إنجيل يوحنا – الإصحاح ١٤
يسوع الراحل
أولاً. كلمات لتهدئة القلوب المضطربة وملئها بالثقة والرجاء في يسوع
أ ) الآية (١): وصية للقلب المضطرب والمهموم.
١«لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ فَآمِنُوا بِي».
- لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ: كان لدى التلاميذ سبباً وجيهاً للاضطراب. فقد أخبرهم يسوع للتو أن أحدهم كان خائناً، وأنهم سينكرونه، وأنه سيتركهم في تلك الليلة. ساهم كل هذا بلا شك في اضطراب التلاميذ، ومع ذلك قال لهم يسوع: لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ.
- لا يريدنا يسوع أن نحيا حياة بلا مشاكل، لكنه وعد بسلامٌ في القلب حتى وسط المتاعب.
- “جاءت هذه الكلمات بصيغة الأمر. “فصيغة الأمر (me tarassestho) تشير إلى أن عليهم ’التوقف عن القلق.‘ وربما ترجمة أخرى أفضل ستكون: ’سكّن قلبك.‘” تيني (Tenney)
- لم يقل يسوع: ’أنا سعيد لأنكم مضطربون وتملؤكم الشكوك. فشكوككم أمر رائع.‘ “لا يجد يسوع أي لذة عندما يكون شعبه في حالة من القلق والشك. فعندما رأى أن ما قاله سبب الحزن للرسل، طلب منهم بكل محبة ألا يضطربوا.” سبيرجن (Spurgeon)
- “فكرة رحيل يسوع عن التلاميذ سببت لهم ألماً شديداً. ولهذا واساهم بهذه الكلمات الرائعة والبسيطة، وبسبب هذه الكلمات أصبح العالم المسيحي بأكمله مديناً لآلامهم.” موريسون (Morrison)
- أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ فَآمِنُوا بِي: بدلاً من الاستسلام للقلق والاضطراب، شجعهم يسوع على وضع ثقتهم في الله وفيه. وكانت هذه الكلمات دعوة للثقة في يسوع وفي الله الآب على حد سواء، وكانت وعداً بأن كل من يفعل ذلك سيحصل قلبه المضطرب على الراحة والسلام.
- “الأمر الذي ميز يسوع وفصله عن باقي المعلمين الدينيين، ليس تكراره الواضح والبسيط للحقائق التي تتعلق بمحبة الآب أو الأخلاق، والعدالة، والحق، والصلاح فحسب، بل دعوته الفريدة للعالم، وهي: ’آمنوا بي.‘” ماكلارين (Maclaren)
- “الشخص الذي يبدو كباقي البشر، يطلب من كل البشر أن يؤمنوا ويثقوا به تماماً كإيمانهم وثقتهم بالله.” ماير (Meyer)
- هناك بعض الجدل حول صيغة الأفعال في هذه الآية وكيفية التعامل معها. فمن المحتمل أن يسوع أراد أن يقول: ’عليكم أن تؤمنوا بالله، وأن تؤمنوا بي أيضاً‘ (صيغة الأمر)، أو ربما أراد أن يقول: ’أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي‘ (صيغة الدلالة). ويبدو على العموم أن كل الأدلة تشير إلى أن يسوع قصد لهذه الكلمات أن تكون بمثابة وصية أو تعليمات للتلاميذ.
- “جاء الفعل ’تؤمن‘ في كلتي الحالتين بصيغة الأمر.” آلفورد (Alford)
- “نظراً لصيغة الأمر في الجملة السالفة، من الأفضل في رأيي أن نأخذ كلا الشكلين على أنهما فعل أمر. إذ يحثهم يسوع على الثبات في إيمانهم بالآب والثبات في إيمانهم به.” موريس (Morris)
- “حل يسوع لمشكلة الاضطراب والحيرة ليس بتقديم وصفة ما بل بوجود علاقة حية معه.” تيني (Tenney)
ب) الآيات (٢-٤): أسباب عدم الاضطراب: اللقاء القريب في بيت الآب
«٢فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلَّا فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً، ٣وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً، ٤وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ ٱلطَّرِيقَ».
- فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ: تكلم يسوع بثقة تامة عن السماء، ووصفها هنا: بَيْتِ أَبِي. لم يتساءل يسوع عن الحياة بعد الموت؛ فقد عرفها جيداً وأخبر تلاميذه أن في السماء مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ تتسع للجميع.
- “يحكي أفلاطون عن الساعات الأخيرة لسقراط وهو في السجن قبل أن يشرب السم… ومثل المسيح، كان سقراط سيموت قريباً. ومثل المسيح، تمحورت أفكاره حول الخلود، وناقش تلك الأفكار مع أصدقائه الذين أتوا لزيارته؛ وفكر وتناقش وتساءل. يا له من تناقض رائع ومذهل بين موقف ذاك وموقف المسيح.” موريسون (Morrison)
- مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ: كلمة ’مَنَازِلُ‘ في الأصل اليوناني (mone) متصلة بالفعل (meno) الذي يعني: الإقامة أو المكوث، فكلمة منازل تعني: “مكان للإقامة.” وفي ضوء طبيعة الله، أياً كانت المنازل التي عنده في السماء، حتماً ستكون بهية كالقصر.
- سيكون هناك منازل كَثِيرَةٌ. رأى يسوع ما لم يستطع التلاميذ رؤيته – الملايين والملايين، حتى المليارات، من كل قبيلة ولسان وأمة يجتمعون في بيت أبيه. وربما ابتسم عندما قال: مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ – ستكون كَثِيرَةٌ بالفعل!
- دخلت كلمة ’منازل/موناي‘ على بعض الترجمات تأثراً بالفولغاتا (نسخة من الكتاب المقدس باللغة اللاتينية) وجاءت بمعنى ’محطات‘ أو ’مساكن مؤقتة‘ حيث يرتاح المسافرون أثناء الرحلة في محطات مختلفة. في ضوء هذا، افترض العديد من العلماء، وخاصة ويستكوت (Westcott) وتيمبل (Temple) ويتبعهم أوريجن (Origen)، إن مفهوم الفردوس في هذه الفقرة هو عبارة عن حالة تقدم من مرحلة إلى أخرى حتى الوصول إلى الهدف النهائي. ولكن لم يكن هذا هو التفسير الذي قدمه عموماً الآباء القدامى لهذه الكلمة، ويبدو بالاستنتاج أنها تشير أكثر إلى فكرة الإقامة الدائم. ونرى نفس الكلمة ثانية في العهد الجديد في يوحنا ٢٣:١٤، حيث يسكن الآب والابن في قلوب التلاميذ المحبين إلى الأبد.” تاسكر (Tasker)
- أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً: المحبة عادة ما تكون مُرحبة. فبالمحبة يعد الأهل غرفة جديدة لاستقبال الطفل الجديد. وبالمحبة تقوم المضيفة بعمل التحضيرات اللازمة لاستقبال الضيوف. وهكذا مضى يسوع ليعد لشعبه مَكَاناً لأنه يحبهم وهو واثق من وصولهم.
- كتب جيمس بيري قصة بيتر بان (Peter Pan) من بين أعمال أخرى كثيرة. كما كتب كتاباً يحكي فيه عن والدته، مارغريت أوجلفي، وعن نشأته في اسكتلندا، وكيف تحملت والدته الكثير من المآسي، بما في ذلك موت أحد أبنائها. ووفقاً لموريسون (Morrison)، كتب بيري أن الأصحاح المفضل لوالدته كان يوحنا ١٤، وقد قرأته كثيراً حتى أن الصفحات كانت تفتح بشكل طبيعي على هذا الأصحاح كلما وضع جانباً، وأضاف أنه عندما تقدمت في السن ولم يعد باستطاعتها قراءة هذه الكلمات، كانت تنحني لتقبل الصفحة التي طُبعت فيها تلك الكلمات.
- تتحدث كلمة ’أَمْضِي‘ عن خطط يسوع وعن الخطوة الأولى التي سيتخذها. فيسوع لم يؤخذ إلى الصليب بل ذهب هو إليه. “لقد ظنوا أن موته كان كارثة غير متوقعة. ولكن علّمهم المسيح أن الصليب كان وفقاً لخطته.” موريسون (Morrison)
- آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ: وعد يسوع أنه سيأتي ثانية ليأخذ التلاميذ. ولم يكن هذا إشارة لقيامته القريبة أو مجيء الروح القدس فحسب، بل كان يفكر أيضاً في اللقاء العظيم الذي سيجمع فيه كل أولاده في نهاية الأيام.
- “عدم قدرتهم على رؤيته لا يعني أنه لم يعد موجوداً. فقد ذهب إلى مكان دائم آخر استعداداً لمجيئهم؛ وعلاوة على ذلك، سيأتي ثانية ليأخذهم معه.” مورغان (Morgan)
- “لا ينبغي أن يفوتنا هنا الإشارة إلى مجيء يسوع الثاني. صحيح أن يوحنا لا يشير إلى ذلك كثيراً كما يفعل باقي كتاب العهد الجديد، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكتب عنه في صفحاته.” موريس (Morris)
- “كان هذا وعداً ثميناً للغاية للكنيسة الأولى. وربما ردد بولس هذا الوعد في رسالته لأهل تسالونيكي حينما قال: ’وَما نَقُولُهُ لَكُمُ الآنَ هُوَ رِسالَةٌ مِنَ الرَّبِّ‘ أن يسوع سينزل من السماء ويجمع المؤمنين ليكونوا معه إلى الأبد (أنظر تسالونيكي الأولى ١٥:٤-١٧).” تاسكر (Tasker)
- حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً: إن تركيز السماء ينصب بالكامل على الإتحاد مع يسوع. فالسماء هي السماء ليس بسبب شوارعها الذهبية أو بواباتها اللؤلؤية، أو حتى بسبب وجود الملائكة، بل لأن يسوع هناك.
- نتعزى عندما نعرف أنه لا يعد مكاناً لنا فحسب، بل يعمل في حياتنا ليعدنا لذلك المكان أيضاً.
ج ) الآيات (٥-٦): يسوع الطريق الوحيد للآب.
٥قَالَ لَهُ تُومَا: «يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ ٱلطَّرِيقَ؟». ٦قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلْآبِ إِلَّا بِي».
- يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ: علينا أن نمدح توما لأنه شرح بصدق وبوضوح سبب ارتباكه. فقد اعتقد أن يسوع كان ببساطة ذاهباً إلى مكان آخر، كما لو كانت مدينة أخرى.
- “وإن كانت اللغة البشرية تجبر يسوع على استخدام كلمات مثل ’الذهاب بعيداً‘ و’الطريق إلى الآب،‘ إلا أنها تعبيرات ليست لها أي أهمية مكانية أو مادية.” تاسكر (Tasker)
- “ونلاحظ هنا كيف كانوا يتكلمون معه بكل ألفة وسهولة؛ وهو بدوره يتكلم إليهم متفهماً تماماً ضعفاتهم، ويعلمهم شيئاً فشيئاً حسب قدراتهم. ونراهم يسألون هذه الأسئلة كما يسأل الصبي أباه، وغالباً ما يظهرون جهلهم، ولكنهم لا يشعرون بأي حرج أو خجل منه ويسمحون له أن يرى مدى سطحيتهم وصعوبة فهمهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ: لم يقل يسوع أنه سيُظهر لنا طريقاً، بل قال إنه هو الطريق. ولم يعد بتعليمنا الحق، بل قال إنه هو الحق. ولم يقدم لنا يسوع أسرار الحياة، بل قال إنه هو الحياة.
- أنا تائه ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب. يسوع هو الطريق.
- أنا مضطرب وحائر ولا أعرف كيف أفكر. يسوع هو الحق.
- أنا ميت داخلياً ولا أعرف إذا كان بإمكاني الاستمرار هكذا. يسوع هو الحياة.
- شَكَلَ هذا الإعلان تناقضاً ظاهرياً في ضوء الأحداث القريبة. فطريق يسوع سيكون الصليب؛ وسيُدان من قِبل كذابين وقحين؛ وسيصبح جثة هامدة ويوضع في القبر قريباً. ولأنه سلك تلك الطريق، أصبح هو ٱلطَّرِيقُ الوحيد إلى الله؛ ولأنه لم يطعن في الأكاذيب يمكننا أن نصدق أنه هو ٱلْحَقُّ؛ ولأنه كان مستعداً للموت، فتح الطريق للقيامة، فصارت ٱلْحَيَاةُ لنا.
- “لا يوجد ذهاب من دون الطريق، ولا توجد معرفة من دون الحق، وبلا يوجد نبض من دون حياة. أنا الطريق الذي عليك أن تتبعه، والحق الذي عليك أن تؤمن به، والحياة التي ينبغي أن ترجوها.” بروس عن كيمبيس (Kempis, cited by Bruce)
- لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلْآبِ إِلَّا بِي: أدلى يسوع بهذا البيان الرائع معلناً به أنه الطريق الوحيد إلى الله، وبهذه الطريقة، وضع الهيكل وطقوسه جانباً، فضلاً عن الأديان الأخرى. أعلن يسوع أنه الوحيد الذي يملك ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ – الطريق الوحيد إلى الله ٱلْآبِ، الإله الحقيقي في السماء.
- عليك أن تفهم جيداً أن ما قاله يسوع هنا يعتبر من أكثر العبارات التي قالها إثارة للجدل ومع ذلك سجله كُتاب الأناجيل. فكثير من الناس لا يمانعون القول أن يسوع هو أحد الطرق الشرعية إلى الله، وأن الأديان الأخرى وحتى الأفراد لديهم طرقهم المشروعة إلى الله أيضاً. ويعتقد الكثيرون أنه ليس من العدل أن يصنع الله طريقاً واحداً فقط.
- ومع ذلك، هذا هو الموضوع الرئيسي الثابت في كل الكتاب المقدس. حيث تبدأ الوصايا العشرة هكذا: «أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ دِيَارِ عُبُودِيَّتِكَ. لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى سِوَايَ» (خروج ٢:٢٠-٣). وفي كل أجزاء العهد القديم، شجب الله وسخر من الآلهة المزعومة التي كان يعبدها الآخرون (إشعياء ٢١:٤١-٢٩؛ ملوك الأول ١٩:١٨-٤٠)، ويقدم الكتاب المقدس باستمرار الإِلَهِ الْحَقّ ويقدم يسوع كالطريق الوحيد للإله الحق.
- لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلْآبِ إِلَّا بِي: وببساطة، إذا لم يكن يسوع هو الطريق الوحيد إلى الله، إذاً هو ليس أي طريق إلى الله. وإن كان هناك العديد من الطرق إلى الله، فإن يسوع ليس واحداً منها، لأنه أعلن أنه يوجد طريق واحد لله، وأنه هو ذلك الطريق. وإن لم يكن يسوع هو الطريق الوحيد إلى الله، فهو إذاً شخص غير صادق، وبكل تأكيد ليس نبياً. فهو إما مجنون أو شيطان كاذب، فلا يوجد حل وسط.
- قد يعترض البعض ويقول: “اعتقد أن يسوع كان رجلاً صادقاً، واعتقد أنه كان نبياً حقاً، ولكني لا اعتقد أنه قال تلك الأشياء عن نفسه في الأناجيل، واعتقد أن المسيحيين هم من أضافوا هذه الأشياء في وقت لاحق.” ولكن ليس هناك أي سبب موضوعي يجعل المرء يميز بين: “قال يسوع هذا حقاً” أو “لم يقل هذا حقاً.” فليس لدينا أي نصوص قديمة تبين أقوال يسوع المفترض أنها صحيحة، ووجود أي تمييز من هذا النوع يستند بصورة واضحة على أسباب شخصية غير موضوعية – “أنا شخصياً لا أعتقد أن يسوع قال ذلك، وبالتالي هو لم يقل هذه الكلمات – وفي وقت لاحق وضع المسيحيون هذه الكلمات في فمه.”
- وإذا كان الأمر متروكاً للرأي الشخصي – وإذا كان بإمكاننا تحديد ما قاله يسوع أو لم يقله حسب أهواءنا – فيجب علينا رفض الأناجيل بالكامل. فالأمر ينطوي على إما أن تقبل الكل أو لا شيء. إما أن نأخذ كلام يسوع كما هو مسجل في هذه الوثائق الموثوقة والدقيقة تاريخياً، أو نرفضها تماماً.
- “ولكن، هل الديانة المسيحية متزمتة؟ بالتأكيد، فهناك من يزعم أنهم مسيحيون وهم في الواقع متعصبون. لكن المسيحية الكتابية هي الأكثر تعددية وتسامحاً واحتضاناً لديانات الثقافات الأخرى على الأرض. والمسيحية هي الديانة الوحيدة التي تحتضن ثقافات أخرى، وترى الحاجة الملحّة لترجمة الكتاب المقدس إلى لغات أخرى. فالمؤمن لا يحتاج للتخلي عن لغته أو ثقافته الأصلية، بل يحتاج أن يتبع يسوع كما هو. وكان النقد المبكر للمسيحية هو استعدادهم لقبول أي شخص! عبد أو حر، غني أو فقير، رجل أو امرأة، يوناني أو بربري. فالكل مقبول لأن هناك أرضية مشتركة وهي الحق المعلن في يسوع المسيح. والتخلي عن الأرضية المشتركة في يسوع يشبه الانتحار الروحي الآن وفي الأبدية.
- “هذه الحصرية قد تبدو مسيئة للبعض، وعلينا الأخذ بالاعتبار إن من طالب بهذا هو الكلمة المتجسد وكاشف أسرار الآب.” بروس (Bruce)
- الإيمان المسيحي يقبل أي شخص يأتي من خلال يسوع. قال يسوع: ’لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلْآبِ إِلَّا بِي‘: “’وليس الإيمان بافتراضات معينة عني‘ ولا ’من خلال نوع معين من الإيمان‘ ولكن ’من خلالي أنا.‘” دودز (Dods)
د ) الآيات (٧-٨): معرفة الآب ومعرفة الابن
٧«لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ ٱلْآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ». ٨قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلْآبَ وَكَفَانَا».
- لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً: شرح يسوع لماذا هو الطريق الوحيد إلى الله؛ لأنه كان ولا يزال أفضل ممثل عن الله. فمعرفة يسوع تعني معرفة الله.
- وَمِنَ ٱلْآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ: لا بد وأن التلاميذ تعلموا وعرفوا الكثير عن الله في السنوات الثلاث التي قضوها مع يسوع. ومع ذلك، ولأنهم لم يروا الإعلان الكامل عن محبة الله على الصليب وقوته في القيامة، عرف يسوع أنهم مِنَ ٱلْآنَ سيعرفون الله ويرونه.
- يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلْآبَ وَكَفَانَا: رأى فيلبس واختبر الكثير في سيره مع يسوع، لكنه لم ير الله الآب بعينيه. وربما اعتقد أن مثل هذا الاختبار سيمنحه اليقين والشجاعة المغيرين للحياة.
هـ) الآيات (٩-١١): يسوع يشرح مرة أخرى وحدته مع الآب واعتماده عليه
٩قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلْآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا ٱلْآبَ؟ ١٠أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلْآبِ وَٱلْآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ ٱلْآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلْأَعْمَالَ. ١١صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلْآبِ وَٱلْآبَ فِيَّ، وَإِلَّا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلْأَعْمَالِ نَفْسِهَا».
- أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي: يعني هذا أن فيلبس كان قريباً من يسوع ومع ذلك لم يفهمه. وهذا الأمر ممكن وصحيح بالنسبة للكثيرين اليوم.
- اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلْآبَ: ذّكر هذا التوبيخ الرقيق فيلبس بما قاله يسوع مراراً وتكراراً: الذي يعرفه، سيعرف الله الآب أيضاً. والذي اختبر محبة يسوع، سيختبر محبة الله الآب أيضاً. والذي رأى عمل يسوع، سيرى عمل الآب أيضاً.
- “من الصعب تفسير هذه الآية دون إدراك لمعنى الوحدانية بين الآب والابن. إنها كلمات لا يحق لأي إنسان التفوه بها.” موريس (Morris)
- اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلْآبَ: “من المستحيل لأي شيء مادي أن يعكس صورة الله بشكل وافٍ. وقد يتمكن أي شخص من تقديم معلومات عنه بما أن الشخصية والطباع لا يمكن تجسيدها بشيء مادي” تيني (Tenney). وهذا يقضي تماماً على فكرة أن الكتب المقدسة العبرية تقدم إلهاً قاسياً وأن يسوع يظهر لنا إلهاً ألطف. والأصح أن نقول أن يسوع أظهر لنا نفس المحبة والرحمة والرأفة والصلاح الذي كان ولا يزال موجوداً في الله الآب. وتبين الآية في سفر الخروج ٥:٣٤-٩، من بين مقاطع أخرى كثيرة، طبيعة الله الآب في العهد القديم.
- اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلْآبَ: “هل يقدر أي مخلوق أن يقول هذه الكلمات؟ ألا تعني هذه الكلمات ضمناً أن السيد المسيح أعلن للتلاميذ أنه الله الأزلي؟” كلارك (Clarke)
- ٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي: كرر يسوع شيئاً شدد عليه إنجيل يوحنا مراراً؛ إن حياة يسوع وكلماته هي نتيجة اعتماده الكلي على الله الآب ولم يفعل شيئاً خارج سلطانه وإرشاده (يوحنا ١٩:٥، ٢٨:٨).
- صَدِّقُونِي… وَإِلَّا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلْأَعْمَالِ نَفْسِهَا: قدم يسوع أساسين متينين لثقتنا به. فيمكننا تصديق يسوع ببساطة بسبب شخصه وكلامه أو لِسَبَبِ ٱلْأَعْمَالِ نَفْسِهَا التي صنعها بأعجوبة.
- لَكِنَّ ٱلْآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلْأَعْمَالَ: “نحن لا نملك وحدانية في الطبيعة فحسب، بل في الأعمال أيضاً. فالأعمال التي قمت بها تشهد عن طبيعتي الكاملة اللامتناهية. والمعجزات التي صنعتها لا يمكن عملها إلا من خلال قوة مطلقة.” كلارك (Clarke)
- صَدِّقُونِي: يدعو يسوع فيلبس والآخرين هنا إلى أن يصدقوه (لاحظ التغيير إلى صيغة الجمع)، ليس فقط أن يؤمنوا به. فالإيمان يشمل إدراكاً بأن ما يقوله يسوع صحيح.” موريس (Morris)
- ادعى مخلصنا الألوهية في كلامه وأعماله. كان قَوِيّاً، كما قال بطرس، في كلامه وأعماله. وعلى الخُدام أيضاً أن يفحصوا أنفسهم باستمرار ويتأكدوا أنهم يملكون عقيدة سليمة وشهادة حسنة.” (تراب Trapp)
ثانياً. ثلاث ضمانات للتلاميذ المضطربين
أ ) الآيات (١٢-١٤): بعد صعود يسوع، الخدمة ستستمر
١٢اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلْأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لِأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي. ١٣وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِٱسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ ٱلْآبُ بِٱلِٱبْنِ. ١٤إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِٱسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ.
- اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ: بدأ يسوع بتقديم أول يقين (ضمان) لتلاميذه من أصل ثلاثة ليلة رحيله. فأول يقين سكّن خوفهم، ربما قالوا: “إنها النهاية. انتهى كل شيء وتم طردنا جميعاً.” ولكنهم في الواقع لم يفصلوا من عملهم، بل تمت ترقيتهم للقيام بأمور أعظم.
- مَنْ يُؤْمِنُ بِي: شجع يسوع التلاميذ على الثقة به والاعتماد عليه والتمسك به بالإيمان، بسبب حقيقته وكلامه الذي تكلم به والمعجزات التي صنعها. والآن يصف يسوع الفائدة أو البركة التي يحصل عليها كل مَنْ يُؤْمِنُ بِه.
- فَٱلْأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً: توقع يسوع من المؤمنين به مُواصلة عمله على الأرض. ولم يتوقع أن يتفرق التلاميذ بعد رحيله، بل أن يتمموا عمله بقوة أكبر (وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا).
- “’الأعمال الأعظم‘ التي يتحدث عنها الآن ستبقى جزءً من عمله وخدمته؛ ولكنه لن يعملها بحضوره الملموس، بل من خلال الروح الساكن في التلاميذ.” بروس (Bruce)
- وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا: لم يقصد يسوع بهذه الكلمات أن تلك الأعمال ستكون أكثر إثارة وروعة، ولكنها ستكون أعظم من حيث الكمية. فخدمة يسوع الأرضية كانت محدودة بالمنطقة الجغرافية التي كان فيها، ولكن عندما يصعد، سيترك وراءه عائلة منتصرة وفعالة من الأتباع الذي سينشرون رسالة الملكوت إلى العالم كله.
- يبدو هذا الوعد مستحيلاً، ومع ذلك، آمن الكثيرين بعد عظة بطرس الأولى أكثر بكثير مما تم تسجيله خلال خدمة يسوع بأكملها.
- “ترجمت بعض الترجمات جملة ’أعمال أعظم‘ إلى ’أشياء أعظم‘؛ وهي ترجمة جيدة. فالأعمال التي صنعها الرسل بعد القيامة لم تكن أعظم من الأعمال التي صنعها يسوع من حيث النوعية، بل كانت أعظم من حيث التأثير.” تاسكر (Tasker)
- “إن كلمة ’أعمال‘ في الواقع، غير موجودة في النص. فأفضل ترجمة إذاً ستكون ’أشياء أعظم.‘ والنقطة هنا أن المؤمنين سيفعلون شيئاً أعظم حتى من أعمال يسوع.” بويس (Boice)
- “سنفهم قصد يسوع عندما نقرأ سفر أعمال الرسل؛ إذ نرى معجزات أقل وخلاص نفوس أعظم وأكبر. فقد انضم يوم الخمسين فقط إلى العدد القليل من المؤمنين أعداد لم نراها طوال خدمة المسيح على الأرض. ونرى بهذا تحقيقاً حرفياً للكلمات: وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا.” موريس (Morris)
- وجد وليام باركلي صعوبة في تقبل فكرة أن يسوع أراد لتلاميذه أن يقوموا بمعجزات أعظم من التي قام بها. “حتى إن سلمنا بأن الكنيسة الأولى قامت بنفس الأعمال التي قام بها يسوع، غير أنه لا يمكن يقيناً القول بأن أعمالها كانت أعظم من أعماله.” باركلي (Barclay)
- هناك من يعتقد أن يسوع قصد أن كل مؤمن يمكنه، بل بالأحرى، ينبغي عليه، أن يقوم بأعمال أكثر روعة من الأعمال التي قام بها يسوع أثناء خدمته الأرضية. ونحن ننتظر بشوق أن نسمع عن أشخاص قاموا بمعجزات أعظم من السير على الماء، وتهدئة العاصفة بكلمة، واشباع الآلاف، وإقامة الموتى (أعظم من المعجزات الثلاثة المسجلة عن يسوع). حتى إذا ثبت أن شخصاً ما قام بمثل هذه الأعمال بعد يسوع، لا زال ذلك لا يفسّر لماذا لم يحقق الآلاف من الناس، في السابق وفي الوقت الحالي، هذا المفهوم الخاطئ بل والخطير أحياناً، لكلمات يسوع: وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا.
- لِأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي: سيوضح يسوع قريباً أنه سَيُرسِل الرُّوحَ القُدُسَ بعد صعوده إلى السماء (يوحنا ١٦:١٤، ٢٦:١٤، ٢٦:١٥، ٧:١٥-٩، ١٣:١٥). ولأن يسوع سيصعد إِلَى الآب، سيحل الروح القدس على شعبه لتمكينهم من القيام بهذه الأعمال الأعظم.
- “السبب الذي سيجعلكم تقومون بأعمال أعظم هو رُوحَ النِّعْمَةِ وَالابْتِهَالِ الذي سيحل على الكنيسة بعد ذهابي إلى الآب.” آلفورد (Alford)
- وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِٱسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ: قدم يسوع المزيد من التوضيح عن كيفية قيام أولاده بأعمال أعظم. فهذا سيكون ممكناً لأن يسوع سينجز عمله من خلال شعبه المُصلي الذي سيسأل ويفعل كل شيء باسمه. فقد وعد أنه سيفعل لأولاده المُخلصين كُلَّ ما يطلُبُونَهُ باسْمِه؛ وهذا يعني، وفقاً لطبيعته وسلطانه.
- بِٱسْمِي: اسم يسوع ليس تعويذة سحرية نستخدمها أثناء الصلاة، بل هو ما يصادق على الصلاة ويؤيدها (مثل الشيك المصرفي) وهو ما يحد الصلاة (فعلى الطلبات أن تتفق مع طبيعة اسم يسوع). لهذا نأتي إلى الله باسم يسوع، وليس باسمنا نحن.
- “امتحان أي صلاة هو: هل أستطيع أن أَقْرَنَ اسم يسوع بهذه الطلبة التي أطلبها؟ لن نستطيع على سبيل المثال أن نطلب المصالح الشخصية أو نطلب التفوق على الآخرين أو نتقدم بطلبة غير كتابية لا تتفق مع اسم المسيح وكرامته.” باركلي (Barclay)
- “’إن سألنا أو فعلنا شيئاً باسمه‘ تزعم وجود وحدة في الفكر والهدف والدافع مع يسوع.” ترينش (Trench)
- لِيَتَمَجَّدَ ٱلْآبُ بِٱلِٱبْنِ: تلك الأعمال الأعظم التي وعد بها يسوع ستُمجد كل من ٱلْآبُ وٱلِٱبْنِ. فالصلوات التي تُرفع وهدفها مجد المسيح والله الآب ستكون حقاً باسم يسوع وستكون من الصلوات المجابة.
ب) الآيات (١٥-١٧): بعد صعود يسوع، سيُرسل الروح القدس.
١٥«إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَٱحْفَظُوا وَصَايَايَ، ١٦وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ ٱلْآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ، ١٧رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لِأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ».
- إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَٱحْفَظُوا وَصَايَايَ: لقد أظهر يسوع للتو محبته الرائعة للتلاميذ بغسل أرجلهم (يوحنا ١:١٣-٥). وأخبرهم عن الرد المناسب لما فعل؛ ٱحْفَظُوا وَصَايَايَ.
- أوصاهم أن يغسلوا بعضهم أرجل بعض، بعد المثال الذي عرضه أمامهم (يوحنا ١٤:١٣-١٥)
- أوصاهم أن يحبوا بعضهم بعضاً كما أحبهم (يوحنا ٣٤:١٣)
- أوصاهم أن يضعوا ثقتهم وإيمانهم بالله الآب وفي يسوع نفسه (يوحنا ١:١٤)
- إن حفظ وصايا يسوع يحكي الكثير عن أخلاقنا، ولكن تركيز يسوع على محبة الآخرين والإيمان به ما هو إلا دليل على طاعتنا لوصاياه.
- هذا يُعد مقياساً عادلاً لمحبتا ليسوع. من السهل أن تكون محبتنا ليسوع مجرد عواطف وأحاسيس. فمن الرائع أن تكون محبتنا ليسوع مليئة بالعاطفة والمشاعر، ولكن عليها أن تكون مرتبطة دائماً بحفظنا لوصاياه، وإلا فلن تكون محبتنا حقيقية على الإطلاق.
- العصيان بالنسبة للمؤمن لا يعني إخفاقاً في الأداء أو المرور في مرحلة ضعف، بل يعني قصوراً في المحبة. فالذين يحبون الله عليهم أن يطيعوه بكل فرح وبتلقائية. وعندما يقول المرء: ’أحب يسوع حقاً. ولكني لا أريده أن يُملي عليّ خطة حياتي‘ فإنه يعبر عن سوء فهم رهيب لكل من يسوع ومحبته له.
- تحدث يسوع أيضاً عن مصدر طاعتنا السليم. فطاعتنا لا يجب أن تكون بدافع الخوف والكبرياء أو الرغبة في الحصول على البركة. مصدر طاعتنا السليم هو المحبة. “على الطاعة أن تحب المصدر والرعاية والتغذية. فجوهر الطاعة يكمن في المحبة التي تحث على الفعل بدلاً من الفعل نفسه.” سبيرجن (Spurgeon)
- “يعتقد البعض أنهم إن كانوا يحبون يسوع فعلاً، فعليهم أن يسكنوا في دير، أو يعيشوه في انعزال، أو يرتدوا الملابس الغريبة، أو يحلقوا رؤوسهم. وهكذا كان البعض يؤمنون: ’إذا كنا نحب المسيح فعلاً، فعلينا أن نجرد أنفسنا من كل ما نملك، ونلبس الخيش، ونربط حبالاً على وسطنا، ونسكن في البراري.‘ وفكر آخرون أنه من الحكمة أن يكونوا نوراً للناس من خلال غرابة اللباس والسلوك. ولكن الُمخلص لم يقل أياً من هذا؛ كل ما قاله ببساطة: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَٱحْفَظُوا وَصَايَايَ.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ ٱلْآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ: كان هذا هو اليقين الثاني من هذه السلسلة الثلاثية. فقد شعر التلاميذ بالخوف وقالوا: “سوف يتخلى عنا يسوع. ولن نعرف كيف سنتصرف حينما يتركنا.” ولكن لن تنقصهم المعونة، بل سيأتيهم عون أعظم لأن الآب سيرسل لهم معيناً آخر… مُعَزِّياً آخَرَ.
- يا له من مثال رائع عن فكرة الثالوث المنسوجة في نسيج العهد الجديد. فلم ينوِ يسوع أن يقدم محاضرة معقدة عن الثالوث؛ بل تحدث ببساطة عن كيفية تفاعل وعمل الأقانيم معاً لمصلحة شعب الله ولتعزيز خطة الملكوت.
- “الفكرة هنا أن طريقة الصلاة هذه ستستخدم بعد صعود يسوع إلى السماء. “يشير تعبير ’وَأَنَا أَطْلُبُ‘ على الأرجح إلى طلب الشيء عن قرب وكأنه موجود فعلاً، واستخدم هنا ليشير إلى عمل المسيح كوسيط.” آلفورد (Alford)
- فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ: يترجم الاسم ’المُعَزِّي‘ في الأصل اليوناني إلى ’باراكليتوس (parakletos).‘ وتحمل هذه الكلمة فكرة الشخص الذي يُدعى لمساعدة شخص آخر، وقد تشير أيضاً إلى مُستشار أو محام قانوني أو وسيط أو شفيع.
- ترجمت نسخة الملك جيمس الإنجليزية (KJB)’باراكليتوس‘ بكلمة: المعزي. وساعدت هذه الكلمة على تقريب المعنى في الإنجليزية القديمة. “مصدر كلمة المعزي الموجودة في كتبنا هو ويكليف الذي أخذها عن اللاتينية وتعني التشجيع والتشديد وقت الضعف. وهكذا نقلت الكلمة فكرة المعونة والمؤازة، فضلاً عن التعزية.” آلفورد (Alford)
- “إحدى الطرق لفهم عمل المعزي هو فهم ما هو عكس ذلك العمل. “يُطلق على الشيطان اسم ’الْمُشْتَكِي (κατηγορος)‘، وهذا يتعارض بالكامل مع الاسم واللقب الذي أُعطي هنا للروح القدس.” تراب (Trapp)
- مُعَزِّياً آخَرَ: كلمة آخَرَ هي الكلمة اليونانية القديمة ’آلن‘ (allen) وتعني ’آخر من نفس النوع‘ (تيني Tenney) على النقيض من آخر من نوع مختلف. وكما يظهر يسوع طبيعة الله الآب، هكذا الروح القدس – معزياً آخر من نفس النوع – سيظهر طبيعة يسوع.
- “يطلق ربنا هنا على الروح القدس اسم ‘المعزي الآخر‘ (allon paraklhtoV)، وهذا يعني ضمناً أن يسوع أعلن أنه هو شَفِيعٌ (paraklhtoV) أيضاً، وهو نفس اللقب الذي أطلقه يوحنا عن يسوع في رسالته الأولى ١:٢.” ترينش (Trench)
- سيكون من الرائع أن نعيش الحياة المسيحية بالقرب من يسوع أثناء سيرنا على هذه الأرض. فقد وعد يسوع أن الروح القدس سيقوم بهذا الدور معنا، لأنه جاء لتمكين المؤمن ومؤازرته. فالعمل الأعظم الموصوف في يوحنا ١٢:١٤-١٤ مستحيل دون المعونة والتمكين الموصوفان في يوحنا ١٥:١٤-١٨.
- لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلْأَبَدِ: سيرسل يسوع الروح القدس لِيَمْكُثَ معنا (مشيراً إلى شخص وليس إلى شيء) بشكل دائم لا مؤقت، كما كان في العهد القديم.
- “سيبقى محامي الدفاع مع التلاميذ ’إلى الأبد.‘ فهذا الوضع الجديد سيكون أبدياً. والروح الذي أُعطيَّ لنا لن يتركنا أبداً.” موريس (Morris)
- لَا يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ: لا يمكن للعالم أن يفهم أو يقبل الروح، لأنه قدوس وحق. وفي عصر تسوده الأكاذيب، لا يقابل رُوحُ ٱلْحَقِّ بالترحيب، لأن العالم لا يرى الروح وَلا يَعرِفُهُ.
- “إن كان العالم لا يقبل الروح، فلماذا نتعجب عندما لا نرى سوى القليل من قدراته في برية هذا العالم؟” ترينش (Trench)
- وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لِأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ: تكلم يسوع عن ثلاث جوانب لعلاقة التلميذ بالروح القدس.
- على النقيض من العالم، على تلميذ يسوع أن يعرف الروح القدس
- على النقيض من العالم، على الروح القدس أن يمكث مع (يحيا في) تلميذ يسوع.
- على النقيض من العالم، على الروح القدس أن يكون في تلميذ يسوع.
- كان الروح القدس بالفعل مع هؤلاء التلاميذ الأحدى عشر، ولاحقاً سيسكن فيهم. وقد تحقق هذا عندما نَفَخَ يسوع فِيهِمْ وقبلوا الروح القدس، عندما آمنوا وولدوا ثانية (يوحنا ٢٢:٢٠).
- بالإضافة إلى (مَعَكُمْ) و(فِيكُمْ)، استخدم يسوع حرف جر ثالث لوصف علاقة التلميذ بالروح القدس: لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ (أعمال الرسل ٨:١). وتشير (عَلَيْكُمْ) إلى اختبار معمودية وانسكاب الروح القدس.
- “لم يكن هناك أي فجوة بين المسيح وتلاميذه وهو على الأرض! ففي تنازله، كان قريباً جداً منهم؛ ومع ذلك كان بإمكانك أن ترى الفجوة الكبيرة بين المعلم الحكيم والتلاميذ الحمقى. فالروح القدس سيسد الفجوة الآن بسكناه فينا.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (١٨-٢١): بعد صعود يسوع، سيعلن عن نفسه للتلاميذ
«١٨لَا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ. ١٩بَعْدَ قَلِيلٍ لَا يَرَانِي ٱلْعَالَمُ أَيْضاً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ. ٢٠فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ. ٢١اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ ٱلَّذِي يُحِبُّنِي، وَٱلَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي».
- لَا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ: بدأ يسوع بالحديث عن اليقين الثالث. فقد خاف التلاميذ وفكروا: “عندما يتركنا يسوع، سينتهي برنامج التلمذة الذي بدأناه للتو.” ولكن برنامج التلمذة لم ينتهِ بعد؛ بل كانت تلك مجرد البداية.
- “كانوا يطلقون على المعلم في العالم القديم لقب الأب، وكان التلاميذ يدعون أولاد المعلم الفلان. ويعتبر التلاميذ يتامى بعد وفاة المعلم.” كلارك (Clarke)
- رأى سبيرجن أن تلاميذ يسوع ليسوا مثل اليتامى بعدة طرق:
- فَقَدَ اليتيم أهله؛ الروح القدس أظهر لنا أن يسوع حي
- تُرك اليتيم وحيداً؛ الروح القدس يقربنا من محضر الله
- خسر اليتيم من يتكفل بمعيشته؛ الروح القدس يوفر لنا كل الأشياء
- ترك اليتيم من دون تعليمات؛ الروح القدس يعلمنا كل الأشياء
- ليس لليتيم من يدافع عنه؛ الروح القدس هو الحامي عنا
- إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ: وعد يسوع تلاميذه مرة أخرى أنه سيأتي ثانية (يوحنا ٣:١٤). وهذا الوعد الواسع كان قد تحقق بالقيامة وبإرسال الروح القدس وبوعد المجيء الثاني.
- “كل مرحلة من مجيئه الموعود عانقت هذا اليقين: ’إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ‘” بروس (Bruce)
- بَعْدَ قَلِيلٍ لَا يَرَانِي ٱلْعَالَمُ أَيْضاً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي: كان هذا صحيحاً، نوعاً ما، عندما قام يسوع من الأموات وعند صعوده إلى السماء. لكن، وبعد صعود يسوع إلى السماء، سيكشف عن نفسه للتلاميذ بطريقة مختلفة وبكل سلطان، وسوف يرونه الآن بطريقة أعظم من رؤيته بالعين المجردة.
- كتب الرسول بولس في وقت لاحق: وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لَكِنِ ٱلْآنَ لَا نَعْرِفُهُ بَعْدُ (كورنثوس الثانية ١٦:٥). كانت معرفة يسوع من خلال الروح القدس أكثر إقناعاً من معرفته في الجسد.
- إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ: لن يرى التلاميذ يسوع بالروح فحسب، بل سَيحْيَوْنَ أيضاً مع يسوع من خلال عمل الروح القدس. فاعتمادهم على الحياة في يسوع لن يتوقف عند صعوده إلى السماء؛ بل سيستمر بقدر أكبر من خلال الروح القدس.
- “حصل الإنسان على الخلاص لأن المسيح مات لأجله، وهذا الخلاص سيستمر لأن المسيح يحيا من أجله. فالسبب الوحيد لثبات حياتنا الروحية هو أن يسوع حي.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ: سيتمتعون من خلال الروح القدس بعلاقة حية ووحدة مع الله الآب والله الابن.
- يتميز هذا الاتحاد بمعرفة مشيئة الله (اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ)
- يتميز هذا الاتحاد بطاعة مشيئة الله (وَيَحْفَظُهَا)
- يتميز هذا الاتحاد بالمحبة (فَهُوَ ٱلَّذِي يُحِبُّنِي)
- يتميز هذا الاتحاد بعلاقة محبة وقبول مع الله الآب (يُحِبُّهُ أَبِي)
- يتميز هذا الاتحاد بإعلان يسوع عن نفسه (وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي)
- كل هذا يتدفق من إتحاد التلميذ مع الله من خلال عمل الروح القدس
- يستطيع المؤمن أن يختبر هذه العلاقة الآن، وليس في الزمن القادم. “لأنه لا يحفظ كل شيء للحياة الآتية، لكنه يعطي من عنب كنعان في هذه البرية، عنب لم يذقه العالم من قبل.” تراب (Trapp)
- اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ ٱلَّذِي يُحِبُّنِي: “إن المحبة التي يعد بها المسيح وإعلانه عن ذاته، ليست مجرد مشاعر فارغة أو أوهام ضحلة، بل مبدأ يحث على الطاعة.” دودز (Dods)
- اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ: “إن الإنسان الذي يحب المسيح هو الذي ’عنده‘ وصاياه ويحفظها. يبدو تعبير ’عِنْدَهُ وَصَايَايَ‘ غريباً ولا يتماشى مع الكلام (قارن مع يوحنا الأولى ٢١:٤). ولكن يبدو أن المعنى هو أن تصبح الوصايا جزء طبيعي في حياة الشخص.” موريس (Morris)
د ) الآيات (٢٢-٢٤): الإجابة على سؤال يهوذا (ليس الإسخريوطي).
٢٢قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ ٱلْإِسْخَرْيُوطِيَّ: «يَا سَيِّدُ، مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ؟». ٢٣أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلَامِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً. ٢٤اَلَّذِي لَا يُحِبُّنِي لَا يَحْفَظُ كَلَامِي. وَٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلْآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».
- مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا: لقد طرح يهوذا سؤالاً ممتازاً. والفكرة من كلمة ’تُظْهِرَ‘ هو أن يُعلن عن نفسه، وأن يصبح جلياً. ولم يتضح على الفور كيف سيعلن يسوع برحيله عن نفسه للتلاميذ وليس للعالم بأسره.
- سبق يهوذا وسمع عندما علم يسوع عن العالم الذي لن يرى ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ وَمَجْدٍ عَظِيمٍ (متى ٣٠:٢٤)، لهذا كان من الصعب عليه أن يفهم كلام يسوع الآن كيف أن العالم لن يراه.
- “دعي يهوذا ’أَخُو يَعْقُوبَ‘ في لوقا ٦:١٦ وأعمال الرسل ١٣:١؛ ويبدو أنه هو نفسه الشخص ٱلْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ في متى ٣:١٠ ومرقس ١٨:٣. ومن الواضح أنه كان لبعض الرسل أكثر من اسم.” تاسكر (Tasker)
- “الكلمات ’لَيْسَ ٱلْإِسْخَرْيُوطِيَّ‘ هي في الواقع غير ضرورية بعد ما حدث في يوحنا ٣٠:١٣، ولكن يضيفها القديس يوحنا لخشيته من خلط الاسم مع الخائن الذي حمل نفس الاسم.” آلفورد (Alford)
- إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلَامِي: للإجابة على سؤال يهوذا، كرر يسوع الموضوعات الرئيسية التي ذكرها في الآيات السابقة. فسوف يُعلن يسوع عن ذاته من خلال محبة وطاعة واتحاد التلاميذ مع الآب والابن. فهذه الاختبارات لا تنبع من اختبار صوفي أو شعور بالنشوة، ولكن من حياة يحياها المؤمن بوجود وعمل الروح القدس.
- المحبة شخصية؛ قال يسوع: إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ
- المحبة تحترم وتقدر تعاليم يسوع؛ قال يسوع: يَحْفَظْ كَلَامِي
- يَحْفَظْ كَلَامِي: هذه أكثر من مجرد ’وصية،‘ أليس كذلك؟ فكلام المسيح ليس مجرد تعاليم متفرقة ووصايا. فكلامه يشمل كل أقواله كوحدة حية فعالة، ولا ينبغي علينا أن نختار منه ما نريد؛ فكلامه وحدة لا تنقسم.” ماكلارين (Maclaren)
- وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً: “عندما نعكس محبتنا وطاعتنا، يشعر الناس بحضور الله والمسيح؛ فالآب والابن يصنعون منزلاً عند كل الأبناء.” بروس (Bruce)
- وَٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلْآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: شدد يسوع مجدداً اعتماده الكلي وخضوعه الكامل لله الآب. وأعلن يسوع صراحة مساواته مع الآب (يوحنا ١:١٤، ٣، ٧، ٩).
ثالثاً. قبل صعود يسوع، يترك لهم عطية الروح القدس وسلامه.
أ ) الآيات (٢٥-٢٧): يسوع الراحل يعطيهم الروح القدس وسلامه.
٢٥بِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. ٢٦وَأَمَّا ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلْآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. ٢٧سَلَاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلَامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي ٱلْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَرْهَبْ.
- وَأَمَّا ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلْآبُ بِٱسْمِي: أول مرة ذكر فيها يسوع ٱلْمُعَزِّي كان في يوحنا ١٦:١٤. ونراه يكرر ثانية الوعد الرائع بأنه بعد رحيله عنهم في الجسد، سيطلب من الآب أن يرسل الروح القدس ليعين تلاميذه.
- سَيُرْسِلُهُ ٱلْآبُ بِٱسْمِي: أرسل الروح القدس إلى التلاميذ على أساس استحقاق يسوع وطبيعته وصفاته. “سيكون الروح هو ممثل يسوع الرسمي الذي يعمل نيابة عنه.” تيني (Tenney)
- لا يتوجب على التلميذ طلب الروح القدس على أساس استحقاقه الذاتي؛ وإنما يقبله بناءاً على استحقاق يسوع.
- على المؤمن أن يتوقع أن يكون عمل الروح القدس شبيهاً لطبيعة وصفات يسوع المعلن عنها في كلمة الله.
- هذا مثال رائع آخر على حقيقة الثالوث المنسوجة في نسيج العهد الجديد. فالله الآب يرسل الله الروح بناء على طلب الله الابن.
- ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: هذا التعيين المميز الذي نراه عبر صفحات كل العهد الجديد لا يلفت الانتباه إلى قوة الروح أو عظمته أو إلى ما شابه. فأهم ما في الأمر بالنسبة للمؤمنين الأوائل هو أنه قدوس.” موريس (Morris)
- فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ: عندما حان وقت صعوده، كان يسوع قد أنهى عمله الرئيسي في تعليم التلاميذ، كالمعلم اليهودي الذي يعلم تلاميذه. ولكن تدريبهم لم ينتهِ بعد، وإنما سيستمر من خلال ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ.
- سيعلم الروح القدس التلاميذ كل شيء وسيذكرهم بكل ما قاله يسوع وذلك لفائدتهم الشخصية ولغرض كتابة الإنجيل.
- يعني هذا أن عمل الروح القدس هو استمرار لعمل يسوع، وتعاليم الروح ستكون استمراراً لما علمه يسوع. فالروح القدس لن يمحو كل ما علم به يسوع وبعدها يبدأ من جديد. “الروح لن يستغني عن تعاليم يسوع، بل سيذكرنا بها باستمرار.” موريس (Morris)
- نرى في هذا الوعد شيئاً عاماً لكل مؤمن، فالروح القدس يعلمنا جميعاً ويذكرنا بكلمة الله (إن كنا حريصين على استقبالها). ومع ذلك، نرى أن ملئ هذا الوعد كان مخصصاً للتلاميذ الأوائل والرسل الذين بنيت الكنيسة عليهم (أفسس ٢٠:٢).
- “على أساس هذا الوعد، استطاع الرسل أن يكرزوا بكفاءة عن كل ما فعله الرب وعلمه، وعلى هذا الأساس كانت مصداقية الأناجيل.” آلفورد (Alford)
- سَلَاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلَامِي أُعْطِيكُمْ: كانت هذه التحية مألوفة في تلك الأيام، بأن تتمنى السلام (شالوم) للآخرين حينما تتركهم. أخذ يسوع هذه التحية الاعتيادية وملئها بقوة ومعنى أعمق.
- “كان مألوفاً أن تتمنى السلام لمن معك حينما تودعهم، كما نرى في سفر صموئيل الأول ١٧:١، لوقا ٥٠:٧، أعمال الرسل ٣٦:١٦، بطرس الأولى ١٤:٥، يوحنا الثالثة ١٥” آلفورد (Alford). “«سَلَامٌ (شالوم) لَكُمْ!» كانت ولا تزال التحية اليهودية المعتادة بين الأصدقاء حين لقاءهم وافتراقهم.” بروس (Bruce)
- لَيْسَ كَمَا يُعْطِي ٱلْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا: عندما يُلقي شخص من تلك الثقافة هذه التحية عندما يغادر، فإنه يقولها بطريقة عادية بلا أي معنى خاص، مثل كلمات الوداع التي نستخدمها في أيامنا هذه. فمعنى هذه التحية حرفياً، الله معك – ولكننا لا نعنيها فعلاً بهذه الطريقة. ولكن أرادهم يسوع أن يعرفوا أنه عندما قال لهم: سَلَاماً أَتْرُكُ لَكُمْ، فإنه لم يقلها بشكل عرضي وبلا أي معنى كما يفعل معظم الناس.
- غالباً ما يكون سلام هذا العالم مبنياً على شيء مؤقت أو أمور تصرف نظرنا عما هو مهم أو على أكاذيب. أما يسوع فيعرض سلاماً أفضل، سلام حقيقي.
- لم يترك يسوع أي ميراث أو ثروة لأتباعه في وصيته الأخيرة. ومع ذلك أعطاهم يسوع شيئان يفوقان أي ثروة: حضور وقوة الروح القدس، وسلام يسوع نفسه. هذا هو سلام ابن الله، بمحبته الواثقة الكاملة في الله الآب.
- “استخدم يسوع كلمة ’سَلَامِي‘ ليصف بعناية هذا السلام. فقد كان سلامه نابع من قلب مطمئن غير خائف رغم كل المصاعب والآلام التي كانت أمامه.” مورغان (Morgan)
- “السلام (شالوم) في الكتاب المقدس لا يعني ببساطة غياب المشاكل. ولكنه يعني كل ما هو لخيرنا الأسمى. فالسلام الذي يهبه العالم هو سلام الهروب من المتاعب وتجنب المضايقات ورفض مواجهة الأمور.” باركلي (Barclay)
- لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَرْهَبْ: عاد يسوع إلى نفس الموضوع المذكور في الآية الأولى من الأصحاح ١٤. فالإيمان بالله وبالابن، وقبول روحه وسلامه، سوف نملك قلب يتمتع بالسلام رغم المصاعب.
ب) الآيات (٢٨-٢٩): الخير الذي لنا من صعود يسوع إلى الآب
٢٨سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي. ٢٩وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ.
- لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ: كان التلاميذ مضطربون من سماعهم خبر رحيل يسوع. ولكن كان عليهم بالإيمان أن يفرحوا لأنها أخبار سارة بالنسبة لهم وليسوع وللعالم بأسره. فعمل يسوع من خلال إرسال الروح القدس سيكون أعظم من العمل الذي صنعه خلال سنوات خدمته الأرضية.
- يسوع، عندما أتأمل بكل ما تركت من أجلي وتحملت عندما تركت السماء وأتيت لأرضنا، أفرح لأنك قلت: أَمْضِي إِلَى الآبِ لكي تسترد الكل.
- يسوع، عندما أتأمل بكل ما ستقدمه لي ولأولادك عند صعودك إلى المجد ومن هناك ترسل الروح القدس وتصلي من أجل كنيستك وتعد مكان لنا، أفرح لأنك قلت: أَمْضِي إِلَى الآبِ لأن هذا أيضاً لخيري.
- لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ: نستطيع أن نشعر بلهفة يسوع حينما نطق بهذه الكلمات وترقبه لعودته القريبة إلى الشركة السماوية مع الله الآب.
- لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي: الآب أَعْظَمُ من الابن في المكانة، وخاصة فيما يتعلق بالتجسد. ومع ذلك الآب ليس أعظم من الابن في الكينونة أو الجوهر، لأنهما الله المتساوي في الجوهر.
- من الرائع أن ينطق يسوع بهذه الكلمات. “التأكيد على هذه الكلمات هنا ما هو إلا دليل قوي على ألوهية يسوع.” دودز (Dods)
ج) الآيات (٣٠-٣١): يسوع يقدم نفسه طوعاً وليس كشخص مغلوب على أمره من الشيطان
٣٠لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ. ٣١وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا.
- لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي: عرف يسوع أن الشيطان ابتدأ يعمل ضده الآن. ففي تلك اللحظة رتب يهوذا الاسخريوطي أمر اعتقال يسوع في بستان جثسيماني. والهدوء الذي كان يتمتع به يسوع المحب الذي يبالي بالآخرين في خضم هذه الظروف كان رائعاً للغاية.
- وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ: كان بإمكان يسوع أن يقول بكل ثقة وصدق أنه ليس للشيطان أي دينونة أو لوم ضده. فالشيطان لم يدفع يسوع نحو الصليب، بل ذهب يسوع إلى الصليب طوعاً وبسبب محبته لله الآب وللعالم (وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ).
- “’وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ‘ أي لا توجد نقطة ينتفع منها في هجومه ضد يسوع.” آلفورد (Alford)
- “لم يذهب يسوع إلى الموت نتيجة مكائد إبليس، ’بل ليعرف العالم أني أحب الآب، وكما أوصاني الآب هكذا أفعل.‘” دودز (Dods)
- قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا: في هذه المرحلة، كان يسوع والتلاميذ قد تركوا المائدة وابتدأوا يتوجهون بهدوء نحو بستان جثسيماني. ومن الواضح أنهم لم يتركوا المكان مباشرة (يوحنا ١:١٨)، لكنهم فعلوا ذلك الآن.
- “سيعرف أي شخص يريد تحريك اثني عشر شخصاً أو أن يطلب منهم مغادرة مكان ما في وقت معين أن الأمر سيتطلب أكثر من مجرد تحفيز بسيط.” موريس (Morris)
- “ربما دار الحوار في الأصحاح ١٧ والصلاة بينما كانوا يهمون بالخروج من المكان.” آلفورد (Alford)
- “ليس واضحاً إن قال يسوع الكلمات في الأصحاحات ١٥-١٧ أثناء سيرهم نحو جثسيماني أو بعدما أنهى حديثه مع التلاميذ.” تيني (Tenney)
- من الجدير بالملاحظة، أنهم استعدوا لمغادرة المكان معاً. “قد يفكر أحدهم أنه في ليلة كهذه، ربما سيرغب يسوع بالبقاء وحده. ولكنه لم يفعل ذلك ولم يتركهم وحدهم، فقد أحبهم كثيراً. هم قد يتركونه، وهذا ما فعلوه بالفعل لاحقاً. ولكن من المستحيل أن يتركهم أو يتخلى عنهم.” موريسون (Morrison)