إنجيل لوقا – الإصحاح ٧
المرضى يشفون والموتى يقومون والخطاة يُبشرون
أولاً. شفاء عَبْد لِقَائِدِ مِئَةٍ
أ ) الآيات (١-٥): طلب قائد المئة
١وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ ٱلشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. ٢وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى ٱلْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزًا عِنْدَهُ. ٣فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ ٱلْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. ٤فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِٱجْتِهَادٍ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا، ٥لِأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا ٱلْمَجْمَعَ».
- دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ: بعد الموعظة على السهل (<لوقا ٢٠:٦-٤٩)، جاء يسوع إلى مكان سكنه (متى ١٣:٤، وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ). ويعني هذا أن عظته على السهل لم تكن في مكان بعيد عن كَفْرَنَاحُومَ.
- وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى ٱلْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزًا عِنْدَهُ: يبدو أن قائد المئة هذا كان شخصاً تقياً ولطيفاً ومتواضعاً – ومع هذا، كان قائد مئة – ليس أممياً فحسب، ولكن جندياً رومانياً، وأداة من أدوات القمع ضد شعب إسرائيل.
- كان لدى قائد المئة موقفاً غير عادي تجاه عبده. فبموجب القانون الروماني كان يحق للسيد أن يقتل عبده إن أصبح مريضاً أو جرح لدرجة تجعله غير قادر على العمل، وكان من المتوقع أن يفعل قائد المئة ذلك.
- أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ ٱلْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ: يبدو أن قائد المئة لم يعتقد أنه جديرٌ بلقاءٍ شخصي مع يسوع، وربما ظن أن يسوع لا يريد أن يلتقي مع أممي مثله، لهذا أرسل شيوخ اليهود كممثلين عنه.
- إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا: تجاوب شيوخ اليهود مع طلب قائد المئة لأنه مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا. في المقابل، يمكننا المجيء إلى يسوع مباشرة دون أي ممثلين حتى وإن كنا غير جديرين؛ فهو ٱلَّذِي يُبَرِّرُ ٱلْفَاجِرَ (رومية ٥:٤).
- كتب بايت (Pate): “هذه الاعتبارات تشير إلى أن قائد المئة كان يخاف الله؛ أممي آمن بإله إسرائيل ولكن دون أن يجتاز عملية الخِتان.”
ب) الآيات (٦-٨): طلب قائد المئة أن لا يأتي يسوع إليه، لأنه عَلِمَّ أن وجود يسوع غير ضروري ليشفي عبده
٦فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ ٱلْبَيْتِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ ٱلْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، لَا تَتْعَبْ. لِأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي. ٧لِذَلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلًا أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلَامِي. ٨لِأَنِّي أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهَذَا: ٱذْهَبْ! فَيَذْهَبُ، وَلِآخَرَ: ٱئْتِ! فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: ٱفْعَلْ هَذَا! فَيَفْعَلُ».
- فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ: لم يتردد يسوع للحظة في الذهاب إلى منزل قائد المئة، ونتمنى نوعاً ما لو أن قائد المئة سمح له بالذهاب. فهل كان يسوع سيدخل بيت شخص أممي؟ فقد كان هذا مُخالفاً للتقاليد اليهودية، ولكنه لم يكن مخالفاً لقانون الله.
- يستشهد بايت (Pate) بكتابات يهودية معروفة باسم ابولوت (m. Obolot 18:7) ويقول: “بيوت الأمميين كانت غير طاهرة.”
- يَا سَيِّدُ، لَا تَتْعَبْ. لِأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي: عرف قائد المئة أنه ربما سيثير المشاكل إن دخل معلم يهودي بارز بيته، فالتقى بيسوع في الطريق ليخبره بأنه لا داعي لقطع كل تلك المسافة إلى بيته.
- يبدو أن قائد المئة كان شخصاً رائعاً. حتى أن الشيوخ قالوا إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ؛ أما هو فقال أنا لَسْتُ مُسْتَحِقًّا. أثنوا عليه لبناء مكان للعبادة؛ أما هو فشعر أنه غير مستحق أن يدخل يسوع تحت سقفه. وقالوا انه كان أهلاً؛ أما هو فلم يحسب نفسه أهلاً. تناغمٍ تام بين الإيمان القوي والتواضع العظيم.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “امتزجت سمتان رائعتين فيه بكل انسجامٍ ورقي، وهذا أمر فريد للغاية. فقد فاز بإحترام وتقدير الآخرين له، أما هو فلم يفكر الكثير عن نفسه.”
- وأضاف سبيرجن: “إيمانك لن يقتل تواضعك، وتواضعك لن يطعن في إيمانك؛ ولكنهما سيسيران جنباً إلى جنب إلى السماء مثل الأخ الشجاع والأخت العادلة، الواحد جرئ كالأسد والثاني وديع كالحمامة، الواحد يبتهج في يسوع والثاني يحمر وجهه خجلاً من نفسه.”
- لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلَامِي: فهم قائد المئة قوة يسوع الشافية ولم يعتقد أنها خدعة سحرية تتطلب وجود الساحر في المكان. بل عرف تماماً سلطان يسوع، وأنه قادر على تحقيق ما يريد حتى وإن كان غير موجود في المكان.
- آمن قائد المئة بأن كلمة من فم يسوع كانت قادرة على الشفاء تماماً كاللمسة.
- لِأَنِّي أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي: كان قائد المئة على دراية تامة بالتسلسل الإداري العسكري، وكيف تُطاع أوامر من هم في السلطة دون أي نقاش. ورأى أن يسوع كان يملك السلطان.
- كتب جيلدنهيز (Geldenhuys): “وكما كان قائد المئة يملك السلطان ويُطاع، توقع أن كلام يسوع له سلطان أيضاً حتى وإن لم يكن حاضراً حيث المريض كان.”
ج ) الآيات (٩-١٠): يسوع يشفي العبد ويتعجب من إيمان قائد المئة
٩وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هَذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْجَمْعِ ٱلَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ: «أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلَا فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا بِمِقْدَارِ هَذَا!». ١٠وَرَجَعَ ٱلْمُرْسَلُونَ إِلَى ٱلْبَيْتِ، فَوَجَدُوا ٱلْعَبْدَ ٱلْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ.
- تَعَجَّبَ مِنْهُ: إدراك قائد المئة وفهمه لسلطان يسوع الروحي، جعل يسوع يتعجب. إيمانه البسيط في قدرة يسوع على الشفاء بمجرد كلمة، أظهر إيمان خالٍ من الخزعبلات التي تعتمد على الأشياء الخارجية فقط. كان هذا إيمان عظيم، يستحق المديح.
- لم يتعَجَّب يسوع إلا في مناسبات قليلة. فعل ذلك هنا، وتعجب من إيمان قائد المئة، ومن عدم إيمان أهل مدينته (مرقس ٦:٦). يمكن ليسوع أن يتعجب من إيماننا أو من عدم إيماننا.
- لَمْ أَجِدْ وَلَا فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا بِمِقْدَارِ هَذَا!: اعتبر يسوع إيمان قائد المئة الأممي هذا – وهو الرمز الحي للاضطهاد اليهودي – أنه أعظم من أي إيمان رآه بين شعب إسرائيل.
- لم تكن هناك دولة اسمها إسرائيل، ككيان سياسي حينها؛ فقد كان هناك مجرد شعب ينحدر من نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب. مع ذلك، دعاهم يسوع إسرائيل.
- فَوَجَدُوا ٱلْعَبْدَ ٱلْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ: حقق يسوع طلب قائد المئة غير الأناني، وفي نفس الوقت، أثبت أنه يملك حقاً السلطان الذي آمن به قائد المئة.
ثانياً. يسوع يقيم صبي من الموت
أ ) الآيات (١١-١٣): يسوع يتقابل مع موكب الجنازة
١١وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. ١٢فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ، ٱبْنٌ وَحِيدٌ لِأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. ١٣فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: «لَا تَبْكِي».
- وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ: واصلت شهرة وشعبية يسوع في الإزدياد. وتبع يسوع كثيرون من تلاميذه، الذين كانوا أكثر بكثير من مجرد التلاميذ ٱلِٱثْنَي عَشَر.
- كتب بايت (Pate): “تقع بلدة نَايِينَ اليوم في سهل يزرعيل، وتبعد ستة أميال جنوب غرب الناصرة.”
- إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ: أي جنازة تعتبر مأساة، ولكن هذه كانت خسارة فادحة. فقد كان الميت ٱبْنٌ وَحِيدٌ لِأُمِّهِ، وكانت الأم أَرْمَلَة. فقدان ابن وحيد كان يعني مستقبل بائس للأرملة.
- وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ: كتب جيلدنهيز (Geldenhuys): “ربما تألف موكب الجنازة من المشيعين المؤجرين والموسيقيين بآلات الصنج والمزمار.”
- لَا تَبْكِي: يخبرنا لوقا هنا بالتحديد عن تعاطف يسوع مع الأرملة: فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا. فَهِمَ الوضع على الفور، وتحنن عليها وأعطاها الأمل على الرغم من الوضع المأساوي.
- فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ: علّقَ بايت (Pate): “يستخدم لوقا كلمة “الرب” (kyrios) هنا بمعناها المطلق، والذي يؤكد على ألوهية يسوع.”
- يسبب الموت الروحي حزناً عميقاً للأصدقاء المقربين.
- لا يوجد سوى معزي واحد لهذا النوع من الحزن، وهو الوحيد القادر على تقديم التعزية الحقيقية.
ب) الآيات (١٤-١٧): إقامة يسوع للشاب الميت
١٤ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ: قُمْ!». ١٥فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. ١٦فَأَخَذَ ٱلْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا ٱللهَ قَائِلِينَ: «قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللهُ شَعْبَهُ». ١٧وَخَرَجَ هَذَا ٱلْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ.
- ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ: يقدم لوقا صورة حية عن النَّعْشَ. نظر يسوع إلى الشاب وتكلم مع الشخص الميت وكأنه حي.
- أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ: قُمْ!: تحدث يسوع مع الموتى وكأنهم أحياء. تقول الآية في رومية ١٧:٤ أن الله وحده قادر على فعل ذلك؛ وَيَدْعُو الأموات وكأنهم أحياء. ٱلَّذِي يُحْيِي ٱلْمَوْتَى، وَيَدْعُو ٱلْأَشْيَاءَ غَيْرَ ٱلْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ.
- فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ: في أكثر من مناسبة أوقف يسوع مواكب الجنازات بإقامته للميت. هذا ما حدث مع ابنة يايرس في (لوقا ٤١:٨-٥٦)، ولعازر في (يوحنا ١:١١-٤٥). فلم يحب يسوع الموت أبداً، وكان يعتبره العدو الذي يجب أن يقهر.
- لم يقم هذا الشاب من الأموات فحسب، بل انتعش؛ قام من بين الأموات ليموت ثانية. ولكن الله وعدنا بالقيامة، وبعدم الموت مرة أخرى.
- كتب بايت (Pate): “يتبادر إلى الذهن هنا حكاية شهيرة من حياة مودي الواعظ الشهير. طُلب من السيد مودي أن يُقيم مراسم جنازة لأحدهم، فقرر أن يدرس الأناجيل ليجد عظة ألقاها يسوع في أي جنازة. ولكن محاولاته بائت بالفشل، لأن كل جنازة حضرها يسوع انتهت بإقامة الميت!”
ثالثاً. يسوع ويوحنا المعمدان
أ ) الآيات (١٨-١٩): يوحنا المعمدان يسأل يسوع
١٨فَذَهَبَ تَلامِيذُ يُوحَنّا المَعْمَدانِ وَأخبَرُوهُ بِكُلِّ هَذِهِ الأشياءِ. فَدَعا يُوحَنّا اثْنَينِ مِنْ تَلامِيذِهِ،١٩وَأرسَلَهُما إلَى الرَّبِّ لِيَسألاهُ: «هَلْ أنتَ الَّذي نَنْتَظِرُهُ، أمْ يَنبَغي أنْ نَنتَظِرَ آخَرَ؟»
- تَلامِيذُ يُوحَنّا المَعْمَدانِ: كان ليوحنا المعمدان تلاميذ، وأصبح بعضهم تلاميذاً ليسوع (مثل أَنْدَرَاوُسُ، يوحنا ٣٥:١-٤٠). وبدا الأمر لافتاً للنظر عندما بدأ عدد تلاميذ يسوع يفوق عدد تلاميذ يوحنا المعمدان (يوحنا ١:٤).
- هَلْ أنتَ الَّذي نَنْتَظِرُهُ، أمْ يَنبَغي أنْ نَنتَظِرَ آخَرَ؟: تشير الآيات في يوحنا ٢٩:١-٣٦ ومقاطع أخرى قبل هذا، بأن يوحنا عرف تماماً أن يسوع هو المسيا. ويبدو أن يوحنا قد أساء فهم خدمة المسيا أيضاً، وهذا ما يفسر الشك. وربما اعتقد أنه إن كان يسوع هو المسيا حقاً، فحتماً سيحرر إسرائيل سياسياً – أو على الأقل يخرجه من السجن.
- ومن الممكن أن يوحنا قد أخطأ في التمييز بين “الَّذي نَنْتَظِرُهُ” وبين المسيا. فهناك ما يدل على أن بعض اليهود في ذلك الوقت كانوا يميزون بين النبي الذي وعد به موسى (سفر التثنية ١٥:١٨) وبين المسيا. ولكن الملاحظة الواضحة هنا هي الإرتباك؛ فربما بسبب محاكمة يوحنا الطويلة، أختلط عليه الأمر.
- يُعلّق جيلدنهيز (Geldenhuys): “كان يوحنا لا يزال في السجن، وأصبحت الأمور غير مفهومة بالنسبة له. فقد توقع أن يبادر المسيح في الحال بتدمير قوى الظلام وبإدانة الظالمين. ولكنه بدلاً من ذلك، ترك الذي أعد له الطريق يقبع في السجن بائساً.”
ب) الآيات (٢٠-٢٣): إجابة يسوع عن تساؤل تلاميذ يوحنا المعمدان: أخبرا يوحنا أن النبوة بشأن المسيا قد تحققت
٢٠فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلَانِ قَالَا: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلًا: أَنْتَ هُوَ ٱلْآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟». ٢١وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. ٢٢فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُماَ: «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. ٢٣وَطُوبَى لِمَنْ لَا يَعْثُرُ فِيَّ».
- وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ: أظهرت هذه الأمور القوة الحقيقية للمسيا؛ ولكنه كان يشفي بطرق شخصية وبسيطة للغاية.
- هذه المعجزات تحقق الوعود الموجودة في سفر إشعياء:
- اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ (إشعياء ٥:٣٥)
- ٱلْعُرْجُ يَمْشُونَ (إشعياء ٦:٣٥)
- ٱلصُّمُّ يَسْمَعُونَ (إشعياء ٥:٣٥)
- ٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ (إشعياء ١٩:٢٦)
- ٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ (١:٦١)
- هذه المعجزات تحقق الوعود الموجودة في سفر إشعياء:
- ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: أراد يسوع أن يؤكد ليوحنا وتلاميذه أنه هو المسيا. ولكنه ذكرهم أيضاً بأن قوته ستتمثل في الغالب بخدمته المتواضعة، وبتلبية احتياجات الناس البسيطة، وليس بتحرير سياسي عظيم.
- يمكننا أن نُعيد صياغة سؤال يوحنا كالتالي: “يا يسوع، لماذا لا تفعل المزيد؟” يجيب مورغان (Morgan) عن هذا السؤال: “وكأن يسوع يقدم نفس الإجابة لكل من نفذ صبره. فالله يعمل من خلال المثابرة في عمل الأشياء البسيطة والصغيرة دون كلل. ويبين تاريخ الكنيسة أن هذا كان من أصعب الدروس التي يتعلمها المؤمن.”
- طُوبَى لِمَنْ لَا يَعْثُرُ فِيَّ: عرف يسوع أن خدمته في التعليم والشفاء كانت عثرة للشعب اليهودي، الذي كان يتوق لخلاص وتحرير سياسي من الهيمنة الرومانية. أما بالنسبة لمن لم يَعْثُرُ فيه، كانت خدمته بركة فقد عمل بعكس ما توقعه الشعب.
- ويُعلّق موريس (Morris): “الفعل “يَعْثُرُ” يحمل صورة جميلة جداً. ففكرة الفعل مُستمدة من اصطياد الطيور، وكيف يتم إنزال عصا الطُعم لتفعيل الفخ. يا لها من صورة نابضة بالحياة للإشارة إلى ما يثير المشاكل ويفتح الفخ.”
- علّقَ بايت (Pate): “من الجدير بالملاحظة أنه تم استخدام نفس الفعل للإشارة إلى ردة فعل يوحنا المعمدان وإسرائيل بشأن خدمة يسوع – ويأتي الفعل باللغة الأصلية بمعنى الإهانة/الِاستياء (skandalisthe)؛ راجع لوقا ٢٣:٧ مع رومية ٩:١١، ٣٣:٩. فقد شعر شعب إسرائيل بالإهانة جراء خدمة يسوع، لهذا علينا أن نأخذ كلامه في لوقا ٢٣:٧ على محمل الجد، وأنه من الممكن أن يشعر جمهوره بالإهانة بسبب خدمته غير التقليدية، بما في ذلك يوحنا المعمدان.”
- قال ماير (Meyer): “استخدم صديقٌ لي هذه الكلمات وأضاف طوبى جديدة: طوبى للذي لا يستاء.”
ج ) الآيات (٢٤-٢٨): تعليم يسوع عن يوحنا المعمدان
٢٤فَلَمَّا مَضَى رَسُولَا يُوحَنَّا، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ ٢٥بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لَابِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ فِي ٱللِّبَاسِ ٱلْفَاخِرِ وَٱلتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ ٱلْمُلُوكِ. ٢٦بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! ٢٧هَذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلَاكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! ٢٨لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلَكِنَّ ٱلْأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ».
- مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟: أوضح يسوع أن يوحنا كان رجل الله العظيم، وأنه عاش لا ليحظى بحياة مريحة أو لطلب موافقة الآخرين. فقد كان يوحنا نبياً مُعين ومختار من قبل الله، ولم يسعى لإرضاء الناس.
- هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلَاكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ!: يقتبس يسوع هذه الآية من ملاخي ١:٣ والتي تتنبأ عن مجيء يوحنا المعمدان. كان الأنبياء في تلك الفترة لا يتنبأون، ولكن يوحنا تنبأ، لهذا كان هو أعظم من كل الأنبياء الذين جاؤوا قبله.
- كان يوحنا المعمدان ثابتاً، ولم يهتز بسهولة مثل القصبة.
- كان يوحنا رصيناً، ولهذا عاش حياة منضبطة، بعيداً عن مباهج هذا العالم وراحته.
- كان يوحنا خادماً ونبياً لله.
- كان يوحنا مُرسلاً خاصاً من الله.
- كان يوحنا مميزاً، ويمكننا القول أنه أعظم نبي في ظل العهد القديم.
- ونستطيع أن نقول أن يوحنا كان الأصغر في الملكوت في ظل العهد الجديد.
- إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ: ومع ذلك، كان يوحنا أعظم من كل الأنبياء، وذلك لأنه كان له شرف أن يُعلن ويقول: “هوذا المسيا” بدلاً من “عندما يأتي المسيا.”
- وَلَكِنَّ ٱلْأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ: ومع ذلك، كان يوحنا أعظم من كل الأنبياء، وذلك لأنه كان له شرف أن يُعلن ويقول: “هوذا المسيا” بدلاً من “عندما يأتي المسيا.”
- علّقَ سبيرجن (Spurgeon): “يمكننا القول، كقاعدة عامة، أن أحلك نهار يشع أكثر من ألمع ليلة؛ فعلى الرغم من أن يوحنا كان بداية العهد الجديد، إلا أنه كان آخر من دخله. فالأصغر في الملكوت يقف على أرض أعلى من الأعظم تحت الناموس.”
- ويُعلق تراب (Trapp): “هذه الآية لا تشكل عزاءً لخدام الإنجيل المحتقرين من العالم. فهم أشخاص مهمين للغاية في السماء، على الرغم مما يقوله البشر عنهم.”
د ) الآيات (٢٩-٣٠): ردود الأفعال على تعليم يسوع
٢٩وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. ٣٠وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ.
- وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا: من اعتمد معمودية التوبة من يوحنا المعمدان إستعداداً لمجيء المسيا، كان من السهل عليه أن يقبل تعاليم يسوع.
- وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ: لم يستفيد القادة اليهود من التوبة التي عرضها يوحنا المعمدان في المعمودية. فقد كانت قلوبهم قاسية نحو يوحنا المعمدان، لذلك لم يكن رفضهم ليسوع غريباً.
هـ ) الآيات (٣١-٣٥): يعاتب يسوع أولئك الذين رفضوا يوحنا وخدمته.
٣١ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ: «فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هَذَا ٱلْجِيلِ؟ وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ ٣٢يُشْبِهُونَ أَوْلَادًا جَالِسِينَ فِي ٱلسُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. ٣٣لِأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا وَلَا يَشْرَبُ خَمْرًا، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. ٣٤جَاءَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. ٣٥وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا».
- فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هَذَا ٱلْجِيلِ؟: علّقَ يسوع على طبيعة هَذَا ٱلْجِيلِ، وكيف أنهم كانوا إنتقائيين ومترددين في قبولهم لرسالة الله ولرُسله.
- زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا: الفكرة هنا أن من يملك قلب منتقد حتماً سيجد شيئاً ينتقده. فكثيرون لن يعجبوا بيوحنا المعمدان أو بيسوع.
- ويُعلّق كلارك (Clarke): “من المحتمل أن الرب كان يشير هنا إلى لعبة كان يلعبهم الأطفال اليهود ذلك الوقت، ولكن لا يوجد أي ذكر لهذه اللعبة في أي سجل تاريخي حتى الآن.”
- هذه النقطة واضحة جداً. كتب ماكلارين (Maclaren): “إذا كانت الرسالة غير مرحب بها، فمهما فعل الرسول أو قال، فلن يكون مناسباً.”
- بِهِ شَيْطَانٌ: نظر القادة الدينيين إلى حياة التقشف التي كان يعيشها يوحنا المعمدان وخلِصوا إلى أنه كان مجنوناً وبه شيطان.
- هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ. اللقب مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ كان على النقيض تماماً من خدمة يوحنا المعمدان. ولم يوافق الكثيرون على أن يوحنا المعمدان كان “مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ.”
- كتب بروس (Bruce): “كان هذا لقبٌ سيءٌ للغاية في السابق، أما الآن فيُعتبر شرف عظيم أن يطلق عليك لقب مُحبٌ للخاطئ.”
- لم يكن هذا تقرير يسوع عن نفسه؛ بل أخبرنا بتقرير القادة الدينيين عنه – وكان الجزء الأكبر من كلامهم خطأ. فلم يكن صحيحاً أن يوحنا المعمدان بِهِ شَيْطَانٌ، وأن يسوع كان أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، وأنه كان مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ – حسب مفهومهم وقصدهم الخاص على الأقل. ولكننا نستطيع أن نقول أن آخر إتهام ضد يسوع كان صحيحاً ويحمل معنى عظيم ورائع.
- كان يسوع “مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ” لا تعني أنه كان يشبههم، أو أنه كان يساعدهم على إرتكاب الخطية. فهذا ما قصده القادة اليهود، وكان إتهامهم له باطلاً.
- كان “مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ” بمعنى أنه أحبهم ولم يحتقرهم أو يصّدهم. كان يريد مساعدتهم حقاً، وأراد تخليصهم من ذنب وعار وسلطة وعقاب الخطية.
- وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا: يُثبت الرجل الحكيم حكمته من خلال تصرفاته الحكيمة (بَنِيهَا أي أولادها). ويتكلم يسوع هنا عن الحكمة في قبول دعوة كلٍ من يسوع ويوحنا المعمدان.
- علّقَ كلارك (Clarke): “يشير المصطلح العبري (ٱلْحِكْمَةُ … بَنِيهَا – أبناء الحكمة) على الأغلب إلى منتجات أو ثمار الحكمة.”
- انتقد الناس يوحنا المعمدان، ولكن انظروا لما حققه – فقد قاد الآلاف من الناس إلى التوبة، ممهداً الطريق أمام المسيا. كما وانتقد الناس يسوع، ولكن انظروا لما حققه – عَلَمَ وعَمِلَ وأَحبَّ ومات بطريقة ليس لها مثيل.
رابعاً. يسوع يغفر لامرأة كانت خاطئة
أ ) الآيات (٣٦-٣٨): امرأة خاطئة تدهن قدمي يسوع
٣٦وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. ٣٧وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ، ٣٨وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ.
- وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ: هذا يُظهر أن العلاقات بين يسوع والقادة اليهود لم تكن معادية تماماً بعد. فقد كان هناك بعض من ٱلْفَرِّيسِيِّينَ الذين أرادوا على الأقل أن يتعرفوا على يسوع بصورة أفضل.
- وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً: يفترض البعض أن يسوع يتكلم هنا عن مريم المجدلية، ولكن ليس لدينا أي دليل على ذلك. في يوحنا ٣:١٢ نجد أن مريم، التي من بيت عنيا، مسحت قدمي يسوع بالزيت، ولكن هذه كانت حادثة منفصلة.
- كتب سبيرجن (Spurgeon): “لا تتعجب أنه كان هناك شخصين أظهرا تلك العاطفة الشديدة؛ بل تعجب أنه لم يكن هناك مائتي شخص يدهنون قدمي صديقهم الكريم يسوع… فعلى الرغم من أنه كان يستحق تعبيراً كهذا مقابل محبته، إلا أنه نادراً ما قدم له مثل هذه اللفتات السخية المليئة بالمحبة الإنسانية.”
- كَانَتْ خَاطِئَةً: تشير هذه الآية إلى أنها لم تكن خاطئة كباقي الناس. بل اشتهرت بأنها خَاطِئَةً ويفترض المعظم أنها كانت بائعة هوى. أظهر وجودها في منزل الفريسي شجاعة وتصميم كبيرين.
- وصفها تراب (Trapp): “بالزانية والآثمة والوقحة.”
- يا لها من مبادرة جريئة أن تدخل امرأة ذات سمعة سيئة إلى بيت الفريسي، ولكنها كانت على استعداد لفعل أي شيء للتعبير عن حبها ليسوع.
- جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ: يبدو أن ما بداخل القارورة كان ثميناً جداً ومع ذلك جاءت وقدمته تكريماً ليسوع. ويبدو أن يسوع قد أعلن لها سابقاً أن خطاياها قد غفرت (لوقا ٤٨:٧-٥٠)، ولكنه سيعلن هذا الغفران الآن أمام الجميع.
- ويُعلّق موريس (Morris) على قَارُورَةِ الطِيبٍ: “لم يكن للقارورة مقابض ولكن عنق طويل. وكانت تُكسر عند الحاجد لسكب الطيب. ونستنتج أن هذا العطر كان غالي الثمن. واعتادت المرأة اليهودية أن تضع قارورة عطرها في حبل يتدلى من عنقها، وكانت القارورة جزءً لا يتجزأ منها حتى أنه كان يُسمح لها بإرتداءها يوم السبت.”
- وعلّقَ سبيرجن (Spurgeon): “كانت خدمتها ليسوع شخصية للغاية. فعلت ذلك بنفسها، وقدمت الكل له. هل لاحظت عدد المرات التي يظهر فيها الضمير في النص؟ [هي: ثلاث مرات؛ ولها: مرتين في لوقا ٣٧:٧-٣٨] … خدمت المسيح وليس سواه. لم تكن خدمتها لبطرس ولا ليعقوب ولا ليوحنا ولا حتى للفقراء والمرضى في المدينة، ولكن للسيد فقط؛ فعندما تكون محبتنا مكرسة بالكامل له، ستكون خدمتنا أيضاً بالكامل له – سنرنم له ونصلي له ونُعلم له ونعظ له ونعيش له.”
- وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ: يمكننا أن نتخيل العواطف الجياشة التي غمرتها وهي تمسح قدمي يسوع بالزيت. فقد بللت قدميه بالدموع التي أنهمرت، ثم مسحتهم بشعرها، وقبلتهم مراراً وتكراراً.
- ويُعلّق موريس (Morris): “جرت العادة في الولائم أن يتمدد الضيف على الأرض سانداً على ذراعه الأيسر، رأسه نحو الطاولة وجسمه بعيداً عنها. وكانت تزال الأحذية قبل الإتكاء.”
- وجرت العادة أن يسكب الزيت على الرأس. كتب بايت (Pate): “ربما أرادت المرأة أن تمسح بعطرها رأس يسوع. ولكن يسوع، حاله كحال كل المدعويين، كان يتكئ ورأسه نحو الطاولة، فكانت قدميه أقرب إليها من رأسه.”
- علّقَ سبيرجن (Spurgeon): “يا ليتنا نملك مثل هذه المحبة …! إن كانت أمامي طلبة واحدة هذا الصباح، فإنني سأصلي طالباً أن يشعل الرب قلوبنا في حب يسوع، وأن تكون عواطفنا متأججة بالكامل نحوه.”
- ويُعلّق بروس (Bruce): “عدم وجود غطاء على رأسها يعني أنها كانت إمرأة غير محتشمة … ولكنها لم تهتم، بل قبلت قدميه بحرارة، مراراً وتكراراً.” وبإمكاننا أن نتخيل كم كان المشهد محرجاً، وكيف راقب الجميع بصمت ما فعلته هذه المرأة بدموعها كتعبير عن عاطفتها. لم يفتح أحد فمه إلى أن كسر يسوع الصمت بالآيات التالية.
ب) الآيات (٣٩-٤٠): الاعتراض على ما فعلته المرأة
٣٩فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذَلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قَائِلًا: «لَوْ كَانَ هَذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هَذِهِ ٱلِٱمْرَأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ». ٤٠فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «يَا سِمْعَانُ، عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ». فَقَالَ: «قُلْ، يَا مُعَلِّمُ».
- فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذَلِكَ: أصبح المُضيف الآن هو السائل، وربما كان عدائياً.
- لَوْ كَانَ هَذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هَذِهِ ٱلِٱمْرَأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ: شك سمعان الفريسي بأن يكون يسوع نبياً لأنه أعتقد أنه غير قادر على رؤية قلب هذه المرأة. ولكن سيُظهر يسوع قدرته على قراءة قلب الإنسان من خلال فضح ما في قلب سمعان نفسه.
- يَا سِمْعَانُ، عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ: كسر يسوع الصمت – وعلى الأغلب كان صمتاً غريباً للغاية – قائلاً أن لديه ما يقوله لسمعان شخصياً.
- كتب موريسون (Morrison): “عندما يصمت الفلاسفة، ويكونون غير قادرين على تقديم كلمة للتعزية أو للمساعدة؛ وعندما يفقد التعليم رسالته على إحداث التغيير ومواساة القلب؛ وعندما يتردد التعاطف في كسر جدار الصمت … حينها يتكلم الله.”
ج ) الآيات (٤١-٤٣): يجيب يسوع بمثل
٤١«كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُمِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلْآخَرِ خَمْسُونَ. ٤٢وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعًا. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟». ٤٣فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ: «أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلْأَكْثَرِ». فَقَالَ لَهُ: «بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ».
- كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ: استخدم يسوع مثل بسيط ليوضح أنه كلما غُفر لك أكثر، ينبغي أن تحب أكثر.
- علّقَ تراب (Trapp): “قصد يسوع من هذا المثل أن يقول للفريسي المتغطرس والمغرور أنه خاطئ كتلك المرأة تماماً، وكونه مدينٌ لله، فهو يحتاج إلى نعمة المسيح لينال المغفرة عن خطاياه ولإزالة غضب الله.”
- ويُعلّق سبيرجن (Spurgeon): “الكل مدينٌ لله؛ ولكن البعض أكثر من غيره.”
- أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟: يبدو أن سمعان تردد في الإجابة (أَظُنُّ…). على الأرجح فَهِمَ سمعان قصد يسوع من وراء المثل.
د ) الآيات (٤٤-٤٧): طَبَقَ يسوع المثل على كلٍ من سمعان والمرأة الخاطئة
٤٤ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: «أَتَنْظُرُ هَذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لِأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. ٤٥قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. ٤٦بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ. ٤٧مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ، لِأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلًا».
- أَتَنْظُرُ هَذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟: أعتقد الفريسي أن يسوع لم يرى حقيقة هذه المرأة. وقال في نفسه: “ألا ترى يا يسوع ماذا تفعل هذه النجسة؟” فأجابه يسوع: هل ترى حقيقة هَذِهِ ٱلْمَرْأَةَ يا سمعان، وهل ترى حبها وتوبتها وتكريسها؟ لأن هذا ما أراه بالضبط.”
- لم يرى الفريسي المرأة على حقيقتها (تائبة منكسرة تطلب المغفرة، وتسكب حبها على يسوع) بل رآها كالخاطئة التي يعرفها الجميع.
- كتب مورغان (Morgan): “ليس من السهل علينا أن نعفو عن الماضي وأن نحرر أنفسنا من كل تحيز ناتج عن معرفتنا بذلك الماضي. ولكن هذا ما يفعله الله معنا بالضبط. ويفعل ذلك بكل بر وصلاح. فقوة نعمته تمحو الماضي تماماً، وتُعطي جمالاً في الروح.”
- إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لِأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ: لم يقدم سمعان الفريسي ليسوع أي من المجاملات التي كان متعارفاً عليها عندما يزور أحدهم منزل صديقه – مثل غسل القدمين والقبلة عند التحية ومسح الرأس بالزيت. ومع ذلك، انتقد المرأة لأنها قدمت كل هذا ليسوع.
- لاحظ يسوع إهمال سمعان وقدّر تفاني المرأة. ولم يرفض التكريس الحقيقي من القلب.
- أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ، لِأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا: لم تنال مغفرة الخطايا بسبب حبها الشديد؛ بل كان حبها هو الدليل على أن خطاياها قد غُفرت. وربما حصلت المغفرة في مناسبة سابقة على انفراد وأما الآن فقد أعلن غفرانها للجميع.
هـ ) الآيات (٤٨-٥٠): يؤكد يسوع للمرأة أن خطاياها قد غفرت
٤٨ثُمَّ قَالَ لَهَا: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». ٤٩فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: «مَنْ هَذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا؟». ٥٠فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلَامٍ».
- مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ: سبق وقد أعلن يسوع أن خطاياها قد غُفرت (لوقا ٤٧:٧)، ومع ذلك يكرر الجملة لها مرة أخرى. فجميعنا يحتاج إلى قوة الشفاء الكامنة في الكلمات مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ.
- ربما من الصعب علينا أحياناً أن نصدق حقاً أن خطايانا قد غُفرت، ونحتاج لمن يقنعنا بهذه الحقيقة.
- مَنْ هَذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا؟: يملك يسوع السلطان لمغفرة خطايا المرأة، وكان محقاً بذلك. فقد أظهرت تواضع وتوبة وثقة ومحبة ليسوع.
- كتب بايت (Pate): “حتى الضيوف بدأوا يدركون أن يسوع كان أكثر من مجرد نبي؛ وأنه الإله القادر على غفران خطايا امرأة خاطئة.”
- إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ: كان مفتاح الغفران هو الإيمان – إيمانها قد خلصها وجعلها تؤمن بكلمات يسوع لها: مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ. مكّنها الإيمان من قبول نعمة الله المقدمة لها.
- فالله على إستعداد كامل لغفران الخطايا، ولا يتردد أو يعجز أبداً. ولكن علينا أن نأتي إلى يسوع بكل تواضع ومحبة وخضوع، لكي ننال المغفرة التي يقدمها عندما نؤمن.
- اِذْهَبِي بِسَلَامٍ: جاءت المرأة إلى يسوع بكل تواضع، وشعرت أنها غير مستحقة للتواجد في محضره. كانت طريقتها في الإقتراب إلى يسوع جيدة، ولكنه لا يريدها أن تبقى هناك. فأقامها وقدر محبتها وغفر خطاياها وأرسلها بسلام.
- لم ترحب المرأة على الأغلب بكلمة “اِذْهَبِي،” فقد أحبت الجلوس عند قدمي يسوع. ولكنه لَطَفَّ الكلمة “اِذْهَبِي” بإضافة كلمة “بِسَلَامٍ.” لهذا كان بإمكانها الذهاب بسلام لأنها سمعت من يسوع: إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ.
- بالمقارنة مع كل الأعمال التي قام بها يسوع، كانت تلك أعظمها. فشفاء المرض (كما هو الحال مع عبد قائد المئة) أو الإقامة من الأموات (كما هو الحال مع ابن الأرملة) كان مؤقت وليس دائم. لأن هذه الأجساد ستموت يوماً مرة أخرى. أما مغفرة الخطايا فستدوم إلى الأبد.