أعمال الرسل – الإصحاح ١٧
بولس في تَسَالُونِيكِي وبِيرِيَّةَ وأَثِينَا
أولاً. عمل الله في مدينة تَسَالُونِيكِي
أ ) الآيات (١-٤): بولس يكرز في تسالونيكي ثَلَاثَةَ سُبُوتٍ
١فَٱجْتَازَا فِي أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ، وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي، حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ. ٢فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ، وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلَاثَةَ سُبُوتٍ مِنَ ٱلْكُتُبِ، ٣مُوَضِّحًا وَمُبَيِّنًا أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، وَأَنَّ: هَذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. ٤فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَٱنْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلَا، وَمِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ.
- وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي: كانت تسالونيكي ميناءً هاماً يبعد حوالي ١٦٠ كيلومتراً (١٠٠ ميل) ومسيرة ٣ أيام عن فيلبي. ولا تزال تسالونيكي الحديثة اليوم مدينة كبيرة ومزدهرة.
- حَسَبَ عَادَتِهِ: أول ما قام به بولس هو الذهاب إلى المجمع والكرازة بيسوع المصلوب الذي قام من بين الأموات لليهود وللأمم المتهودين هناك. وكان هناك العديد من الجوانب البارزة في كرازته عن يسوع.
- كتب هيوز (Hughes) تعليقاً على جملة’ كَانَ بولس يُحَاجُّهُمْ… مِنَ ٱلْكُتُبِ‘: “جذر الكلمة اليونانية يُحَاجُّهُمْ هو ’حِوَار‘ في الإنجليزية ويعني تبادل الآراء وطرح الاسئلة والأجوبة. كان يناقَشَهُمْ مِنَ ٱلْكُتُبِ.”
- ’مُوَضِّحًا‘: “تعني حرفياً “فتح”… أي أن بولس فتح الكتب وفسرها بكل وضوح وبساطة.” هيوز (Hughes)
- ’مُوَضِّحًا وَمُبَيِّنًا أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ‘: كتب هيوز (Hughes): “أي أن بولس ’أثبت‘ (الترجمة العربية المبسطة)؛ أو ’قدم الأدلة‘ (حسب الترجمة الإنجليزية NASB). وتعني أيضاً: ’قارن بـ‘ أو ’كشف عن.‘ وبهذه الطريقة قدم بولس أدلة مقنعة للسامعين.
- كان تركيز بولس يتمحور حول حقيقة يسوع (هَذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ) وما فعله من أجلهم (يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ).
- فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: تجاوب قَوْمٌ مِن بين السامعين بطريقة إيجابية. والذين اقتنعوا كانوا في الواقع جُمْهُورٌ كَثِيرٌ من ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ (الْأَتْقِيَاءِ) ومن النساء اليهوديات ذَوَاتِ الشَّأْنِ (وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ). كانت الخدمة ناجحة بكل المقاييس: ٱقْتَنَعَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ… عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ.
- تلقى بولس عندما كان في تسالونيكي دعماً مالياً من المؤمنين في فيلبي (فيلبي ١٥:٤-١٦) وهذا ساهم في إنجاح الخدمة هناك.
ب) الآيات (٥-٨): المزيد من العنف ضد بولس وسيلا
٥فَغَارَ ٱلْيَهُودُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱتَّخَذُوا رِجَالًا أَشْرَارًا مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ، وَقَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ طَالِبِينَ أَنْ يُحْضِرُوهُمَا إِلَى ٱلشَّعْبِ. ٦وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهُمَا، جَرُّوا يَاسُونَ وَأُنَاسًا مِنَ ٱلْإِخْوَةِ إِلَى حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ صَارِخِينَ: «إِنَّ هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هَهُنَا أَيْضًا. ٧وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ!». ٨فَأَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعُوا هَذَا. ٩فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ ٱلْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ.
- فَغَارَ ٱلْيَهُودُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱتَّخَذُوا رِجَالًا أَشْرَارًا مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ (وَشَكَّلُوا عِصابَةً، وَأثارُوا شَغَباً فِي المَدِينَةِ): وكما حدث في مدينة أنطاكِيَةَ التي في بِيسِيديَةَ (أعمال الرسل ٤٥:١٣، ٥٠) وفي مدينة إيقُونِيَّةَ (أعمال الرسل ٢:١٤، ٥) وفي مدينة لِستَرَةَ (أعمال الرسل ١٩:١٤) في الرحلة التبشيرية الأولى تعرض بولس هنا أيضاً للهجوم من عصابة حرضها اليهود المملوئين حسداً (فَغَارَ ٱلْيَهُودُ).
- وَقَامُوا عَلَى (هاجَمُوا) بَيْتِ يَاسُونَ: كان يَاسُونَ مؤمناً من تسالونيكي ويبدو أن بيته كان مركزاً للكنيسة. فعندما لم يجد الرجال الأشرار مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ بولس وسيلا هناك هجموا على ياسون وعلى أُنَاسًا مِنَ ٱلْإِخْوَةِ كانوا معه.
- صَارِخِينَ: «إِنَّ هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هَهُنَا أَيْضًا»: قدم الرجال الأشرار مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ مجاملة غير مقصودة لفعالية عمل الله من خلال بولس وسيلا عندما اتهموا هؤلاء المؤمنين أمام حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ. وقصدوا حينما قالوا هَؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ: “لقد أثر هؤلاء الرجال تأثيراً جذرياً على عالمنا ولم يعد شيء على حاله فيما بعد.”
- نصلي بمعونة الله وبركته أن يقول الناس مثل هذه الأمور عن خدمة المؤمنين اليوم. قد يقول البعض أن يسوع لم يأتِ ليكون معلمنا فحسب بل أتى ليقلب عالمنا رأساً على عقب. وهذا ما حدث فعلاً: جاء يسوع وقَلَبَ موازين الفكر والقوة في هذا العالم.
- أعطى يسوع مثالاً رائعاً حول هذه الفكرة عندما تحدث عن رجل غني جمع ثروة عظيمة وكل ما كان يشغل باله هو بناء حظائر أكبر لتخزين كل ثروته. بالنسبة لنا كنا سنجعل من هذا الرجل قائداً أو نعترف به كرجل مهم أما بالنسبة ليسوع وكعادته قَلَبَ الموازين رأساً على عقب عندما دعا هذا الرجل بالغبي لأنه لم يفعل شيئاً يعطي قيمة لحياته في ملكوت الله (لوقا ١٦:١٢-٢١).
- كان الله يعمل في الواقع من خلال بولس وسيلا ليدير دفة العالم إلى الأعلى ثانية. ولكن عندما تكون أنت نفسك مقلوباً رأساً على عقب فسيبدو الاتجاه الآخر مقلوباً رأسا على عقب أيضاً!
- وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ!: هذه هي التهمة التي استخدمها الرجال الأشرار مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ. كانت التهمة خطيرة جداً وتسببت في إزعاج ٱلْجَمْعَ وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَة خوفاً من أن تصبح مدينتهم مشهورة بالمعارضة ضد قيصر وروما.
- لم يكن لمخاوفهم أساس من الصحة. فللإنجيل آثار سياسية إيجابية: حيث يصبح المؤمنين مواطنون أفضل وصلواتهم للمسؤولين في الحكومة له فائدة أكثر مما يتخيل معظم الناس.
- نجد حتى في طيات التهمة التي تتعلق بالثورة السياسية بعض الإطراء. فهم الرجال الأشرار مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ تعليمهم عن يسوع المَلِك وأن له الحق في أن يملك على شعبه. ويبدو أنها رسالة لا يعرفها الكثير من رواد الكنائس اليوم.
- كتب لونغنيكر (Longenecker): “ربما لهذا السبب تجنب بولس استخدام الكلمات “الملكوت” و”الملك” في الرسائل التي بعثها إلى المؤمنين لئلا يساء فهمها من الإمبراطورية الرومانية وتعتبر تحريضاً ضد الإمبراطورية والإمبراطور.”
ج ) الآيات (٩-١٠أ): رحيل بولس وسيلا عن تسالونيكي ليلاً
٩فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ ٱلْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ. ١٠وَأَمَّا ٱلْإِخْوَةُ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلُوا بُولُسَ وَسِيلَا لَيْلًا إِلَى بِيرِيَّةَ.
- فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ ٱلْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ: تم إطلاق سراح ياسون والآخرين بكفالة لضمان عدم قيامهم بأي أعمال شغب في المستقبل.
- لم يهتم المسؤولين الرومان بشكل عام بمعتقدات الشعب. ولكن عندما عمت الفوضى بين الشعب بسبب أعمال الشغب تدخلوا بيد حديدية. فجرت العادة أن يرسل الإمبراطور جيشه في الحال إن خرجت الأمور عن السيطرة لاستعادة النظام ولا أحد كان يرغب بذلك. لذلك كان على يَاسُون أن يدفع كَفَالَة على الرغم من أنه لم يبدأ الشغب.
- وَأَمَّا ٱلْإِخْوَةُ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلُوا بُولُسَ وَسِيلَا لَيْلًا إِلَى بِيرِيَّةَ: غادر بولس وسيلا مدينة تسالونيكي بسرعة غير راغبين في جلب المزيد من الاضطهاد على المؤمنين هناك أو أن يعرضوا كَفَالَة يَاسُون للخطر.
- أمضى بولس بضعة أسابيع فقط في تسالونيكي (أعمال الرسل ٢:١٧) ويبدو أنه تمنى لو علمهم أكثر. لهذا قرر أن يعطيهم المزيد من التعليم في رسالة مكتوبة. يعتقد الكثيرون أن رسالته الأولى لأهل تسالونيكي كانت أولى الرسائل التي كتبها لشعب كنيسة.
ثانياً. عمل الله في مدينة بِيرِيَّةَ
أ ) الآيات (١٠ب-١٢): المزيد من الكرازة الناجحة في بيرية
وَهُمَا لَمَّا وَصَلَا مَضَيَا إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ. ١١وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَشْرَفَ مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ ٱلْأُمُورُ هَكَذَا؟ ١٢فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ ٱلرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ.
- وَهُمَا لَمَّا وَصَلَا مَضَيَا إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ: اتبعوا استراتيجيتهم المألوفة في بيرية وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَشْرَفَ (منصفين/عادلين) مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي. وهناك سببين لهذا الإطراء: أولاً لأنهم قَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ، ثانياً لأنهم فحصوا الكتب (فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ ٱلْأُمُورُ هَكَذَا).
- سَمِعَ سكان بيرية التعليم من أشهر رسول ولاهوتي في الكنيسة الأولى ومؤلف ١٣ سفر من العهد الجديد. ومع ذلك كانوا يَدرُسُونَ التعليم الذي قدمه بولس (فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ) ليعرفوا ما إذا كان مطابقاً للكتب المقدسة. لم يقبلوا تعليم بولس دون التحقق منه بأنفسهم ولِيَرَوا إنْ كانَتِ الأُمُورُ الَّتِي قالَها بُولُسُ صَحِيحَةً (هَلْ هَذِهِ ٱلْأُمُورُ هَكَذَا).
- عندما سمع سكان بيرية تعليم بولس لم تكن ردة فعلهم: “يا له من متكلم بارع.” ولم تكن: “لا تعجبني طريقة كلامه” أو “يا له من واعظ مضحك.” بل أراد سكان بيرية أن يعرفوا “هَلْ هَذِهِ ٱلْأُمُورُ هَكَذَا؟ هل يعلم هذا الرجل الحق؟… علينا أن نبحث في الكتب كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ ٱلْأُمُورُ هَكَذَا؟”
- لم يكن بحثهم عفوياً، بل كان له طابع خاص.
- فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ. كان الأمر يستحق أن يعملوا بجهد من أجله وأن يتحققوا مما ورد في كلمة الله وكيف يتطابق تعليم بولس معها.
- فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ بحثاً عن إجابة. لم يفعلوا هذا مرة واحدة فقط وعلى عجلة بل قاموا بدراسة الكتب بكل جدية وبشكل متواصل.
- فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ ٱلْأُمُورُ هَكَذَا؟ (لِيَرَوا إنْ كانَتِ الأُمُورُ الَّتِي قالَها بُولُسُ صَحِيحَةً). صدقوا بأنهم قادرين على فهم واكتشاف الحق من الكتاب المقدس. كان الكتاب المقدس بالنسبة لهم ليس مجرد كتاب جميل مليء بالأشعار أو الغموض أو للتشجيع الروحي اللطيف يومياً بل كان كتاباً مليء بالحق وكان عليهم أن يفحصوه ليعرفوا هل هذه الأمور هكذا.
- بحث سكان بيرية الدؤوب عن الحق لم يجعلهم متشككين بل قَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ (باهتِمامٍ بالِغٍ). عندما عَلَّمَهم بولس لم تكن قلوبهم مفتوحة فحسب بل كانت عقولهم صافية أيضاً. الكثير من الناس يملكون عقولاً صافية ولكن قلوب مغلقة ولا يقبلون ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ. وبسبب هذين الأمرين كَانَ هَؤُلَاءِ أَشْرَفَ مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي.
- فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ: لم يخشى بولس من فحص أهل بيرية للكتب. فإن كانوا يطلبون الله وكلمته بكل صدق فحتماً سيجدون أن ما يعلم به بولس كان صحيحاً. وهذا تماماً ما حدث مع أهل بيرية وبالتالي آمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ.
ب) الآيات (١٣-١٥): هروب بولس من بِيرِيَّةَ
١٣فَلَمَّا عَلِمَ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ تَسَالُونِيكِي أَنَّهُ فِي بِيرِيَّةَ أَيْضًا نَادَى بُولُسُ بِكَلِمَةِ ٱللهِ، جَاءُوا يُهَيِّجُونَ ٱلْجُمُوعَ هُنَاكَ أَيْضًا. ١٤فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ ٱلْإِخْوَةُ بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَمَّا سِيلَا وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ. ١٥وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ جَاءُوا بِهِ إِلَى أَثِينَا. وَلَمَّا أَخَذُوا وَصِيَّةً إِلَى سِيلَا وَتِيمُوثَاوُسَ أَنْ يَأْتِيَا إِلَيْهِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، مَضَوْا.
- ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ تَسَالُونِيكِي: لم يكتفوا بطرد بولس من مدينتهم بل لحقوا به إلى بيرية للتشويش على خدمته هناك أيضاً.
- جَاءُوا يُهَيِّجُونَ ٱلْجُمُوعَ: وهذا ما حدث بالضبط في أنطاكِيَةَ ببِيسِيديَةَ (أعمال الرسل ٤٥:١٣، ٥٠) وفي إيقُونِيَّةَ (أعمال الرسل ٢:١٤، ٥) وفي لِستَرَةَ (أعمال الرسل ١٩:١٤) وفي تَسَالُونِيكِي (أعمال الرسل ٥:١٧-٨). كانت هذه خامس مدينة يهرب منها بولس بسبب العصابات الغاضبة التي أثارها حسد القادة اليهود.
- فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ ٱلْإِخْوَةُ بُولُسَ لِلْوَقْتِ: أرسل الإخوة في بِيرِيَّةَ بولس إلى أَثِينَا خوفاً على حياته وخوفاً على تعطيل الخدمة التي كانت هناك. وَأَمَّا سِيلَا وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ. طلب بولس منهم أن يبقوا هناك ليعلموا المؤمنون الجدد في بيرية ويهتموا بهم.
- حقيقة أن سِيلَا وَتِيمُوثَاوُسُ بَقِيَا هُنَاكَ تُظهر مرة أخرى شوق بولس لزرع الكنائس وليس فقط لخلاص النفوس. كما وتظهر أيضاً أن بولس لم يعتقد أن خدمة التعليم وتشديد الكنائس كانت قائمة عليه بمفرده بل على أشخاص مثل سِيلَا وَتِيمُوثَاوُسُ أيضاً.
ثانياً. عمل الله في مدينة أَثِينَا
أ ) الآيات (١٦-١٧): انزعجت روح بولس من الكرازة في مدينة أَثِينَا
١٦وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى ٱلْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا. ١٧فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ، وَٱلَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي ٱلسُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ.
- وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ: كان الترتيب أن ينتظر بولس مجيء سيلا وتيموثاوس من بيرية قبل أن يبدأ الخدمة في أثينا. ولكن عندما رَأَى ٱلْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا اضطر للوعظ بالإنجيل فوراً.
- عندما أبحر بولس إلى أثينا من البحر القريب من بيرية وصل إلى مدينة لم يزورها قبلاً وكأي سائح كان مستعداً لينبهر بهذه المدينة الشهيرة والتاريخية التي كانت قبل مئات السنين واحدة من أشهر وأهم المدن في العالم. ولكنه شعر بالإكتئاب عندما تجول في أثينا حينما رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُوءَةً بِالْأَصْنَامِ.
- الفكرة من وراء الجملة مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا (kateidolos) أنها كانت مغمورة أو غارقة بالأصنام. رأى بولس جمال مدينة أثينا ورأى أفضل ما يمكن أن يقدمه النحاتون والمعماريون اليونان ولكن كل هذا الجمال لم يمجد الله لذلك لم تنال إعجابه على الإطلاق.
- فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ، وَٱلَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي ٱلسُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ: كان بولس ينادي بالإنجيل في كل مكان يجتمع فيه الناس. فنراه هنا يكرز في ٱلْمَجْمَعِ وفي ٱلسُّوقِ.
- وَٱلَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ: واجه بولس جمهوراً صعباً في أثينا. فقد كانت مدينة مليئة بالثقافة وشعبها متعلم وفخور بتاريخها. كانت المدينة مركزاً فكرياً مثل أوكسفورد أو كامبريدج. تكلم بولس مع أهل هذه المدينة بطريقة تختلف تماماً عن أي مدينة أخرى خدم بها.
- كتب بروس (Bruce): “على الرغم من أن أثينا فقدت منذ فترة طويلة السيادة السياسية التي كانت تملكها سابقاً إلا أنها لا زالت تمثل أعلى مستوى من الثقافة في العصور القديمة.”
- أضاف ويليامز (Williams): “رغم أن أيام العظمة قد مضت وولت ولكن بقيت أثينا عاصمة الحكمة في العالم اليوناني الروماني وفي نفس الوقت العاصمة الدينية لليونان.”
ب) الآيات (١٨-٢١): رسالة بولس الحديثة فتحت أمامه باباً للحديث في مركز المدينة الثقافي أَرِيُوسَ بَاغُوسَ
١٨فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلَاسِفَةِ ٱلْأَبِيكُورِيِّينَ وَٱلرِّوَاقِيِّينَ، وَقَالَ بَعْضٌ: «تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هَذَا ٱلْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟». وَبَعْضٌ: «إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِيًا بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ». لِأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ. ١٩فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، قَائِلِينَ: «هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هَذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ. ٢٠لِأَنَّكَ تَأْتِي إِلَى مَسَامِعِنَا بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، فَنُرِيدُ أَنْ نَعْلَمَ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ». ٢١أَمَّا ٱلْأَثِينَوِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ، إِلَّا لِأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئًا حَديثًا.
- فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلَاسِفَةِ ٱلْأَبِيكُورِيِّينَ: سعى ٱلْأَبِيكُورِيِّينَ (الأبِيقُورِيِّيْنَ) وراء الشهوة واللذة كالهدف الأسمى في الحياة وقدسوا الحياة المسالمة الخالية من الألم والمشاعر المضطربة والمخاوف الخزعبلية (بما في ذلك الخوف من الموت). لم ينكروا وجود الآلهة ولكنهم آمنوا أن لا شأن للآلهة بالإنسان.
- فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلَاسِفَةِ… وَٱلرِّوَاقِيِّينَ: آمن الرواقيون بوحدانية الوجود وركزوا بشكل كبير على الأخلاقيات والإحساس بالواجب. وعززوا الشعور بالكبرياء والكرامة وآمنوا بأن الانتحار كان أفضل من العيش بكرامة أقل.
- آمن الرواقيون أن كل الأشياء إلهاً والإله في كل الأشياء. لذلك آمنوا أن كل الأشياء الخير منها أو الشر كانت من إله وبالتالي لا ينبغي أن تُقاوم (القدر) وآمنوا أيضاً بعدم وجود اتجاه معين أو مصير للبشرية.
- وَقَالَ بَعْضٌ: سخر البعض من بولس لأنه لم يتكلم بنفس الفلسفة التي كانت شائعة في أثينا (مَاذَا يُرِيدُ هَذَا ٱلْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟). واعتقد البعض أن بولس كان مثيراً للإهتمام لأنه كان ينادي بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ.
- كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ: رغم أن بولس كان يتكلم في مكان مختلف ولحشد مختلف تماماً لم تتغير رسالته أبداً وركز على يَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ.
- أَمَّا ٱلْأَثِينَوِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ، إِلَّا لِأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئًا حَديثًا: الرسالة الحديثة التي قدمها بولس أهلته ليحصل على دعوة للتكلم في أَرِيُوسَ بَاغُوسَ. أحب هؤلاء ٱلْأَثِينَوِيُّونَ التيار المستمر والمتغير من الأخبار والمعلومات.
- وصف آدم كلارك (Adam Clarke) الأحوال في عصره في أوائل القرن التاسع عشر وهو الوصف الذي ينطبق على يومنا الحالي أيضاً. “إنها سمة لافتة للنظر في مدينة لندن في وقتنا الحاضر. حيث أصبحت اللهفة لسماع الأخبار التي تخاطب عموماً العقل الدنيوي والضحل أو غير المستقر سائدة بشكل غريب. حتى خدام الإنجيل أصبحوا يهملون خدمتهم المقدسة وصاروا مثل الأثينيين. حتى قراءة الكتاب المقدس أو دراسته أصبح بنصف شغف قراءة الصحف. فلا عجب أن يصبح الوعاظ سياسيين وعظاتهم لا تصلح سوى طعام للخنازير. والخراف المساكين يبحثون عن طعام ولا يوجد من يطعمهم.”
ج ) الآيات (٢٢-٢٣): بولس يبدأ عظته على تَلَّةِ مارس (Mars’ Hill) (أَرِيُوسَ بَاغُوسَ)
٢٢فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسْطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْأَثِينِوِيُّونَ! أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا، ٢٣لِأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: «لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ». فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ.
- أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْأَثِينِوِيُّونَ! أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا: لم يبدأ بولس بتفسير الكتب المقدسة كما اعتاد أن يفعل عند التعامل مع اليهود والأمم الذين كانوا على دراية بالعهد القديم، بل بدأ بمعلومات عامة عن الديانات.
- أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا: لاحظ العديد من المراقبين القدماء الطابع الديني لأثينا واعتقد البعض أن الأثينيين كانوا الأكثر تَدَيُّنًا في المنطقة. ولكن كلام بولس هذا لا يعني بالضرورة شيئاً إيجابياً. يمكن للدين أن يبعد الإنسان عن الله وخاصة إن وضعنا ثقتنا بديانة زائفة فلا يوجد مدح لنا عندما يطلق علينا لقب “مُتَدَيِّنُونَ.”
- وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: «لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ»: فهم بولس بسبب وجود العديد من الآلهة أنهم كانوا يعبدون إِلَهٍ مَجْهُولٍ. ولأنهم خشوا لئلا يكونوا قد نسوا أحد الآلهة أقاموا مذبحًا للإله المجهول. أراد بولس أن يكشف النقاب عن هذا الِإِلَهٍ المَجْهُول.
- كانت أثينا مليئة بالمذابح المكرسة «لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ». عندما اجتاح مدينة أثينا (قبل زيارة بولس بستمائة سنة) وباء الطاعون الرهيب اقترح رجل اسمه أبيمينيدس أن يطلقوا قطيع من الخراف في كل أنحاء المدينة. وكل خروف يرقد بالقرب من تمثال أحد الآلهة كان يقدم ذبيحة لهذا الإله. أما الخراف التي ترقد بعيداً عن المعبد أو تمثال فكانت الذبائح تقدم لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ.
د ) الآيات (٢٤-٢٩): بولس يخبر ٱلْأَثِينَوِيُّونَ عن الإله الحي
٢٤ٱلْإِلَهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ، لَا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلْأَيَادِي، ٢٥وَلَا يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ. ٢٦وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلْأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، ٢٧لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. ٢٨لِأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لِأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ. ٢٩فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللَّاهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ.
- ٱلْإِلَهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ: تكلم بولس عن الله الذي خلق كل الأشياء رغم أنه يختلف تماماً عن خليقته. أخبرهم بولس أن الله أعظم من أي هيكل مصنوع بأيدي الإنسان (لَا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلْأَيَادِي) ولا يمكن أن يمثله أي شيء من صنع الإنسان (وَلَا يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ – فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَةِ النَّاسِ).
- بدأ بولس من البداية ليشرح لهم عن حقيقة الله: الله هو الخالق ونحنُ خلائقه. يقول ستوت (Stott) بشأن هذا: “رأي بولس بالعالم يختلف تماماً عن رأي الأبيقوريين الذين يعتقدون أن العالم كوَّنَ بالصدفة أو على أثر حادثة أو الرواقيون الذين اعتقدوا بوحدانية الوجود أي أن كل شيء إلهاً.”
- أدرك بولس بأن على هؤلاء الفلاسفة أن يغيروا أفكارهم عن الله وأن يتخلوا من آرائهم الشخصية كي يفهموا حقيقة الله المعلنة في الكتاب المقدس.
- وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ: أخبرهم بولس أننا جميعاً ذرية إبراهيم عبر نوح وأنه يوجد إله واحد خالق الكل علينا أن نخضع له. كما حفزهم على طلب الله لأنه خالق الكل ولأنه عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا.
- لِأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ… لِأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ: استخدم بولس هذان الاقتباسان من الشعراء اليونان. الأول إبيمينيدس الكريتي (٦٠٠ قبل الميلاد) (الذي اقتبس منه بولس مرة أخرى في تيطس ١٢:١) والثاني أراتوس (٣١٠ قبل الميلاد).
- لم يقتبس بولس من هؤلاء الرجال لأنهم كانوا أنبياء أو بسبب تعليمهم عن الله بل اقتبس منهم لأن هذه الكلمات بالذات تعكس حقيقة كتابية، ويمكن باستخدامها مد جسور بينه وبين جمهوره الوثني.
- فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللَّاهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ: أخبرهم بولس عن مسؤوليتنا نحو الله لأننا نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللهِ. ولأننا ذُرِّيَّةُ ٱللهِ، نحن مسؤولون عن الأفكار الصحيحة حول الله وعلينا أن نرفض الأفكار الخاطئة بأن ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ يمكن أن يمثلوا الله.
- كتب ستوت (Stott): “اعترف ٱلْأَثِينَوِيُّونَ في النقوش التي على مذبحهم بأنهم يجهلون حقيقة الله الحي، لهذا قدم بولس لهم أدلة على جهلهم. والآن يعلن أن هذا الجهل هو من مسؤوليتهم.”
هـ) الآيات (٣٠-٣١): أخبر بولس الأثينيين ما عليهم فعله بسبب طبيعة الله
٣٠فَٱللهُ ٱلْآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ. ٣١لِأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ».
- فَٱللهُ ٱلْآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ. لِأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ: انتقل بولس من شرح من هو الله (خالقنا) إلى من نحن (ذريته) إلى مسؤوليتنا أمامه (أن نفهمه ونعبده بالحق) ثم تحدث عن اليوم الذي سنقدم فيه حساباً عن أنفسنا إن كنا لا نمجده (الدينونة).
- لم يكرز بولس برسالة لطيفة ورقيقة بل واجه بجرأة الأفكار الخاطئة التي اعتنقها الأثينيين عن الله وواجههم بحقيقة الدينونة القادمة.
- مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ: ولأول مرة في عظته للأثينيين أشار بولس هنا إلى يسوع. وفي أول إشارة عن يسوع قدمه كالقاضي العادل.
- لم يرغب بولس بالتأكيد أن يترك أهل أثينا بفكرة يسوع القاضي العادل فقط ولكنهم قاطعوه قبل أن يخبرهم بالمزيد عنه. وربما ما قاله كان مجرد البداية وسيبدأ الآن في الحديث عما يريده فعلاً: شخص وعمل يسوع المسيح.
- مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ (وَبَرْهَنَ لِجَمِيعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَهُ بِأَنْ أَقَامَهُ مِنَ الْمَوْتِ): كان التركيز على القيامة هام للغاية. وقد رأى بولس أن قيامة يسوع كانت برهاناً للجميع (مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا) وأن القيامة أظهرت أن حقيقة يسوع وتعليمه وعمله كانت كلها مرضية عند الآب.
- يبدو أن بولس لم يتمكن من الوعظ دون التركيز على قيامة يسوع. فليس هناك أي معنى للحياة المسيحية دون انتصار قيامة يسوع.
و ) الآيات (٣٢-٣٤): ردة فعل المُستمعين في أَرِيُوسَ بَاغُوسَ
٣٢وَلَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: «سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هَذَا أَيْضًا!». ٣٣وَهَكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسْطِهِمْ. ٣٤وَلَكِنَّ أُنَاسًا ٱلْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا، مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلْأَرِيُوبَاغِيُّ، وَٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا دَامَرِسُ وَآخَرُونَ مَعَهُمَا.
- وَلَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ: لم تكن فكرة القيامة محبوبة لدى الفلاسفة اليونان. اعتقد البعض أن بولس كان أحمقاً ليؤمن بهذه الأمور وآخرون أرادوا سماع المزيد من هذا التعليم الحديث (وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: «سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هَذَا أَيْضًا!»).
- كان اليونانيون مولعون بفكرة خلود الروح ولكن ليس بفكرة قيامة الجسد. ورأوا أن أي شيء مادي كان شريراً بطبيعته لذلك لا يمكن أن يكون هناك أجساد ممجدة. وآمنوا أن الشكل النهائي للمجد سيكون على شكل روحٍ نقية.
- كتب بويس (Boice): “آمن أهل اليونان أن الإنسان يتكون من روح (أو عقل) وهو الجزء الجيد منه، ويتكون من المادة (أو الجسم) وهو الجزء السيء. وإذا كان هناك حياة قادمة فبالتأكيد لا يريدونها أن تتشوش بشيء مادي.”
- وَهَكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسْطِهِمْ: أراد بولس أن يتكلم عن يسوع ولكنهم لم يهتموا بهذا. كان بإمكانه مناقشة الفلاسفة اليونان طيلة اليوم ولكنه لم يرغب بهذا. إن لم يتمكن من الحديث عن يسوع فلم يكن لديه الكثير ليقوله.
- لم يقدم لهم بولس سوى مقدمة بسيطة لعظته. أراد أن يخبرهم عن يسوع أكثر بكثير من الاقتباس من الشعراء اليونانيين ولكنهم قاطعوه لمجرد أنه ذكر القيامة. استمر بولس بالحديث الفردي مع الناس ومنعوه من التكلم ثانية في أَرِيُوسَ بَاغُوسَ.
- وَلَكِنَّ أُنَاسًا ٱلْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا: النتائج في أريوس باغوس بدت صغيرة ولكن آمن البعض. ومن بين هؤلاء الذين آمنوا شخص اسمه دِيُونِيسِيُوسُ (لا بد وأنه اعتاد المشاركة في أريوس باغوس) وامرأة اسمها دَامَرِسُ.
- انتقد البعض عظة بولس في أثينا لأنه لم يذكر الصليب أو لم يقتبس آيات من العهد القديم. واعتقد آخرون بأن بولس ساوم رسالته بسبب الحضور المثقف ولهذا لم يؤمن الكثيرون.
- وأضافوا: عندما ذهب بولس لاحقاً إلى كورنثوس قرر الوعظ عن الصليب فقط حتى لو بدا الصليب كجهالة بالنسبة لهم (كورنثوس الأولى ١٨:١–٥:٢). وبرأيهم أن السبب وراء النتائج العظيمة هناك كان لأنه وعظ عن الصليب.
- أشاعَ رامزي (Ramsay) النظرية القائلة أن آمال بولس قد خابت بسبب النتائج ’الهزيلة‘ في أثينا وبالتالي ذهب إلى كورنثوس ليكرز بالإنجيل بالتركيز على الصليب فقط دون الخوض بأمور فلسفية.
- ولكن عظة بولس هنا كانت كتابية جداً. كتب بروس (Bruce): “كانت عظة بولس مطابقاً تماماً للوحي الكتابي نفسه: بدأ بالله خالق الكل وانتهى بالله قاضي الكل… كانت عظته متكاملة وقدمت بشكل رائع درساً تمهيدياً عن الإيمان المسيحي لأشخاص يؤمنون بالأوثان.”
- وعظ بولس بكل تأكيد عن يسوع المصلوب في أثينا. ذكر في أعمال الرسل ٣٠:١٧-٣١ على وجه التحديد القيامة فكيف يمكنه الحديث عن القيامة دون ذكر الصليب الذي كان قبل القيامة؟ من الواضح أن هذه مجرد مقتطفات من عظته في أريوس باغوس؛ فالمكتوب هنا يقال في دقيقتين بالكاد.
- كتب ستوت (Stott): “نتعلم من بولس أنه لا يمكننا أن نكرز بإنجيل يسوع دون التطرق لعقيدة الله، أو الحديث عن الصليب دون التطرق للخليقة، أو الخلاص دون التطرق للدينونة.”
- بالإضافة إلى ذلك من الخطورة أن نحكم على محتويات أي رسالة من حجم الاستجابة. كتب لونغينيكر (Longenecker): “السبب من عدم تجذر الإنجيل هناك ربما يكمن في موقف قلب أهل أثينا أنفسهم أكثر من المدخل الذي استخدمه بولس أو الكلام الذي قاله.”