إنجيل يوحنا – الإصحاح ١٧
صلاة يسوع العظيمة
“طلب جون نوكس من زوجته وهو على فراش الموت سنة ١٥٧٢ أن تقرأ له يوحنا ١٧ وقال: ’حيث ألقي مرساتي الأولى.‘” بروس (Bruce)
أولاً. يسوع يصلي من أجل نفسه
أ ) الآية (١أ): المقدمة
١تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَقَالَ…
- تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا: الكتاب المقدس مليء بالصلوات العظيمة. فمثلاً تعجبنا صلاة سليمان (ملوك الأول ٨)، وصلاة إبراهيم (سفر التكوين ١٨)، وصلاة موسى (سفر الخروج ٣٢)، لكن هذه الصلاة من أعظم الصلوات المدونة في الكتاب المقدس.
- يعرف معظمنا كيف يبدو الأمر عندما نسمع رجلاً تقياً أو امرأة يصلي بعمق؛ ثمة شيء مقدس ورائع في تلك الصلاة. ومع ذلك توجد صلاة تفوق كل هذا، وهي صلاة يسوع لإلهه وأبيه، وهي الصلاة الوحيدة الطويلة المسجلة في الأناجيل. كانت الجمل فيها بسيطة، لكن الأفكار كانت عميقة ومؤثرة وذات مغزى.
- “لا يوجد صوت مسموع، سواء في السماء أو على الأرض، أكثر عظمة وقداسة وغنى وسمواً من الصلاة التي رفعها الابن إلى الله.” (ميلانشثون ورد في بويس)
- غالباً ما تكشف الصلاة الصادقة أعماق الإنسان. ويوحنا الأصحاح ١٧ ليس إلا فرصة فريدة لرؤية طبيعة وقلب يسوع. ففي هذه الصلاة، سيتطرق يسوع إلى العديد من الموضوعات التي قدمت في هذا الإنجيل: المجد، التمجيد، الإرسال، الإيمان، العالم، والمحبة.
- يوجد الكثير في هذه الصلاة يشبه ما نسميه عادة بالصلاة الربانية الموجودة في (متى ٩:٦-١٣).
- تُرفع دائمًا لله الآب.
- تعترف وتهتم باسم الله.
- تنشغل بعمل ملكوت الله.
- تهتم بالابتعاد عن الشر.
- ومع هذا، يوجد شيء مختلف في هذه الصلاة؛ لم يصل يسوع كما طلب من تلاميذه أن يفعلوا. “من الواضح أن طلبة ربنا المقدمة في يوحنا ١٧ ليست صلاة يرفعها شخص أدنى لشخص أعلى منزلة، بل يمكنك أن ترى باستمرار مساواة بين المتكلم والآب. فالاثنان يملكان فكر واحد. وعندما يتكلم الابن لا يسعى إلى تغيير فكر الآب، بل إنه يعبر عن غاية الألوهية.” ترينش (Trench)
- يخبرنا العهد الجديد أن يسوع يعمل كالشفيع من أجل شعبه (رومية ٣٤:٨، عبرانيين ٢٥:٧). “الغرض من ذلك ليس أن نعرف ما قاله في مناسبة خاصة كهذه، وليظهر لنا طريقة تفكيره الثابتة، بل لتوصيل فكرة تشفعه المستمر من أجلنا خلال فترة غيابه.” ترينش (Trench)
- وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ: هذا يدل على وضعية جسد يسوع بينما كان يصلي. وهذه الوضعية لا نربطها عادة بالصلاة العميقة. فعندما نصلي في الغرب، عادة ما نحني رؤوسنا ونغمض أعيننا. لكن صلى يسوع مستخدماً عادات الصلاة التي كانت شائعة في زمنه (يوحنا ٤١:١١، مرقس ٣٤:٧، مزمور ١:١٢٣).
- “خُصصت مساحة كبيرة في الكتب المقدسة لصلوات يسوع التشفعية مع اقترابه من نهاية خدمته. فبعد العشاء الأخير، وانتهاء خدمته العلنية، ولم يبق شيء سوى الموت، كرس يسوع نفسه بالكامل للصلاة. وبدلاً من تعليم الجموع وشفاء الأمراض، صرف يسوع الفترة المتبقية قبل موته في الصلاة الشفاعية. فقد سكب روحه في الحياة قبل أن يسكبها حتى الموت.” سبيرجن (Spurgeon)
- تبين الكلمات ’وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ‘ أيضاً أن يسوع رفع عينيه للأعلى وهو مملوء بالرجاء لا بالاكتئاب أو الحزن. ورغم أن صلاته كانت صلاة تعبر عن الإيمان والثقة، بل حتى النصرة – لكنه كان مدركاً تماماً لحقيقة الصراع القادم. “كثيراً ما نعتقد أن هذه الصلاة كانت مليئة بالتشاؤم والحزن، ولكن الأمر عكس ذلك تماماً. فقد رفعت هذه الصلاة من قبل شخص أكد لتوه أنه قد غلب العالم (يوحنا ٣٣:١٦)، وبدأ صلاته من هذه القناعة.” موريس (Morris)
- رُفعت هذه الصلاة الرائعة بقلب وعقل ينظران نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ. فلم يذكر يسوع مشاكله أو القرارات التي يجب عليه اتخاذها، بل كان قلبه وعقله ثابتين على أمور أعلى، معلناً استسلامه الكامل لمشيئة الله بغض النظر عن التكلفة، ولكي يتمتع الآخرين بالحياة الأبدية.
ب) الآية (١ب): طلب يسوع أن يتمجد الابن أيضاً
«أَيُّهَا ٱلْآبُ، قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ. مَجِّدِ ٱبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ٱبْنُكَ أَيْضاً».
- أَيُّهَا ٱلْآبُ، قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ: لم تأتِ الساعة التي سيتمجد فيها يسوع بعد (بدءاً من موته) (يوحنا ٤:٢، ٨:٧، ٣٠:٧، ٢٠:٨). ولكنها قَدْ أَتَتِ الآن (تماماً كما قال يسوع من قبل في يوحنا ٢٣:١٢).
- لاحظوا الكلمات التالية: ٱلْآبُ… ٱبْنَكَ… ٱبْنَكَ… لِيُمَجِّدَكَ أنت…. فهي تدل على وجود علاقة حية وعميقة. فقد صلى يسوع وهو يعرف بأنه يتمتع بعلاقة غنية ويعرف ترتيب وطبيعة العلاقة التي بين الله ٱلْآبُ والله الابن.
- ٱلْآبُ: “ويضع أمامنا هنا مثالاً لنتبعه: في كل أوقات الضيق، دعونا نستند على علاقة البنوية والتبني التي نتمتع بها مع إلهنا العظيم. ودعونا نذهب إلى أبينا، فلمن غير الأب يمكن للطفل أن يلجأ؟” سبيرجن (Spurgeon)
- ٱلسَّاعَةُ:“بعين إيمانه كان يرى أنها مجرد ساعة: منتصف الليل في جثسيماني، صباح الجلد، يوم الصلب، كلها كانت مجرد ساعة واحدة قصيرة. فهل هو في ورطة الآن، لأن وقت المخاض قد حان؟ كلا… فهي مجرد ساعة بالنسبة له، مقابل الفرح الذي سيولد في العالم بسبب آلامه البشعة. فمحبته وصبره جعلاه ينظر إلى فترة الخزي والعار باحتقار واعتبرها مجرد فترة قصيرة جداً.” سبيرجن (Spurgeon)
- مَجِّدِ ٱبْنَكَ: صلى يسوع أولاً من أجل نفسه، لكن طلبته لم تكن أنانية. فقلقه على نفسه كان مدفوعاً بقلقه على مجد الآب. فلا يستطيع الابن أن يمجد الآب إن لم يستجيب الآب لصلاة الابن: ’مَجِّدِ ٱبْنَك.‘
- “لن يتمجد الآب إن لم تكن ذبيحة يسوع على الصليب مقبولة أو إن لم يسترد الابن مكانته في حضرة مجد الآب. فهذا يعني أن المهمة الإلهية قد فشلت، وأن هدف النعمة قد انهزم إلى الأبد.” كارسون (Carson)
- “أَيُّهَا ٱلْآبُ، قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ: مَجِّدِ ٱبْنَكَ، مما يوضح أن يسوع الإنسان هو نفسه الله الإنسان؛ ووضح ذلك في قيامته وصعوده.” ترينش (Trench)
- “هذا التمجيد كان نتيجة قبول موته وقيامته وجلوسه عن يمين عرش الله كوسيط مقبول بين الله والإنسان.” دودز (Dods)
- أعطى يسوع عدة أسباب أو دواع لهذه الصلاة، ’مَجِّدِ ٱبْنَك.‘ فإن كان الله الابن قد استخدم أسباب أو قواعد للصلاة التي رفعها لله الآب، فكم بالحري علينا نحن أن نهتم بأن نقدم الأسباب أو المبررات لطلباتنا التي نرفعها أمام عرش الله!
- لأن الساعة قَدْ أَتَت (يوحنا ١:١٧)
- لأن الآب سيتمجد (يوحنا ١:١٧)
- لأن السلطان قد أعطيَّ له ليمنح الحَيَاة الأَبَدِيَّة (يوحنا ٢:١٧)
- لأن يسوع هو الطريق الوحيد للحياة (يوحنا ٣:١٧)
- لأن العمل الذي أعطاه الآب للابن قَدْ أَكْمَل (يوحنا ٤:١٧)
- قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ. مَجِّدِ ٱبْنَكَ: الصليب (راجع يوحنا ٢٧:١٢-٣٣، ٣٠:١٣-٣٣، ١٨:٢١-١٩) هو الذي سيمجد الابن. كان الصليب بالنسبة للعالم قمة الذل والعار، لكنه في المقابل كان أداة للتمجيد في نظر الله. يرى العالم الصليب كحماقة وكضعف (كورنثوس الأولى ١٨:١، ٢٣:١-٢٥).
- “بالنسبة للإنسان يبدو الصليب كأداة للعار، أما بالنسبة للمسيح فهو الوسيلة للمجد الحقيقي.” موريس (Morris)
- قد استُجيبت هذه الصلاة بشكل رائع. “فقد مجد الآب ابنه بالفعل، حتى وإن سُرَّ بأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحَزَنِ. فبيد يَجْرَح وبيد يمجد. كان هناك قوة يجب أن تُسحق، ولكن كان هناك أيضاً قوة تعمل في نفس الوقت. الآب مجد ابنه.” سبيرجن (Spurgeon)
- كم تختلف هذه الصلاة عن معظم صلواتنا. “بطريقة أو بأخرى، نحن نطلب مجد أنفسنا باستمرار. ونصرخ قائلين: ’مجدني يا أبي بإعطائي أكبر كنيسة في المدينة؛ أو بنهضة كبيرة من خلال إرساليتي، أو أن تزيد قدراتي الروحية لكي أحصل على الشهرة.‘ بالطبع لا نذكر أسبابنا بهذه الطريقة، لكن هذا ما نعنيه حقاً. ثم نتساءل لماذا يتوانى الرب في الاستجابة.” ماير (Meyer)
- لِيُمَجِّدَكَ ٱبْنُكَ أَيْضاً: وعكساً لكل التوقعات، تمجد يسوع الابن في عمله على الصليب وأظهر حكمة وسلطان الله (كورنثوس الأولى ٢٣:١-٢٥). وفوق ذلك، تمجد الله الآب بإظهار خطته الحكيمة للعيان وبتقديم الابن كالذبيحة.
- “مجد الابن الآب بهذا العمل (الصليب) بإعلانه عن سيادة الله على الشر، ورحمة الله نحو البشر، والخلاص النهائي للمؤمنين.” تيني (Tenney)
- “ينبغي أن يكون لنا دافع المسيح نفسه. فعندما تطلب بركة من الله، اطلبها لكي يتمجد الله. هل تشتاق أن تتمتع بصحة جيدة؟ أطلبها كي تستخدمها لأجله. هل ترغب بترقية زمنية؟ أطلبها بهدف تمجيد الله. هل تتوق لتنمو في النعمة؟ أطلبها لكي يتمجد هو فقط.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٢-٣): تكلم يسوع عن مصدر وطبيعة الحياة الأبدية
٢إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. ٣وَهَذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلْإِلَهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ.
- إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ: أعلن يسوع أنه يملك سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ ويملك القدرة أن يُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً للبشرية. فهذا إعلان واضح ومذهل عن الألوهية، ولا يستطيع أحد أن يقوله بهذه الصراحة سوى الله.
- “أعلن يسوع هنا أنه يملك ’السلطان لتحديد المصير النهائي للإنسان.” تاسكر (Takser)
- معرفة أن ليسوع سُلْطَان عَلَى كُلِّ جَسَد يعطينا رجاءاً جديداً في كرازتنا والعمل المرسلي. ولأن يسوع يملك السلطان على كل جسد فهذا يشمل كل من يرفضه أو يجهله إن كان عن جهل أو عن قصد. لذا علينا أن نصلي بإيمان ونطلب من يسوع أن يستخدم سلطانه على الذين لم يتوبوا ويؤمنوا بعد.
- إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ:الآية في فيلبي ٥:٢-١١ ما هي إلا عرض لهذا: سيعترف الجميع بسلطان يسوع، وسوف تَجْثُوَ كُلُّ رُكْبَةٍ وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ.
- يفهم المؤمن ويبتهج بسلطان يسوع، لا سيّما بالنظر إلى الخيار البديل. “لا يمكن للرجال والنساء العمل دون سلطان (سلطة). فإذا أخذت السلطان من أحد، سيحل محله سلطان آخر. وإن رفضت سلطان الله، سيظهر سلطان البشر.” بويس (Boice)
- لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ: عرف يسوع أنه الوحيد الذي يعطي حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أعطي له من الآب.
- “غالباً ما يفكر المؤمنون أن يسوع هو عطية الله لنا، ونادراً ما نفكر أننا نحن أنفسنا عطية الله ليسوع.” كارسون (Carson)
- يشير هذا التصريح إلى أن هناك شيئاً قد لا نفهمه بدقة وهو أن كل أقنوم في الثالوث اشترك في عمل الخلاص. فنرى هنا أن الآب أعطى البعض للابن، والابن أعطاهم حَيَاةً أَبَدِيَّةً من خلال عمله على الصليب. وبطبيعة الحال، الروح القدس يعمل أيضاً في الخلاص، رغم أن هذا غير مذكور في هذا المقطع بالذات.
- “نرى في الآية: ’إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ‘ اندماجاً جميلاً لعقيدة الفداء العام والخاص، فالكل تحت سلطان المسيح الشفيع بسبب تضحيته الفريدة. ولكن التركيز هنا هو على عطية الحياة الأبدية للذين يختارهم الله: ’لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ‘” سبيرجن (Spurgeon)
- وَهَذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ: نجد الحياة الأبدية بالمعرفة الناتجة عن التجربة (ginosko) لكل من الله الآب والله الابن يسوع المسيح.
- “نعرف من خبرتنا في هذا العالم الفائدة والإلهام الذي نحصل عليهما من معرفة أشخاص معينين. فكم بالحري عندما نعرف أكثر عن الله!” موريس (Morris)
- “الحياة عبارة عن تفاعل مع البيئة، والموت هو توقف التفاعل معها، سواء كان تفاعلاً جسدياً أو شخصياً” تيني (Tenney). فمعنى الحياة الأبدية هي أننا نحيا ونتفاعل مع بيئة الله. إن كان الله وبيئته الروحية لا تؤثر على حياتنا (وحتى يهيمن عليها) إذاً يمكننا القول أننا لا نملك أو لم نختبر ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ. وإن كان هذا صحيحاً، فهذا يعني أننا نعيش في نفس المجال الذي تعيشه الحيوانات، ونعيش كما لو أننا أموات عن الله وبيئته.
- أَنْ يَعْرِفُوكَ:“الفعل في اليوناني ورد بصيغة الفعل المشروط مما يدل على أن ’المعرفة‘ هي تجربة متنامية.” تاسكر (Tasker)
د ) الآيات (٤-٥): تكرار الطلبة من جديد بالإيمان: مَجِّدْنِي
٤أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى ٱلْأَرْضِ. ٱلْعَمَلَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. ٥وَٱلْآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ.
- أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى ٱلْأَرْضِ: لم ينتظر يسوع حتى عمله على الصليب ليمجد الله الآب، بل مجد الله في كل حياته عَلَى ٱلْأَرْضِ.
- مجد يسوع الآب خلال حياته كلها، بداية من ختانه وتكريسه في الهيكل (لوقا ٢١:٢-٢٣) وحتى السنوات التي عاش فيها بهدوء في الناصرة (متى ٢٣:٢، ٥٥:١٣).
- مجد يسوع الآب من خلال إيمانه وطاعته وعمله عبر سنوات خدمته الأرضية. وفي كل عظة، وكل شفاء، وكل تعليم وتدريب للتلاميذ، وكل مواجهة مع القادة الدينيين الفاسدين، وكل جواب، وكل لمسة محبة مجدت الله الآب.
- ٱلْعَمَلَ … قَدْ أَكْمَلْتُهُ: رأى يسوع ببصيرته الإلهية وثقته أن عمله على الصليب قد انتهى بالفعل. فقد كان هناك (بطبيعة الحال) إحساس بأن العمل لم ينتهِ بعد. ولكن بما أن يسوع هو الحَمَلِ الَّذِي ذُبِحَ منذ تأسيس العالم (رؤيا يوحنا ٨:١٣)، كان هناك إحساس أقوى بأن العمل قد انتهى بالفعل واكتمل في قلب وعقل الله. والآن كل ما يتوجب عمله هو إنجاز العمل فقط.
- هناك إحساس مشابه بأن الله يرانا كاملين الآن قبل الواقع. والآن يتعين علينا تطبيق هذا فحسب.
- “ثمة إقرار هادئ بأن يسوع أكمل مهمته على نحو مرضٍ، وجلب المجد إلى الآب أثناء ذلك.” موريس (Morris)
- مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ: طلب يسوع من الآب أن يمجده بالمجد الذي للآب. فصلاة يسوع لم تكن بأي حال من الأحوال تعبيراً عن الاستقلال، بل الاتكال المطلق والمستمر على الله الآب.
- كثيرون يصرخون: ’مَجِّدْنِي،‘ وأحياناً يوجهون صرختهم إلى الله مستخدمين مصطلحات أكثر روحانية. لكن طلبتهم هذه تختلف تماماً عن صلاة يسوع: مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ والفرق عادة يكون بين التبعية والاستقلال.
- بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ: كان يسوع مدركاً لوجوده الأزلي، وطبيعة ذلك الوجود، وفهم أنه في الأبدية الماضية كان الله الابن والله الآب يتمتعان بمجد مشترك.
- لم يكن بإمكان يسوع أن يصلي هذه الكلمات بصدق أو بمنطق إن لم يكن هو الرب نفسه، المساوي لله الآب. أعلن يهوه في إشعياء ٨:٤٢ و ١١:٤٨ أنه لَنْ يعطي مجده لِآخَر. إن كان الله الآب والله الابن يشتركان في المجد، فلا بد أن كلاهما يهوه.
- “كان لديه طلبة واحدة رئيسية: أن يعيده الآب إلى المجد الذي تخلى عنه لإنجاز مهمته. وهذه الطلبة للعودة إلى مجده الأصلي تشير بشكل لا لبس فيه إلى وجوده الأزلي والمساوي للآب. وادعائه هذا يؤكد أنه والآب واحد (٣٠:١٠).” تيني (Tenney)
- شدد إنجيل يوحنا على مجد يسوع طوال روايته. كان يوحنا حريصاً على تسجيل الطرق العديدة التي أشار بها يسوع إلى مجده في هذه الصلاة.
- كانت حياة يسوع تعبيراً عن مجد الله، والتلاميذ نظروا هذا المجد (يوحنا ١٤:١)
- جسدت معجزات يسوع مجده (يوحنا ١١:٢)
- كان هدف يسوع الوحيد هو تمجيد أبيه (يوحنا ١٨:٧، ٥٠:٨)
- إن رؤية المجد هو مكافأة الإيمان (يوحنا ٤٠:١١)
- تكلم يسوع مرات عديدة عن آلامه وصلبه القادمين وكأنهما مجده القادم (يوحنا ٣٩:٧، ١٦:١٢، ٢٣:١٢، ٣١:١٣)
- سعى الله الابن لتمجيد الله الآب (يوحنا ٢٨:١٢)
- الله الآب مجد الله الابن (يوحنا ٣١:١٣-٣٢)
ثانياً. يسوع يصلي من أجل التلاميذ
بعد أن عَلَمَ يسوع وشجع التلاميذ بقدر استطاعته في الليلة الأخيرة، فعل لهم ما هو أعظم: صلى للآب من أجلهم.
أ ) الآيات (٦-٨): يسوع يتكلم عن مهمته أمام التلاميذ ورد فعل التلاميذ عليها.
٦أَنَا أَظْهَرْتُ ٱسْمَكَ لِلنَّاسِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ ٱلْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كَلَامَكَ. ٧وَٱلْآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، ٨لِأَنَّ ٱلْكَلَامَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.
- أَنَا أَظْهَرْتُ ٱسْمَكَ لِلنَّاسِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي: فكر يسوع في السنوات الثلاثة (تقريباً) التي قضاها في الخدمة مع تلاميذه المختارين، ولخصها بهذه العبارة التي تدل على أن يسوع لم يعلم عن اسم الله (صفات الله) فحسب، بل أظهر لهم تلك الصفات.
- عاش يسوع محبة وصلاح وبر ونعمة وقداسة الله الآب. وأظهر اسم الله لهم. “’أَنَا أَظْهَرْتُ ٱسْمَكَ‘ أي أنا كشفت عن طبيعتك. فاسم أي شخص أو شيء يعبر بالكامل عن ذلك الشخص أو الشيء.” ترينش (Trench)
- المؤمنون اليوم لديهم نفس الدعوة والواجب. كتب بولس أن المؤمنين يشبهون الحروف الحية التي يقرأها العالم (كورنثوس الأولى ٢:٣-٣)، مع مسؤولية إظهار اسم وطبيعة الله إلى العالم الذي يراقبنا.
- ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ ٱلْعَالَمِ:اختار يسوع تلاميذه بعد ليلة قضاها في الصلاة، معلناً عن اتكاله الكامل على الله الآب في اختيار هؤلاء الرجال (لوقا ١٢:٦-١٦). لذا يمكننا القول بصدق أن الله الآب أعطى هؤلاء الرجال ليسوع مِنَ ٱلْعَالَمِ.
- كان يهوذا قد ترك التلاميذ في وقت مبكر من تلك الليلة (يوحنا ٢٦:١٣-٣٠). وبرحيل يهوذا، كان بإمكان يسوع أن يقول حقاً: “ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ ٱلْعَالَمِ.”
- كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي:هذا تلميح آخر لعمل الأقانيم في الثالوث وهو ما نسميه: تقسيم العمل. كان من المنطقي أن يقال أن التلاميذ أولاً ينتمون لله الآب، ثم أعطوا لله الإبن.
- وَقَدْ حَفِظُوا كَلَامَكَ: يمكننا القول أن حكم يسوع على تلاميذه كان سخياً، لأنه كان ينظر إلى عمل الله الحقيقي فيهم. وبالرغم من كل ضعفاتهم وأخطائهم، حَفِظُوا كَلَامَ الله.
- “نظر إليهم بنظرة الإيمان والأمل والمحبة، وأدرك تفانيهم الحالي وإمكانياتهم المستقبلية.” بروس (Bruce)
- وَٱلْآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ: وضح يسوع هذا الأمر لتلاميذه قبل وقت قصير (يوحنا ١٠:١٤-١١) وفي الماضي البعيد (يوحنا ٢٨:٨-٢٩). فيسوع لم يقل أو يفعل شيئاً من تلقاء نفسه بل اتكل بالكامل على إلهه وأبيه.
- وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ: من الواضح أن التلاميذ لم يفهموا كل شيء عن يسوع وعن مهمته، ولكنهم في هذه المرحلة كانوا مقتنعين بألوهيته وبتعاليمه.
- “يا له من شرف نادر ومقدس أن يعاين المرء ليس فقط كيف يصيغ ابن الله السماوي صلاته بل كيف يصوغ مبررات طلباته أيضاً. فهذه المبررات تعبر عن الوحدة القائمة بين الآب والابن، وتكشف أن صلوات يسوع لأجل أتباعه تقوم على إرادة الله وخطته لنا والتي لا يمكننا إدراك أبعادها.” كارسون (Carson)
- وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي: يقول البعض أنه في هذه الآيات القليلة، نظر يسوع إلى الخلاص من وجهتي نظر، وكل وجهة نظر صحيحة من زاويتها.
- وجهة نظر الله، كما وضحت الآية في يوحنا ٦:١٧ (ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ ٱلْعَالَمِ): أن خلاصهم هو اختيار من الله.
- وجهة نظر الطبيعة البشرية، كما وضحت الآية في يوحنا ٨:١٧ (وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي): أن خلاصهم كان نتيجة إيمانهم.
ب) الآيات (٩-١٠): يسوع يوجه صلاته ويحددها
٩مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِأَنَّهُمْ لَكَ. ١٠وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ.
- مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَالَمِ: كان يسوع يفكر في تلاميذه وهو يصلي. فهو لم يصلِ بشكل عام للعالم، بل صلى من أجل التلاميذ الذين كانوا سيحملون رسالة المحبة والخلاص إلى العالم.
- مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ:يقول ترينش (Trench) إن كلمة ’أَنَا‘ أتت بصيغة التوكيد في هذه الجملة.
- عندما صلى يسوع: ’لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَالَمِ‘ لم يكن هذا لأنه لم يهتم بالعالم الضال أو الساقط؛ بل أراد التركيز على تلاميذه. “كان يصلي من أجل الأداة التي صنعها، والتي من خلالها سيصل إلى العالم.” مورغان (Morgan)
- “لا تعني عدم صلاته للعالم أنه لم يكن مهتماً بالعالم، بل على العكس تماماً، فهو مُخلص العالم (يوحنا ٤٢:٤، ١٧:٣، ٤٧:١٢). لكن خلاص العالم كان يعتمد على شهادة أولئك الذين أعطاهم الآب له ’من العالم‘ (انظر الآيات ٢١، ٢٣)، ولهذا السبب كانوا بحاجة أن يتشفع لهم في هذا الظرف.” بروس (Bruce)
- وكأنه يقول من خلال هذه الصلاة: “أنا مكرس بالكامل الآن لتلاميذي ليصبحوا مؤهلين للكرازة بخلاصي إلى أقاصي الأرض. نرى يسوع هنا في دور رئيس الكهنة، حيث كان يخصص الجزء الثاني من صلاته يوم الكفارة لأبناء هارون الكهنة.” كلارك (Clarke)
- بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي: نستطيع القول إن يسوع لم يكن يفكر بالإحدى عشر فقط، لكن بأولئك الذين سيؤمنون بشهادتهم أيضاً (كما هو مذكور صراحة في يوحنا ٢٠:١٧). وقد صلى يسوع لهؤلاء التلاميذ لأنه كان يعلم أنهم ينتمون للآب (لِأَنَّهُمْ لَكَ).
- وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي: لقد سبق يسوع وتكلم عن المجد المشترك بين الله الآب والله الابن (يوحنا ٥:١٧). وهنا يتكلم عن دورهم المشترك في حياة المفديين، وأن المؤمنين ينتمون إلى كل من الله الآب والله الابن.
- كل ما نملك هو لله، لكن ليس كل ما يملكه هو لنا. قد يستطيع أي شخص أن يقول لله الآب: “كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ”؛ لكن وحده يسوع يستطيع أن يقول: “مَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي.”
- “يملك كل منهما سند ملكية ممتلكات الآخر؛ لديهما نفس الاهتمامات والمسؤوليات.” تيني (Tenney)
- وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ:بطريقة ما هذا ما يعنيه أن تكون مؤمناً، ومولوداً ثانية، وتابعاً حقيقياً ليسوع المسيح – أن يكون يسوع ممجداً فينا. فيسوع لا يريد أن يسكن في المؤمن فحسب، بل أن يتمجد من خلاله أيضاً.
- “كما كان تقييم العالم للصليب خاطئاً بالكامل، هكذا كان تقييمهم بالنسبة للرسل أيضاً. لكن واقع الأمر أن ابن الله تمجد من خلالهم.” موريس (Morris)
- فهم الرسول بولس هذا في وقت لاحق، واستخدم عبارات مثل: ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ (كولوسي ٢٧:١) ملاحظاً أن عمل الله فينا ينتقل مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ (كورنثوس الثانية ١٨:٣).
- الوحيد الذي ينبغي أن يتمجد في حياة المؤمن هو يسوع. إذ يميل القادة إلى تمجيد أنفسهم من خلال أتباعهم، لكن لا ينبغي تمجيد إلا يسوع.
ج) الآيات (١١-١٢): طلبة يسوع الأولى بشأن التلاميذ: أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ…
١١وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ. ١٢حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي ٱلْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي ٱسْمِكَ. ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا ٱبْنُ ٱلْهَلَاكِ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ.
- وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ فِي ٱلْعَالَمِ: صلى يسوع هذه الصلاة وهو يفكر بصعوده القريب. أدرك أنه ليس بَعْدُ فِي ٱلْعَالَمِ، لكن تلاميذه بَاقُونَ فِي الْعَالَمِ. من أجل ذلك كانوا بحاجة لصلاة خاصة.
- كانوا بحاجة للصلاة لأن سنوات التلمذة الفريدة أثناء خدمته الأرضية كانت ستنتهي قريباً.
- كانوا بحاجة للصلاة بسبب الظروف المحيطة برحيل يسوع: الخيانة والاعتقال والمحاكمة والضرب والصلب والقيامة والصعود.
- كانوا بحاجة للصلاة لأن يسوع لن يكون معهم في الجسد لمساعدتهم.
- كانوا بحاجة للصلاة بسبب دور الروح القدس الضروري؛ سواء من أجل إرسال الروح ولأجل اعتمادهم الكامل والمستمر عليه.
- “لم يعد يسوع في العالم، فقد سبق وودعه، لكن التلاميذ باقون فيه، وهم الآن دون حمايته أو مشورته.” دودز (Dods)
- وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ: لم يستخدم يسوع هذه العبارة لتركيز أفكاره أثناء الصلاة، أو ليُذكر نفسه أنه كان في محضر أبيه، بل كانت اعترافاً منه بأن عمله على الأرض قد اكتمل تقريباً، وأنه في طريق العودة إلى السماء.
- أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ (احميهم) فِي ٱسْمِكَ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي: كان التلاميذ بحاجة لصلاة يسوع ولسلطان الله الآب كي يحفظهم ويحميهم.
- ينبغي حماية تلاميذ يسوع ليبقوا تلاميذه. فلم يكن هذا ما يحدث في العالم اليهودي القديم، فعند موت المعلم اليهودي كان التلاميذ عادة يتبددون. ولكن على هؤلاء التلاميذ أن يستمروا وأن يبقوا تلاميذاً ليسوع.
- “لقد افتديتم، نعم، لكنكم لا زلتم بحاجة للحفظ والحماية. لقد تجددتم نعم، لكنكم بحاجة أيضاً للحفظ والحماية. أنتم أنقاء القلب، نعم، لكنكم بحاجة أيضاً للحفظ والحماية.” سبيرجن (Spurgeon)
- نحن بحاجة إلى يسوع شفيعنا (رومية ٣٤:٨، عبرانيين ٢٥:٧) لكي يصلي من أجلنا ويطلب من الله الآب أن يحفظنا ويحمينا. فاستمرارنا في اتباع يسوع ليس مرهوناً بمجهوداتنا الشخصية فقط. إذ يملك كل من العالم والجسد والشيطان قوة هائلة ولا يمكننا الهرب من تأثيرهم السلبي ولن نستطيع الحفاظ على أنفسنا بمجهوداتنا الشخصية. فتمسكنا بيسوع وبقائنا معه هو أيضاً نتيجة صلاة يسوع لأجلنا: “أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ.”
- نحتاج إلى الحماية من الانقسامات: لِيَكُونُوا وَاحِداً.
- نحتاج إلى الحماية من الخطأ.
- نحتاج إلى الحماية من الخطية.
- نحتاج إلى الحماية من النفاق.
- ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ: لم يقل يسوع: “احفظهم من خلال ملاك” أو “احفظهم من خلال قائد الكنيسة” أو “احفظهم بمجهوداتهم.” فمهمة حماية وحفظ التلاميذ هامة للغاية وتتطلب اسم الله نفسه أي طبيعته وسلطانه الكامل.
- “هناك جدل قائم (خاصة من ويستكوت وهورت) يدور حول إن كانت الفكرة في يوحنا ١١:١٧ هي: ’ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي أو ٱحْفَظْهُمْ فِي الاسم الذي أعطيتني.‘ يعتقد كل من وستكوت وهورت إن الاسم هو الذي أعطي، وليس التلاميذ – مركزين على ما ورد قبلاً: ’احفظهم فيَّ من خلال اسمك.‘ بمعنى: ’احفظهم في وحدانية معي.‘” ترينش (Trench)
- لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ:عمل الله الآب في حفظ وحماية التلاميذ لا ليحفظهم فيه فحسب، بل ليبقوا معاً. صلى يسوع: ’لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ‘ أي بذات نوع الوحدة التي تجمع بين الله الآب والله الابن.
- “الوحدة المذكورة هنا لا تتحقق بالقوانين والتشريعات، بل هي وحدة طبيعية لأنها تقارن بعلاقة الابن مع الأب.” تيني (Tenney)
- لن تستمر وحدتهم طويلاً؛ سيكون من الأجدى والأكثر منطقية أن يتشتت التلاميذ بعد موت يسوع من أن يبقوا معاً.
- الوحدة التي صلى لأجلها يسوع بين شعبه كان لها نمط. فوحدة الآب والابن لا تعني أنهما متشابهين، لذا علينا ألا نتوقع أن تكون وحدتنا الحقيقية مع المؤمنين الآخرين أن تعني التطابق التام أو وحدة في الكيان، بل تعني وحدة في الروح ووحدة في القلب ووحدة في الهدف ووحدة في المصير.
- حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي ٱلْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي ٱسْمِكَ: فكر يسوع في سنوات خدمته الأرضية مع ومن خلال الرسل. فخلال ذلك الوقت كان يحميهم ويرشدهم ويحفظهم. هذا الأمر فعله يسوع في اسم الآب، وبسلطانه وقوته ووفقاً لمشيئته.
- “إن الرب هنا، كما لاحظ سيريل (Cyril)، يقارن بين حفظه لخاصته وبين حفظ الآب لهم – لا يمكن لهذا أن يحدث إن لم يكن الأقنومين يتمتعان بنفس السلطان والجلال.” آلفورد (Alford)
- “من خلال سلطان الآب المُعطى ليسوع، قام يسوع بنفسه بحمايتهم وكأنهم الكنز الذي أوكله الآب عليه، وهو الآن يقدم حساباً عن وكالته.” بروس (Bruce)
- لم يحفظ يسوع تلاميذه باسمه، بل اتكل بالكامل على الله الآب. فمن الحماقة أن نعتقد أننا نستطيع أن نحفظ أنفسنا أو غيرنا باسمنا أو بقوتنا أو بمجهوداتنا أو بإرادتنا.
- كانت طلبة يسوع قائمة على اسم أو شخصية الله وعلى امتلاكه لتلاميذه (ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي).
- وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا ٱبْنُ ٱلْهَلَاكِ: حفظ يسوع التلاميذ باستثناء شخص واحد، هو يهوذا. وكان هذا لِكَي يَتَحَقَّقَ المَكْتُوب؛ إذ كان يهوذا ٱبْنُ ٱلْهَلَاكِ، الذي كان مصيره للشر والدمار.
- “لاحظ أنه لم يقل: ’لم أفقد أحد غير ابن الهلاك.‘ فالمسيح لم يفقده (قارن مع الأصحاح ٩:١٨، فلا توجد استثناءات)، لكنه خسر نفسه.” آلفورد (Alford)
- “لم يهلك منهم أحد إلا الذي كان ينبغي أن يهلك؛ فحالته وصفاته كانتا للهلاك.” آلفورد (Alford)
- “’يشير ’ابن الهلاك‘ إلى سماته أكثر من مصيره الأبدي. فيعني التعبير أنه اتسم ’بالضياع‘ وليس أن مصيره كان ’الضياع‘.” موريس (Morris)
- لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ: تم التنبؤ عن خيانة يهوذا في مزمور ٩:٤١ ومزمور ٨:١٠٩ وأعمال الرسل ٢٠:١. كانت خيانة وغدر أخِيتُوفَل ضد الملك داود نبوة عن خيانة يهوذا لابن داود.
د ) الآيات (١٣-١٦): يسوع يُسهب في طلبته الأولى: احفظهم في فَرَحِي واحفظهم مِنَ ٱلشِّرِّيرِ
١٣أَمَّا ٱلْآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي ٱلْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ. ١٤أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ، وَٱلْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ، ١٥لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. ١٦لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ.
- أَمَّا ٱلْآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ: ها هو يسوع يستخدم هذه العبارة ثانية، ذكرها أول مرة في يوحنا ١١:١٧. فقد رفع هذه الصلاة معلناً إنجازه القريب لمهمته التي كانت على الأرض.
- لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ: صلى يسوع لحماية تلاميذه وحفظهم ووحدتهم، وكان يتوق لأن يترك وراءه عاملين أمينين. فقد اهتم يسوع كثيراً بالتلاميذ وصلى أن يكون في حياتهم فرح كامل، وصلى بالتحديد أن يكون فرحه هو كاملاً فيهم.
- “سيكون فرحهم أعظم حينما يتذكرون أن يسوع، في الليلة التي تعرض فيها للخيانة، صلى من أجل أتباعه.” كارسون (Carson)
- كانت حياة يسوع مليئة بالفرح لذا كان بإمكانه أن يقول: فَرَحِي. فهذا الجزء من الصلاة لن يكون منطقياً إن لم يملك يسوع هذا الفرح. ومع أن يسوع كان في الحقيقة رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ ٱلْحَزَنِ (إشعياء ٣:٥٣) إلا أن حياته على الأرض كانت مليئة بالفرح والرضا أكثر من أي شخص آخر قد عاش من قبل.
- كان فرحه متأصلاً في وقائماً على علاقته الحية مع الله أبيه.
- كان فرحه هو ثمر الإيمان الحقيقي والثقة بأبيه السماوي.
- كان فرحه ينبع من معاينتة الأشياء العظيمة التي صنعها الله.
- كان فرحه ثابتاً ولم تنتقص منه أي خطيه.
- كان فرحه ثابتاً ولم يتأثر بأي خداع.
- كان فرحه ثابتاً لأنه لم يعطِ لإبليس موطئ قدم.
- أعرب يسوع عن قلقه بشأن الفرح في حياة التلاميذ لدرجة جعلته يصلي لهذا الأمر، لذا يمكننا التأكد أن قلقه على الفرح ينطبق علينا أيضاً. فهدف الله أن يضاعف الفرح في حياتنا، لا أن ينقصه. فالعالم والجسد والشيطان سيقولون شيئاً مختلفاً تماماً، لكن الله يريد فرحه كاملاً فينا.
- أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ:قدم يسوع كلمة الله الآب إلى تلاميذه بكل أمانة. فحتى يسوع رأى نفسه كرسول.
- أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ: “لم يقدم يسوع المسيح تعليماً شفهياً فحسب، بل أظهر في كلماته وأفعاله وصفاته كل الوحي الإلهي.” ترينش (Trench)
- “هل لاحظت كيف أخذ الرب يسوع تعاليمه من الآب! فلم نسمعه يوماً يتباهى بأنه مصدر الأفكار العميقة، كلا، لكنه ببساطة كان يردد على مسامع التلاميذ الكلمات التي تلقاها من الآب: ’أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ.‘ فإن كان هذا ما فعله يسوع، فكم بالحري علي رسل الرب أن يفعلوا أيضًا، ويأخذوا الكلمة من فم الرب ويتكلموا بها كما هي من دون أية إضافات!” سبيرجن (Spurgeon)
- لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ: تحذرنا صلاة يسوع من العزلة المسيحية؛ أي أديرة العصر الحديث. فغايتنا أن نبقى في العالم ولكن لا أن نكون من العالم أو من الشرير؛ تماماً مثل السفينة، فالوضع الطبيعي أن تكون في المحيط لا أن يكون المحيط فيها.
- لو أُخذنا من العالم، سيكون العالم في ظلام دامس وبالتالي يهلك. قال يسوع: “أنتم نور العالم،” لذا، اشرق بنورك على غيرك.
- لو أُخذنا من العالم، لن نكون للعالم كشهود أو كوسائل لخلاصهم. لذا، اِربح الآخرين ليسوع.
- لو أُخذنا من العالم، سنُحرم من فرصة خدمة يسوع في نفس المكان الذي أخطأنا فيه ضده. لذا، اِخدم يسوع.
- لو أُخذنا من العالم، لن نرى الجوانب المختلفة من حكمة وحق وسلطان ونعمة الله، وهي أمور سنقدرها بشكل أفضل بوجودنا على الأرض لا ونحن في السماء. لذا، انظر مجد الرب.
- لو أُخذنا من العالم، سنُحرم من المكان الذي سيؤهلنا للسماء. فليس هناك مطهر ننتظر فيه حسم مصيرنا الأبدي، بل علينا أن نعد أنفسنا الآن لنكون مؤهلين ومستعدين للسماء.
- لو أُخذنا من العالم، لن تحفظنا نعمة الله وسط التجارب. لذا، عليك أن تستمر.
- صلى كل من أيوب وموسى وإيليا ويونان لكي يؤخذوا من العالم، لكن الله لم يستمع لهم. هكذا الحال معنا، فهو يريدنا أن نبقى في العالم لنتمم المأمورية التي أوكلها إلينا.
- لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ:بلا شك يريدنا يسوع أن نبقى في العالم، لكنه لا يريدنا أن نبقى فيه كخطاة، أو أن ننتمي للشرير. فلم يصلي يسوع لنخرج من أرض المعركة، بل أن نملك القوة والحماية أثناء المعركة.
- “قد يكون من الأفضل ترجمة ’الشرير‘ (ponerou) بصيغة محايدة (أن تحفظهم من الشر) بدلاً من ترجمتها بصيغة المذكر (أن تحفظهم من الشرير)؛ وتشير الكلمة على الأرجح إلى الكائن الذي ذكر ثلاث مرات من قبل ولُقب: ’رَئِيسُ هَذَا ٱلْعَالَم‘ (يوحنا ٣١:١٢، ٣٠:١٤، ١١:١٦).” بروس (Bruce)
- صلى يسوع لحماية التلاميذ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ، ومن العالم الذي يحكمه، ومن كل مكايده الشريرة.
- صلى لحمايتهم من شر الارتداد.
- صلى لحمايتهم من شر الأمور الدنيوية.
- صلى لحمايتهم من شر الإثم.
- ولكنه لم يصلِ لحمايتهم من شر التجارب أو المشقة.
- “يبدو أن الشرير يعمل دائماً من خلال كراهية العالم (راجع ١٨:١٥-٤:١٦)؛ لذا يحتاج التلاميذ إلى الحماية من هذا الحقد.” كارسون (Carson)
- يحتاج الجميع إلى الحماية. فعندما نفكر بالشباب مثلاً سنقدر أهمية حمايتهم من الخطية. إذ يعاني الشباب من مشاكل عليهم مقاومتها: فالعواطف الجياشة والشهوات وضغط التمثل بالعالم يزداد قوة يوم بعد يوم. ولكن ليس الشباب فقط من يتعرضون لمثل هذه الأمور. إذ يتعرض الرجال الأكبر سنًا لخطر أكبر من الشباب. فلا نجد في الكتاب المقدس وصفاً لشاب يافع وقع في الخطية؛ فكروا مثلاً في يوسف ودانيال وكيف قاوم كلاهما الخطية. ومعظم الأمثلة عن الوقوع في الخطية تأتينا من حياة رجال في منتصف العمر، مثل داود وسليمان ولوط وغيرهم الكثيرين.
- في عظة من هذا النص، تكلم سبيرجن مع الذين يعيشون في الخطية لكنهم لا يشعرون بأنها شر: “البعض منكم لا يشعر بأن الخطية شر، أتريدون أن تعرفوا السبب؟ هل حاولت قبلاً سحب دلو ماء من البئر؟ هل تعلم أنه عندما يكون مملوئاً بالماء، يمكنك سحبه بسهولة طالما بقي الدلو في الماء، لكن في اللحظة التي تحاول فيها رفعه من الماء ستشعر كم هو ثقيل. هكذا هو الحال بالنسبة لكم. فبينما تعيشون في الخطية، لن تشعروا بعبئها، ولا تبدو لكم شراً؛ ولكن عندما يجذبكم الرب خارج الخطية، ستشعرون بشرها الذي لا يطاق. أصلي الليلة أن يجذبكم الرب إليه! ومهما كنت غارقاً في الخطية، أصلي أن يرفعك الرب منها ويعطيك القبول في المحبوب!
- “قد يكون من الأفضل ترجمة ’الشرير‘ (ponerou) بصيغة محايدة (أن تحفظهم من الشر) بدلاً من ترجمتها بصيغة المذكر (أن تحفظهم من الشرير)؛ وتشير الكلمة على الأرجح إلى الكائن الذي ذكر ثلاث مرات من قبل ولُقب: ’رَئِيسُ هَذَا ٱلْعَالَم‘ (يوحنا ٣١:١٢، ٣٠:١٤، ١١:١٦).” بروس (Bruce)
- لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ: لأن يسوع رأى أن التلاميذ كانوا جزءاً منه، رأى أيضاً أنهم لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ، كما أن يسوع ليس مِنَ ٱلْعَالَمِ. فكانت دعوته لتلاميذه أن يكونوا كما يراهم هو.
- لم يقل يسوع ببساطة أن شعبه ليسوا من العالم، بل قصد أن يقول أنهم لَا يَنْتَمُونَ إلَى العَالَمِ، كَمَا أنِّه هو لَا ينتمي إلَى العَالَمِ – أي أننا نشابه يسوع في عدم انتمائنا للعالم.
- يمكن للشخص أن لا ينتمي إلى العالم، لكن بطريقة مختلفة تماماً عن طريقة يسوع: قد يكون الشخص مجنوناً أو عنيفاً أو غريب الأطوار أو من خلال أشياء أخرى كثيرة. ولكن انفصال يسوع عن العالم كان مختلفاً تماماً.
- كان يسوع ليس من العالم في طبيعته.
- كان يسوع ليس من العالم في مركزه ومقامه.
- كان يسوع ليس من العالم في شخصيته وصفاته.
هـ) الآيات (١٧-١٩): طلبة يسوع الثانية بشأن التلاميذ: قَدِّسْهُمْ
١٧قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلَامُكَ هُوَ حَقٌّ. ١٨كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى ٱلْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى ٱلْعَالَمِ، ١٩وَلِأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي ٱلْحَقِّ.
- قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ: تعني كلمة قَدِّسْهُمْ مفرز بالكامل لمسرة وعمل الله. فالقداسة هي الانفصال التام عن الفساد في العالم وتكريس النفس لعمل الله.
- “كلمة أجيوس hagios (التقديس والتكريس) تعني مفرز أو المكرس لله: سواء كان ذلك أشياء أو ذبائح حيوانية أو يكرس الإنسان حياته لخدمة الله.” ترينش (Trench)
- لم يترك يسوع التلاميذ ليقوموا بعملية التقديس بأنفسهم، بل صلى من أجل تقديسهم. فهذه العملية، مثل الحماية، لم يتركها لنا وحدنا، لكنها عمل الله فينا ومن خلالنا.
- قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلَامُكَ هُوَ حَقٌّ:مُحرك القداسة هو الحق، كلمة الله مقروءة ومسموعة ومفهومة ومطبقة.
- “لن يكون هناك أي نتيجة عملية للقداسة بعيداً عن كلمة الله أو الوحي الإلهي.” موريس (Morris)
- “كلما آمنت بالحق، كلما تقدست أكثر. فعمل الحق في العقل هو فرز الإنسان عن العالم وتكريس نفسه لعمل الله.” سبيرجن (Spurgeon)
- كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى ٱلْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى ٱلْعَالَمِ: فكرة الخدمة مجبولة بالقداسة. فالقداسة التي كانت في فكر يسوع هنا لا تعني القداسة الشخصية بشكل أساسي (رغم أهميتها)، لكنها تكريس النفس لخدمة وإرسالية الله.
- “لم يتركهم يسوع ليعيشوا في العالم بل أرسلهم إلى العالم ليشهدوا عن ذلك الحق الإلهي” آلفورد (Alford). “لم يبقوا في العالم لأنه لم يكن لديهم شيء آخر يفعلونه، بل أرسلهم إليه كوكلاء ومرسلين عن سيدهم.” بروس (Bruce)
- “يسوع المسيح هو أعظم مُرسل، ونحن المرسلون الصغار، أُرسلنا إلى العالم لتحقيق مشيئة وقصد الآب السماوي.” سبيرجن (Spurgeon)
- “مستوى مأمورية المسيح أعظم بكثير من مأموريتنا؛ فقد أُرسل ليكون الذبيحة وليقيم عهداً جديداً ويرفعنا إلى ما لم يمكن أن نحلم به. ومع ذلك، يوجد هناك بعض التشابه… كنقطة في البحر.” سبيرجن (Spurgeon)
- فكر في كيف جاء يسوع، وكيف ربط مجيئه بالطريقة التي أرسلنا بها إِلَى ٱلْعَالَم:
- لم يأتِ يسوع كفيلسوف مثل أفلاطون أو أرسطو، رغم معرفته التي تفوق معرفتهم كلهم.
- لم يأتِ يسوع كمخترع أو مُكتشف، رغم قدرته على اختراع اشياء جديدة واكتشاف أراضٍ جديدة.
- لم يأتِ يسوع كمحارب، رغم أنه أقوى من الإسكندر الأكبر أو قيصر روما.
- جاء يسوع ليُعلم.
- جاء يسوع ليعيش بيننا.
- جاء يسوع ليتألم من أجل الحق والبر.
- جاء يسوع ليخلص البشر.
- “رغم أن يسوع لم يصلِ صراحة من أجل العالم في هذا الوقت (الآية ٩)، إلا أن صلاته من أجل التلاميذ تمنح الأمل للعالم.” بروس (Bruce)
- وَلِأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي: لا ينبغي لأحد أن يعتقد بأن يسوع لم يكن مقدساً حتى هذه المرحلة، لكنه كان الآن سيستسلم بالكامل لإرادة الله الآب ويتمم عمله على الصليب، وعندما يتمم عمله بالكامل على الصليب ستصبح كلمة الله وعمله فعالين بالكامل في حياة (قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ).
- وَلِأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي:“وكما خُصص الكاهن والمذبح والذبيحة لله، هكذا كان المسيح من الرحم إلى القبر، خاصة وقت موته.” تراب (Trapp)
- “أعاد يوحنا فم الذهب صياغه جملة: ’أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي‘ إلى ’أقدم نفسي كذبيحة.‘ وهذه هي النسخة التي قدمها يوحنا عن الصلاة في جثسيماني.” بروس (Bruce)
ثالثاً. صلاة يسوع من أجل كل المؤمنين
أ ) الآية (٢٠): وسع يسوع دائرة صلاته
٢٠وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلَاءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلَامِهِمْ.
- وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلَاءِ فَقَطْ: صلى يسوع لأجل تلاميذه الأحد عشر، ولكنه كان يفكر بكل الذين سيؤمنون لاحقاً. لهذا صلى لأجل أولئك الذين سيؤمنون بسبب شهادة هؤلاء التلاميذ. صلى يسوع لأجلنا.
- “صلى من أجلهم ومن أجلنا. فقد عرف أن صلواته الشفاعية لأجلهم ولأجلنا سوف تسود. لذا دعونا نستريح فيه بكل طاعة وثقة.” مورغان (Morgan)
- مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلَامِهِمْ: يدل هذا على أن يسوع كان يعلم أن فشل التلاميذ القريب أمر مؤقت فقط. سوف يسمع آخرون منهم، وسيأتي البعض للإيمان بيسوع من خلال شهادة التلاميذ.
- ذهب يسوع إلى الصليب وهو يعرف أن عمله سوف يدوم. ولم يكن يشك أبداً بما سيفعله الله من خلال التلاميذ. فقد ترك يسوع عمله الأرضي وهو واثق تماماً بعمل الله من خلال التلاميذ.
- “يُظهر الجزء الأخير من صلاة يسوع أنه توقع أن يكون فشل التلاميذ مؤقتاً فقط. فنبرة خطبته الأخيرة كلها كانت مبنية على افتراض أنهم بعد القيامة سوف يجددون إيمانهم ويستمرون في الخدمة بقوة الروح القدس.” تيني (Tenney)
- “لم يملك يسوع أي مؤهلات للنجاح حسب المقاييس العالمية للنجاح” (بروس Bruce). ومع ذلك، ترك يسوع خدمته الأرضية وهو موقن في عمل الله من خلال التلاميذ.
ب) الآية (٢١): صلى يسوع من أجل الوحدة بين التلاميذ الأوائل والوحدة بين المؤمنين بشكل عام
٢١لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي.
- لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً: تخيل يسوع الجموع الغفيرة التي ستقف أمام عرش الله من كل أمة وعرق ولغة وطبقة ومستوى اجتماعي (رؤيا يوحنا ٩:٧-١٠). لهذا صلى يسوع أن يرتقون فوق خلفياتهم المختلفة ويفهمون وحدتهم؛ لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً.
- وكأن يسوع صلى وفي ذهنه ما يلي: “يا أبتِ، صليت من أجل الوحدة بين التلاميذ الذين أَعْطَيْتَنِي، مع أنهم جميعاً جليليون، من هذا الزمان والمكان، لكن سيكون هناك عدد لا يحصى من الآخرين الذين سيصبحون تلاميذ أيضاً وسيأتون من كل أمة وكل لغة وكل ثقافة وكل طبقة وكل وضع اجتماعي، من كل عصر إلى نهاية التاريخ. يا أبتِ، لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً.”
- “علينا أن نُخلص للحق، ونرفض روح الخصام، ولا نفصل أنفسنا عن أعضاء جسد المسيح الحي. كما أنه ليس من الحكمة أن نضر وحدة الكنيسة بخلق انقسامات جديدة. فاسعوا في الحال إلى محبة الحق ومحبة الإخوة.” سبيرجن (Spurgeon)
- “لماذا لا نعيش في وحدة معاً؟ لأن الخطية هي أكبر عنصر يؤدي إلى الانقسام. فالشخص البار يعيش في وحدة تامة مع الآخرين. وكلما زادت قداسة الإنسان، كلما أحب ربه وأحب الآخر؛ وبالتالي عاش في وحدة مع الآخرين.” سبيرجن (Spurgeon)
- “يريد يسوع من كل أولاده أن يكونوا واحداً في الروح وفي الحقوق والامتيازات وسبب بركة لكل العالم.” كلارك (Clarke)
- كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا: في بداية هذه الصلاة، صلى يسوع بشكل خاص لوحدة التلاميذ الحاضرين معه في ذلك الوقت (كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، يوحنا ١١:١٧). ثم وسّع يسوع إطار صلاته لتصل لكل المؤمنين تلك الصلاة لكل المؤمنين، لِيَكُونَ ٱلْجَمِيعُ وَاحِداً.
- كما في صلاته السابقة التي رفعها من أجل التلاميذ، صلى يسوع أن تتبع وحدتهم نفس نمط وحدته مع الله الآب. “إن كان الآب فيه وهو فيهم، إذاً الآب فيهم أيضاً: قد جذبهم إلى العلاقة مع الله نفسه، حياة ملئها المحبة الكاملة.” بروس (Bruce)
- التكرار الواضح في هذه الصلاة وتوسيع دائرتها لتشمل كل المؤمنين القادمين أمر غاية في الأهمية. إنها تُظهر أن الوحدة التي تشمل كل أعضاء جسد يسوع المسيح كانت مهمة جداً بالنسبة ليسوع.
- كما تتحدث الآية: كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ عن حقيقة أن أساس وحدتنا هو نفسه الذي بين الآب والابن المتساوون في الجوهر. فجميعنا يقف على نفس أرضية الصليب.
- “أيها الأحباء، الذين يعيشون في المسيح ليسوا متماثلين لكنهم متحدين. قد يتماثلون في الموت، لكن هذه الوحدة هي حياة. فالمتماثلون قد لا يحبون بعضهم البعض، بينما قد يتحد المختلفون بشكل رائع وحقيقي. فأولادنا مثلاً ليسوا متماثلين، لكنهم يشكلون عائلة واحدة.” سبيرجن (Spurgeon)
- لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا:الوحدة التي يفكر بها يسوع هي الوحدة التي منبعها الحياة التي تجمع الله الآب والله الابن.
- وكما في السابق، لم يصلِ يسوع من أجل الوحدة بين الأفراد أو في الكنيسة كمؤسسة، بل صلى من أجل الوحدة التي منبعها المحبة والطبيعة المشتركة التي تجمع مختلف أعضاء جسد يسوع الواحد. فهذه ليست وحدة قانونية هدفها الوحدة بين القمح والزوان أو الوحدة بين المؤسسات. بل كان يسوع يفكر بوحدة الروح الحقيقية (أفسس ٣:٤).
- علينا أن نؤمن أن الله استجاب هذه الصلاة بالفعل، وأن الكنيسة متحدة فعلاً. ففشلنا يعني عدم طاعتنا لهذا الحق الإلهي.
- لِيُؤْمِنَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي: يا له من تصريح رائع. فبشكل أساسي، أعطى يسوع العالم الإذن بالحكم على مصداقية خدمته بناءاً على وحدة شعبه. فالوحدة بين شعب الله ستساعد العالم على الإيمان بأن الآب أرسل الابن.
- “حتى عندما صلى من أجل وحدتهم، نظر إلى ما هو أبعد من مجرد وحدتهم، نظر إلى العالم الضال الذي يحتاج إلى الشهادة التي تولد من تلك الوحدة.” كارسون (Carson)
ج ) الآية (٢٢): يسوع يصلي كي تتسم الكنيسة بالمجد
٢٢وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ ٱلْمَجْدَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ.
- وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ ٱلْمَجْدَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي: وكما شارك الله الآب مجده مع الله الابن (يوحنا ٥:١٧)، هكذا أعطى يسوع المجد لشعبه.
- هناك عدة طرق يعطي فيها يسوع مجده إلى شعبه.
- مجد حضوره
- مجد كلمته
- مجد روحه
- مجد سلطانه وقوته
- مجد قيادته
- مجد حمايته
- يوجد جانب أساسي لحضور يسوع، الله الابن، في كل هذه الجوانب. فمن الناحية الكتابية، عندما يعطي الله مجده أو يظهره لشعبه، كان يتجلى مُعلناً حضوره. فمجد الله هو، بطريقة أو بأخرى، إشعاع أو إشراق لحضوره أو لطبيعته الجوهرية.
- فَهِمَ الرسول بولس أيضاً أن يسوع أعطى مجده لشعبه: لِأَنَّ ٱللهَ ٱلَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ (>كورنثوس الثانية ٦:٢).
- هناك عدة طرق يعطي فيها يسوع مجده إلى شعبه.
- ٱلْمَجْدَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي:من المهم تذكر أن ٱلْمَجْدَ الذي أعطاه الله الآب لله الابن هو ٱلْمَجْدَ الذي ظهر في كثير من الأحيان بصورة إنسان متواضع وضعيف ومتألم. وتألق مجده حينما قدم نفسه على الصليب كذبيحة. فمجد يسوع هو عكس غرور الذات الأجوف.
- تألق مجد يسوع في عمله على الصليب. وكان يسوع قد استخدم التعبير ’يَتَمَجَّدَ‘ في كثير من الأحيان ليشير إلى هذا المجد (يوحنا ٣٩:٧، ١٦:١٢، ٢٣:١٢).
- “كان مجده الحقيقي في اتّباع مسار الخدمة المتواضعة التي بلغ ذروته في الصليب، فهذا كان المجد الحقيقي بالنسبة له وهذا ما حدد مسار خدمتهم المتواضعة أينما قادتهم.” موريس (Morris)
- لِيَكُونُوا وَاحِداً: وجود ٱلْمَجْدَ بين الأقانيم الثلاثة وأعضاء جسد المسيح في الكنيسة يساهم في وحدانية واتحاد شعب الله.
- عندما نشعر بمجد الله، تصبح الوحدة أسهل بكثير. وفي أغلب الأحيان، تختفي الأشياء التافهة التي تفرقنا عندما نشعر بمجد الله في العمل.
د ) الآية (٢٣): صلى يسوع من أجل وحدة مبنية على المحبة
٢٣أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.
- أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ: أشار يسوع مرة أخرى في صلاته إلى الوحدة الحقيقية والحية بين شعبه. فهذه الوحدة هي ليست وحدة استبدادية مبنية على الكره أو الخوف، وهي ليست وحدة التسوية، لكنها وحدة مبنية على المحبة وعلى الهوية المشتركة فيه.
- “وقد تحققت الوحدة تماماً مثل القداسة وكل ما هو مطلوب الآن الوصول إلى الكمال.” كارسون (Carson)
- وَلِيَعْلَمَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي: أخذ يسوع الفكرة التي قدمها في يوحنا ٢١:١٧ (لِيُؤْمِنَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي) وأفاض في الحديثِ عنها. فالتكرار ملحوظ، وكذلك الاستفاضة.
- فكرة إن وحدة شعب الله ستُظهر للعالم أن الله أرسل يسوع كانت مهمة جداً بالنسبة ليسوع وذكرها ثانية في هذه الصلاة القصيرة.
- وأضاف يسوع إلى هذه الفكرة وصلى أن تعكس وحدة الأجيال القادمة من المؤمنين للعالم محبة يسوع لشعبه، وهي نفس محبة الآب لله الابن (وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي).
- يذكرنا هذا بأهمية الوحدة وبأهمية وجود المحبة بين المؤمنين. وكأن يسوع سمح للعالم بأن يشك بمهمة يسوع ومحبته إن لم ير الوحدة والمحبة بين المؤمنين.
- هذا أمر صعب، لأن أكثر المؤمنين الذين لا يحبوا الآخرين ويبرعون في انتقادهم يبررون تصرفاتهم التي تؤدي إلى الانقسامات بأنها نابعة من محبتهم لهم ويقولون: ’أنا أطالبك بأن تكون مثلي بالضبط لأني أحبك.‘
- هذا أمر صعب، لأنه ينبغي أحياناً أن يكون هناك نقد وتصحيح وتوبيخ بدافع المحبة.
- هذا أمر صعب، فحتى لو أدركنا كلمات يسوع هنا، علينا أن ندرك أيضاً وجود أسباب أخرى كثيرة تمنع الناس عن الإيمان (كورنثوس الثانية ١٣:٣-١٦، أفسس ١٧:٤-١٩، رومية ٢٠:١-٢١). فمسؤولية المؤمنين هي إظهار يسوع للعالم بمحبتهم ووحدتهم، ولكن يسرع المؤمنين في إلقاء اللوم على بعضهم البعض لعدم إيمان العالم.
- “ولكن يا له من أمر محزن، فبعد فترة وجيزة جدًا سيقول العالم الشرير بأنه لا توجد قسوة أكبر على الإنسان مثل قسوة المؤمن على أخيه المؤمن.” تراب (Trapp)
هـ) الآية (٢٤): صلى يسوع من أجل شعبه، وصلى كي يروا مجده.
٢٤أَيُّهَا ٱلْآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ.
- أَيُّهَا ٱلْآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا: صلى يسوع أن تكتمل وحدته مع شعبه تماما كما وعد التلاميذ (يوحنا ٢:١٤-٣).
- كلمة ’أُرِيدُ‘ تعني شيئاً بالنسبة ليسوع، فقد كان يتوق لإكتمال كل الأشياء وأن يجتمع المؤمنين معه في السماء. أراد يسوع أن تُكمل السماء كل شيء.
- حَيْثُ أَكُونُ أَنَا: لم يكن يسوع بعد في السماء، ومع ذلك كان يتكلم وكأنه هناك. وبمعنى أو بآخر، نحن مدعوون كي نفعل الشيء ذاته، وكأننا نجلس مع يسوع في السماء حتى وإن كنا لا زلنا على الأرض (أفسس ٣:١ و٦:٢).
- “هل تحمس كثيراً أثناء صلاته؟ أين كان عندما نطق بهذه الكلمات؟ إن تقصيت اللغة المستخدمة هنا قد أستنتج أن ربنا كان فعلاً في السماء. وكأنه يقول: ’أُريدُ أنْ يَكُونَ هؤلَاءِ الَّذِينَ وَهَبتَهُمْ لِي مَعِي الآن هنا ليشاهدوا مجدي.‘ ألا يعني هذا أنه ينبغي أن يكونوا معه في السماء؟ بالطبع قصد هذا، ولكنه لم يكن في السماء بعد، وكان لا يزال في الجسد مع الرُسل على الأرض، ولا يزال أمامه جثسيماني والجلجثة قبل أن يدخل مجده. صلى يسوع بحماس شديد وكأنه في السماء، وكانت روحه هناك.” سبيرجن (Spurgeon)
- قدم يسوع لتلاميذه وعداً (يوحنا ٢:١٤-٣) ثم صلى كي يتممه الله الآب. أتكل يسوع على الله الآب في كل ما فعل.
- لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي: قال يسوع أن ما سيستحوذ على اهتمام شعبه في السماء هو أن ينظروا مجده. لا بد أن يكون هناك شيء عميق وآسر للغاية في مجد يسوع لكي يستحوذ على اهتمام شعب الله في الأبدية.
- لِأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ: ربط يسوع هذا بالمجد الذي أعطاه الله الآب لله الابن. وهذا المجد ينبع من ويرتبط بعلاقة المحبة التي تجمعهما منذ الأزل.
- هذا يخبرنا أنه قبل وجود أي شيء في العالم، هناك علاقة محبة تجمع بين الأقانيم في الثالوث. وحتى لو لم يخبرنا يسوع بذلك تحديداً، يمكننا أن نفهم ذلك من الحق المعلن في نصوص كتابية أخرى، ويمكننا أن نفهم أيضاً أن الله أبدي (ميخا ٢:٥) وأن الله محبة (يوحنا الأولى ٨:٤ و١٦:٤). فلم يكن هناك أبداً وقت لم يكن فيه الله محبة.
- المحبة يجب أن تكون موجهة لخارج الذات لتكون صادقة وحقيقية، لهذا توجد محبة بين الأقانيم قبل إنشاء العالم. فطبيعة الثالوث ليست صحيحة من الناحية الكتابية فحسب، لكنها ضرورة منطقية أيضاً بالنظر إلى ما نعرفه عن الله من خلال كلمته.
و ) الآيات (٢٥-٢٦): الخاتمة الرائعة لصلاة يسوع
٢٥أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْبَارُّ، إِنَّ ٱلْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهَؤُلَاءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. ٢٦وَعَرَّفْتُهُمُ ٱسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ ٱلْحُبُّ ٱلَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ.
- أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْبَارُّ: كان يسوع على وشك الذهاب إلى الصليب ويرزح تحت وطأة الآلام الشديدة – وكل هذا بترتيب مسبق من الله الآب ولهذا أرسل يسوع. ومع ذلك صرخ يسوع بمحبته الكبيرة لله الآب في نهاية صلاته وقال: ’أَيُّهَا ٱلْآبُ ٱلْبَارُّ.‘
- عرف يسوع أن ألمه الحالي والذي سيأتي قريباً لن ينتقص من بر الله الآب بأي شكل كان.
- إِنَّ ٱلْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ: عرف يسوع أن العالم لم يعرف الله الآب ولم يفهمه، أما هو فعرفه وفهمه جيداً.
- وَهَؤُلَاءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي: كرر يسوع الفكرة التي ذكرت لأول مرة في هذه الصلاة في يوحنا ٨:١٧. فمهما كان ضعفهم وفشلهم، فهم التلاميذ أن الله الآب أرسل الله الابن.
- وَعَرَّفْتُهُمُ ٱسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ: أنهى يسوع هذه الصلاة الرائعة بكلمات تعبر عن إيمانه وانتصاره. فقد عرف أنه قد أكمل العمل وسوف يتمم مسيرته.
- يمكننا، بطريقة ما، تلخيص كل العمل الذي قام به يسوع بهذه الكلمات: عرف التلاميذ والعالم اسم الله الآب، أي كشف وعاش صفات وطبيعة الله الآب ٱلَّذِي هُوَ بَهَاءُ مَجْدِه اللهِ وَالتَّعْبِيرُ الدَّقِيقُ عَنْ جَوهَرِهِ (عبرانيين ٣:١).
- دعا العالم يسوع: مُجدف (يوحنا ٣٣:١٠) وسكير وإِنْسَانٌ أَكُولٌ ومُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ (متى ١٩:١١) وبه شيطان (يوحنا ٢٠:٧ و ٤٨:٨) وابن غير شرعي (يوحنا ٤١:٨). لكن يسوع لم يصدق أياً منها، فلم يكُن أيّ من ذلك حقيقياً، لهذا تمكن من القول بكل ثقة: وَعَرَّفْتُهُمُ ٱسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ.
- لِيَكُونَ فِيهِمُ ٱلْحُبُّ ٱلَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ: حصل يسوع على الحب من الله الآب، وهذه العلاقة المبنية على الحب كانت مصدر القوة في حياته. وفي نهاية هذه الصلاة الرائعة، صلى يسوع أن يمتلئ التلاميذ بنفس الحب الذي قواه وسانده دائماً (القريبين والبعيدين على حد سواء).
- يتحدث هنا عن المكانة الأساسية للحب (المحبة) في الحياة المسيحية والمجتمع. صلى يسوع من أجل المحبة لأنه كان يعرف أهميتها بينما كان بإمكانه الصلاة لأجل أمور أخرى كثيرة.
- إن عزلت المحبة عن الفرح فلن يبقى سوى المتعة
- إن عزلت المحبة عن القداسة فلن يبقى سوى البر الذاتي
- إن عزلت المحبة عن الحق فلن يبقى سوى التعصب المرير
- إن عزلت المحبة عن الإرسالية فلن يبقى سوى الفشل
- إن عزلت المحبة عن الوحدة فلن يبقى سوى الطغيان
- يتحدث هنا عن المكانة الأساسية للحب (المحبة) في الحياة المسيحية والمجتمع. صلى يسوع من أجل المحبة لأنه كان يعرف أهميتها بينما كان بإمكانه الصلاة لأجل أمور أخرى كثيرة.
- وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ: لم يصلِ يسوع كي يمتلئ التلاميذ بمحبة الله الآب فحسب، بل لكي يختبروا حضوره فيهم أيضاً. وهكذا تكررت الكلمات التي ذكرها يسوع قبلاً تلك الأمسية حول ثبات يسوع وسكناه فيهم (يوحنا ١:١٥-٨).