تفسير رسالة كورنثوس الثانية – الإصحاح ١
إله كل تعزية
أولاً. ضيقة بولس في أسيّا
أ ) الآيات (١-٢): المقدمة.
١بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَتِيمُوثَاوُسُ الأَخُ، إِلَى كَنِيسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ الْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ الَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ: ٢نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.
- بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: إن تقديم بولس لنفسِه بصفتِه رسولًا أمرٌ مألوفٌ وضروريٌّ في الوقت نفسه، لأنه لم يكنْ هنالك تقدير كبير له بين المؤمنين بالمسيحِ في كورنثوسَ. فكانَ عليهم أن يتذكّروا مؤهلاتِه الرسوليةَ ويقرّوا بها.
- بِمَشِيئَةِ اللهِ: تقوّي شبه الجملةِ الفكرةَ التي أراد بولسُ توضيحَها. فلم يكنْ بولس رسولًا بقرارٍ من أحدٍ أو بناءً على رغبةٍ من أيِّ بشرٍ، بمن فيهم هو نفسُه. إذ كانَ بولسُ رسولًا بِمَشِيئَةِ اللهِ. وحتى إذا لم يكنِ المؤمنون بالمسيحِ في كورنثوسَ يحملون له اعتبارًا كبيرًا، إلا أنّ هذا لم يقللْ من مركزِه بصفتِه رسولًا أمامَ الله.
- مَعَ الْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ: إنه لأمر جدير بالملاحظة أن بولسَ يدعو المؤمنين بالمسيحِ في كورنثوسَ ’قدّيسين‘ من دونِ أيِّ تقييدٍ، واضعين في اعتبارنا المشكلاتِ الكثيرةَ التي كانوا يعانون منها. وغالبًا ما يُستخدمُ تعبير ’قدّيسين‘ اليوم بطريقة مختلفة، حيث نطبّقُهُ على الأشخاصِ المتميزين روحياً بدلًا من الإشارةِ إلى الذين فُرزوا للهِ بفضلِ علاقتهم بيسوع المسيح.
- الَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ: تبيّنُ هذه العبارة أن بولس قصَد أن تشارك هذه الرسائل بين الكنائس. فلم يكنْ يُقصد بها أن تكون مقصورة على المؤمنين في مدينة كورنثوس، بل لكلِّ المؤمنين في المنطقة.
- نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ: هذه تحية مألوفة في رسائل بولس (استخدمَها في رسائلِه الثلاث عشر في العهد الجديد)، لكن لا يتولّدُ لدينا أيُّ انطباعٍ أنها لم تكن صادقة.
- مِنَ اللهِ أَبِينَا: يذكّرنا هذا أننا أبناء الله، لكن ليس بنفس المعنى الدقيق الذي يوصفُ يسوع بأنه ابنُ اللهِ. فنحن أبناءٌ للهِ، لا بالطبيعةِ، بل بالاختيارِ؛ لا بالأنسابِ، بل بالتبنّي، لا بالحقِّ بل بالفداءِ.
ب) الآيات (٣-٤): تسبيحٌ لإلهِ كلِّ تعزيةٍ
٣مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، ٤الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ.
- أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ: يفتتح بولس رسالتَهُ بتسبيح الله الذي يعطي رأفةً (رحمةً) وتعزيةً كثيرةً للرسولِ وكلِّ المؤمنين. ويتملكنا شعورٌ بأن بولس يعرفُ إلهَ الرأفةِ والتعزيةِ بشكلٍ مباشرٍ.
- تأتي الكلمتان ’كُلِّ تَعْزِيَةٍ‘ من الكلمةِ اليونانيةِ القديمةِ براكليسيس (paraklesis). والفكرةُ من وراء هذه الكلمة المترجمة إلى تَعْزِيَةٍ في العهد الجديد هي دائمًا أكثرُ بكثيرٍ من مجرد التعاطف. فهي تحملُ فكرة التشديد والتقوية والعون. والفكرة أيضًا من وراء الكلمةُ اللاتينيةُ فورتيس (fortis) المترجمةُ إلى تَعْزِيَةٍ هي: ’شجاع.‘
- “نجدُ هنا رجلًا لم يكن يعرف إلا أنه قد يكون ميّتًا في اليوم التالي، لأن أعداءَه كثيرون وقساة وجبابرة. ومع هذا، كان يمضي وقتًا كبيرًا جدًّا من حياتِه وهو يسبّح الله ويباركه.” سبيرجن (Spurgeon)
- إِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ: يعلن بولس أن الآب هو معزّينا، باراكليت (paraklesis). ونحن نعرف أيضًا أن الروح القدس هو معزّينا (باراكليت) (يوحنا ١٦:١٤؛ ٢٦:١٤؛ ٢٦:١٥؛ ٧:١٦) وأن الله الابن هو معزّينا (يوحنا الأولى ١:٢، عبرانيين ١٨:٢، لوقا ٢٥:٢). والله، في كلِّ جانبٍ من جوانبِ كينونتِه، ممتلئٌ بالتعزيةِ والقوةِ والعونِ من أجلِنا.
- الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا: يكمن أحد مقاصد الله العظيمة في تعزيتِنا في تمكينِنا من جلبِ التعزيةِ إلى آخرين. ويمكن لتعزية الله أن تُعطى وتُستقبَل من خلالِ آخرين.
- نحن في الغالب لا نحصل أبدًا على التعزية التي يريد الله أن يعطينا إيّاها من خلال شخصٍ آخر. فكبرياء النفس تمنعُنا من كشف احتياجاتنا للآخرين، ولهذا لا نتقبّلُ التعزيةَ التي يودُّ الله أن يعطينا إيّاها من خلالِهم.
- “حتى التعزيات الروحية لا تعطى لنا لفائدتِنا نحن فقط. فهي، شأنها شأن هبات الله كلّها، تُعطى لكي توزَّع أو لتصبح أدوات عونٍ لآخرين. إذْ يسمح الله بمحن الخادم ويرسل تعزياتٍ له لمنفعة الكنيسة كلِّها. ويا له مِن واعظٍ تعيسٍ ذاك الذي اكتسب تحصيله العلمي في كلية اللاهوت، من دون أي اختبار شخصي!” كلارك (Clarke)
- “نهضَ السيد نوكس (Knox) قبل وقتٍ قليلٍ من موته من فراشه. ولأنه كان مريضًا، سألوه ما الذي دفعه إلى النهوض. فأجاب أنه قد تلقّى تأملاتٍ عذبةً حول قيامة يسوع المسيح في تلك الليلة، وهو الآن يريد أن يعتلي المنبر لينقل للآخرين التعزيات التي أحسَّ بها في روحِه.” تراب (Trapp)
ج ) الآيات (٥-٧): معاناةُ (آلام) بولسَ وتعزيتُه
٥لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا. ٦فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، الْعَامِلِ فِي احْتِمَالِ نَفْسِ الآلاَمِ الَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضًا. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ. ٧فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي الآلاَمِ، كَذلِكَ فِي التَّعْزِيَةِ أَيْضًا.
- تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا: عاش بولس حياة ممتلئة بالمعاناة والآلام. وقد وصف بعضًا من هذه الآلام في كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٢٨: أتعاب… ضربات… سجون… جلدات… انكسار السفينة بي… أخطار من المياه… لصوص… أخطار من جنسي… أخطار من الألمِ… أخطار في المدينةِ… أخطار في البريةِ… أخطار في البحرِ… أخطار من إخوةٍ كذَبةٍ، في تعبٍ وكدٍّ، في أسهارٍ (أرق)، في جوعٍ وعطشٍ، وفي أصوامٍ، في بردٍ وعُريٍ. غير أن بولس عرفَ أن كلَّ هذه المعاناة كانت في واقع الأمرِ آلاَمُ الْمَسِيحِ.
- كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا: كانت آلامُ بولسَ آلاَمُ الْمَسِيح، ولهذا لم يكنْ يسوع بعيدًا عن بولسِ في مِحَنِه، بل كان متعاطفًا معه ومعزّيًا إياه.
- “كلما ازداد النهارُ حرارة، ازدادَ الندى ليلًا. وكلما ازداد وقتُ الضيق حرارة، ازداد الندى القادمُ من الله.” تراب (Trapp)
- يمكنُنا أن نضمنَ ذلك: كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا… تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا. فيسوعُ معنا ليجلبَ التعزيةَ إن كنا مستعدين أن نستقبلَها. وبطبيعة الحال، فإن هذا يفترض أن لا أحد يتألم: “كَقَاتِل، أَوْ سَارِق، أَوْ فَاعِلِ شَرّ، أَوْ مُتَدَاخِل فِي أُمُورِ غَيْرِهِ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ، فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ اللهَ مِنْ هذَا الْقَبِيلِ.” (بطرس الأولى ١٥:٤-١٦)
- “لا يتحدث الرسول هنا عن الآلامِ كآلامٍ. فالألمِ لا ينتج عنه القداسة. لكنه يتحدث عن الألم المسيحيّ وعن آلام المؤمنين، أي الألمِ الذي يحتمله المؤمن من أجلِ المسيحِ. وهو يقولُ إن هذا مرتبطٌ بالخلاصِ إلى أن ينتج في الذين يتألمون ثِقلَ مجدٍ أبدياً.” هودج (Hodge)
- كَذلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا: قد يسمح الله بمواقف أو أوضاع في حياتنا حيث لا توجد تعزيةٍ إلاّ بِالْمَسِيح. ونعتقدُ في بعض الأحيان أن التعزية الوحيدة تكمن في تغيير الظروف، لكن الله يريدُ أن يعزينا وسط ظروفِنا الصعبة، وهو يفعلُ ذلك بِالْمَسِيح.
- هذه هي نفس الفكرة التي عبّرَ عنها يسوع في يوحنا ٣٣:١٦ «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ».
- لقد تألم يسوع أيضًا، ولهذا فإنه مؤهّلٌ تمامًا لأن يعزينا في أوقاتِ شدّتِنا. (عبرانيين ١٨:٢)
- فإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ: فإذا تضايقَ (أو أُصيبَ بمحنةٍ) بولسُ وخدامٌ آخرون، فإن هذا لأجلِ شعبِ اللهِ (مثل المؤمنين بالمسيحِ في كورنثوسَ). فكان لدى الله قصدٌ أوسعُ في آلامِ بولس من مجرد تنمية حياته الروحية. فقد جلبَ الله التعزية والخلاص لآخرين من خلال آلامِ بولس.
- كيف يمكن للهِ أن يجلب تعزيةً وخلاصًا إلى آخرين من خلالِ آلامِ بولس؟ عندما قَرَّبَت الآلامُ بولس إلى الله وصار يعتمد عليه وحدَه أكثر فأكثر، أصبح أكثر فاعليةً كخادم. وصار أكثرَ قابليةً للاستخدام في يد الله لجلب التعزية والخلاص إلى شعب الله.
- كلما صلّينا: “يا ربُّ، استخدمْني، فأنا أريدُك أن تستخدمني في لمس حياة الآخرين،” فإننا لا ندركُ أننا نصلي صلاةً خطرةً. فمن خلال هذه الصلاة الرائعة ندعو الله إلى أن يجلب الآلامَ إلى حياتنا إن كانت هي الأداة الملائمة لنجلب التعزية والخلاص إلى حياة الآخرين.
- الْعَامِلِ فِي احْتِمَالِ نَفْسِ الآلاَمِ الَّتِي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضًا: كانت التعزية والخلاص اللذان تلقّاهما المؤمنون بالمسيِح في كورنثوس نتيجة آلام بولس، تعملُ في أهل كورنثوس، ممكِّنًا إياهم من احتمال نَفْسِ الآلاَمِ التي احتملَها بولس والرسل الآخرون.
- إنه لأمرٌ ذو دِلالةٍ أن بولس يتحدث عن نَفْسِ الآلاَمِ. فمن غير المحتمل أن المؤمنين في كورنثوس كانوا يتألمون تمامًا بنفس الطريقة التي كان يتألمُ بولس بها. وعلى الأرجح أنه ما من أحد منهم استطاع أن يضاهي قائمة المعاناة التي خاضها بولس حسب كورنثوس الثانية ٢٣:١١-٢٨. ومع ذلك كان بمقدور بولس أن يقول إنها نَفْسِ الآلاَمِ، لأنه يدرك أن الأهمية تكمن ليس في تشابه ظروف الألم بل بأهمية ما يفعله ويريد الله أن يفعله من خلال الآلام. فلا ينبغي أبدًا للمؤمنين أن يخوضوا في “منافسة” في مقارنةٍ الآلام. إذ يوجد هنالك شعورٌ بأننا جميعًا نشترك في نَفْسِ الآلاَمِ.
- وبطبيعة الحال، فإن من المفيد في بعض الأحيان أن نقارن آلامنا مع آلام الآخرين – لكي نرى حقيقة خِفّةِ عِبئِنا! فإنه يسْهلُ علينا أن نعتقد أن مشكلاتنا الصغيرة هي في الواقعِ أكبرُ بكثيرٍ مما هي حقًا!
- إن تصوُّرَ العهد الجديد للألم واسعٌ، وليس من السهلِ أن نحدَّهُ في نوع واحد فقط من الضيقات أو الشدائد (مثل الاضطهاد). فالكلمة اليونانية (thlipsis) المترجمةُ إلى ألمٍ حَملتْ في الأصل فكرة الضغط الجسميِّ الفعليِّ (الوجع). وفي إنجلترا قديمًا، كانت توضع أوزانٌ ثقيلةٌ على بعض المجرمين المُدانين إلى أن يُضغَطوا حتى الموتِ. فكلمة (thlipsis) تصف هذا النوعَ من “الضغط.”
- الْعَامِلِ فِي احْتِمَالِ: يرغب الله أن نحتملَ بصبرٍ طيلة مدة هذه الآلام. والكلمة اليونانية المترجمة إلى احْتِمَال هي (hupomone) وهي لا تفيد فكرة القبول الكئيبِ السلبيِّ. ولكنها تحملُ نفسَ الروح التي تستطيع أن تنتصر على الوجع والألم لتحقيق الهدف. إنها روحُ العَدّاءِ في سباقِ الماراثون، لا روحُ الضحية الجالسة في كرسيِّ طبيب الأسنان.
- أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ: لم يعمل الله من خلال الآلام التي احتملها بولس فقط. بل عمل أيضًا أعمالًا رائعة في الآخرين من خلالِ التعزية التي تلقّاها بولس من الرب.
- نرى بولس يحيا ماشيًا في خطى يسوع. فقد كان بالفعل شخصًا تتمركز حياته حول الآخرين. فلم تكن حياة بولس تتمحور حول نفسِه، بل على الرب وعلى الأشخاص الذين أعطاهم الربُّ إيّاه ليخدمَهم. فهل يتألمُ بولسُ؟ نعم، لكي يفعل الله شيئًا رائعًا في حياة المؤمنين في كورنثوس. وهل يتعزى بولس؟ نعم، لكي يبارك المؤمنين في كورنثوس. فسواءٌ أكان بولس يتألم أم يتعزى، فإن الأمر ليس متعلقًا به، بل بالآخرين.
- “نحن لا نصل إلى نقطة استسلامٍ حقيقيٍّ ما لم تطرحنا إلى الأرض يدُ الله الساحقة.” كالفن (Calvin)
- عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي الآلاَمِ، كَذلِكَ فِي التَّعْزِيَةِ أَيْضًا: تَعِدُ نصوص كثيرة في العهد الجديد بالآلام في الحياة المسيحية (أعمال الرسل ٢٢:١٤؛ تسالونيكي الأولى ٣:٣؛ فيلبي ٢٩:١؛ رومية ٣:٥). غيرَ أن كلمة الله تَعِدُنا أيضًا بالتعزيةِ في وسط الآلام.
د ) الآيات (٨-١١): ضيقةُ بولس الباعثةُ على اليأس
٨فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا. ٩لكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ، لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ، ١٠الَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هذَا، وَهُوَ يُنَجِّي. الَّذِي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ. ١١وَأَنْتُمْ أَيْضًا مُسَاعِدُونَ بِالصَّلاَةِ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يُؤَدَّى شُكْرٌ لأَجْلِنَا مِنْ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ، عَلَى مَا وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ.
- ضِيقَتِنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا: لا نعلمُ على وجه الدقة طبيعة هذه الضيقة، لكن من المرجح أنها كانت نوعًا من الاضطهاد أو محنةً ماديةً تفاقمت بسبب عمل بولس الإرسالي.
- يوجد ما لا يقل عن خمسة اقتراحاتٍ حول هذه الضيقة:
- محاربةُ “وحوش” في أفسس (كورنثوس الأولى ٣٢:١٥)
- تلقِّي ٣٩ جلدةً بعد جرِّه إلى محكمة يهودية (كورنثوس الثانية ٢٤:١١)
- أعمالُ الشغبِ في أفسس (أعمال الرسل ٢٣:١٩-٤١)
- اضطهادٌ ما قبل وقتٍ قصير من مغادرة بولس إلى ترواس (أعمال الرسل ١٩:٢٠ وكورنثوس الأولى ٩:١٦).
- علّةٌ جسميةٌ متكررةٌ.
- يوجد ما لا يقل عن خمسة اقتراحاتٍ حول هذه الضيقة:
- تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا: مهما كانت المشكلة، فقد كانت سيئةً بالفعل. وبسبب هذه المشكلة، عاش بولس بوعيٍ أنه يمكن أن يموت في أية لحظة (كانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ… الَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هذَا).
- بسببِ ذِكرِ تهديدِ الموت، يستنتج بعضهم أن مشكلة بولس كانت الاضطهاد. غير أن فكرة علةٍ جسميةٍ متكررة ليست خيارًا سيئًا. ففي ذلك الوقت، كان يمكن لليهود أن يشيروا إلى المرض على أنه “موتٌ” وإلى الشفاء على أنه “عودةٌ إلى الحياة.” ويشير استخدام الفعل المضارع في كورنثوس الثانية ٤:١-٦ و ٩:١-١٠ إلى أن المشكلة كانت ما زالت قائمة لدى بولس عند كتابته هذه الرسالة. ويجعل هذا الاحتمال أقوى – مع أنه غير مؤكد على الإطلاق – أن ضيقتَه كانت مرضًا عضالًا.
- فِي أَنْفُسِنَا: يخبرُنا شبهُ الجملةِ هنا أن حكم الموت كان شيئًا أحسَّ به بولس في داخله، وليس حكمًا أصدرته محكمةٌ شرعيةٌ عليه من الخارج.
- لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ: رغم أن القيامة حدثٌ مستقبليٌّ، إلا أن هنالك معنى يفيد أن واقع القيامة وقوتَها يلمسان آلامَ المؤمن بالمسيح كلَّ يومٍ. فعندما تعرفُ قوةَ قيامتِه، ستتبارك أيضًا بشركةِ آلامِه (فيلبي ١٠:٣).
- الَّذِي نَجَّانَا… وَهُوَ يُنَجِّي… لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ: عرفَ بولس أن عملَ الله في حياتِنا يحدثُ في ثلاثِ صيغٍ مختلفةٍ من الفعل. فاللهُ يعملُ فينا في الماضي والحاضر والمستقبل.
- وَأَنْتُمْ أَيْضًا مُسَاعِدُونَ بِالصَّلاَةِ لأَجْلِنَا: عرفَ بولس قيمة الصلاةِ التشفّعيةِ ولم يخجل من طلب أهل كورنثوس أن يصلّوا من أجلِه رغم مشكلاتِهم الروحية الكثيرة. فكان المؤمنون في كورنثوس يساعدون بولس عندما كانوا يصلّون من أجله.
- عرف بولس أن قدرًا من البركة في الخدمة وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ: أي من خلال صلوات أشخاصٍ كثيرين. فغالبًا ما نفكر في الأمور العظيمة التي قام بها الله من خلال بولس، ونحن نُعجب به بحقٍ كرجلٍ من رجال الله. لكن هل تفكر في كل الأشخاص الذين صلّوا من أجلِه؟ لقد عزا بولس قدرًا كبيرًا من فاعليته في الخدمة إلى الأشخاص الذين صلّوا من أجله.
- “حتى إن رسولًا أحسَّ بأن صلوات الكنيسة ضروريةٌ لتعزيته ودعمه. يا لهذه البركات التي لا تُحصى التي تمطرُ بها صلوات أتباع الله على من هم موضوعُ الصلاةِ!” كلارك (Clarke)
- بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ: يقول النص اليوناني الأصلي “وجوه كثيرة.” والفكرة هي “أن الوجوه تستديرُ في الصلاةِ، حيث إن المؤمنين الأوائل بالمسيح (واليهود) كانوا يصلّون وهم واقفون وعيونُهم مرفوعةٌ إلى السماءِ وأذرعُهم ممدودةٌ.” برنارد (Bernard)
ثانياً. بولس يدافع عن خدمته
أ ) الآيات (١٢-١٤): افتخار بولس: نزاهته وبساطته في الخدمة بين المؤمنين في كورنثوس
١٢لأَنَّ فَخْرَنَا هُوَ هذَا: شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا أَنَّنَا فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ اللهِ، لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِي نِعْمَةِ اللهِ، تَصَرَّفْنَا فِي الْعَالَمِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ. ١٣فَإِنَّنَا لاَ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقْرَأُونَ أَوْ تَعْرِفُونَ. وَأَنَا أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ إِلَى النِّهَايَةِ أَيْضًا، ١٤كَمَا عَرَفْتُمُونَا أَيْضًا بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ أَنَّنَا فَخْرُكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ أَيْضًا فَخْرُنَا فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ.
- شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا: في هذا القسم، يدافعُ بولس عن نفسِه ضدَّ التهمة الموجهة إليه بأنه متقلب المزاج وغير موثوقٍ به. ويصرحُ هنا ببساطةٍ أن ضميره مرتاحٌ أمام الله وهو يثق بأن المؤمنين في كورنثوس سيفهمون ذلك.
- أَنَّنَا فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ اللهِ، لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِي نِعْمَةِ اللهِ، تَصَرَّفْنَا فِي الْعَالَمِ: اعتاد المؤمنون في كورنثوس التعامل مع خدامٍ مستغلّين متلاعبين إلى درجة أنهم ظنّوا أن بولس واحدٌ منهم. ولهذا، عندما قال بولس إنه سيأتي إليهم ( كورنثوس الأولى ٥:١٦) لكنه لم يفعل ذلك، ظنوا أنه إنما كان يتلاعبُ بهم. فأوضح لهم أن هذا ليس صحيحًا.
- أصبح المؤمنون بالمسيحِ في كورنثوس “متشكّكين.” إذ اعتقدوا أن لدى الجميع دوافع سيئة وأنهم يسعون إلى الربح الشخصي والنفوذ. فلم يثقوا ببولس لأنهم كانوا متشكّكين.
- فَإِنَّنَا لاَ نَكْتُبُ إِلَيْكُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقْرَأُونَ أَوْ تَعْرِفُونَ: أراد بولس أن يعرف المؤمنون في كورنثوس أنه لا يضْمُرُ أيّةَ “معانٍ خفيةٍ” في رسائلِه. فكان المعنى المقصود على ظاهر الصفحات ليراه الجميع.
- دائمًا ما يفكر القلب المتشكك هكذا: “أنت تقولُ ’هذا‘ لكنك تعني في الواقع ’ذلك.‘ أنت لا تقول ’هذا‘ لكنك تعني في الواقع ’ذلك.‘ أنت لا تقول الصدق.” طمأنَ بولس المؤمنين في كورنثوس أنه قال الحقيقة وأنه لم يتواصل بمعانٍ خفيةٍ تهدف إلى التلاعب.
- “لم تكن في حياة بولس أعمال خفية أو دوافع خفية أو معانٍ خفية.” باركلي (Barclay)
ب) الآيات (١٥-١٧): يردُّ بولس هنا على التهمة بأنه غيرُ موثوقٍ به ولا يُعتمد عليه.
١٥وَبِهذِهِ الثِّقَةِ كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، لِتَكُونَ لَكُمْ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ. ١٦وَأَنْ أَمُرَّ بِكُمْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، وَآتِيَ أَيْضًا مِنْ مَكِدُونِيَّةَ إِلَيْكُمْ، وَأُشَيَّعَ مِنْكُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ. ١٧فَإِذْ أَنَا عَازِمٌ عَلَى هذَا، أَلَعَلِّي اسْتَعْمَلْتُ الْخِفَّةَ؟ أَمْ أَعْزِمُ عَلَى مَا أَعْزِمُ بِحَسَبِ الْجَسَدِ، كَيْ يَكُونَ عِنْدِي نَعَمْ نَعَمْ وَلاَ لاَ؟
- كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً: اتهم المؤمنون في كورنثوس بولس بأنه غيرُ جديرٍ بالثقة والاعتماد عليه، لأنه قال إنه سيأتي في وقتٍ معينٍ ولم يفعل. ولأنه لم يتمكن من الذهاب إليهم كما خطّط، أرسل إليهم هذه الرسالة بدلًا من ذلك.
- وعدَ بولس في كورنثوس الأولى ٥:١٦-٧ برؤية الكورنثيين بعد رحلته عبر مكدونية.
- غيَّر بولس خططَه وقرر أن يراهم أولًا في طريقه إلى مكدونية ويراهم ثانيةً في رجوعه من مكدونية ليعطيهم نِعْمَة ثَانِيَة (فَائِدَة مُزدَوَجَة). (كورنثوس الثانية ١٥:١-١٦)
- قام بولس بالزيارة الأولى في طريقه إلى مكدونية، لكنه كان أمرًا مؤلمًا لكلٍّ منه ولأهل كورنثوس، لأنه كانت ممتلئةً بالمواجهاتٍ (وَلكِنِّي جَزَمْتُ بِهذَا فِي نَفْسِي أَنْ لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضًا فِي حُزْنٍ – كورنثوس الثانية ١:٢).
- وبعد وقتٍ من قيام بولس بتلك الزيارة، كان (أو ربما ممثلٌ عنه) يتعرض للإهانة العلنية في كورنثوَس من قِبل شخصٍ ينتمي إلى حزبٍ مناوئٍ لبولس (كورنثوس الثانية ٥:٢-١٠؛ ١٢:٧).
- ولأن الزيارة الأولى لم تكن لطيفةً على الإطلاق، ولأن بولس أحسَّ بأنه لن تكون هنالك فائدة في زيارةٍ ثانيةٍ، تخلّى عن خطته لرؤيتهم في طريق العودة من مكدونية.
- أرسل بولس تيطس من أفسس إلى كورنثوس حاملًا معه “رسالةً قاسيةً” (كورنثوس الثانية ٣:٢-٩). وكان تيطس موجودًا هناك أيضًا لجمع التقدمة للكنيسة في اليهودية، لكن أهل كورنثوس لم يعطوا كما كان ينبغي لهم أن يعطوا.
- ترك بولس أفسس وعانى “ضيقتَه في أسيّا.”
- ثم ذهب بولس إلى مكدونية وقام بأشياء كثيرة من بينها أنه نظّم تقدمةٍ للمحتاجين في اليهودية. وقابل تيطس بولس في مكدونية وأطلعه على استجابة أهل كورنثوس لرسالته القاسية.
- وفي وقتٍ لاحقٍ، كتب بولس رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس من مكدونية عندما سمع بمزيدٍ من المشكلات هناك. ومن المرجح أن هذه الرسالة كُتبت في خريف ٥٦م.
- وَأُشَيَّعَ مِنْكُمْ: يشير هذا إلى عادةٍ قديمةٍ تَعارَفَ الناسُ عليها في تشييع مسافرٍ في طريقه في بداية رحلته. ففي العالم القديم، عندما كان يجيءُ إلى مدينةٍ ضيفٌ مرموقٌ، كان أصحابه وداعموه يقابلونه على مسافةٍ بعيدةٍ عن المدينة ويمشون معه إلى داخل المدينة. وكانوا يشيّعونه بالطريقة نفسها (عند الوداع) – حيث كانوا يمشون معه مسافةً ما خارج المدينة.
- فَإِذْ أَنَا عَازِمٌ عَلَى هذَا، أَلَعَلِّي اسْتَعْمَلْتُ الْخِفَّةَ؟: اتهم المؤمنون في كورنثوس بولس بتقلُّبِ الرأيِ، وأصروا قائلين إنه لو كان شخصًا مستقيمًا لما دخل السجن. لقد دفع تغييرُ بولس لخططِه في السفر المؤمنين في كورنثوس إلى القول إنه لا بدّ رجلٌ يقولُ نَعَمْ لكنه يعني لاَ، ويقولُ لاَ لكن يعني نَعَمْ.
- انتُقِدَ بولس بأنه رجل لا يستطيع الثبات على خطةٍ أو لا يستطيع أن يتمم خطةً. وقد انتهز أعداء بولس بين المؤمنين في كورنثوس هذه الظروف لتشويه صورتِه.
- كان أمرًا لا بأس به أن يحسَّ المؤمنون في كورنثوس بخيبة الأمل عندما لم يأتِ بولس. ولكنهم كانوا على خطأٍ في محاولة لومه على خيبة الأمل تلك. بل كان عليهم بالأحرى رؤية قلب بولس ويدِ الله تعمل في الظروف.
ج ) الآية (١٨): بولس ينكر التهمة الموجهة إليه.
١٨لكِنْ أَمِينٌ هُوَ اللهُ إِنَّ كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ.
- لكِنْ أَمِينٌ هُوَ اللهُ: وكأنه يقول: “كما أن اللهَ أمينٌ، كذلك كنا أمناء في ما قلناه لكم.” كان بولس رجلًا نزيهًا حتى إنه قارن صِدقَه بأمانة الله.
- “كما أن الله وفيٌّ لوعوده، فقد علّمنا أن نكون أوفياء لوعودِنا.” بووله (Poole)
- إِنَّ كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ: لم يقل بولس نَعَمْ ليعني لاَ أو لاَ ليعني نَعَمْ، كما اتهمه المؤمنون في كورنثوس.
د ) الآيات (١٩-٢٢): عرفَ بولس أن اتهاماتِهم خطأٌ بناءً على أسبابٍ روحيةٍ.
١٩لأَنَّ ابْنَ اللهِ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، الَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ بِوَاسِطَتِنَا، أَنَا وَسِلْوَانُسَ وَتِيمُوثَاوُسَ، لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ، بَلْ قَدْ كَانَ فِيهِ نَعَمْ. ٢٠لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ «النَّعَمْ» وَفِيهِ «الآمِينُ»، لِمَجْدِ اللهِ، بِوَاسِطَتِنَا. ٢١وَلكِنَّ الَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي الْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ اللهُ ٢٢الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضًا، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا.
- يَسُوعَ الْمَسِيحَ، الَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ بِوَاسِطَتِنَا… لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ: كرزَ بولس بيسوع الجدير بالثقة ويمكن الاعتماد عليه تمامًا. فلم يكن أمرًا صوابًا أن يُعَدَّ رسول هذا المخلِّصِ الأمين غير جدير بالثقة ولا يمكن الاعتماد عليه.
- يلمّحُ بولسُ إلى مبدأ مهم: تؤثر الرسالة في الرسول، أي حامل الرسالة. فلم يكن بمقدور بولس أن يكرز بمثل هذا الإخلاصِ وهذه القوةِ بيسوع الذي لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ من دون أن يتأثر بيسوع هذا. فكان ينبغي للمؤمنين في كورنثوس الذين فهموا هذه الحقيقة أن يصبحوا أكثر ثقةً ببولس.
- لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ «النَّعَمْ» وَفِيهِ «الآمِينُ»: هل يمكنُنا أن نتخيل يومًا الله الآب وهو يقول “لا” لله الابن؟ سيقول الله الآب دائمًا «النَّعَمْ» للابن وسيثبت الله الآب ما يقوله الابن (الآمِينُ).
- “ربما ما كانَ لنا أن نحصل على هذه الآية الثمينة قطّ لو لم يتعرض بولس لسوء المعاملة هذه من قِبل هؤلاء الأشخاصِ في كورنثوس. لقد أساءوا إليه إساءة بالغة، وأحدثوا أسى كبيرًا في قلبِه… غيرَ أننا نرى كيف أن الله يقلب الشرَّ إلى خيرٍ. فمن خلال القيلِ والقالِ القبيحِ والمذمّةِ، خرجتْ هذه العبارة العذبة من بولس.” سبيرجن (Spurgeon)
- لكِنَّ الَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي الْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ اللهُ الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضًا، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا: كلّفَ الله بولس ورفقاءَه وملأهم بالروح القدس. وكان من شأن فهم هذه الحقيقة أن يدفعَ المؤمنون في كورنثوس إلى أن يرفضوا الاتهامات المتسرعة التي لا أساس لها ضدَّ بولس.
- مَسَحَنَا… خَتَمَنَا… عَرْبُونَ (ضمان): يشير بولس هنا إلى عمل الروح القدس بداخلنا.
- مَسَحَنَا: الموضعان الآخران غيرُ هذا الذي تُذكرُ فيه المسحة هنا نجدهما في يوحنا الأولى ٢٠:٢، و٢٧:٢. وكلُّ استخدامٍ يتحدث عن المسحة إنما يشملُ كلَّ المؤمنين. فهي ليست مسحةً خاصةً مقصورةً على النجوم الخارقين من المؤمنين بالمسيح. والفكرةُ وراء المسحة هي أننا مُعَدّون وممكَّنون للخدمة. وتعني حقيقةُ أننا ممسوحون أننا نشتركُ في شيءٍ مع أنبياءِ العهد القديم والكهنة والملوك الذين مُسِحوا أيضًا.
- خَتَمَنَا: كان الختمُ يستخدم في العهد القديم “لتحديد الهوية” و”للحماية.” فإذا خُتم شيءٌ، كان الجميعُ يعرفون مالكَه (كان للختمِ علامة مميزة)، وكان الختمُ يمنع أي شخصٍ آخر من العبث بهذا الشيء. ويضع الروح القدس ختمَه علينا لكي “يحددَ هويتَنا” ولكي “يحمينا.”
- عَرْبُونَ: تترجمُ هذه الكلمة في لغاتٍ أخرى إلى ضمانٍ. وتعني عَرْبُون دفعةً أولى. فقد أعطانا الله الروح القدس كدفعةٍ أولى لملءِ ما سيفعله الله. وإعطاءُ الروح القدس هو بمثابةِ تعهُّدٍ بإعطاء أشياء أعظم آتيةٍ. فقد اشترانا بالفعل بموجب خطة تسديدٍ لباقي الثمن لاحقًا وأعطانا دفعةً أولى مثيرةً للإعجاب. ولن يتراجع عن تسديد الدفعة النهائية لأنه استثمر الكثير جدًا بالفعل.
هـ) الآيات (٢٣-٢٤): عرفَ بولس أن اتهاماتِهم باطلةٌ بناءً على أسبابه الشخصية.
٢٣وَلكِنِّي أَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى نَفْسِي، أَنِّي إِشْفَاقًا عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ إِلَى كُورِنْثُوسَ. ٢٤لَيْسَ أَنَّنَا نَسُودُ عَلَى إِيمَانِكُمْ، بَلْ نَحْنُ مُوازِرُونَ لِسُرُورِكُمْ. لأَنَّكُمْ بِالإِيمَانِ تَثْبُتُونَ.
- أَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى نَفْسِي: يقدّمُ بولس هنا قسَمًا خطيرًا. ومع أن يسوع قال إن علينا أن نحيا حياتنا بحيث لا يكون القسَمُ ضروريًا (متى ٣٣:٥-٣٧)، إلا أن هذا لا يعني أن القسَم محرَّمٌ. ففي بعض الأحيان يقسمُ الله (عبرانيين ١٣:٦).
- أَنِّي إِشْفَاقًا عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ إِلَى كُورِنْثُوسَ: سبق أن افترض المؤمنون في كورنثوس أن بولس لم يأتِ شخصيًا بدوافع أنانيةٍ. وأرادوا أن يصدقوا ببساطةٍ أنه لم يكن رجلًا نزيهًا أو أنه كان يخشى الصراع. ولهذا صوَّب بولس نظرتهم: أَنِّي إِشْفَاقًا عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ. فقد أصرّ بولس على أنه لم يقم بتلك الزيارة في ذلك الوقت بالذات خوفًا على المؤمنين في كورنثوس.
- لَيْسَ أَنَّنَا نَسُودُ عَلَى إِيمَانِكُمْ: حرص بولس على توضيح أنه ليس سيدًا على أحدٍ في الكنيسة رغم أنه كان رسولًا.
- يقالُ إن الله يحتفظ بثلاثة أشياء لنفسه:
- أولًا، يخلقُ أشياءَ من العدم.
- ثانيًا، يعرفُ الأحداثَ المستقبليةَ.
- ثالثًا، سيادته وهيمنته على ضمائر البشر.
- إنه لأمرٌ محزنٌ أن كثيرين مستعدّون بشكلٍ كلي أن يتولوا الهيمنة على مؤمنين آخرين بطريقةٍ ما كان بولس ليفعلَها. “تحتوي الكتابات المقدسة وحدها على ما هو ضروريُّ للإيمان والممارسة. ولا يملكُ أي رجلٍ أو أي عددٍ من الرجال أو هيئة أو كنيسة أو مجلس أو شيوخ أو نخبة مسؤولة، هيمنةً على إيمانِ أيِّ شخصٍ. فكلمةُ الله هي قانونُه. وعلى الشخصِ أن يقدّم لمؤلفِها حسابًا حول استفادتِه منها.” كلارك (Clarke)
- يقالُ إن الله يحتفظ بثلاثة أشياء لنفسه:
- بَلْ نَحْنُ مُوازِرُونَ لِسُرُورِكُمْ: بدلًا من أن ينظر بولس إلى نفسه على أنه “سيدٌ” ما على المؤمنين في كورنثوس، قدّمَ وصفًا عظيمًا للخدام: عاملين رفقاءَ (مؤازرين). فينبغي للقادةِ بين المؤمنين بالمسيح أن يعملوا جنبًا إلى جنبٍ مع رعيّتِهم لكي يزيدوا من فرحِهم (سرورهم).