا جديدًا في حياتنا.
- “لا يتم إصلاح الإنسان فقط، لكنه يُخلقُ من جديد… فهنالك خليقة جديدة يمتلكها الله بصفته صانعها، ويستطيع أن ينظر إليها ويعلن أنها حسنة جدًا.” كلارك (Clarke)
هـ ) الآيات (١٨-١٩): رسالة المصالحة وخدمتها
١٨وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، ١٩أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.
- الْكُلَّ مِنَ اللهِ: هنا يرتفع بولس. وهو يريد من المؤمنين بالمسيح في كورنثوس أن يعرفوا أنه يكتب عن أشياء مِنَ اللهِ لا من بشر. فعمل الخليقة الجديدة ومصيرنا الأبدي عملان من عمل الله، وليسا شيئًا نحن مضطرون إلى اكتسابه وإنجازه.
- اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ: بدأ الله بخدمة المصالحة مع أنه الطرف البريء في العلاقة المستلبة. فالله صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ؛ فنحن لم نصالح أنفسنا له.
- من المهم جدًا أن الله فعل هذا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. فالله لم يصالحنا لنفسه بالتغاضي عن عدالته المقدسة أو بالاستسلام للبشرية المتمردة الآثمة، بل فعل ذلك بمحبةٍ مذهلةٍ بارةٍ مضحّيةٍ. لا يطالب الله الإنسان المؤمن بالمسيح بقدر أقل من العدالة والبر، لكن هذا المطلب قد تحقق بالفعل من خلال يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ: بعد أن صَالَحَنَا الله لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، فإنه يتوقع منا أن نتولى خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، ولهذا وضع فينا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.
- تأتي المصالحة عن طريق كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. فالله يستخدم كلمة الوعظ ليصالح البشر، رجالًا ونساءً لنفسه.
- اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ: من خلال أهوال الصلب، عمل الله الآب في الله الابن مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ. فقد عمل الآب والابن معًا على الصليب.
- ’اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ‘ هذا مذهل للغاية عندما يفهم في ضوء ما حدث على الصليب. فقبل موت يسوع وقبل أن يمزَّق الحجاب إلى نصفين وقبل أن يصرخ يسوع: ’قد أُكملَ،‘ حدثتْ مقايضة روحية مهيبة. فقد وضع الآب على الابن كل الذنب والغضب اللذين تستحقهما خطيتنا. وقد حمل هذا كله في نفسه بشكل كامل، محققاً العدالة الإلهية من أجلنا.
- رغم المعاناة الجسدية الهائلة ليسوع، فإن عملية إدانته على الخطية بدلًا منا كانت ما يخافه في ما يتعلق بالصليب. فكانت تلك كأس غضب الله البار – حتى إنه ارتعد لدى شربها ( لوقا ٣٩:٢٢-٤٦؛ >مزمور ٨:٧٥؛ إشعياء ١٧:٥١؛ إرميا ١٥:٢٥). صار يسوع على الصليب، إن صح هذا التعبير، عدوًا لله، فحُكم عليه وأجبر على أن يشرب كأس غضب الآب لئلا نضطر نحن إلى أن نشربها بأنفسنا.
- لكن، في الوقت نفسه، يوضح أن اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ. فقد عملا معًا. ورغم أن يسوع عوقب كما لو أنه كان خاطئًا، إلا أنه أدى أقدس خدمة لله الآب قدمت على الإطلاق. ولهذا كان بمقدور إشعياء أن يقول: “أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ.” ( إشعياء ١٠:٥٣). لم تكن معاناة الابن في حد ذاتها ترضي الآب، لكنها أنجزت عمل مصالحة الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، وأرضت الله الآب بشكل كامل.
- ويعلق روبرتسون (Robertson) بحق: “ربما لا نجرؤ على سبر غور هذا السر لمعاناة المسيح على الصليب بعمق زائد، لكن هذه الحقيقة تلقي بعض الضوء على صرخة يسوع المأساوية قبل أن يموت: ’إلهي، إلهي، لم شبقتني؟‘ ففي تلك الصرخة ( متى ٤٦:٢٧؛ مرقس ٣٤:١٥)، عبّرَ يسوعُ عن كلٍّ من شراكته مع الله الآب (إلهي) وإحساسه المعذب بتلقي غضب الله الذي نستحقه نحن.
- غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ: لماذا؟ هل لأن الله صار متساهلًا فأعطى البشر بطاقة تصريح مجانيةً للخروج من الجحيم؟ لا، على الإطلاق. بل لأن خطايانا حُسبت على يسوع. لقد تمتْ تلبية مطالب العدالة التي استحقتْها خطيتنا، ولم تختلقْ أعذارًا للخطية.
- إن كان الله قد وضع غضبه أو عدالته جانبًا ليخلص الخطاة، عندئذ يكون الصليب، بدلًا من أن يكون إظهارًا للمحبة، عرْضًا فظيعًا للغاية للقسوة والعدالة، ومحاولة شخص واحد مضلل في فعل الصلاح. فإذا كان ممكنًا إيجاد أعذار للخطية (وهذا غير ممكن)، عندئذ فإنها لا تحتاج إلى تلبية أبدًا.
و ) الآية (٢٠): سفراء للمسيح.
٢٠إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ.
- إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ: يرى بولس أنه يخدم في أرض أجنبية كممثل للملك. ولدى الملك رسالة، ويقوم بولس بتوصيلها كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا.
- هنالك أفكار كثيرة مرتبطة بكوننا سُفَرَاءَ! فالسفير لا يتكلم ليرضي جمهوره، بل يتكلم لأن الملك أرسله، ولا يتكلم بسلطته الشخصية، فلا تعني آراؤه الخاصة ومطالبه الخاصة كثيرًا. فهو ببساطة يقول ما أوكل إليه الملك أن يقول. ولكن السفير أكثر من مجرد حامل رسالة. فهو ممثل أيضًا. وكرامة بلده وسمعتها في يده.
- كَسُفَرَاءَ: هذا لقب مجيد لبولس وللرسل الآخرين. غير أن هذا ليس أمجد أو أكثر صعقًا من فكرة أن الله في محبته يتوسل للإنسان (نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ). فما الذي يدفع الله إلى التوسل من أجلنا؟
- نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ: يقدم بولس بصفته سفيرًا توسلًا بسيطًا فوريًا مباشرًا: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ.
- يوضح هذا أن عمل المصالحة المذكور سابقًا في الأصحاح لا يعمل بمنأى عن إرادتنا وخيارنا. ومن هم المصالحون مع الله؟ إنهم الذين تجاوبوا مع توسل يسوع الذي قدمه من خلال سفرائه.
- ويوضح هذا أيضًا أننا نحن الذين يتوجب علينا أن نصالحَ الله، لا أن يتصالحَ اللهُ معنا. فنحن الطرفُ المخطئُ.
- من الذين يتوسل بولس إليهم؟ من المخاطب هنا؟ ربما كان بمقدور بولس أن يقول: “نطلب من العالم كله نيابةً عن المسيح” أو ربما كان بمقدوره أن يقول: “نحن نطلب منكم، أنتم المؤمنين في كورنثوس نيابةً عن المسيح.” والفكرة مشروعة في كلتا الحالتين، وربما كانت كلتا الفكرتين في ذهن بولس.
- تَصَالَحُوا: لسنا نحن مأمورين بقيام عمل المصالحة بين الإنسان والله. فقد أتم الله هذا العمل، وكل ما علينا فعله هو أن نقبل هذا العمل. “لا يتحدث هنا عن مصالحة أنفسكم بقدر ما يقول: ’كونوا متصالحين.‘ استسلموا لذاك الذي يجذبكم بحبال المحبة لأنه أُعطي لكم… أَخضِعوا أنفسَكم. استسلموا لقبضتي هاتين اليدين اللتين سمرتا على الصليب من أجلكم.” سبيرجن (Spurgeon)
ز ) الآية (٢١): كيف جعل الله المصالحة أمرًا ممكنًا
٢١لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ.
- الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً: كانت فكرة احتمال وجود شخص بلا خطية غريبةً تمامًا عن التفكير اليهودي (جامعة ٥:٨). ورغم ذلك، لم يتحدَّ أي شخص يسوع عندما قال إنه بلا خطية (يوحنا ٤٦:٨).
- جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا: اختار بولس تحت وحي الروح القدس كلماته بعناية. فهو لم يقل إن يسوع جُعِل خاطئًا، لكنه صار خَطِيَّةً لأَجْلِنَا. فحتى صيرورته خطيةً لأجلنا كانت عملًا بارًا للمحبة، لا عمل خطية.
- لم يكن يسوع خاطئًا، حتى على الصليب. وعلى الصليب، عامله الآب وكما لو أنه كان خاطئًا، غير أن الخطية كانت خارج يسوع لا داخله، فلم تكنْ جزءًا من طبيعته (كما هو حالنا).
- “لم يكن يسوع مذنبًا، وما كان ممكنًا أن يُجعلَ مذنبًا، لكنه عومل كما لو أنه كان مذنبًا. نعم، لم يعامل كخاطئ فحسب، لكنه عومل أيضًا كما لو أنه كان الخطية نفسها في المطلق. وهذا لفظ مذهل. جُعِل الخالي من الخطية خطية.” سبيرجن (Spurgeon)
- “أنا لا أقول إن بديلنا احتمل جحيمًا، إذ سيكون هذا أمرًا غيرَ مسوّغ. ولن أقول إنه احتمل إما نفس العقاب الدقيق للخطية أو شيئًا معادلًا له. لكني أقول إن ما احتمله قدم لعدالة الله تبرئةً لناموسه أكثر وضوحًا وفاعليةً مما لو أنه قدم من الخطاة المدانين الذين مات من أجلهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- “من الواضحِ أن نقفَ على حافةِ سرٍّ عظيمٍ حيثُ إن فهْمَنا له لا يمكنُ إلاّ أن يكون في أدنى درجاتِه.” كروز (Kruse)
- جَعَلَ الَّذِي: نلاحظ هنا أن هذا عمل الله نفسه! كان الآب والابن (والروح القدس أيضًا) في تعاون كامل في عمل الصليب. ويعني هذا أن عمل الكفارة على الصليب كان عمل الله. “إن فعل الله هذا، فقد أحسن فعله. أنا لا أحرص هنا على الدفاع عن عمل إلهي. دع الرجل الذي يجرؤ على اتهام صانعه يفكرْ في ما يحاول أن يفعله. فإن كان الله قد وفر الذبيحة، فمن المؤكد أنه قبلها.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ: أخذ يسوع خطيتنا، لكنه أعطانا بِرَّ اللهِ. وهذه مبادلة هائلة مدفوعة بمحبة الله لنا!
- “لا ينال المؤمن من الله وضعًا سليمًا أمامه على أساس الإيمان بيسوع فحسب ( فيلبي ٩:٣)، لكن بولس يقول أيضًا إن المؤمن ’في المسيح‘ يشارك بالفعل، بمعنى ما، في البر الذي يتصف به الله.” هاريس (Harris)
- بِرَّ اللهِ: “يا له من تعبير فخم! إنه يجعلنا أبرارًا من خلال بر يسوع. وهو لا يجعلنا أبرارًا، بل يجعلنا برًا. ولا يقف الأمر عند هذا الحد. فهو يجعلنا بِرَّ اللهِ، وهذا أسمى من بر آدم في جنة عدن. إنه أكثر روعةً من كمال الملائكة.” سبيرجن (Spurgeon)
- “كان البر الذي امتلكه آدم كاملًا، لكنه كان بر الإنسان. وأما برنا فهو بر الله.” سبيرجن (Spurgeon)
- هذه هي الحقيقة الكاملة للتبرير تُصاغُ ببساطةٍ: وُضعتْ خطايانا على يسوع، ووُضِعَ برُّه علينا. و”كما لم يُجعلِ المسيح خطيةً بأيةِ خطيةٍ متأصلةٍ فيه، كذلك فإننا لم نُجعل أبرارًا بأيِّ برٍّ متأصلٍ فينا، لكن ببرِّ المسيحِ المحسوبِ لنا.” بووله (Poole)