سِفر زكريا – الإصحاح ١
الرؤيَتَان الأُولَيَان
أولًا. المقدمة
أ ) الآية (١): النَّبِي وَزَمَانُه.
١فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ، كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا بْنِ عِدُّو النَّبِيِّ قَائِلاً:
١. فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ: خدم زكريّا الرب بعد عودة البقية من السبي البابلي الذي استمر سبعين عامًا. وقد بدأت خدمته النبوّية في عهد دَارِيُوس، ملك مَادِي وَفَارِس. ولم يُحَدد زمن خدمته بحُكم أيّ ملك على إسرائيل أو يهوذا، إذ لم يكن في تلك المرحلة أيّ ملكٍ يحكم هاتين المملكتين بعد العودة من السبي.
• جاءت نبوّة زكريا بعد شهرين من نبوّة حجّي الأولى (حجّي ١:١)، وقبل مرور شهر على نبوّته الثانية (حجّي ١:٢). وكان ذلك ما بين تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) من عام ٥٢٠ ق.م.
• “كما في رسالة حجّي، اتّسمت رسالة زكريّا بروح التشجيع، غير أنّه كان واعيًا بأنّ بعض العائدين من السبي لم تكن رغباتهم في خدمة الرب نابعة من إخلاص كامل، لذلك حثّهم على التوبة عن خطاياهم والرجوع إلى الله بكل قلوبهم وعقولهم.” بويز (Boice)
• لو كان لدينا سفر حجّي فقط، لربما استنتجنا أن ما يهمّ الله هو بناء الهيكل وحسب. لكن زكريّا أطلعنا على بُعد أوسع للقصة، وأظهر أن اهتمام الله لا يقتصر على المباني، بل يشمل حياة شعبه أيضًا.
• تتميّز نبوّة زكريّا بغناها بالرؤى والصور والرموز، وهي بذلك تُشبه إلى حدّ بعيد سفري الرؤيا ودانيال، اللذين يزخران بدورهما برؤى عظيمة. “قدَّم حجّي فكر الله للشعب بعبارات واضحة ومباشرة وصريحة، أمّا زكريّا فكان يحلّق في أفق أعلى، إذ امتلأت نبوّاته بالرموز والرؤى. ولذلك يُعد بحقّ من أكثر كُتّاب الأسفار المقدّسة عمقًا [وغموضًا]. فنحن ننتقل من نبوّات غامضة إلى ما هو أشدّ غموضًا.” تراب (Trapp)
٢. كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا: لا نعرف سوى القليل عن هذا النبي، مع أن اسم ’زكريّا‘ كان من الأسماء الشائعة في العهد القديم (يُذكر في الكتاب المقدّس أكثر من ٢٧ شخصًا مختلفًا بهذا الاسم). أما ما نملكه من معلومات عن زَكَرِيَّا هذا، فقد ورد في سفر عزرا ٥ و٦.
• فَتَنَبَّأَ النَّبِيَّانِ حَجَّيِ النَّبِيُّ وَزَكَرِيَّا بْنُ عِدُّوَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ فِي يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ بِاسْمِ إِلهِ إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ. حِينَئِذٍ قَامَ زَرُبَّابِلُ بْنُ شَأَلْتِئِيلَ وَيَشُوعُ بْنُ يُوصَادَاقَ، وَشَرَعَا بِبُنْيَانِ بَيْتِ اللهِ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ، وَمَعَهُمَا أَنْبِيَاءُ اللهِ يُسَاعِدُونَهُمَا. (عزرا ١:٥-٢)
• وَكَانَ شُيُوخُ الْيَهُودِ يَبْنُونَ وَيَنْجَحُونَ حَسَبَ نُبُوَّةِ حَجَّيِ النَّبِيِّ وَزَكَرِيَّا بْنِ عِدُّو. فَبَنَوْا وَأَكْمَلُوا حَسَبَ أَمْرِ إِلهِ إِسْرَائِيلَ وَأَمْرِ كُورَشَ وَدَارِيُوسَ وَأَرْتَحْشَسْتَا مَلِكِ فَارِسَ. (عزرا ١٤:٦)
• اسم زَكَرِيَّا يعني: الرَّب يَتَذَكَّر، وكان اسمًا ملائمًا لنبيٍّ الاسترداد. فقد دُعي هذا النبي لتشجيع شعب الله وتحفيزهم على إتمام المهمة التي بدأوها، لكن عزيمتهم خارت قبل أن يُكمّلوها. لقد شجّعهم بطريقة غير مباشرة، بتذكيرهم بعناية الله لهم، وإبقاء المسيّا حاضرًا في أذهانهم باستمرار. لقد خدم زكريّا إلى جانب آخرين، أبرزهم حَجِّي وزَرُبَّابِل وعِزرَا. كما أنذر الشعب من عواقب إهمال عمل الله، وأكّد أن الله يريد أن يُتمّم عمله من خلال شعبه.
• أشار يسوع إلى خدمة زكريّا واستشهاده في متى ٢٣: ٣٥ – لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ.
ب) الآيات (٢-٦): الله يُنَاشِد شعبه: «ارْجِعُوا إِلَيَّ».
٢«قَدْ غَضِبَ الرَّبُّ غَضَبًا عَلَى آبَائِكُمْ. ٣فَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. ٤لاَ تَكُونُوا كَآبَائِكُمُ الَّذِينَ نَادَاهُمُ الأَنْبِيَاءُ الأَوَّلُونَ قَائِلِينَ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الشِّرِّيرَةِ وَعَنْ أَعْمَالِكُمُ الشِّرِّيرَةِ. فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. ٥آبَاؤُكُمْ أَيْنَ هُمْ؟ وَالأَنْبِيَاءُ هَلْ أَبَدًا يَحْيَوْنَ؟ ٦وَلكِنْ كَلاَمِي وَفَرَائِضِي الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا عَبِيدِي الأَنْبِيَاءَ، أَفَلَمْ تُدْرِكْ آبَاءَكُمْ؟ فَرَجَعُوا وَقَالُوا: كَمَا قَصَدَ رَبُّ الْجُنُودِ أَنْ يَصْنَعَ بِنَا كَطُرُقِنَا وَكَأَعْمَالِنَا، كَذلِكَ فَعَلَ بِنَا».
١. قَدْ غَضِبَ الرَّبُّ غَضَبًا عَلَى آبَائِكُمْ: استهلّ زكريّا نبوّته بدعوة إلى التوبة، دعوة تسترجع الإرث الروحي الهزيل لإسرائيل ويهوذا. فقد كانت خطايا آبائهم سببًا في سبي الأمة، وحذّر زكريّا الشعب من أن المصير ذاته قد يتكرّر معهم.
• علينا أن نتذكّر أن هؤلاء لم يكونوا “أشرارًا” – بل كانوا من البقية التي عادت من بابل. فمئات الآلاف اقتيدوا إلى السبي البابلي، ولم يرجع منهم سوى نحو خمسين ألفًا. وكان هؤلاء العائدون من الأكثر إخلاصًا للرب وتكريسًا لإعادة بناء أورشليم. ومع ذلك، فحتى هم – بعد نحو ١٨ عامًا من عودتهم إلى أرض الموعد – كانوا لا يزالون بحاجة إلى سماع هذا التحذير من الرَّب والإصغاء إليه.
٢. ارْجِعُوا إِلَيَّ… فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ: أحبطت الشدائد عزيمة شعب الله، وكانوا يتساءلون لماذا يبدو وكأن الرب بعيد عنهم.
• كانت الأرض لا تزال خَرِبة بعد سبعين عامًا من الإهمال.
• كان العمل في إعادة البناء والترميم شاقًّا.
• لم يكن لديهم مال وفير (حجّي ١: ٦)، ولا عدد كافٍ من العمّال.
• كانوا يعانون من فشل المحاصيل والجفاف (حجّي ١: ١٠-١١).
• كان الأعداء المعادون يقاومون العمل (عزرا ٤: ١-٥).
• كانوا يتذكرون أيام الراحة في بابل.
كان كل واحد من هذه الظروف يجعلهم يشعرون بأن الله بعيد عنهم، لكن من خلال زكريّا، أكّد الله لهم أنه لم يكن بعيدًا عنهم. وإن هم رَجَعُوا إليه، فإنّه سيَرجِع إليهم.
ارْجِعُوا إِلَيَّ: كثيرًا ما نتمنّى لو أن الله يُجبرنا على الرجوع إليه، بدلًا من أن يجتذبنا بلطف لنعود باختيارنا. لكن الله يريد محبّتنا الطوعية، لذلك يحثّنا أن نختاره ونَرْجِعْ إليه.
تُذكّرنا كلمات زكريّا بما جاء في يعقوب ٤: ٨ «اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ.» فالله يَعِد بأن يُسْرِع للقائنا حين نرجع إليه. كما تُذكّرنا أيضًا بأن ابتعادنا عن الله لا يعني أنه هو من ابتعد عنّا، بل نحن الذين ابتعدنا عنه. كان زوجان مُسنّان يقودان سيارتهما ذات المقعد الأمامي الطويل. وأثناء القيادة، لاحظت الزوجة أن كثيرًا من الزوجات يجلسن ملتصقات بأزواجهن في السيارات الأخرى. فسألَت زوجها: “لماذا لم نَعُد نجلس متقاربَين كما في السابق؟” فأجابها ببساطة: “لست أنا الذي تحركت.” وهكذا نحن، إن شعرنا بالبعد عن الله، فاعلم أن الله لم يتحرّك بعيدًا عنّا.
٣. وَلكِنْ كَلاَمِي وَفَرَائِضِي الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا عَبِيدِي الأَنْبِيَاءَ، أَفَلَمْ تُدْرِكْ آبَاءَكُمْ؟: لقد بقيت وعود الله قائمة، وتجاوزت في ثباتها كلّ الأنبياء والأسلاف الذين سبقوا. لم يَقتصر تشجيع زكريّا للشعب على إعادة بناء الهيكل (كما كان تركيز النبي المعاصر له حجّي)، بل أن يعيدوا أيضًا بناء علاقتهم بالرَّب، ويتعلّموا من دروس آبائهم.
ثانيًا. رُؤيَا الخيول الأربعة بين شَجَر الآسِ
أ ) الآيات (٧-١٠): رُؤيَا زكريّا عن الخيول الأربعة وفُرسَانِها.
٧فِي الْيَوْمِ الرَّابعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَادِي عَشَرَ، هُوَ شَهْرُ شَبَاطَ. فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ، كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا بْنِ عِدُّو النَّبِيِّ قَائِلاً: ٨رَأَيْتُ فِي اللَّيْلِ وَإِذَا بِرَجُل رَاكِبٍ عَلَى فَرَسٍ أَحْمَرَ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ الآسِ الَّذِي فِي الظِّلِّ، وَخَلْفَهُ خَيْلٌ حُمْرٌ وَشُقْرٌ وَشُهْبٌ. ٩فَقُلْتُ: «يَا سَيِّدِي، مَا هؤُلاَءِ؟» فَقَالَ لِي الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي: «أَنَا أُرِيكَ مَا هؤُلاَءِ». ١٠فَأَجَابَ الرَّجُلُ الْوَاقِفُ بَيْنَ الآسِ وَقَالَ: «هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ الرَّبُّ لِلْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ».
١. وَإِذَا بِرَجُلٍ رَاكِبٍ عَلَى فَرَسٍ أَحْمَرَ: كان ما رآه زكريّا واضحًا وبسيطًا – رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى خَيْلٍ، يتقدم خيولًا أُخْرَى وفُرْسَانَهَا، يَقُومُونَ بِالْجَوَلَانِ فِي الأَرْضِ. وقد رآهم زكريّا بَيْنَ الآسِ الَّذِي فِي الظِّلِّ (أي في منخفض أو وادٍ).
• كانت هذه المهمّة الاستطلاعية تفحص تحديدًا مدى التقدّم في إعادة بناء أورشليم ومدن يهوذا الأخرى. وكان هدفها تقييم ما أنجزه شعب الله من عمل.
• “كانت فرقة الفرسان رُسلًا من عند الرَّب، أُرسلت في مهمّة تشمل الأرض كلّها. وكما كان مُلُوك فَارِس يُرسلون رُسُلًا يمتطون جيادًا سريعة ليظلّوا على اطّلاع دائم بكلّ ما يخصّ إمبراطوريتهم، هكذا كان الرَّب على دراية تامّة بكل ما يجري في بلاد الأرض.” بولدوين (Baldwin)
• “كما أن الشيطان يَجُول في الأرض لِيَصنَع الشّر (أيوب ١: ٧؛ ٢: ٢؛ ١ بطرس ٥: ٨)، كذلك لِلرَّب وكلاؤه الذين يجولون في الأرض ليتفحّصوا أحوال البشر.” لوك (Luck)
٢. حُمْرٌ وَشُقْرٌ وَشُهْبٌ: اختلف مفسّرو الكتاب المقدّس حول معنى هذه الألوان. ولا يبدو من المناسب ربطها بالفرسان الأربعة المذكورين في رؤيا يوحنا ٦:١-٨، لأن هؤلاء الفرسان هنا يبدون كمراقبين وليسوا رُسُلًا لتنفيذ الدينونة كما في سفر الرؤيا ٦. ويقترح بعضهم أن اختلاف الألوان يُشير إلى مهام ملائكية متنوّعة.
• اللون الأَشْقَر هو مزيج بين الأصفر القاتم والبرتقالي المائل إلى البُنّي، وقد يكون مُبقّعًا.
• “ربما تُشير هذه الألوان إلى رُتَب مختلفة من الملائكة في الجُند السماوي، الذين يستخدمهم المسيح للدفاع عن كنيسته وحمايتها. وقد تدلّ الألوان المختلفة على تدرجات في مراتب القوّة، والسُّلْطان، والتميُّز بين الكائنات الملائكية التي تعمل بين المسيح والبشر.” كلارك (Clarke)
٣. وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ الآسِ: شجرةُ الآسِ هي نوع مِن نبات الْغَار، دائمة الخُضرة، وربما كانت رمزًا لشعب إسرائيل. أمّا هذا الرَجُل، فهو مَلاَك الرَّب (زكريا ١: ١١) وهو بلا شكّ ظهور للمسيح في العهد القديم، قَبلَ تجسّده في بَيت لَحم.
• يقدّم العهد القديم أمثلة عديدة عن لقاءات مع رجل سماوي يُعرف بـ “مَلاك الرَّب،” ويتّضح في هذه المواضع أنَّه الله نفسه (تكوين ١٦:٧-١٣؛ تكوين ٢٢:١١-١٨؛ خروج ٣:٢-٩؛ قضاة ٢:١-٤؛ وأماكن أخرى كثيرة). وحسب زكريّا ١: ١١، نعلم أن هذا الرَجُل هو مَلاك الرَّبّ، وأنه هو الله.
• يمكننا أن نفترض أن هذا كان الله في شخص يسوع المسيح، الذي تراءى لإبراهيم قبل تجسّده وميلاده في بيت لحم. ذلك لأنّه قيل عن الله الآب: «اللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨)، وأيضًا: «لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ» (١ تيموثاوس ٦: ١٦). وبالتالي، إن ظهر الله لأحدٍ في هيئة إنسان في العهد القديم، وبما أن أحدًا لم يرَ الله الآب، فمن المنطقي أن يكون هذا الظهور هو للاِبْنِ الأَزَلِيّ، الأَقْنُومِ الثَّانِي في الثَّالُوث، قبل تجسّده في بيت لحم.
• بَيْنَ الآسِ: “لم يُشبَّه إسرائيل بأرز لبنان المَهيب، ولا بشجرة البلوط القويّة، بل بشجرة الآس، التي تُطلق عبيرًا طيّبًا من أزهارها حين تُسحَق. وهكذا يرمز الآس إلى النعمة العجيبة التي تظهر في إسرائيل وسط الضيق.” بويز (Boice)
ب) الآيات (١١-١٧): مَلاك الرَّب يتشفّع لأجل أورشليم ويهوذا.
١١فَأَجَابُوا مَلاَكَ الرَّبِّ الْوَاقِفِ بَيْنَ الآسِ وَقَالُوا: «قَدْ جُلْنَا فِي الأَرْضِ وَإِذَا الأَرْضُ كُلُّهَا مُسْتَرِيحَةٌ وَسَاكِنَةٌ». ١٢فَأَجَابَ مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَالَ: «يَا رَبَّ الْجُنُودِ، إِلَى مَتَى أَنْتَ لاَ تَرْحَمُ أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا الَّتِي غَضِبْتَ عَلَيْهَا هذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً؟» ١٣فَأَجَابَ الرَّبُّ الْمَلاَكَ الَّذِي كَلَّمَنِي بِكَلاَمٍ طَيِّبٍ وَكَلاَمِ تَعْزِيَةٍ. ١٤فَقَالَ لِي الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي: «نَادِ قَائِلاً: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: غِرْتُ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَعَلَى صِهْيَوْنَ غَيْرَةً عَظِيمَةً. ١٥وَأَنَا مُغْضِبٌ بِغَضَبٍ عَظِيمٍ عَلَى الأُمَمِ الْمُطْمَئِنِّينَ. لأَنِّي غَضِبْتُ قَلِيلاً وَهُمْ أَعَانُوا الشَّرَّ. ١٦لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِالْمَرَاحِمِ فَبَيْتِي يُبْنَى فِيهَا، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، وَيُمَدُّ الْمِطْمَارُ عَلَى أُورُشَلِيمَ. ١٧نَادِ أَيْضًا وَقُلْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنَّ مُدُنِي تَفِيضُ بَعْدُ خَيْرًا، وَالرَّبُّ يُعَزِّي صِهْيَوْنَ بَعْدُ، وَيَخْتَارُ بَعْدُ أُورُشَلِيمَ».
١. وَإِذَا الأَرْضُ كُلُّهَا مُسْتَرِيحَةٌ وَسَاكِنَةٌ: لقد وَجَدَت دوريّة الجولان في الأرض أن العالم ينعم بحالة من السلام، لكنه لم يكن سلامًا صحيحًا (وَأَنَا مُغْضِبٌ بِغَضَبٍ عَظِيمٍ عَلَى الأُمَمِ الْمُطْمَئِنِّينَ). فقد كان الله غاضبًا على أمم العالم لأنهم كانوا مُطْمَئِنِّين بينما كان شعبه يتألّم. وبحسب فكر الله، إنْ كانت الأرض مُسْتَرِيحَةٌ وَسَاكِنَةٌ على حساب شعبه، فلا تُعتبر تلك راحة حقيقية على الإطلاق.
• وَهُمْ أَعَانُوا الشَّرَّ: قدّمت أُمم الأرض بعض المساعدة للعائدين من السبي، لكن حتى هذه المساعدة كانت ملوّثة بدوافع شريرة.
٢. غِرْتُ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَعَلَى صِهْيَوْنَ غَيْرَةً عَظِيمَةً: عبّر مَلاَك الرَّبّ عن قلبه الممتلئ رأفة تجاه إسرائيل وأورشليم. ومع أن الله رحم شعبه وسمح بعودتهم بعد سبعين عامًا من السبي، إلا أن آثار السبي كانت لا تزال واضحة ومؤلمة.
• الكلمة العبرية القديمة المُترجَمة ’غِرْتُ‘ تنبع من فكرة احمرار الوجه الشديد، كعلامة على انفعالٍ عاطفيّ شديد. فالله يهتم حقًا وبعمق بحال شعبه.
٣. إِنَّ مُدُنِي تَفِيضُ بَعْدُ خَيْرًا: قطع الله وعدًا عظيمًا بأن يُعيد بناء أورشليم وسائر مدن يهوذا. وكان هذا الوعد مريحًا للغاية، خاصةً في ظلّ الحالة المتواضعة التي كانت عليها مدن أرض الموعد في أيام زكريّا.
• بعد نحو أربع سنوات من وقت هذه النبوّة، تعزّت صهيون، وصارت أورشليم موضع اختيار خاص. وقد أُعيد بناء الهيكل بعد أربع سنوات من إعلان زكريّا لهذه النبوّة.
ثالثًا. رُؤيَا القُرُون الأَربَعة وَالصُّنَّاعِ الأَربَعة
أ ) الآيات (١٨-١٩): القُرُون الأَربَعة تُمثّل الأمم التي بدّدت شعب الله.
١٨فَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِأَرْبَعَةِ قُرُونٍ. ١٩فَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي: «مَا هذِهِ؟» فَقَالَ لِي: «هذِهِ هِيَ الْقُرُونُ الَّتِي بَدَّدَتْ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلَ وَأُورُشَلِيمَ».
١. وَإِذَا بِأَرْبَعَةِ قُرُونٍ: في زمن الكتاب المقدس، كانت القُرُون ترمز إلى القوّة والسّلطان، لأنّ قوّة الثور (أو البقر) يتم التعبير عنها بقُرُونِهِ.
• “القُرُون، التي تُعدّ مفخرة الثور الفتيّ، كانت رمزًا واضحًا للقوّة التي لا تُقهَر. وكغنائم الصيد، كانت تمثّل انتصار القوّة.” بولدوين (Baldwin)
٢. هذِهِ هِيَ الْقُرُونُ الَّتِي بَدَّدَتْ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلَ وَأُورُشَلِيمَ: وبما أن زكريّا أخبرنا أن هناك أَرْبَعَةَ قُرُونٍ، فإننا نتساءل: ما هي الأُمَمِ الأَرْبَعِ التي قصدها؟ إنْ كان يتحدّث عن التبديد بمعناه النبويّ الواسع – بما في ذلك التشتّت الذي أصاب شعب الله في أيّامه – فمن المرجّح أن تكون هذه القُرُونُ الأَرْبَعَةُ هي: بَابِل، مَادِي، فَارِس، اليُونَان، وَرُومَا.
ب) الآيات (٢٠-٢١): الله يعلن دينونة على الأمم التي بَدَّدَت شعبه.
٢٠فَأَرَانِي الرَّبُّ أَرْبَعَةَ صُنَّاعٍ. ٢١فَقُلْتُ: «جَاءَ هؤُلاَءِ، مَاذَا يَفْعَلُونَ؟» فَأَجَابَ: «هذِهِ هِيَ الْقُرُونُ الَّتِي بَدَّدَتْ يَهُوذَا حَتَّى لَمْ يَرْفَعْ إِنْسَانٌ رَأْسَهُ. وَقَدْ جَاءَ هؤُلاَءِ لِيُرْعِبُوهُمْ وَلِيَطْرُدُوا قُرُونَ الأُمَمِ الرَّافِعِينَ قَرْنًا عَلَى أَرْضِ يَهُوذَا لِتَبْدِيدِهَا».
١. وَقَدْ جَاءَ هؤُلاَءِ (الصُّنَّاعِ) لِيُرْعِبُوهُمْ: أقام الله أممًا أخرى لتدين الشعوب التي بدّدت شعبه. فقد وعد منذ القديم أن يلعن كلّ من يلعن إسرائيل (تكوين ١٢: ٣).
• “ثم يُقيم الله الرجال المناسبين – ليس أربعة نبلاء بأقلام للكتابة، ولا أربعة معماريين للتخطيط، بل أربعة صنّاعٍ يباشرون العمل الصعب. فمن أراد أن يفتح محّارة، لا يستخدم شفرة حلاقة؛ فبعض الأعمال لا تُنجز بالرقة، بل بالقوّة. العناية الإلهية لا تبحث عن نبلاء لقطع القرون، بل عن نجّارين. إنّه عملٌ يحتاج إلى رجلٍ يُلقي بكامل قوّته فيه، ويضرب بمطرقته بلا هوادة، أو ينشر الخشب أمامه بكل عزيمة وبأس. فاطمئنّوا، يا من ترتجفون على تابوت الله، حين تُصبح القرون مزعجة، يكون النجّارون قد أُعدّوا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. وَلِيَطْرُدُوا قُرُونَ الأُمَمِ الرَّافِعِينَ قَرْنًا عَلَى أَرْضِ يَهُوذَا: وَعَدَ الله أن يُحطّم قوّة الذين استخدموا سلطتهم ضدّ شعبه. ويُلخص مثلٌ قديم هذه الحقيقة بدقة: “كنيسةُ الله هي السِّندانُ الذي أَبلَى مَطارِقَ كثيرة.”