سفر العدد – الإصحاح ٢٣
نبوات بَلْعَام
أولًا. النبوة الأولى، كلمة نبوية على فم بَلْعَام
أ ) الآيات (١-٣): تقديم الذبائح والتجهيز.
١فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: «ابْنِ لِي ههُنَا سَبْعَةَ مَذَابحَ وَهَيِّئْ لِي ههُنَا سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ». ٢فَفَعَلَ بَالاَقُ كَمَا تَكَلَّمَ بَلْعَامُ. وَأَصْعَدَ بَالاَقُ وَبَلْعَامُ ثَوْرًا وَكَبْشًا عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ. ٣فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: «قِفْ عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ، فَأَنْطَلِقَ أَنَا لَعَلَّ الرَّبَّ يُوافِي لِلِقَائِي، فَمَهْمَا أَرَانِي أُخْبِرْكَ بِهِ». ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى رَابِيَةٍ.
١. ابْنِ لِي هَهُنَا سَبْعَةَ مَذَابِحَ: جُهِّزت مذابح كثيرة لاستقبال العديد من الثيران والكباش. فقد كان بَالاَق، ملك الموآبيين، على استعداد لفعل أي شيء يطلبه بَلْعَام، طالما سيلعن شعب إسرائيل.
• بُنيت هذه السَبْعَةَ مَذَابِحَ للرب، لأن هذا هو الإله الذي كان بَلْعَام ينوي أن يسترضيه، ويطلب منه أن يصب لعنة على شعب إسرائيل. لكن الله لم يأمر بَلْعَام قط بأن يبني له مذبحًا، فما بالك بسبعة مذابح تُقدَّم عليها سبع ذبائح على سبع مرتفعات مختلفة. وبالتالي، لم تكن المذابح السبعة والمحرقات السبع فكرة صدرت عن الله، بل كانت بالأحرى فكرة بَلْعَام وبَالاَق.
٢. فَمَهْمَا أَرَانِي أُخْبِرْكَ بِهِ: بحسب رواية سفر العدد، كان بَلْعَام نبيًّا فاسدًا، لكنه لم يكن نبيًّا كذابًا. فقد كان جشعًا، ومستعدًّا لقبول المال والثروة مقابل صب لعنة على شعب إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يستطيع أن يبتدع نبواته الخاصة، ولن يفعل ذلك. لم يكن بوسعه سوى أن يقول: مَهْمَا أَرَانِي الرب، أُخْبِرْكَ بِهِ.
• نستطيع أن نتخيل الحديث التالي الذي دار بين بَالاَق وبَلْعَام: “أريد منك أن تنجح في إقناع الآلهة بأن تلعن شعب إسرائيل. فلتطلب من البعل أو من أيِّ إله آخر أن يفعل ذلك.” “ليس هكذا يجري الأمر. فإن يهوه، إله إسرائيل، أعظم من كلِّ هذه الآلهة. وإذا أردنا أن نلعن شعب إسرائيل، يجب أن يفعل يهوه ذلك.” “إذن، دعنا نقنع إله إسرائيل بأن يلعنهم.” “نستطيع أن نحاول، لكنني لن أستطيع أن أخبرك إلا بما يخبرني به إله إسرائيل.”
٣. ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى رَابِيَةٍ: صعد بَالاَق إلى قمة تلٍّ ليقف بجوار أحد المذابح. كانت المذابح تُبنَى عادة على قمم التلال، أي على المرتفعات (١ملوك ٣: ٢؛ ١٢: ٣١؛ ١٣: ٢).
ب) الآيات (٤-٦): الله يوافي بَلْعَام ويُرجِعه إلى بَالاَق.
٤فَوَافَى اللهُ بَلْعَامَ، فَقَالَ لَهُ: «قَدْ رَتَّبْتُ سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَأَصْعَدْتُ ثَوْرًا وَكَبْشًا عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ». ٥فَوَضَعَ الرَّبُّ كَلاَمًا فِي فَمِ بَلْعَامَ وَقَالَ: «ارْجعْ إِلَى بَالاَقَ وَتَكَلَّمْ هكَذَا». ٦فَرَجَعَ إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ مُحْرَقَتِهِ هُوَ، وَجَمِيعُ رُؤَسَاءِ مُوآبَ.
١. وَضَعَ الرَّبُّ كَلَامًا فِي فَمِ بَلْعَامَ: تكلم الله إلى، وعلى فم، شخص فاسد بشكل واضح مثل بَلْعَام. يبيِّن لنا ذلك أن الموهبة الروحية لا تعني النضج الروحي أو قداسة السلوك. فقد تكلَّم الله على فم أتان في الإصحاح السابق، والآن وَضَعَ كَلَامًا فِي فَمِ بَلْعَامَ.
• “رغم الأفعال الآثمة والبغيضة التي ارتكبها هذا الرجل الشرير، تنازل الرب ووافاه، وتكلَّم على فمه. وهذا أمرٌ لافت للنظر. فإننا كثيرًا ما نقول إن الله لا يمكن أن يستخدم البتة إناءً نجسًا؛ لكن هذه الفكرة غير دقيقة تمامًا. يستطيع الله أن يستخدم أيَّ إناء يحلو له، لكن القضية تتعلق بما يحدث للإناء النجس بعدما ينتهي الله من استخدامه في تتميم مقاصده. يبدو أن مثل هذه الآنية تُطرَح على الطريق وتتهشَّم.” ألن (Allen)
• “تلك الكلمات التي وُضِعت في فمه فقط عبرت من خلاله، لكنه لم يستطع أن يلوِّثها، لأنها ليست كلماته هو! … فلم ’يأكل‘ بَلْعَام كلام الله كما فعل إرميا (إرميا ١٥: ١٦)، ولم يكن ’يؤمن‘ بما يتكلَّم به، مثلما آمن داود، والقديس بولس من بعده (مزمور ١١٦: ١٠؛ ٢ كورنثوس ٤: ١٣).” تراب (Trapp)
٢. فَرَجَعَ إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ مُحْرَقَتِهِ هُوَ، وَجَمِيعُ رُؤَسَاءِ مُوآبَ: عندما رجع بَلْعَام، كان بَالاَق وجميع رؤساء موآب على أهبة الاستعداد لمعرفة الكلام الذي اشترته لهم أموالهم.
ج) الآيات (٧-١٠): نبوة بَلْعَام الأولى: إسرائيل لا يمكن أن يُلعَن.
٧فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «مِنْ أَرَامَ أَتَى بِي بَالاَقُ مَلِكُ مُوآبَ، مِنْ جِبَالِ الْمَشْرِقِ: تَعَالَ الْعَنْ لِي يَعْقُوبَ، وَهَلُمَّ اشْتِمْ إِسْرَائِيلَ. ٨كَيْفَ أَلْعَنُ مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُ اللهُ؟ وَكَيْفَ أَشْتِمُ مَنْ لَمْ يَشْتِمْهُ الرَّبُّ؟ ٩إِنِّي مِنْ رَأْسِ الصُّخُورِ أَرَاهُ، وَمِنَ الآكَامِ أُبْصِرُهُ. هُوَذَا شَعْبٌ يَسْكُنُ وَحْدَهُ، وَبَيْنَ الشُّعُوبِ لاَ يُحْسَبُ. ١٠مَنْ أَحْصَى تُرَابَ يَعْقُوبَ وَرُبْعَ إِسْرَائِيلَ بِعَدَدٍ؟ لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ».
١. فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: شكَّلت هذه بداية سبعة “أمثال” أو نبوات نطق بها بَلْعَام بخصوص شعب إسرائيل. وهي ترد في سفر العدد ٢٣: ٧، ١٨؛ ٢٤: ٣، ١٥، ٢٠، ٢١، ٢٣.
٢. تَعَالَ الْعَنْ لِي يَعْقُوبَ، وَهَلُمَّ اشْتِمْ إِسْرَائِيلَ: كان هذا هو ما طلبه بَالاَق. فقد طلب أن تُصَب لعنة روحية على شعب إسرائيل، حتى يتمكن من هزيمتهم في الحرب.
• “كان صب اللعنة عملًا جادًّا للغاية في العالم القديم، وكثيرًا ما كان يُعتقَد أن له فاعلية تلقائية، حيث تحمل الكلمات نفسها قوةً للتأثير في الذين يسمعونها، وفي الذين يتجاهلونها على حد سواء (راجع تثنية ٢٧: ١٥-٢٦؛ ١صموئيل ١٤: ٢٤).” وينهام (Wenham)
٣. كَيْفَ أَلْعَنُ مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُ الله: لكن لم يكن بوسع بَلْعَام أو أي نبي آخر أن يلعن شعب إسرائيل لو لم يكن الله قد لعنهم. فلم يستطع بَالاَق أن يدفع رشوةً لله حتى يلعن شعب إسرائيل.
• “لو استطاع بَلْعَام، لقَلَب البركة إلى لعنة… أليس هذا هو اليأس نفسه الذي يشعر به الشيطان؟ لقد باركنا الله بكلِّ بركة روحية في المسيح يسوع، ولا يمكن للشيطان أن يغير ذلك.” ماير (Meyer)
٤. وَبَيْنَ الشُّعُوبِ لَا يُحْسَبُ: كان شعب إسرائيل مختلفًا عن بقية الشعوب، لأن الله اختاره لأداء دورٍ خاصٍّ في خطته لفداء العالم، التي تتكشَّف تدريجيًّا. فإن شعب إسرائيل كان مختلفًا لأن إلهه كان مختلفًا.
• شَعْبٌ يَسْكُنُ وَحْدَهُ: “سيظل هذا الشعب دائمًا شعبًا مميَّزًا. تحققت هذه النبوة حرفيًّا طوال فترة ٣٣٠٠ سنة وحتى يومنا هذا. وهذا أمر مذهل بحقٍّ.” كلارك (Clarke)
٥. مَنْ أَحْصَى تُرَابَ يَعْقُوبَ وَرُبْعَ إِسْرَائِيلَ بِعَدَدٍ: من خلال بَلْعَام، وعد الله بأن يبارك شعب إسرائيل، وذلك بأن يجعلهم شعبا مميَّزًا ومتفرِّدًا، وبأن يباركهم بكثرة العدد. ينتابنا هنا شعور بأن بَلْعَام نظر إلى إسرائيل من فوق، فرأى محلتهم الشاسعة، وأصيب بالذهول من ضخامة عددهم، ومن بركة الإثمار والازدهار التي تمتَّعوا بها.
• إن عبارة ’تُرَابَ يَعْقُوبَ‘ هي إشارة واضحة إلى الوعد الذي قطعه الله لإبراهيم ولنسله في العهد من بعده (تكوين ١٣: ١٦).
٦. لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الْأَبْرَارِ، وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ: اختتم بَلْعَام مَثَلِهِ (وهو مصطلح آخر يشير إلى النبوة) بهذا التوق. كان بَلْعَام ضمن كثيرين يتوقون إلى أن يموتوا مَوْتَ الْأَبْرَارِ، لكنهم مع ذلك لا يرغبون في أن يعيشوا حياة الأبرار. وموت بَلْعَام (سفر العدد ٣١: ٨) يبدد فعليًّا أي أمل في تحقُّق أمنيته هذه. فلم تكن أمنيته خاطئة، لكنها أيضًا لم تكن كافية.
• “هذا الشعب ليسوا فقط أسعد من بقية الشعوب في هذه الحياة، كما ذكرتُ، وبالتالي فإن لعنتي لهم ستكون بلا جدوى، بل إنهم يتمتعون بامتياز خاص، وهو أنهم سيكونون سعداء أيضًا بعد الموت، حيث ستبدأ سعادتهم عندما تنتهي سعادة الآخرين. ولذلك، فإني أتمنى من كل قلبي أن تنال نفسي نصيبًا معهم عند موتي.” بوله (Poole)
• أولئك الذين يحاولون الفصل بين عيش الإنسان حياة الأبرار وبين موته مَوْتَ الْأَبْرَارِ يأملون في قطع سلسلة غير قابلة للقطع: “فإنهم يريدون أن يحطِّموا سلسلة الله، وأن يفصلوا السعادة عن القداسة، والخلاص عن التقديس، والغاية عن الوسيلة. فإنهم يريدون أن يرقصوا مع الشيطان طوال اليوم، ثم يتناولون العشاء مع المسيح في المساء؛ ويريدون أن يعيشوا طوال حياتهم في حضن دليلة، ثم يذهبون إلى حضن إبراهيم عندما يموتون.” تراب (Trapp)
• “هل أدركتم الآن أن مجرد التمني هو أمر باطل وعديم الجدوى؟ فقد تمنَّى بَلْعَام أن يموت موت الأبرار، لكنه قُتل في المعركة، وهو يحارب أولئك الأبرار أنفسهم الذين حسدهم.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (١١-١٢): خيبة أمل بَالاَق.
١١فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: «مَاذَا فَعَلْتَ بِي؟ لِتَشْتِمَ أَعْدَائِي أَخَذْتُكَ، وَهُوَذَا أَنْتَ قَدْ بَارَكْتَهُمْ». ١٢فَأَجَابَ وَقَالَ: «أَمَا الَّذِي يَضَعُهُ الرَّبُّ فِي فَمِي أَحْتَرِصُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؟».
١. مَاذَا فَعَلْتَ بِي: نستطيع أن نتفهَّم سبب انزعاج ملك موآب. فقد دفع أموالًا طائلة مقابل صب لعنة على شعب إسرائيل، إلا أن النبي باركهم عوضًا عن ذلك.
٢. أَمَا الَّذِي يَضَعُهُ الرَّبُّ فِي فَمِي أَحْتَرِصُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ: تكلَّم بَلْعَام مثلما يتكلَّم نبي حقيقي، لكنه في حقيقة الأمر كان نبيًّا فاسدًا. ونستطيع أن نشعر بمدى إحباطه، لأنه لم يستطع أن يرضي الملك الذي وعده بمنحه أموالًا كثيرة. لكن بَلْعَام كان قد سبق فأخبر بَالاَق بأنه لا يستطيع التكلُّم إلا بما يكلِّمه به الرب (سفر العدد ٢٢: ٣٨).
ثانيًا. النبوة الثانية: كلمة نبوية على فم بَلْعَام
أ ) الآيات (١٣-١٧): التجهيز للنبوة.
١٣فَقَالَ لَهُ بَالاَقُ: «هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ، وَكُلَّهُ لاَ تَرَى. فَالْعَنْهُ لِي مِنْ هُنَاكَ». ١٤فَأَخَذَهُ إِلَى حَقْلِ صُوفِيمَ إِلَى رَأْسِ الْفِسْجَةِ، وَبَنَى سَبْعَةَ مَذَابحَ، وَأَصْعَدَ ثَوْرًا وَكَبْشًا عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ. ١٥فَقَالَ لِبَالاَقَ: «قِفْ هُنَا عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ وَأَنَا أُوافِي هُنَاكَ». ١٦فَوَافَى الرَّبُّ بَلْعَامَ وَوَضَعَ كَلاَمًا فِي فَمِهِ وَقَالَ: «ارْجعْ إِلَى بَالاَقَ وَتَكَلَّمْ هكَذَا». ١٧فَأَتَى إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ مُحْرَقَتِهِ، وَرُؤَسَاءُ مُوآبَ مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ بَالاَقُ: «مَاذَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ؟»
١. هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ: أراد بَالاَق أن يغيِّر الكلام الذي نطق به بَلْعَام على شعب إسرائيل من البركة إلى اللعنة. وكان بَالاَق يأمل أنه بتغيير المكان الذي كان بَلْعَام يقف فيه (هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ)، وتغيير الزاوية التي كان بَلْعَام ينظر منها إلى شعب إسرائيل، ستتغيَّر النبوة. فقد بدا بَلْعَام منبهرًا جدًا بضخامة عدد شعب إسرائيل في النبوة الأولى (سفر العدد ٢٣: ١٠)، وبالتالي رأى بَالاَق أنه من الأفضل أن يوقفه في مكان حيث لا يقدر أن يرى سوى جزءًا من شعب إسرائيل كي ينطق بالمَثَل الثاني.
٢. وَبَنَى سَبْعَةَ مَذَابِحَ: كان بَالاَق يريد بشدة أن يلعن شعب إسرائيل، لدرجة أنه كان على استعداد أن يبني سَبْعَةَ مَذَابِحَ أخرى، ويزوِّد كلًّا منها بالذبائح.
٣. فَوَافَى الرَّبُّ بَلْعَامَ وَوَضَعَ كَلَامًا فِي فَمِهِ: مرة أخرى، لم يستطع بَلْعَام سوى أن يتكلَّم بالكلام الذي وضعه الله فِي فَمِهِ. فإن بَلْعَام لم يستطع أن يختلق رسالته الخاصة، ويدَّعي أنها من عند الرب، لمجرد إرضاء الملك بَالاَق.
ب) الآيات (١٨-٢٤): نبوة بَلْعَام الثانية: الله الذي لا يتغيَّر يبارك إسرائيل.
١٨فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «قُمْ يَا بَالاَقُ وَاسْمَعْ. اِصْغَ إِلَيَّ يَا ابْنَ صِفُّورَ. ١٩لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي؟ ٢٠إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أُبَارِكَ. فَإِنَّهُ قَدْ بَارَكَ فَلاَ أَرُدُّهُ. ٢١لَمْ يُبْصِرْ إِثْمًا فِي يَعْقُوبَ، وَلاَ رَأَى تَعَبًا فِي إِسْرَائِيلَ. الرَّبُّ إِلهُهُ مَعَهُ، وَهُتَافُ مَلِكٍ فِيهِ. ٢٢اَللهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ. لَهُ مِثْلُ سُرْعَةِ الرِّئْمِ. ٢٣إِنَّهُ لَيْسَ عِيَافَةٌ عَلَى يَعْقُوبَ، وَلاَ عِرَافَةٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ. فِي الْوَقْتِ يُقَالُ عَنْ يَعْقُوبَ وَعَنْ إِسْرَائِيلَ مَا فَعَلَ اللهُ. ٢٤هُوَذَا شَعْبٌ يَقُومُ كَلَبْوَةٍ، وَيَرْتَفِعُ كَأَسَدٍ. لاَ يَنَامُ حَتَّى يَأْكُلَ فَرِيسَةً وَيَشْرَبَ دَمَ قَتْلَى».
١. قُمْ يَا بَالَاقُ وَاسْمَعْ: في هذه الرسالة، وبَّخ الله بَالَاق، وعلَّمه شيئًا عن طبيعته كإله:
• الله لَيْسَ إِنْسَانًا، ولا يمكن أن يقبل رشوة، أو يُغوَى بالثروات (كما أُغوِي بَلْعَام).
• الله لا يَكْذِبَ، ولا يغيِّر رأيه (فَيَنْدَم)، كما يفعل الإنسان.
• الله يتمِّم كلمته دائمًا. فإذا قال يفعل (هَلْ يَقُولُ وَلَا يَفْعَلُ؟)
• لدى الله كلُّ القوة والقدرة اللازمَين لتنفيذ ما وعد به؛ فإنه سوف يَفِي.
٢. فَإِنَّهُ قَدْ بَارَكَ فَلَا أَرُدُّهُ: لم يكن في نطاق قدرة بَلْعَام أن يبارك إسرائيل أو يلعنهم. بل كلُّ ما كان بوسعه أن يفعله هو أن يخبر بما قاله الله. وبالتالي، فإذا قال الله أن شعب إسرائيل مبارَك، سيكون على بَلْعَام أن يقول ذلك أيضًا، بغض النظر عن مقدار المال الذي أعطاه بَالَاق إياه.
• “إن بركة الله فعالة وبلا رجعة، لدرجة أن حتى أشهر خبراء العرافة في ذلك الوقت لم يتمكنوا من مقاومة فاعليتها. فلا أحد غير الله كان يستطيع أن يُبطِل بركته على إسرائيل.” كول (Cole)
٣. لَمْ يُبْصِرْ إِثْمًا فِي يَعْقُوبَ، وَلَا رَأَى تَعَبًا فِي إِسْرَائِيلَ: من بين الأسباب التي جعلت الله ينطق بالبركة على شعب إسرائيل هو أنهم، في الوقت الراهن من حياتهم، لم يكونوا سالكين في إِثْم أو تَعَب واضح أو جسيم. وبالتالي، فإن الرَّبُّ إِلَهُهُ مَعَهُ، ولا عِيَافَةٌ عَلَى يَعْقُوبَ، وَلَا عِرَافَةٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ. وللتعبير عن ذلك بلغة رومية ٨: ٣١، نستطيع أن نقول إنه إذا كان الله مع إسرائيل، فمن عليهم؟
• واحدة من السمات المهمة للعهد الموسوي هي الوعد بالبركة واللعنة (كما نقرأ في لاويين ٢٦). فقد وعد الله بأن يبارك شعب إسرائيل إذا أطاعوه في العموم، وبأن يلعنهم إذا عصوه في العموم. وحين ذكر بَلْعَام أن الله لَمْ يُبْصِرْ إِثْمًا فِي يَعْقُوبَ، وَلَا رَأَى تَعَبًا فِي إِسْرَائِيلَ، كانت هذه وسيلة ليقول ما معناه: “وبالتالي، فبموجب عهد الله معهم، هم سيبارَكون.”
• “في ذلك الوقت الذي استأجر فيه بَالَاق بَلْعَام، لم يكن هناك أيُّ إثم صارخ أو خطية بغيضة في ذلك الشعب، تكون مثل الدخان الذي يزعج عيني الله، أو الرائحة الكريهة في أنفه؛ وبالتالي، لا يمكن لأي سحرٍ أن ينجح ضدهم.” تراب (Trapp)
• هذه الملاحظة ألمحت أيضًا إلى مبدأ مهم، وهو أنه إذا حدث واستسلم شعب إسرائيل للغواية، مرتكبين خطية عامة أو جسيمة، فبموجب العهد الذي قطعوه مع الرب، سيجلبون على أنفسهم اللعنة.
• “كما كان بَلْعَام يعرف أن لا أحد سوى إله إسرائيل يستطيع أن يلعنهم أو يقضي عليهم، كان يعرف أيضًا أن لا شيء سوى خطايا هذا الشعب يمكن أن يدفع هذا الإله إلى فعل ذلك. ولذلك، سلك بَلْعَام فيما بعد مسارًا صائبًا، وإن كان شريرًا، وهو أن يغوي الشعب بارتكاب الخطية، معرضًا إياهم بهذا للهلاك والخراب، كما نقرأ في سفر العدد الإصحاح ٢٥.” بوله (Poole)
• وَهُتَافُ مَلِكٍ فِيهِ: هذه أول إشارة محدَّدة وواضحة في الكتاب المقدس إلى مُلك يهوه في وسط شعبه. “تشبه هتافات الفرح والنصر هذه تلك الهتافات التي بها يستقبل الشعب ملكهم، حين يظهر في وسطهم خلال حدث رسمي، أو لدى عودته من الحرب بالنصرة والغنائم. فإن هذا التعبير يوحي ضمنًا بأن الله هو ملكهم وحاكمهم، وبالتالي فإنه يعبِّر عن شعورهم بالأمان، وعن ثقتهم التي في محلها في هذا الملك.” بوله (Poole)
٤. اللهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ: أشار ألن (Allen) وآخرون إلى أن زمن الفعل هنا يفيد الاستمرارية، وهذا يعني أن قدرة الله الشديدة وإحسانه إلى شعب إسرائيل يتجلَّيان في كونه أنقذهم مِنْ مِصْرَ، وكذلك في كونه مستمرًّا في إنقاذهم، كي يُدخِلهم إلى أرض كنعان مثلما وعد.
٥. لَهُ مِثْلُ سُرْعَةِ الرِّئْمِ: كلمة الرِّئْمِ (سفر العدد ٢٣: ٢٢؛ ٢٤: ٨) تُرجِمت إلى “unicorn” (وحيد القرن) في ترجمة الملك جيمس الإنجليزية. والأصل العبري لهذه الكلمة (reem) ورد تسع مرات في العهد القديم. والمعنى الكامن وراء هذه الكلمة العبرية هو إما قرن واحد وإما قرن عظيم. ويرى البعض أن هذه الكلمة تشير إلى وحيد القرن، في حين يرى البعض الآخر أنها تشير إلى ثور بري، أو تيس قوي.
• “كانت كلمة unicorn (أي وحيد القرن) التي استُخدِمت في ترجمة الملك جيمس الإنجليزية خاطئةً من الأساس، لأن الكلمة العبرية تشير إلى قرنين (ثنائي). وقد قامت ترجمة NIV الإنجليزية بترجمتها إلى ’قوة.‘” ألن (Allen)
• “الكائن المُشار إليه هنا هو إما وحيد القرن، الذي تحمل بعض السلالات المتحدِّرة منه قرنين على الأنف، أو الثور البري، أو الأرخص البري، أو الجاموس البري. ومع أن البعض يرون أن الحيوان المقصود هنا هو فصيلة من الماعز أو التيوس، يبدو أن وحيد القرن هو الحيوان المرجَّح.” كلارك (Clarke)
٦. إِنَّهُ لَيْسَ عِيَافَةٌ عَلَى يَعْقُوبَ، وَلَا عِرَافَةٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ: كان هذا أسلوبًا صارمًا ومباشرًا استخدمه الله ليقول لبَالاَق (وبَلْعَام أيضًا) ما معناه: “لا يمكنك أن تلعن شعب إسرائيل. فإن عيافتك (أي سحرك) لا يمكن أن يكون لها أيُّ تأثير.” فبدلًا من أن يُهزَم شعب إسرائيل من السحر (العيافة) أو العرافة، كان مثل الأسد الذي يلتهم فريسته.
ج) الآيات (٢٥-٢٦): خيبة أمل بَالاَق.
٢٥فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: «لاَ تَلْعَنْهُ لَعْنَةً وَلاَ تُبَارِكْهُ بَرَكَةً». ٢٦فَأَجَابَ بَلْعَامُ وَقَالَ لِبَالاَقَ: «أَلَمْ أُكَلِّمْكَ قَائِلًا: كُلُّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّبُّ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ؟».
١. لَا تَلْعَنْهُ لَعْنَةً وَلَا تُبَارِكْهُ بَرَكَةً: أصيب بَالاَق بالإحباط الشديد، وقال ما معناه: “إذا كنت لا تقدر أن تلعنهم، فعلى الأقل لا تذهب وتباركهم!”
٢. كُلُّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّبُّ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ: وهنا نرى مرة أخرى أن بَلْعَام كان رسولًا أو نبيًّا فاسد، لكنه لم يكن نبيًّا كذابًا. فلم يكن طمع بَلْعَام وفساده نموذجًا حسنًا، إلا أن تقيُّده بنقل كلام الله بكلِّ أمانة هو نموذج يجب أن يحتذي به العديد من وعَّاظ ومعلَّمي الكتاب المقدس في العصر الحديث. فببساطة، لم يكن بمقدور بَلْعَام أن يشكِّل رسالة الله كما يحلو له من أجل إرضاء سامعيه.
سنتناول الآيات الأربع الأخيرة من سفر العدد الإصحاح ٢٣ ضمن تفسير سفر العدد الإصحاح ٢٤.