إنجيل يوحنا – الإصحاح ٦
الخبز النازل من السماء
أولاً. التحضير للمعجزة
أ ) الآيات (١-٤): الحشود تتجمّع حول يسوع بالقرب من بحر الجليل.
١بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. ٢وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ ٱلَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي ٱلْمَرْضَى. ٣فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تَلَامِيذِهِ. ٤وَكَانَ ٱلْفِصْحُ، عِيدُ ٱلْيَهُودِ، قَرِيباً.
- بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ: يسرد يوحنا الآن بعض أعمال وكلمات يسوع في منطقة ٱلْجَلِيلِ، شمال اليهودية. فقد قام يوحنا في المقام الأول بتسجيل الأمور التي فعلها يسوع وقالها في منطقة اليهودية وأورشليم، ولكنه أضاف أحياناً بعض الأمور التي كتب عنها كُتاب الأناجيل الأخرى، وخاصة التي وقعت في منطقة الجليل.
- وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ: سُجلت هذه المعجزة أيضاً في الأناجيل الثلاثة الأخرى. ويضيف لوقا على هذه المناسبة أن يسوع ٱنْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ (لوقا ١٠:٩)، ومع هذا تَبِعَهُ الجَمْع هناك. وعلى الرغم من أن الْجَمْع فرض نفسه على يسوع، ولكنه خدمهم بكل محبة.
- لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ ٱلَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي ٱلْمَرْضَى: يخبرنا لوقا في ١١:٩ أن يسوع علم الشعب أيضاً وهو ما لا يذكره يوحنا على وجه التحديد.
- يشدد موريس (Morris) على الأفعال في اللغة الأصلية المستخدمة في يوحنا ٢:٦ ويقول: “’استمر‘ الجمع في اتباع يسوع لأنهم ’أبصروا باستمرار‘ المعجزات ’المستمرة‘ التي صنعها مع المرضى.”
- وَكَانَ ٱلْفِصْحُ، عِيدُ ٱلْيَهُودِ، قَرِيباً: يوحنا هو الكاتب الوحيد من كُتاب الأناجيل الأربعة الذي أخبرنا أن هذه الأحداث وقعت بالقرب من عيد الفصح. ربما كان هذا الجَمْعٌ الكَثِيرٌ مكوناً من الجليليين الزوار المتجهين إلى أورشليم.
- يرتبط عيد الفصح بخروج شعب إسرائيل من مصر وحفظ الله إياهم في البرية. وقريباً سيحفظ يسوع هذا الجمع في “البرية” الصغيرة الخاصة بهم ويعطيهم الخبز النازل من السماء بالمعنى الحرفي والروحي على حد سواء.
- فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ: “إن ’الأرض المرتفعة‘ هي تضاريس عالية تقع شرق البحيرة، وتعرف اليوم باسم مرتفعات (أو هضبة) الجولان. وتطل المنطقة على سهل شرق النهر والبحيرة.” بروس (Bruce)
ب) الآيات (٥-٧): سؤال يسوع لِفِيلُبُّسَ
٥فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلَاءِ؟». ٦وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. ٧أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: «لَا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً».
- «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلَاءِ؟»: ربما سأل يسوع فِيلُبُّس هذا السؤال لأنه كان من بَيْتِ صَيْدَا (يوحنا ٤٤:١) وهي قريبة من مكان وقوع هذه المعجزة (لوقا ١٠:٩).
- “لا يشير يوحنا هنا، كما يفعل مرقس في ٣٤:٦، إلى أن الْجَمْع كان يستمع لتعاليم يسوع طوال اليوم، ولكن هذا يفسر قلقه بشأن إطعامهم.” بروس (Bruce)
- وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ: عرف يسوع ما هي المعجزة التي كان على وشك القيام بها، ولكنه أراد أن يستغل الفرصة لتعليم تلاميذه. فبالنسبة ليسوع لا يتعلق الأمر فقط بإنجاز العمل (إطعام الجموع) بل بتعليم التلاميذ أيضاً أثناء ذلك.
- رأى فِيلُبُّس الكثير من المعجزات التي صنعها يسوع من قبل؛ لهذا كان ينبغي ألا يتساءل عن الموارد الإلهية التي يمتلكها يسوع.
- لَا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ: كانت مشكلتهم تتألف من شقين على الأقل. أولاً، لم يكن لديهم الموارد اللازمة لشراء الخبز وإطعام الجموع. ثانياً، حتى لو كان لديهم المال فمن المستحيل شراء ما يكفي من الخبز لإطعام الجميع.
- لو تحلى فيلبس بإيمان ومعرفة أفضل لقال: “يا مُعلم، أنا لا أعرف من نأتي بالْقُوت لإطعام هذا الْجَمْع ولكنك أعظم من موسى الذي استخدمه الله لإطعام الجموع كل يوم في البرية، والله قادر بالتأكيد أن يقوم بعمل أبسط لخادم أعظم. وأنت أعظم من أليشع الذي استخدمه الله لإطعام عدد كبير من أبناء الأنبياء من خلال كمية قليلة من الطعام. بالإضافة لكل هذا، يقول الكتاب المقدس لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ، وأنت عظيم وقادر أن تُشبع هذه الجموع بكلمة من فمك.”
- لَا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ: كانت معرفة فيلبس بالحالة دقيقة ومثيرة للإعجاب (بِمِئَتَيْ دِينَارٍ أجر العامل لمدة ستة شهور كاملة)، ولكن معرفته لم تساهم في حل المشكلة.
- فكر فيلبس بالموضوع من الناحية المادية البحتة؛ وكم المبلغ المطلوب لتنفيذ عمل الله بأبسط الطرق ودون أي تكلفة (لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً). وكثيراً ما نُقيد أو نحد الله بنفس الطريقة، ونبحث عن كيفية عمل الله بأقل التكاليف. ولكن أراد يسوع اتباع نهج مختلف تماماً وأن يسدد الاحتياج بطريقة أكبر بكثير.
- “كان رجلاً يهتم بالأرقام، وكان يؤمن بالجداول والإحصاءات. هذا صحيح، ومثل أي رجل آخر عظيم من نفس النوعية، نسي عاملاً بسيطاً في حساباته، وهو يسوع المسيح، ولهذا لم تكن إجابته كما يرتجى.” ماكلارن (Maclaren)
- “كان فيلبس شخصاً واقعياً (يوحنا ٨:١٤) ويزن الأمور بالأرقام ورجل أعمال جيد، وبالتالي كان أكثر استعداداً للاعتماد على حساباته الذكية من الاعتماد على موارد غير المرئية.” دودز (Dods)
ج) الآيات (٨-٩): مساعدة أَنْدَرَاوُس
٨قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: ٩«هُنَا غُلَامٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ؟».
- قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ «هُنَا غُلَامٌ…»: ونرى مرة أخرى أندراوس يقدم شخصاً إلى يسوع. وكان أول شخص أخاه بطرس (يوحنا ٤٠:١-٤٢). والآن ها هو يقدم غُلَامٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ.
- خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ: كان الشعير يعتبر قوت البسطاء، وكان يصلح كطعام للحيوانات أكثر منه للبشر، مما يعني أن هذا الغلام على الأرجح قد جاء من عائلة فقيرة.
- هناك فقرة في التلمود عن رجل قال: “هذا محصول جيد من الشعير،” أجابه رجل آخر: “قل هذا للخيول والحمير.”
- “إن ثمن الشعير ثلث قيمة القمح في الشرق، أنظر رؤيا يوحنا ٦:٦. ويبدو أنه كان أجراً زهيداً للغاية كما نقرأ في حزقيال ١٩:١٣، حيث قيل عن الأنبياء الكذبة أنهم نجسوا الرب لِأَجْلِ حَفْنَةِ شَعِيرٍ للحصول على مكافأة وضيعة.” كلارك (Clarke)
- سَمَكَتَانِ: “في حين استخدم كُتاب الأناجيل كلمة عادية للسمك (ichthys)، إلا أن يوحنا استخدم كلمة (osparia) مشيراً إلى أنهما كانتا سمكتان صغيرتان (ربما مملحة) من الذي تؤكل لتضيف مذاقاً للشعير.” بروس (Bruce)
- وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ؟: لم يكن هناك الكثير أمامهم، ولكن الله لا يحتاج إلى الكثير. والواقع أن الله لا يحتاج لأي مساعدة إطلاقاً، ولكنه غالباً ما يؤخر عمله إلى أن نتشارك نحن معه.
- “لا تعني الأشياء البسيطة أنها تافهة. فالأمر يعتمد على الأيدي التي تستخدمها.” تايلور (Taylor)
ثانياً. إشباع الخمسة آلاف
أ ) الآية (١٠): يسوع يأمر بجلوس الناس
١٠فَقَالَ يَسُوعُ: «ٱجْعَلُوا ٱلنَّاسَ يَتَّكِئُونَ». وَكَانَ فِي ٱلْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَٱتَّكَأَ ٱلرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلَافٍ.
- «ٱجْعَلُوا ٱلنَّاسَ يَتَّكِئُونَ»: لم يبدُ على يسوع الشعور بالفزع أو الاستعجال. كان أمامه نفوس كثيرة ليطعمها، ومع هذا قام بعمله بطريقة منظمة، وطلب منهم أولاً أن يَتَّكِئُونَ على العُشْب.
- يمكننا القول إن يسوع قام هنا بدور الراعي الصالح المذكور في مزمور ١:٢٣-٢ “فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي (يُسكِنُنِي)…” ويقدم هذا المزمور أيضاً صورة الرب كالمضيف الذي يقدم وجبة لخادمه ويعامله كضيف: “تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً… مَسَحْتَ بِٱلدُّهْنِ رَأْسِي… كَأْسِي رَيَّا… وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ إِلَى مَدَى ٱلْأَيَّامِ.” (مزمور ٥:٢٣-٦).
- فَٱتَّكَأَ ٱلرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلَافٍ: أدار يسوع الأمور بطريقة منظمة، وكان عليهم الخضوع لأوامره لكي يسدد احتياجهم بطريقة معجزية. فكل من يخضع لأوامر يسوع سوف تسدد احتياجاته قريباً.
- “يملك سيدنا المبارك هدوءً رائعاً بسبب دقته وانضباطه. فالأشخاص المتأخرين هم دائماً على عجلة من أمرهم. أما هو فلا يتأخر أبداً ولا يستعجل أبداً.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآية (١١): إشباع الخمسة آلاف
١١وَأَخَذَ يَسُوعُ ٱلْأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَزَّعَ عَلَى ٱلتَّلَامِيذِ، وَٱلتَّلَامِيذُ أَعْطَوْا ٱلْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا.
- وَشَكَرَ: لم يكن لدى يسوع سوى خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ وَسَمَكَتَانِ، ومع هذا أصر على أن يرفع الشكر لأبيه السماوي من أجل عطاياه.
- “قدم يسوع الشكر للآب من أجل خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ وَسَمَكَتَانِ. ومع أن هذا لا يبدو سبباً كافياً للشكر، لكن يسوع عرف ما يمكنه أن يفعل بها، ولهذا قدم الشكر على النتائج. قال أغسطينوس: ’الله يحبنا لأنه يعرف ماذا سنصبح.‘ قدم المسيح الشكر من أجل هذه الأمور التافهة لأنه رأى كيف ستصبح وتنمو.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَأَخَذَ يَسُوعُ ٱلْأَرْغِفَةَ… وَوَزَّعَ عَلَى ٱلتَّلَامِيذِ: تكمن المعجزة في يد يسوع وليس في التوزيع. فالقليل يصبح الكثير في يديه.
- “كانوا قبل لحظة مُلكاً للغلام، ولكنهم الآن مُلكاً للمسيح. ’أخذ يسوع الأرغفة‘ … وأصبحت تحت تصرفه؛ إنها له الآن.” سبيرجن (Spurgeon)
- “يبدو أن معجزة تضاعف الطعام لم يصحبها ضجة كبيرة.” تيني (Tenney). صحيح أننا لا نعرف بالتحديد أين حدث التضاعف. ويبدو أنه حدث عندما كسر يسوع الخبز والسمك وَوَزَّعَ عَلَى ٱلتَّلَامِيذِ. “لم تتضاعف الأرغفة الكاملة أو السمك الكامل، بل الذي تضاعف هو الأجزاء المكسورة منهما.” ترينش (Trench)
- أكل الجميع وشبع دون أن يعرفوا أن ما حدث كان معجزة.
- لم يصنع التلاميذ المعجزة، بل قاموا ببساطة بتوزيع ثمر معجزة يسوع.
- نصنع الخبز من القمح الذي يتضاعف ويتكاثر في حد ذاته. وللحصول على الخبز علينا طحن القمح أولاً (يصبح ميتاً)، ولكن عندما يموت القمح ويصبح دقيقاً من المستحيل زرعه ليأتي بثمر. ولكن يسوع قادر على إحياء الموتى؛ لهذا ضاعف رغيف الخبز المصنوع من القمح المطحون والأسماك الميتة.
- “يا لها من عملية حسابية غريبة، تضاعفت هذه الأرغفة الخمسة بالتقسيم وزادت بالطرح.” تراب (Trapp)
- وَوَزَّعَ عَلَى ٱلتَّلَامِيذِ: اعتمد يسوع على جهد التلاميذ في هذه المعجزة الرائعة. فقد كان بإمكانه أن يخلق خبزاً وسمكاً في جيب أو كيس كل شخص حاضر، ولكنه لم يفعل، بل اختار عن قصد طريقة لكي يستخدم فيها ٱلتَّلَامِيذ.
- رفض يسوع أن يصنع الخبز بأعجوبة لإطعام نفسه في برية التجربة؛ ولكنه فعل للآخرين ومع الآخرين ما لم يفعله لنفسه.
- بِقَدْرِ مَا شَاءُوا: كان تسديد الله للحاجة يفوق التصور، أكلوا بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. أكلوا حتى شبعوا تماماً.
- “هناك أهمية كبرى لهذه القصة، وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن استعارة الأكل والشرب استخدمت كثيراً في العهد القديم. فهي صورة عن الازدهار والرخاء، وكانت تستخدم كثيراً لتشير إلى البركات التي سيتمتع بها شعب الله في أرض الموعد.” موريس (Morris)
- تشمل جملة ’بِقَدْرِ مَا شَاءُوا‘ الغلام الذي قدم الأرغفة الخمسة والسمكتين، فقد حصل الغلام في النهاية على أكثر مما كان يملك. فقد كانت الأرغفة والسمكتان وجبة كافية بالنسبة للغلام، ولكنه قدمها ليسوع الذي حولها إلى كمية وفيرة من الطعام له وللآخرين أيضاً.
ج) الآيات (١٢-١٣): جمع الفتات المتبقي
١٢فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: «ٱجْمَعُوا ٱلْكِسَرَ ٱلْفَاضِلَةَ لِكَيْ لَا يَضِيعَ شَيْءٌ». ١٣فَجَمَعُوا وَمَلَأُوا ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ ٱلْكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ ٱلشَّعِيرِ، ٱلَّتِي فَضَلَتْ عَنِ ٱلْآكِلِينَ.
- فَلَمَّا شَبِعُوا: كان يسوع سخياً، وأعطى للجميع قدر ما شاءوا. كانت هذه معجزة رائعة، ويرى البعض أنه كان على التلاميذ (أو كان بإمكانهم) أن يتوقعوا قدرة يسوع على تحقيق مثل هذا الشيء.
- تُحذر بعض المقاطع الكتابية في العهد القديم من التشكيك برعاية الله: (مزمور ١٩:٧٨) “وَتَذَمَّرُوا عَلَى اللهِ قَائِلِينَ: أَيَقْدِرُ اللهُ أَنْ يَبْسُطَ لَنَا مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ؟” ونرى في سفر ملوك الثاني ٤٢:٤-٤٣ مثال آخر على مضاعفة الله لأرغفة شعير أيضاً، ولكن معجزة يسوع كانت أكبر بكثير.
- رغم أن التلاميذ لم يفهموا أو لم يتوقعوا المعجزة، لكن يسوع دعاهم للمساهمة بها، لذا هم من قاموا بتوزيع الخبز والسمك المتضاعف. فبدون عملهم، لن يأكل أحد.
- أظهر يسوع لهم صفة العطاء في الله – وهي نفس الصفة التي يرغب في بنائها داخلنا. تقول الآية في سفر الأمثال ٢٤:١١ “هُناكَ مَنْ يُعطِي بِسَخاءٍ فَيَزدادُ، وَهُناكَ مَنْ يُصبِحُ فَقِيراً لِأنَّهُ لا يُعطِي كَما يَنْبَغِي” (الترجمة العربية المبسطة). فتضاعف الخبز لأن شخص ما أعطى بسخاء.
- «ٱجْمَعُوا ٱلْكِسَرَ ٱلْفَاضِلَةَ لِكَيْ لَا يَضِيعَ شَيْءٌ»: كان يسوع سخياً ولم يهدر شيئاً. أراد يسوع أن يستفيد من كل شيء.
- “لم يكن الفتات عبارة عن بقايا الطعام التي لم تؤكل والتي تترك للطيور والحيوانات، ولكن الأجزاء المكسورة التي أعطاها للتوزيع.” ترينش (Trench)
- “يستخدم المصطلح ’قُفَّة‘ (kophinos) عادة للدلالة على سلة كبيرة الحجم، مثل التي تستخدم لوضع الأسماك أو الأشياء الضخمة.” تيني (Tenney)
ثالثاً. ردة الفعل على المعجزة
أ ) الآية (١٤): يسوع النبي الذي تنبأ عنه موسى
١٤فَلَمَّا رَأَى ٱلنَّاسُ ٱلْآيَةَ ٱلَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلنَّبِيُّ ٱلْآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ!».
- فَلَمَّا رَأَى ٱلنَّاسُ ٱلْآيَةَ ٱلَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ: الطريقة التي قدم بها يسوع الخبز للجموع في الهواء الطلق (ما يشبه البرية) ذكرت ٱلنَّاسُ بالطريقة التي استخدم بها الله موسى لإطعام الشعب في البرية.
- إِنَّ هَذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلنَّبِيُّ: كان الشعب ينتظر ٱلنَّبِيُّ الذي تنبأ عنه موسى: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلَهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. (سفر التثنية ١٥:١٨). فإن كان هذا ٱلنَّبِيُّ القادم يشبه موسى، فمن المنطقي أنه سيطعم الناس بأعجوبة تماماً كما فعل موسى.
- كان الجمع مستعداً لدعم يسوع طالما أعطاهم ما يريدونه: الخبز. ومن السهل علينا أن ننتقد محبتهم ليسوع لأنها كانت مربوطة بالخبز الذي أعطاه لهم، ولكننا غالباً ما نفعل الأمر ذاته ونحب يسوع فقط حينما يلبي احتياجاتنا. ولكن علينا أن نحبه ونطيعه لمجرد أنه الرب والإله.
- “لاحظ معلم يهودي في وقت لاحق ما يلي: ’كما أنزل الفادي الأول المن من السماء …. هكذا سيُنزل الفادي الأخير المن من السماء.‘ ويبدو أن هذه كانت الفكرة الشائعة في القرن الأول.” بروس (Bruce)
ب) الآية (١٥): حاول الناس تنصيب يسوع كملك أرضي عليهم
١٥وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، ٱنْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى ٱلْجَبَلِ وَحْدَهُ.
- أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً: كان لقب الملك لقباً سياسياً. وكان الجمع مستعداً لتأييد يسوع لأنهم يريدونه أن يخلصهم من قهر الرومان في اليهودية أو من هيرودس أنتيباس في الجليل.
- “وفجأة ظهر هذا الرجل الرائع يسوع، وهو يملك قوة خارقة. لا بد أن هذا جعلهم يقولون: ’ألن يكون رائعاً إن تمكنا من إقناعه على مساعدتنا للتخلص من الرومان؟‘” بويس (Boice)
- “كان هيرودس أنتيباس الموالي لروما هو الحاكم المباشر على منطقة الجليل، عكس منطقة اليهودية، لهذا لم يشعر الجليليون بأي ولاء لبلدهم بسببه وبسبب عائلته.” بروس (Bruce)
- ٱنْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى ٱلْجَبَلِ وَحْدَهُ: لم ينبهر يسوع أو يُستمال بنوايا الجمع الذي أراد تنصيبه ملكاً. بل تركهم وانصرف ليصلي لأنه كان أكثر اهتماماً بالشركة مع الآب في السماء من سماع تصفيقهم.
- “كانت فكرة المملكة الأرضية بالنسبة ليسوع ليست إلا تجربة من الشيطان، لهذا رفضها بحزم.” موريس (Morris)
- “رأى يسوع حماس الجمع الشديد وعزمهم على أخذه بعنف وإعلانه ملكاً ومسيحاً لمعارضة السلطة المدنية؛ وربما رأى أن التلاميذ أيضاً أخذتهم تلك الحماسة الجامحة.” ترينش (Trench)
- “جاء الملك ليفتح مملكته للناس. ولكنهم حاولوا عن جهل إجباره على أن يكون الملك الذي يريدونه؛ ولكنهم فشلوا في الحصول على الملك الذي يريدونه، وخسروا الملكوت الذي قدمه لهم.” موريس (Morris)
رابعاً. يَسُوعُ يَمْشِي عَلَى الماء
أ ) الآيات (١٦-١٧): خرج التلاميذ إلى بحر الجليل
١٦وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ نَزَلَ تَلَامِيذُهُ إِلَى ٱلْبَحْرِ، ١٧فَدَخَلُوا ٱلسَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ ٱلْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَكَانَ ٱلظَّلَامُ قَدْ أَقْبَلَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ.
- نَزَلَ تَلَامِيذُهُ إِلَى ٱلْبَحْرِ، فَدَخَلُوا ٱلسَّفِينَةَ: يخبرنا كل من متى ومرقس أن يسوع أجبر تلاميذه على دخول السفينة (مرقس ٤٥:٦). انطلقوا عبر بحر الجليل لأن يسوع طلب منهم ذلك.
- “وفقاً للآية في مرقس ٤٥:٦ نرى أن يسوع ’ألزم‘ (anankazo) تلاميذه على ركوب السفينة والعبور بحراً إلى كفرناحوم؛ ربما رأى يسوع أن موجة الحماس طغت على التلاميذ أيضاً.” بروس (Bruce)
- وَكَانَ ٱلظَّلَامُ قَدْ أَقْبَلَ: كان العديد من التلاميذ صيادين، واعتادوا الصيد في ذلك البحر. لهذا لم يخشوا التجديف عبر البحر ليلاً عندما دخلوا القارب.
- وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ: كانت هذه المرة الثانية في الواقع، التي تعامل فيها يسوع مع تلاميذه في بحر الجليل الهائج. ففي العاصفة الأولى (متى ٢٤:٨)، كان يسوع في القارب معهم فانتهر الريح وهدأ العاصفة. ولكن في هذه العاصفة طلب يسوع من تلاميذه أن يثقوا برعايته واهتمامه بهم بالإيمان لا بالعيان.
ب) الآية (١٨): أعاقت الرياح جهودهم لعبور البحر
١٨وَهَاجَ ٱلْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ.
- وَهَاجَ ٱلْبَحْرُ: كان وجود الرياح سيئاً بما فيه الكفاية، ولكن الرياح أهاجت البحر وجعلته مضطرباً.
- رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ: كان بحر الجليل معروفاً بعواصفه العنيفة والمفاجئة مما يجعل البحر فجأة وبسرعة مكاناً خطيراً.
- “ينخفض بحر الجليل حوالي ١٨٣م عن سطح البحر ويقع بين تلال في منطقة ذات ضغط جوي منخفض. فعندما تغرب الشمس، يبرد الهواء، ويهب على البحر هواء بارد من التلال الغربية يسبب موجاً قوياً. وبما أن التلاميذ كانوا يتجهون نحو كفرناحوم، فهذا يعني أن الريح كانت معاكسة لاتجاه القارب، وبالتالي لم يحرزوا أي تقدم يذكر.” تيني (Tenney)
ج) الآية (١٩): يسوع يقترب من التلاميذ ماشياً على الماء
١٩فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ غَلْوَةً، نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ ٱلسَّفِينَةِ، فَخَافُوا.
- فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ غَلْوَةً: كان التلاميذ مذعورين في العاصفة الأولى على بحر الجليل (متى ٢٥:٨-٢٦). أما في بداية العاصفة الثانية كانت مشاعر الإحباط تتملكهم أكثر من الخوف. طلب يسوع منهم عبور البحيرة ولكنهم لم يتقدموا إلا قليلاً بالرغم من كل المحاولات الشاقة.
- نعرف من البشير متى ٢٥:١٤ أن الأمر حدث في الهزيع الرابع من الليل، ما بين الساعة الثالثة والسادسة صباحاً. مما يعني أنهم جدفوا لمدة ست إلى ثماني ساعات، ولكنهم لم يقطعوا سوى نصف المسافة (خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ غَلْوَةً أي ٥-٦ كيلومتر).
- كانوا في حالة من الإحباط بسبب يسوع، رغم أنهم فعلوا بالضبط ما أراد. ويضيف البشير مرقس في ٤٨:٦ أن يسوع رأى التلاميذ في البحيرة. فقد كانت عيناه عليهم طوال الوقت. ورغم أنهم كانوا في مشيئة يسوع وكانت عيناه تحرسهم، إلا أنهم عملوا بجهد وتملكهم الإحباط طيلة الوقت.
- “كان يسوع على التلة يصلي ويتمتع بالشركة مع الله الآب. ولأن القمر كان ساطعاً كان المشهد مضاءاً كوقت النهار، واستطاع يسوع أن يراهم وهم يعانون في التجديف. فيسوع لم ينساهم، وشركته مع الله لم تشغله عنهم.” باركلي (Barclay)
- “هو على الجبل بينما نحن في البحر… هو في السماء الثابتة، بينما نحن تتقاذفنا أمواج هذا الزمن المتغير لأننا أطعنا أمره.” ماكلارن (Maclaren)
- نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ… فَخَافُوا: يخبرنا البشير مرقس في ٤٩:٦-٥٠ أن التلاميذ كانوا مرتعبين لأنهم عندما رأوه ماشياً على المياه ظنوا أنه شبح أو روح.
- “يضيف البشير مرقس تفاصيل دقيقة وبأن يسوع أرادَ أنْ يَتَجاوَزَهُم، كما لو أنه كان يرغب في بعث الطمأنينة إلى قلوبهم لمجرد رؤيته من بعيد.” ترينش (Trench)
- لم يكن التلاميذ مستعدين بعد للحصول على أي معجزة. كل ما عرفوه هو أن يسوع أمرهم أن يبحروا، وهذا ما فعلوه بالضبط، ولكنهم لم يتوقعوا أي معونة مباشرة منه. وبالتالي تفاجأوا وخافوا عندما جاء بمعجزة لمساعدتهم.
- قدم لهم يسوع أيضاً ما يكفي من الأسباب والتذكيرات للثقة بقدرته المعجزية على معونتهم. ومما لا شك فيه، كان معهم بعض السلال المليئة بالخبز المتبقي (يوحنا ١٣:٦)، ومع ذلك أصابهم الذهول عندما جاءت المعونة وهم وسط البحر.
د ) الآية (٢٠): كلمات يسوع المُعزية
٢٠فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ، لَا تَخَافُوا!».
- أَنَا هُوَ: كان كافياً بالنسبة ليسوع إعلان حضوره. فقد كان يسوع مع تلاميذه وهو سيهتم بهم وسط الإحباط ومشاعر الخوف.
- لَا تَخَافُوا: جاء يسوع ليقدم المعونة والعزاء لتلاميذه بطريقة معجزية. وقد قدم حضوره ما يحتاجونه حتى وإن جاء بطريقة غير متوقعة.
- نعرف من إنجيل متى ٢٨:١٤-٣٢ أن بطرس طلب من يسوع بعد هذا أن يمشي على الماء، واستطاع بطرس أن يمشي على الماء فعلاً ولكن لفترة قصيرة.
هـ) الآية (٢١): أوصلهم يسوع فوراً إلى وجهتهم
٢١فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ ٱلسَّفِينَةُ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا.
- فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي ٱلسَّفِينَةِ: ونتعلم من هذا أن يسوع ما كان ليدخل لو لم يقبلوه عن طيب خاطر (فَرَضُوا)، ولم يمشي على الماء في بحر الجليل إلا عندما لاقى ترحيباً من التلاميذ.
- وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ ٱلسَّفِينَةُ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا: حدثت المعجزة عندما رَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي ٱلسَّفِينَةِ. ويا لها من معجزة رائعة. وكل الجهد والاحباط تحول فجأة إلى إنجاز إلهي.
- “نستنتج من هذه المعلومة التي قدمها يوحنا أن السفينة تحركت بشكل تلقائي ودون أي تجديف أو إبحار إذعاناً لمشيئته: وبدون أي جهد من التلاميذ أو الطاقم قطعت السفينة بسرعة المسافة المتبقية (ثلاث كيلومترات تقريباً) ورست على الشاطئ.” ترينش (Trench)
- يمكننا القول أن يسوع أنقذ تلاميذه من الشعور بالإحباط دون جدوى. يريد يسوع منا أن نعمل بجد، ولكنه لا يريد أن نعمل دون ثمر أو جدوى. فعملهم لم يكن مضيعة للوقت بل انتظر لمسة القدير وحضوره.
- وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ ٱلسَّفِينَةُ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا: ساعدت هذه المعجزة الرائعة التلاميذ، لا سيما أن يسوع قد رفض للتو تنصيبه ملكاً. فما حدث الآن أكد لهم أنه يملك السلطان الإلهي مع أنه رفض العرش وفقاً لتوقعات وآراء الجمع.
- “لا نعرف المسافة بالضبط التي كانت تفصلهم عن الأرض التي كانوا ذاهبين إليها عندما دخل الرب السفينة. ولكن يبدو أن البشير يتحدث عن وصولهم المفاجئ هناك بطريقة معجزية.” كلارك (Clarke)
- “في اللحظة التي يواجه فيه أي قديس الموت، سيجد نفسه في لحظة، واقفاً على ضفاف كنعان في الملكوت السماوي.” تراب (Trapp)
خامساً. يسوع هو خبز الحياة
أ ) الآيات (٢٢-٢٤): ٱلْجَمْعُ يتبع يسوع والتلاميذ إلى كفرناحوم
٢٢وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا رَأَى ٱلْجَمْعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تِلْكَ ٱلَّتِي دَخَلَهَا تَلَامِيذُهُ، وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ ٱلسَّفِينَةَ مَعَ تَلَامِيذِهِ بَلْ مَضَى تَلَامِيذُهُ وَحْدَهُمْ. ٢٣غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي أَكَلُوا فِيهِ ٱلْخُبْزَ، إِذْ شَكَرَ ٱلرَّبُّ. ٢٤فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلَا تَلَامِيذُهُ، دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً ٱلسُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ.
- وَفِي ٱلْغَدِ: تساءل الجمع في اليوم التالي، بعد إشباع الخمسة آلاف وبعد عبور بحر الجليل ليلاً، أين ذهب يسوع والتلاميذ. كانوا قد رأوا التلاميذ يغادرون في القارب وحدهم دون يسوع، رَأَى ٱلْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ.
- جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ: “الجملة المعترضة التي قدمها يوحنا في الآية ٢٣ عن السفن القادمة من الجانب الشرقي من طبرية، ما هي إلا تأكيد لحقيقة وقوع عاصفة في الليلة السابقة.” دودز (Dods)
- دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً ٱلسُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ: كان هؤلاء هم نفس الْجَمْع الذي أطعمه يسوع والذي أراد تنصيبه بالقوة كملك أرضي عليهم (يوحنا ١٤:٦-١٥).
- “عندما تأكد الْجَمْع أن يسوع ليس في المنطقة وأن التلاميذ لم يحضروه معهم، عبروا إلى الجانب الغربي للبحث عنه.” بروس (Bruce)
- “مما يعني أن كل من وجد مكاناً على القارب ذهب إلى كفرناحوم. ولكن ذهب آخرين بلا شك سيراً على الأقدام، لأنه من المستحيل أن يحصلوا على ما يكفي من القوارب لخمسة أو ستة آلاف شخص.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (٢٥-٢٧): رد يسوع على سؤالهم الأول: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟».
٢٥وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ، قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟». ٢٦أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لِأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لِأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. ٢٧اِعْمَلُوا لَا لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ ٱلَّذِي يُعْطِيكُمُ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ، لِأَنَّ هَذَا ٱللهُ ٱلْآبُ قَدْ خَتَمَهُ».
- مَتَى صِرْتَ هُنَا؟: لم يجيب يسوع على هذا السؤال. ولعل جوابه سيكون: “مشيت على بحر الجليل ليلاً لمساعدة تلاميذي، ثم نقلت قاربنا بأعجوبة إلى وجهتنا. هكذا وصلت إلى هنا.”
- في وقت لاحق من هذا الفصل، يخبرنا يوحنا أن هذا حدث يوم السبت في المجمع بينما كان يُعلّم في كفرناحوم (يوحنا ٥٩:٦). ووفقاً للإنجيل متى ١٥، كان قادة اليهود الذين جاؤوا من أورشليم إلى كفرناحوم لاستجواب يسوع جزءً أيضاً من هذا الْجَمْع.
- أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لِأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لِأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ: وبدلاً من إخبارهم متى ولماذا وصل هناك، أخبرهم يسوع لماذا جاءوا هم هناك – لقد جاؤوا لأنهم أرادوا المزيد من الطعام الذي قدمه يسوع بطريقة معجزية.
- يمكننا أحياناً فهم الكثير عن سبب السؤال الذي نطرحه على الله من الإجابة. وهذا ما حدث مع الذين تبعوا يسوع في أرجاء الجليل وسألوا هذا السؤال.
- كانوا يريدون الخبز فعلاً، ولكن كان هناك أكثر من مجرد الخبز أيضاً، كانوا يبحثون عن معجزة وعن ملك بقدرات خارقة يقودهم ضد الطغيان الروماني.
- “لم يتأثروا في الواقع بحكمة كلامه أو بجمال أفعاله، إنما تأثروا بالمعجزة التي أعطتهم الطعام وأشبعت رغباتهم تماماً، ولذلك كانت هناك حماسة جياشة ولكنها غير صادقة وغير مرحبة بيسوع.” ماكلارين (Maclaren)
- اِعْمَلُوا لَا لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ: تكبد الذين سألوا هذا السؤال الكثير من العناء إلى أن وجدوا يسوع. ولكنهم تعبهم كان للحصول على الطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ أي الأشياء التي تملأ المعدة وتحكم ممالك أرضية. كانت رغبة يسوع لهم أن يعملوا لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ.
- قارن يسوع بين الأمور المادية والأمور الروحية. فالناس عموماً، وهذه حقيقة مقبولة عالمياً، ينجذبون أكثر للأمور المادية وليس الروحية. فاللافتة التي تقول نقود مجانية وطعام مجاني ستجذب حشداً أكبر من التي تقول الشبع الروحي والحياة الأبدية.
- “هاجم يسوع الطموحات المادية المتأصلة في العقول الجسدية لهؤلاء الجليليين.” تاسكر (Tasker)
- ٱلَّذِي يُعْطِيكُمُ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ: انبهارهم بمعجزة الخبز التي صنعها يسوع كان في مكانه، ولكنه أرادهم أن ينبهروا أكثر بالطعام الروحي الذي يعطيه بمعجزة.
- ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ: “تجنب يسوع استخدام لقب ’المسيح‘ أو أي تعبير آخر من شأنه أن يدعم طموحاتهم السياسية. وكان استخدامه لصفة ’ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ‘ يتناسب أكثر مع هدفه. فلم يكن هذا التعبير متداولاً ضمن مفرداتهم الدينية أو السياسية، وبالتالي كان يمكنه أن يحمل أي معنى يريده وحسب السياق المستخدم.” بروس (Bruce)
- لِأَنَّ هَذَا ٱللهُ ٱلْآبُ قَدْ خَتَمَهُ: كان الختم علامة ملكية وضمانة للمحتويات. كان عليهم أن يثقوا بيسوع لأن الله الآب قد وضع خَتْمَ مُوافَقَتِهِ على ابن الإنسان.
- “يشير الفعل ’خَتَمَهُ‘ (esphragisen) في اللغة اليونانية أن هذا الختم مرتبط بحادثة معينة وهي معمودية ربنا (راجع يوحنا ٣٢:١-٣٤).” بروس (Bruce)
- “مختوم بشهادة يرقى إليها الشك كما في معموديته؛ وبعدها بمعجزاته.” آلفورد (Alford)
- “وكما يفعل شخص يكتب رسالة لتوصيل أفكاره لشخص آخر يبعد عنه مسافة، ويختمها بختمه الخاص ويرسلها إليه مباشرة، هكذا المسيح، الذي كان في حضن الآب، جاء ليفسر المشيئة الإلهية للإنسان، حاملاً صورة ونقش وختم الله، بطبيعته الطاهرة وحقه المطلق وبمعجزاته الرائعة.” كلارك (Clarke)
ج) الآيات (٢٨-٢٩): رد يسوع على سؤالهم الثاني: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱللهِ؟».
٢٨فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱللهِ؟». ٢٩أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ عَمَلُ ٱللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ».
- مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱللهِ؟: طلب منهم يسوع أن لا يعملوا للطعام البائد (يوحنا ٢٧:٦). وللرد عليه، استخدموا نفس الكلمة التي استخدمها يسوع وقالوا: “كيف نعمل من أجل هذا؟”
- وكأنهم يقولون ليسوع: “أخبرنا فقط ماذا نفعل لنحصل على ما نريده منك. نحن نريد خبزك العجيب ونريدك أن تكون ملكنا العجيب، أخبرنا ماذا نفعل.”
- بدا مؤكداً للذين طرحوا هذا السؤال أنه يمكنهم أن يرضوا الله بأعمالهم لو أخبرهم يسوع بما عليهم أن يفعلوا. فقد اعتقد هؤلاء، كحال الكثيرين اليوم، أنه بإمكانهم إرضاء الله إن قاموا بالأعمال الصالحة بالطريقة التي يريدها الله.
- هَذَا هُوَ عَمَلُ ٱللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ: لقد أمرهم يسوع أولاً وقبل كل شيء (ويأمرنا أيضاً) ألا يفعلوا شيئاً له بل أن يثقوا به. فإذا أردنا القيام بعَمَل ٱلله، إذاً علينا أن نبدأ بوضع ثقتنا بيسوع.
- فالأب لا يريد الطاعة من أولاده فقط، بل يريد علاقة معهم ملؤها الثقة والمحبة. فالأمل هو أن تنبع الطاعة من تلك العلاقة المبنية على المحبة والثقة. وهذا ما يريده الله أيضاً في علاقته معنا.
- فالخطوة الأولى إذاً: أَنْ تُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ، ولكن الله يهمه طاعتنا أيضاً. وبهذا المعنى لا يصبح إيماننا به هو البديل لأعمالنا؛ فإيماننا هو الأساس للأعمال التي ترضي الله فعلاً.
- قارن ماكلارن (Maclaren) بين ’نَعْمَلَ‘ و’أَعْمَالَ‘ وكتب: “كانوا يفكرون بمجموعة كبيرة من الشعائر والأعمال. ولكنه جمع الكل بعمل واحد.”
- “قال الكاهن: ’الطقوس والاحتفالات.‘ وقال المفكر: ’الثقافة والتعليم.‘ وقال الفيلسوف الأخلاقي: ’أفعل هذا وذاك والشيء الآخر‘ وعدد لا بأس به من الأعمال المنفصلة. أما يسوع المسيح فقال: ’المطلوب هو شيء واحد فقط… هَذَا هُوَ عَمَلُ ٱللهِ.‘” ماكلارين (Maclaren)
- “هذه من أهم الكلمات التي نطق بها ربنا، لأنها تحتوي على بذرة التعليم الذي كتب عنه بولس الرسول في كتاباته لاحقاً بشكل موسع.” آلفورد (Alford)
د ) الآيات (٣٠-٣٣): رد يسوع على سؤالهم الثالث: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟».
٣٠فَقَالُوا لَهُ: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ ٣١آبَاؤُنَا أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا». ٣٢فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ ٱلْخُبْزَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ ٱلْخُبْزَ ٱلْحَقِيقِيَّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٣٣لِأَنَّ خُبْزَ ٱللهِ هُوَ ٱلنَّازِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ ٱلْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ».
- فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ: تبعه الْجَمْع الذي سمع يسوع في مجمع كفرناحوم بعد أن أشبع الخمسة آلاف، وكان من بينهم القادة اليهود من أورشليم (متى ١:١٥، يوحنا ٤١:٦). سمع هؤلاء عن معجزة إطعام الآلاف، ولكنهم أرادوا رؤيتها مرة ثانية وكانت تلك أيضاً طلبة من أكلوا أول مرة!
- آبَاؤُنَا أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: كان يأمل طارحو السؤال استدراج يسوع ليعطيهم الخبز اليومي، تماماً كما فعل الله مع إسرائيل حينما أخرجهم من مصر. حتى أنهم أقتبسوا من الكتب المقدسة أثناء المحاولة («كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا» مزمور ٤٠:١٠٥).
- أَبِي يُعْطِيكُمُ ٱلْخُبْزَ ٱلْحَقِيقِيَّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: قد نُعيد صياغة رد يسوع على هذا النحو: “ماذا يمكنني أن أفعل أيضاً…؟ هذا ما سأفعله: سأعطيكم كلمة الله والحياة الأبدية إن آمنتم بي ومن خلالي. هذا هو الخبز الروحي الذي عليكم أكله لتحصلوا على الحياة. ”
- “لا ينكر إلهنا ٱلْمَنَّ هنا، لكنه يؤكد على طبيعته المعجزية.” آلفورد (Alford)
- لِأَنَّ خُبْزَ ٱللهِ هُوَ ٱلنَّازِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: حاول يسوع أن يرتقي بتفكيرهم من الأشياء الأرضية إلى الحقائق السماوية؛ وأن يفهموا كم ’هو‘ ضروري للحياة الروحية تماماً كما أن الخبز ضروري للبقاء حياً.
- “خبز الله هو الذي نزل من السماء ووهب الناس لا الشبع الجسدي فحسب بل الحياة. وقد أعلن يسوع أن الاكتفاء الحقيقي والشبع الكامل هو في شخصه العجيب المبارك.” باركلي (Barclay)
هـ) الآيات (٣٤-٤٠): رد يسوع على طلبهم الرابع: «يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا ٱلْخُبْزَ».
٣٤فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا ٱلْخُبْزَ». ٣٥فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلَا يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلَا يَعْطَشُ أَبَداً. ٣٦وَلَكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. ٣٧كُلُّ مَا يُعْطِينِي ٱلْآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لَا أُخْرِجْهُ خَارِجاً. ٣٨لِأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لَيْسَ لِأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي. ٣٩وَهَذِهِ مَشِيئَةُ ٱلْآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لَا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَلْ أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ. ٤٠لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلِٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ».
- أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا ٱلْخُبْزَ: نتساءل عما إذا كان أولئك الذين سافروا عبر بحيرة الجليل لمقابلة يسوع يشعرون بالجوع أثناء حديثهم معه. أرادوا ٱلْخُبْزَ الذي قدمه يسوع بأعجوبة، وقالوا: أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا ٱلْخُبْز.
- نعتقد عندما نشعر بالجوع أن الطعام هو الحل لكل مشاكلنا. وهذا ينطبق تقريباً على كل الصعوبات التي نواجهها يومياً. وكما حاول يسوع الإرتقاء بتفكيرهم عن حاجاتهم المادية والجسدية، هكذا ينبغي علينا أن نفعل أيضاً.
- “لن يعطيهم ما أرادوا، ولن يقبلوا ما قدمه.” بروس (Bruce)
- يَا سَيِّدُ: “استخدمت الترجمة الإنجليزية ’يا رب‘ بدلاً من ’يا سيد‘ وهذه ليست ترجمة دقيقة، لأنه من الواضح وحسب الآية ٣٦ أن هؤلاء الجليليين لم يؤمنوا بيسوع.” تاسكر (Tasker)
- “هذا أول أقوال ’أنا هو‘ الخاصة في هذا الإنجيل (حيث يستخدم يسوع ’إغو إيمي ego eimi‘ مصحوبة بخبر).” بروس (Bruce)
- مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلَا يَجُوعُ: أوضح يسوع أن كل من يقبل إليه، أي يؤمن به، سيجد شبعه الروحي في يسوع.
- “المقصود هنا أن مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّه عليه أن يأتي بشوق وصلاة وموافقة وقبول وثقة وطاعة.” سبيرجن (Spurgeon)
- “لا ينبغي أخذ هذه الآية بمعناها الظاهري، ففي طياتها نداء. وبما أن يسوع هو خبز الحياة، فالإنسان مدعو لقبوله والإيمان به.” موريس (Morris)
- “أن نُقبل إليه (أو نأتي إليه) هو الوصف البسيط والحقيقي للإيمان بالمسيح. إنه ليس عمل بطولي، بل ببساطة أن نقبله في حياتنا. إنها ليست عملية ذهنية معقدة، بل أن نقبله في حياتنا بكل بساطة. تماماً كحال الطفل الذي يأتي إلى أمه، والأعمى الذي يأتي إلى بيته، وحتى الحيوان الذي يأتي إلى سيده. إن الإيمان بيسوع في الواقع ما هو إلا عمل بسيط للغاية، ويبدو أن هناك شيئين عنه: أولاً أن تترك شيء ما، وثانياً أن تأتي إلى شيء ما.” سبيرجن (Spurgeon)
- كُلُّ مَا يُعْطِينِي ٱلْآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لَا أُخْرِجْهُ خَارِجاً: لقد أوضح يسوع أن قبوله يبدأ بعمل الآب، وأنه سيقبل كل من يأتي إليه.
- كُلُّ مَا يُعْطِينِي ٱلْآبُ: ” كلمة ’كل‘ محايدة، مما يجعلها عامة للغاية، ويمكن أن تعني أيضاً ’كل شيء‘ على الرغم من أن المقصود هنا هو الناس بكل تأكيد.” موريس (Morris)
- وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لَا أُخْرِجْهُ خَارِجاً: “يسترعي ربنا المبارك إنتباهنا هنا إلى حالة شخص يمر بكرب عظيم وبؤس، يأتي إلى منزل أحد النبلاء للحصول على معونة: يأتي الشخص عند المالك وبدلاً من معاملته بقسوة، يرحب به ويقبله بلطف ويسدد كل احتياجاته. وهذا ما يفعله يسوع بالضبط.” كلارك (Clarke)
- “لَا أُخْرِجْهُ خَارِجاً. يا له من خطاب قوي ومُعزي للغاية. من لا يريد أن يأتي إلى يسوع المسيح بعد هذا التشجيع الجميل؟” تراب (Trapp)
- لَيْسَ لِأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: بينما دعاهم يسوع للقبول إليه، ذكّرهم أيضاً بالأمان إن أقبلوا إليه. فلم يكن يسوع مهتماً بتنفيذ خطته الخاصة، بل في أن يعمل مشيئة أبيه.
- أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لَا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً: وكان هذا سبباً آخر مقنعاً لقبول الابن، فكل ما يعطيه الآب ويقبل إليه، سيبقيه آمناً.
- أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلِٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ: يا له من مصير رائع لكل من يعطيه الآب ويأتي إلى يسوع.
- عندما قال يسوع هذا كان يفكر بمجتمع المؤمنين الواسع (كُلُّ مَا يُعْطِينِي ٱلْآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ… أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ) وبكل مؤمن بشكل فردي (وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ… وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ).
- كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلِٱبْنَ: “توجد في هذه ’النظرة‘ على الابن بالتأكيد إشارة إلى الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية على خشبة (على شكل صليب كما تقول التقليد اليهودية)، وكل من نظر نال الشفاء.” ترينش (Trench)
و ) الآيات (٤١-٤٦): يسوع يشرح سبب رفضهم له
٤١فَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: «أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ». ٤٢وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، ٱلَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟ فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ؟». ٤٣فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لَا تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ. ٤٤لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ ٱلْآبُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ. ٤٥إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي ٱلْأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ ٱلْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ ٱللهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ ٱلْآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. ٤٦لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى ٱلْآبَ إِلَّا ٱلَّذِي مِنَ ٱللهِ. هَذَا قَدْ رَأَى ٱلْآبَ.
- أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، ٱلَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟: كان الناس يَتَذَمَّرُونَ على يسوع، قائلين أن إدعاءاته كان مبالغاً فيها (فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ؟»)
- “قال يسوع ’أنه نزل من السماء‘ ست مرات في هذا الأصحاح (٣٣:٦، ٣٨، ٤١، ٥٠، ٥١، ٥٨). إدعائه بانتمائه للسماء لا لبس فيه.” تيني (Tenney)
- “كانت هذه واحدة من أصعب الحقائق التي واجهها معاصرو يسوع. فمن المفروض أن يظهر المسيا فجأة في السَّحابِ، ولكن يسوع تربى وعاش بينهم.” دودز (Dods)
- وأضاف دودز تعليقاً على ’فَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ‘ وقال: “قال يوحنا ’اليهود‘ وليس ’الجليليين‘ كما قد نتوقع، لأنه ربما أراد أن يُعرف هذا الْجَمْع غير المؤمن مع اليهود غير المؤمنين بشكل خاص.”
- لَا تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ: وبينما كان يسوع يتحدث مع الْجَمْع في المجمع، بدأوا يتذمرون ويعلقون فيما بينهم.
- “يشير التذمر إلى الاستياء. إنه الصوت الذي يدوي وسط الجمع الغاضب والمعارض.” موريس (Morris)
- لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ ٱلْآبُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: اعتقد اليهود أنهم شعب الله المختار بحكم الولادة الطبيعية. لكن يسوع وضح الأمر وقال أن لا أحد يُقبل إليه إن لم يجتذبه الآب. وكل من يستجيب للآب سيتجاوب مع الابن.
- “لن يأتي أي إنسان إلى المسيح إن لم يجتذبه الله. ولا أحد يمكنه أن يشعر بحاجته للمخلص دون هذه الجاذبية.” كلارك (Clarke)
- غالباً ما نشعر أننا من يقُود علاقتنا مع الله. ولكن الحقيقة هي أن الله هو الذي يدعونا ويجتذبنا، ودورنا نحن أن نتجاوب معه ونُقبل إليه. فهذا المفهوم عن مبادرة ودور الله في الخلاص ينبغي أن يجعلنا نكرز بثقة أكبر لأن الله هو العامل وسيخلص حتماً من يجتذبهم إليه.
- “الكلمة التي يستخدمها يوحنا للفعل ’يجتذب‘ هنا هي ’هلكوين helkuein‘. وهي نفس الكلمة التي اُستخدمت في ترجمة أسفار التوراة إلى اليونانية ونقرأها في قول الله لأرميا: ’بمحبة أبدية جذبتك‘ (أرميا ٣:٣١).” باركلي (Barclay)
- “الجذب الإلهي لا يعني أن النعمة لن تقاوم، وهذا ما اعترف به حتى أغسطينوس أعظم مؤيد لعقيدة النعمة، وأضاف: قد يعترض أحدهم ويقول: إن كان الله هو من يجتذب الإنسان إذاً ليس هناك حرية إرادة، لأن الإنسان يأتي ضد إرادته. نجيبه: إن جاء ضد إرادته إذاً هو غير مؤمن، وإذا كان غير مؤمن، فلن يُقبل إلى الله ولن يتجاوب معه. فنحن لن نذهب إلى المسيح سيراً على الأقدام بل نأتي إليه بالإيمان، لا بحركة جسدية بل بإرادة حرة من كل القلب… فلا تفكر أنك جُذبت رغم إرادتك، حيث يمكن للإرادة أن تنجذب بالمحبة.” آلفورد (Alford)
- “علينا أن نفهم أن معنى الفعل ’جذب‘ هنا لا يأتي بمعنى الجَرّ أو السحب بالقوة. وقد قال أحد معلمي اليهود: ’من يريد الالتصاق بالله المبارك القدوس، سيحفظه الله ويجذبه إليه ولن يتخلى عنه أبداً.” (مأخوذة من Sohar. p. ٨٧). وهو نفس المعنى الذي استخدمه الكُتاب اليونانيين.” كلارك (Clarke)
- “قال يوحنا فم الذهب: ’لا يلغي هذا التعبير دورنا في التجاوب، بل يُظهر أننا نحتاج إلى المساعدة.‘” آلفورد (Alford)
- “ثمة عدة معاني لكلمة ’يَجْتَذِبْهُ.‘ فقد تُستخدم لسحب سفينة أو جر عربة أو شد الشراع للإبحار. ولكنها تستخدم أيضاً، كما في يوحنا ٣٢:١٢ بمعنى أن الله يجتذبنا بقوة محبته الرقيقة.” دودز (Dods)
- وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ: كل من يُقبل إلى يسوع، من الذين يجتذبهم الآب، سينالون الحياة الأبدية وسيُقِيمهم فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ.
- وَيَكُونُ ٱلْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ ٱللهِ: اقتبس يسوع هنا من إشعياء ١3:٥٤، وقد يكون هو الجزء الذي قرأه في المجمع ذلك السبت. والفكرة هنا أن كل من يؤمن بالله، يؤمن لأنه ’تعلم‘ من الله ولأن الله اجتذبه إليه (فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ ٱلْآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ).
- “سيُعلم الله شعبه بالتأثير على القلوب. وكل من سيتعلم بهذه الطريقة سيأتي إلى يسوع.” موريس (Morris)
- “وكأنه يقول: ’كأن الله لم يعلمكم أبداً. فعدم إيمانكم وقبولكم لي يعني أنكم لم تتعلموا شيئاً منه. ورفضكم لي يثبت أنكم غرباء عن نعمة الله.‘” سبيرجن (Spurgeon)
- فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ ٱلْآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ: أولئك الذين يملكون الوحي الإلهي سيأتون إلى ابنه وممثله الكامل. فالاستماع والتعلم من الابن يعني الاستماع والتعلم من الآب.
- “حقيقة أن كل من يعلمه الله يُقبل ليست واضحة تماماً هنا، فكلمة ’تَعَلَّمَ‘ (καὶ μαθὼν) تضيف عنصر الشك هنا، فكثيرون سمعوا تعليم يسوع ولكنهم لم يقبلوا إليه.” دودز (Dods)
- “إذا كان إشعياء ٥٤ من الدروس التي عُلمت في المجمع في تلك الفترة من السنة، كما يقول البعض، فقد تكون الكلمات التي اقتبسها يسوع حية في أذهان الكثير من السامعين.” بروس (Bruce)
- هَذَا قَدْ رَأَى ٱلْآبَ: نرى يسوع يصر هنا مرة أخرى على علاقته الفريدة مع الله الآب. وادعى أن علاقته وتواصله مع الآب لم يختبرها أحد قط.
- “عدم إيمانهم لا يغير الحقيقة ولا يُضعف تأكيده لها.” دودز (Dods)
- “يُعلم يسوع اللاهوتيين عن الذات الإلهية هنا، وعن حقيقة أن وحدة الله ليست الكلمة الأخيرة في الإعلان بشأن الله الواحد. فمن المستحيل أن نفهم التجسد وكامل خطة الفداء إن كنا نرى الذات الإلهية كشخص واحد وليس كثلاثة أقانيم.” ترنش (Trench)
ز ) الآيات (٤٧-٥١): الخبز الحقيقي الذي نزل من السماء
٤٧«اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. ٤٨أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. ٤٩آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. ٥٠هَذَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلنَّازِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ ٱلْإِنْسَانُ وَلَا يَمُوتَ. ٥١أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ».
- مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ: نقرأ هذه الكلمات الرائعة آخذين بالاعتبار فكرتين رئيسيتين. أولاً، نفكر في قصد يسوع من كلمة ’يُؤْمِنُ‘؛ أي أن نثق ونتمسك به ونعتمد عليه. إنها المحبة بتسليم كامل. ثانياً، نفكر أيضاً بروعة هذا الإدعاء. فلم نسمع عن أي نبي أو قديس في الكتاب المقدس قال مثل هذه الكلمات: “إن آمنتم بِي ستجدون حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ.”
- أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ: استخدم يسوع هذه الاستعارة مراراً وتكراراً. وكما أن الخبز ضروري للجسد، هكذا يسوع للحياة الروحية والأبدية.
- “كل شخص يتغذى على شيء ما. ترى أشخاص يتغذون على الصحف، وآخرون على التسلية، والبعض على أعمالهم وما يشغل أفكارهم. ولكنها كلها سوء تغذية ومجرد رماد وقشور. فإذا أردت الحصول على حياة روحية حقيقية، فعليك أن تتغذى على الضروريات الرئيسية الموجودة في شخص المسيح.” سبيرجن (Spurgeon)
- آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا: الخبز الروحي الذي يقدمه يسوع أعظم من المن الذي أكله شعب إسرائيل في البرية. ما أكلوه أعطاهم فقط حياة مؤقتة، أما ما يقدمة يسوع فُيعطي حياة أبدية.
- أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ: استخدم يسوع تشبيهاً مجازياً هنا. فقد كان الأكل والشرب أمراً شائعاً في عهد يسوع وعنصراً هاماً في حياة الفرد.
- “إن أكل أحد مرة واحدة فقط (‘أكل’ هو الفعل الذي يعبر عن قبول المسيح الذي لن يتغير أبداً) يحيا إلى الأبد.” موريس (Morris)
- قال العديد من المسيحيين عبر التاريخ إن هذا المقطع يتكلم عن فريضة كسر الخبز أو مائدة الرب؛ كما فعل يسوع ليلة صلبه (لوقا ١٤:٢٢-٢3) واحتفل بها المؤمنين الأوائل (أعمال الرسل ٤٢:٢) وعلّم عنها بولس في رسائله (كورنثوس الأولى ٢3:١١-٢٦). وظنَّ الكثيرون أن تناول الخبز والكأس ضروريان للخلاص وأن من يمارس الفريضة يضمن خلاصه.
- اقترح بعض المفسرين رأيًا مغايرًا مفاده أن الرب يسوع لم يتكلم هنا عن فريضة كسر الخبز أو مائدة الرب، ومع ذلك ما قاله مرتبط نوعاً ما بهذه الفريضة. “لا يتحدث ربنا في هذا الخطاب مباشرة عن العشاء الرباني، ولكنه يشرح الحقيقة التي تنقلها هذه الفريضة.” بروس (Bruce)
- “يتكلم العديد من المفسرين كما لو أن كلمة ’الجسد‘ تشير بوضوح إلى فريضة كسر الخبز. ولكن لا يوجد شيء من هذا القبيل على الإطلاق، ولا نجده هذه الفكرة في أي من الروايات الكتابية، مثل الآيات الشهيرة في كورنثوس الأولى الإصحاحين ١٠ أو ١١. كما أنه لم يكن الفكر السائد لآباء الكنيسة.” موريس (Morris)
- “وبصورة عامة، شرح الآباء هذا الجزء من عظة المخلص على أنها تتحدث عن عشاء الرب، وهكذا سقطوا في نفس الخطأ، وقالوا أن المتناولون فقط هم من يخلصون. ولهذا كانوا يقدمون العشاء الرباني للرضع ويضعونها في أفواه الموتى.” تراب (Trapp)
- “قال يسوع: ’خذوا حياتي في أعماقكم فهي أكثر من موضوع للمنازعات اللاهوتية والخلافات العقائدية. هلموا خذوني في أعماقكم، لأتحد بكم في أعماقي، وعندها ستكون لكم الحياة الحقة.” باركلي (Barclay)
- “قال اغسطينوس: كل من ’يؤمن‘ (Crede et manducasti) أو بالأحرى ’يثق‘ – ويأكل.” ماكلارين (Maclaren)
- وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ: شرح يسوع هنا بكل وضوح ما قصده من كلمة ٱلْخُبْزُ في هذا السياق. كان الخبز هو جسده ٱلَّذِي سيبذله مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ، حينما يقدم قريباً نفسه كذبيحة على الصليب لارضاء الله الآب وكبديل عن خطايا البشر.
- كتب موريس (Morris) عن استخدام كلمة ’جَسَدِي‘ وقال: “يا لها من كلمة قوية وملفة للنظر. حيث توجه قوتها انتظارنا نحو الحقيقة التاريخية بأن المسيح قدم نفسه فداءً للإنسان.”
- “بذل الجسد لا يعني شيء آخر غير الموت، وتشير الصيغة هنا إلى أن هذا الموت كان طوعاً (أَنَا أُعْطِي) ونيابة عن أحد (مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ). بروس (Bruce)
- “فهذه الكلمات إذاً إشارة خفية إلى موت المسيح الكفاري، فضلاً عن الدعوة للدخول في علاقة حميمية معه.” موريس (Morris)
- “والآن، أيها الإخوة والأخوات، اعرفوا أن ما يُغذي إيمانكم موجود في موت يسوع الذي كان نيابة عنكم. ويا له من غذاء مبارك!” سبيرجن (Spurgeon)
- “يعلن ربنا هنا بصراحة أن موته كان الذبيحة البديلة عن العالم وتكفيراً لخطاياهم، وأنه لن يخلص أي إنسان إن لم يتناول من هذا الخبز، فلا يوجد خلاص لأحد بعيداً عن موته.” كلارك (Clarke)
- أوضح يسوع أن قبوله كالخبز لا يعني قبولة كمعلم أخلاقي عظيم أو مثال أو نبي أو كرجل طيب أو عظيم أو كشهيد نبيل، بل علينا أن نقبله في ضوء عمله على الصليب الذي يُعبر فيه عن محبته الفائقة نحو البشرية الضالة.
ح) الآيات (٥٢-٥٩): قبول يسوع بمعناه الكامل
٥٢فَخَاصَمَ ٱلْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟». ٥3فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. ٥٤مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ، ٥٥لِأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. ٥٦مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. ٥٧كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلْآبُ ٱلْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِٱلْآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. ٥٨هَذَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ ٱلْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا ٱلْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ». ٥٩قَالَ هَذَا فِي ٱلْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ.
- «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟»: من المحتمل أن قادة اليهود قد أساءوا فهم يسوع عمداً في هذه المرحلة. لقد أوضح يسوع لتوه أن الخبز يشير إلى جسده الذي سيبذل من أجل حياة العالم (يوحنا ٥١:٦)، ولكنهم حرفوا كلامه عن قصد قائلين إنه يتكلم عن أكل لحوم البشر.
- كان هذا نتيجة خصامهم (فَخَاصَمَ ٱلْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً). “اختلفوا في حكمهم عليه. أعلن البعض بسرعة أنه مجنون، وقال آخرون أن هناك حقيقة ما في كلامه.” دودز (Dods)
- “جهل اليهود دفع يسوع لقول هذا. فعندما قال ’مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي‘ اعتقدوا أنهم سيتحولون لآكلي لحوم البشر ويأكلوه. وقد تبتسم من فكرة سخيفة كهذه، مع أنها الفكرة السائدة في الكنيسة الكاثوليكية، إذ يؤكد الكهنة هناك أن كل من يأكل من الخبز ويشرب من الخمر، أو الأشياء التي يسمونها الخبز والنبيذ، يأكل جسد المسيح الفعلي ويشرب من دمه الفعلي.” سبيرجن (Spurgeon)
- إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ: تجاوب يسوع بكل جرأة مع سوء فهمهم المتعمد بالتشديد مرة أخرى على الفكرة التي قدمها في الآية ٥١: وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ.
- إن خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ، والخُبْز مِنَ ٱلسَّمَاءِ، وٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ، وخُبْزَ ٱللهِ كلها مجرد استعارات. لذا علينا ألا نتفاجأ من استخدام يسوع لاستعارة الخبز ليشير إلى جسده الذي سيبذله على الصليب في القريب العاجل.
- “قدم لهم بياناً آخر كانوا سيفهمونه حتماً بسبب معرفتهم وفهمهم لنظام التقدمات والذبائح. فقد كان ’أكل الجسد وشرب الدم‘ إشارة واضحة عن الذبائح.” ترينش (Trench)
- علينا أن نقبل ونؤمن بالمسيح المصلوب والمقام – ونأكله مجازياً – وإلا فلن نتمتع بحياة روحية حقيقية ولا بحياة أبدية.
- “يشير أكل جسد المسيح وشرب دمه إلى مركزية عمله الكفاري المذكور في يوحنا ١٦:3. فموت المسيح يفتح الطريق إلى الحياة أمام الإنسان حينما يدخلها بالإيمان. فجملة ’مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي‘ ما هي إلا طريقة لافتة للإعلان عن هذا الحق.” موريس (Morris)
- “ذهب ربنا إلى أبعد من ذلك، وتكلم بلغة مبهمة عن أهمية أن نشرب دمه. أوحت الاستعارة وجود طريقة للحياة من خلال الموت والتضحية.” مورغان (Morgan)
- “تقول الآية ٥٤ أن كل من يأكل لحم ابن الإنسان ويشرب دمه سيُقيمه في اليوم الأخير، وتقدم الآية ٤٠ نفس الوعد: ’كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلِٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ.‘” بروس (Bruce)
- لِأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ: إن حياة المسيح المضحية هي كالطعام والشراب للروح الجائعة والعطشى. فعندما نقبل يسوع المسيح ونتمثل بمن صُلب عنا، نثبت فيه وهو فينا (يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ).
- شعر الكثيرون بالإساءة بسبب هذه التصريحات المتطرفة، وهذا ما قصده يسوع إلى حد ما. لهذا قدم يسوع، رداً على أولئك الذين حرفوا معنى كلماته، استعارات أقوى وليس أبسط، ورفض التراجع عن قول الحق: أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. وكان أساس هذا الخبز هو تضحيته على الصليب، والجسد والدم الذي قد سفك من أجلنا. فعلينا إذاً قبول ما قدمه يسوع على الصليب.
- كتب دودز (Dods): “قدم المسيح جسده ودمه وناسوته للإنسان بكل معنى الكلمة؛ ويستطيع الإنسان الإستفادة من تلك الذبيحة إن أكل جسده وشرب دمه، وحينما يستوعب ويفهم الغنى الذي فيه.”
- يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ:”تعني أنه يحيا فيهم وهم فيه وأنهم صاروا شركاء في الطبيعة الإلهية (بطرس الثانية ٤:١).” كلارك (Clarke)
- فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي: كل من يقبل يسوع ويؤمن به ويتغذى عليه سيجد الحياة. إنه سيحيا، ليس لأنه وجد الحل أو استحقه، ولكن لأن يسوع أعطى بسخاء ما ربحه على الصليب.
- فَمَنْ يَأْكُلْنِي: “تعني هذه الكلمات: كل من ينغمس فيَّ ويتحد بمزاياي ومحبتي وامتيازاتي ويقبل كل أدواري وقدراتي.” تراب (Trapp)
- “حينما يأكل أو يشرب الإنسان لا يكون منتجاً أو فاعلاً أو معطياً بل ببساطة مستهلكاً. فحينما تأكل الملكة أو الإمبراطورة فإنها تصبح مستقبلة (مستهلكة) تماماً كالفقير في ورشة عمله. فالأكل هو تعبير عن أخذ شيء ما مهما كانت مكانة الفرد. هكذا الإيمان: ليس عليك أن تفعل شيء أو تكون شيء أو تشعر بشيء، ولكن أن تتلقى وتأخذ فقط.” سبيرجن (Spurgeon)
- مَنْ يَأْكُلْ هَذَا ٱلْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ: يقدم لنا يسوع خبزاً سماوياً لنحيا إلى الأبد، لهذا علينا أن نأكله. فالإيمان بيسوع لا يقارن بالتذوق أو الإعجاب، بل بالأكل. يقول يسوع أنه يجب أن يعيش فينا، وأن علينا أن نتناوله ونتشبع به.
- لن نشبع من رؤية الخبز على طبق.
- لن نشبع من معرفة المكونات في الخبز.
- لن نشبع من التقاط صور للخبز.
- لن نشبع من إخبار الآخرين عن الخبز.
- لن نشبع من بيع الخبز.
- لن نشبع من اللعب مع الخبز.
- لن يشبعنا شيء ويعطينا حياة إلا أكل الخبز فعلاً. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا ٱلْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ.
- قَالَ هَذَا فِي ٱلْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ: بدأ خطاب يسوع الرائع هذا في يوحنا ٢٦:٦ وتخلله الحوار مع مستمعيه في المجمع. من المرجح أنه أتيحت الفرصة ليسوع للتحدث بحرية إلى الشعب في المجمع.
- “قال يسوع هذه الكلام في المجمع وهو يُعلم في كفرناحوم، وأضاف العديد من المفسرين، أنه حدث يوم السبت بلا شك.” ترينش (Trench)
سادساً. ردة الفعل على تصريحات يسوع المتطرفة
أ ) الآيات (٦٠-٦٤): كثيرون من التلاميذ يتركون يسوع
٦٠فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: «إِنَّ هَذَا ٱلْكَلَامَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟». ٦١فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تَلَامِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ ٦٢فَإِنْ رَأَيْتُمُ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! ٦٣اَلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي. أَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلَا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكَلَامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ، ٦٤وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ». لِأَنَّ يَسُوعَ مِنَ ٱلْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُسَلِّمُهُ.
- إِنَّ هَذَا ٱلْكَلَامَ صَعْبٌ!: ليس المقصود أنه كلام صَعْبٌ فهمه بل صَعْبٌ قبوله. وبلا شك، وجد هؤلاء التلاميذ (التلاميذ بالمعنى الشامل وليس المخصص) أن كلام يسوع غامض بعض الشيء، ولكن الأمر المزعج حقاً كان الأجزاء التي فهموها.
- “ليس من الغريب أن يلاقي التلاميذ صعوبة في كلام يسوع. إن الكلمة المترجمة هنا ’صعب‘ في الأصل اليوناني ’سكليروس skleros‘ لا تعني صعوبة في الفهم ولكنها تعني صعوبة في القبول والاحتمال.” باركلي (Barclay)
- أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟: فهم يسوع لماذا شعر مستمعيه بالإهانة من تعاليمه، ولكنه لم يغير تعليمه أو شعر أنها كانت غلطته. فيسوع لم يعظ ليرضي جمهوره فقط. إن كان الناس مصب اهتمامه، لتراجع على الفور عما قاله بسبب إنزعاجهم. ولكن يسوع لم يغير كلامه بل على العكس تماماً، تحداهم وتصدى لهم بصورة أكبر.
- “كشفت أحداث هذا الأصحاح أن إتباعه كان يعني شيئاً مختلفاً تماماً عن توقعاتهم. فليس هناك ما يشير بوضوح إلى وجهات نظرهم، ولكن الاحتمال الأكبر أنهم كانوا مهتمين فقط بمملكة أرضية مسيانية لتتماشى توقعاتهم العامة.” موريس (Morris)
- فَإِنْ رَأَيْتُمُ ٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً!: قال يسوع بشكل أساسي، ’هل يصدمكم هذا الكلام؟ فماذا ستقولون عندما تروني في المجد يوم الحساب في الدينونة؟‘ من الأفضل أن تشعروا بالإهانة الآن وتتغلبوا عليها، بدلاً من الإساءة في ذلك اليوم.
- اَلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي. أَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلَا يُفِيدُ شَيْئاً: قد يكون هذا البيان هو شعار خطبة يسوع هنا. فهو دعاهم ويدعونا باستمرار أن نضع قلوبنا وتركيزنا على الحقائق الروحية، لا على الأشياء المادية.
- “الروح يعطي حياة للمؤمن وليس تناول الطعام.” تيني (Tenney)
- لِأَنَّ يَسُوعَ مِنَ ٱلْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ: يسوع هو الله لهذا يعرف ما في قلب الإنسان لأنه يملك السلطان الإلهي. ومع ذلك، من الممكن جداً أن يسوع عرف ذلك ببساطة كإنسان طبيعي يخضع للآب ويملك الروح القدس. لم ينخدع يسوع أبداً بالإيمان الزائف ولا بمن سيُسَلِّمُه.
ب) الآيات (٦٥-٦٦): السبب الروحي لماذا يترك الكثيرين
٦٥فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي».٦٦مِنْ هَذَا ٱلْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِ إِلَى ٱلْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ.
- فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي»: وبخ يسوع دوافعهم الجسدية والأرضية لاتباعه. فإن لم يطلبوه بالروح بدلاً من طلبه للحصول على الخبز وعلى المملكة الأرضية، فلن يقدروا أن يأتوا إليه أبداً.
- صحيح أنهم تبعوه إلى الجهة الأخرى من بحر الجليل، ولكنهم في الواقع لم يأتوا إلى يسوع فعلاً إن ما لم يؤمنوا به ويثقوا بكلامه ويحبونه (يوحنا ٣٥:٦).
- مِنْ هَذَا ٱلْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِ إِلَى ٱلْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ: ترك الكثيرون يسوع في اللحظة التي وبخ بها كل دافع جسدي وأرضي لإتباعه. ولعلهم كانوا أيضاً محبطين ومشوشين بسبب الجدال المتعمد (يوحنا ٥٢:٦) الذي أثاره القادة اليهود القادمين من أورشليم (متى ١٥:١).
- مِنْ هَذَا ٱلْوَقْتِ: قد تكون ek toutou هي الترجمة المحتملة للجملة ’مِنْ هَذَا ٱلْوَقْتِ.‘ ولكنها قد تعني أيضاً ’بسبب هذا الكلام.‘ والمعنى الأخير منطقي أكثر لأنه لم يكن ببساطة الوقت الذي غير فيه التلاميذ موقفهم.” تيني (Tenney)
- بدا وكأن أعداء يسوع قد فازوا عندما تركه الكثيرين. “كان هذا أول إرتداد نراه بين من تبعوا يسوع. ويبدو للعيان أن أعداءه ’اليهود‘ فازوا بالمعركة في ذلك اليوم.” فلم يبقى مع يسوع سوى الاثني عشر، ولعلهم سيتركونه أيضاً. ولكن المعركة لم تنتهي بعد. فكثيرون ممن تركوه سوف يعودون، ولكن الخسارة التي تعرض لها أولئك الذين اتبعوا يسوع بدوافع مادية أو نجسة كانت مؤلمة، ونتمنى لو مكثوا معه مدة أطول واستمعوا لكلامه واستقبلوا عمل الروح القدس. فإرتدادهم لا يثبت أن يسوع وتلاميذه كانوا مزيفين.” ترينش (Trench)
- “تمر كنائسنا بفصول مختلفة، ففي فصل الصيف مثلاً تمتلئ بالثمر، كحال حدائقنا؛ ولكن عندما يحل فصل الشتاء بعد ذلك، كل ما نراه للأسف هو الجفاف!” سبيرجن (Spurgeon)
- من المهم أن نفعل كما فعل يسوع، وأن لا نشجع الآخرين على اتباع يسوع لأغراض مادية ومؤقتة، والترويج عنه وكأنه شيء يضاف على الحياة لجعلها أفضل. فمن يأتي إلى يسوع بهذه الطريقة وبهذه الدوافع سرعان ما سينكشف لأنه لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي.
ج) الآيات (٦٧-٦٩): يمثل التلاميذ نموذجاً رائعاً للرغبة في الإتباع رغم عدم فهمهم لأمور كثيرة
٦٧فَقَالَ يَسُوعُ لِلِٱثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟». ٦٨فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلَامُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، ٦٩وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ».
- أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟: يا له من مشهد صعب! تركه عدد لا بأس به ممن كانوا يمكن أن يصبحوا من التلاميذ، وها هو يسأل الإثني عشر إن كانوا سيتركونه أيضاً. فقد فحص يسوع دوافع كل تلميذ تبعه، بما في ذلك الاثني عشر. وعندما أصبح المجمع خالياً، سأل يسوع هذا السؤال متوقعاً ردهم بالنفي.
- “عندما كتب يوحنا سؤال الرب في اليونانية، لم يشير إلى أنه سأله بيأس. فالسؤال في اليونانية يظهر أن الإجابة ’لا‘ كانت متوقعة. ’أنتم لا تريدون الذهاب أيضاً، أليس كذلك؟” بروس (Bruce)
- يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلَامُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ: قدم سمعان بطرس بيان إيمان رائع بالنيابة عن الاثني عشر.
- اعترف بأن يسوع هو الرب.
- اعترف بأن يسوع هو البديل الأفضل رغم الصعوبات.
- اعترف بأهمية الأمور الروحية بالمقارنة مع الرغبات المادية والأرضية لأولئك الذين تركوه (كَلَامُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ).
- اعترف بأن يسوع هو المسيا (ٱلْمَسِيحُ) وأنه هو الله (ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ).
د ) الآيات (٧٠-٧١): يسوع يعرف تلاميذه
٧٠أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ، ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!». ٧١قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ ٱلْإِسْخَرْيُوطِيِّ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلِٱثْنَيْ عَشَرَ.
- أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ: رغم أن يسوع اختار الاثني عشر، ولكن واحد منهم شَيْطَانٌ ومُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ.
- “واحدٌ منهم كان ديابلوس (diabolos) باليونانية، وتعني ’المفتري‘ أو ’المضايق‘ أو ’المشتكي زوراً،‘ ولكنها استخدمت هنا لتشير إلى ’الخصم‘ أي الشيطان في العبرية.” بروس (Bruce)
- “يظهر الشر الذي تنبأ عنه يسوع هنا أن يهوذا كان كأداة بيد الشيطان ويعمل تحت إمرته.” آلفورد (Alford)
- “يوجد الكثيرون اليوم يشبهون يهوذا بين تلاميذ الرب. فنراهم يجلسون في مقاعدنا ويعظون حتى على منابرنا ويصعب أحياناً تمييزهم. إنهم يخونون الرب والإنجيل بكلماتهم وأفعالهم.” بويس (Boice)
- قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ ٱلْإِسْخَرْيُوطِيِّ: تكريس التلاميذ التام ليسوع جعل ارتداد يهوذا يبدو غاية في البشاعة. فلا ينبغي أن يتغير إيمان التلميذ الحقيقي أو يتعثر في مسيرته الروحية عندما يترك البعض يسوع أو يخونونه.
- يَهُوذَا سِمْعَانَ ٱلْإِسْخَرْيُوطِيِّ: “لم يكن والد يهوذا من قَرْيُوت فحسب، بل يهوذا كان من هناك أيضاً، كما تخبرنا باقي الأناجيل. وأطلق الجميع عليه اسم الاسخريوطي، وتعني الرجل الذي من قَرْيُوت.” ترينش (Trench)
- “تقع قرية قَرْيُوت في الجزء الجنوبي من اليهودية (يشوع ٢٥:١٥)، جنوب الخليل في صحراء النقب.” تيني (Tenney)