سفر العدد – الإصحاح ١٢
انشقاق هارون ومريم
أولًا. مريم وهارون يوجِّهان اتهامًا إلى موسى
أ ) الآية (١): مريم وهارون ينتقدان زوجة موسى وزواجه.
١وَتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا، لأَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ امْرَأَةً كُوشِيَّةً.
١. وَتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى: مَرْيَم وَهَارُون هم أخوا موسى. وكان شجبهم لموسى ولزوجته الْكُوشِيَّةِ مثالًا لمبدأ أشار إليه يسوع فيما بعد، وهو أنه ليس من المستغرَب ألا يجد النبي كرامةً بين شعبه وأهل بيته (متى ١٣: ٥٧).
• بحسب رأي ألن (Allen)، تزعَّمت مَرْيَم هذا الشجب. “الفعل الذي يبدأ به هذا الإصحاح (تَكَلَّمَتْ)، الذي جاء في صيغة المفرد المؤنث، وكذلك وضع اسم مريم قبل اسم هارون، يشيران إلى أن مريم هي التي تزعَّمت الهجوم على موسى.”
• “ربما نبع استياؤها من أنه مع كونها نبية، فإنها لم تكن ضمن أولئك السبعين الذين اختيروا لمعاونة موسى في القيادة.” تراب (Trapp)
٢. بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا: كان هذا هو سبب شجبهما لموسى. يرى البعض أن هذا النص يمثِّل إشكالية، لأن خروج ٢: ١٦-٢٢ يَذكُر أن زوجة موسى (تُدعَى صَفُّورَة) كانت ابنة رجلٍ من مديان (وليس من كوش، أي الحبشة).
• يعتقد البعض أن صَفُّورَة كانت قد ماتت، وأن هذه المرأة الكوشية كانت زوجةً ثانيةً تزوجها موسى بعد وفاة صَفُّورَة. تذكَّر جيدًا أن موسى عاش حياة طويلة الأمد، وكان عمره في ذلك الوقت يزيد على ٨١ سنة. لذلك، من الممكن بالتأكيد أن يكون قد تزوَّج من أكثر من زوجة.
• يعتقد آخرون أن موسى اتخذ لنفسه زوجة ثانية إلى جانب صَفُّورَة. وهذا أمر محتمَل، لكنه يبدو احتمالًا مستبعدًا.
• لكن، يفترض آخرون أن يثرون، والد صَفُّورَة، كان فعليًّا من كوش (أي الحبشة)، لكنه انتقل إلى مديان، وهو ما يجعل صَفُّورَة كوشية المولد، لكنها عاشت في مديان.
• من المحتمَل أيضًا أن تكون كلمة كُوشِيَّةِ لفظًا ينم عن ازدراء، استُخدِم لانتقاد صَفُّورَة بسبب لون بشرتها الداكن.
٣. لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ امْرَأَةً كُوشِيَّةً: من المثير للاهتمام أنهما انتقدا موسى وامرأته بسبب أمرٍ خارج عن إرادتها، أي بسبب مظهرها، سواء لأنها كانت كوشية بالفعل (أفريقية ذات بشرة سوداء أو داكنة)، أو لأنها كانت ذات بشرة داكنة كما لو كانت كوشية.
• كما ستبيِّن الآيات التالية، لم تكن الشكوى ضد امرأة موسى هي المشكلة الفعلية. يُنتقَد الكثيرون بسبب أمور ليست هي المشكلة الفعلية، أو بسبب أمور خارجة عن سيطرتهم.
ب) الآية (٢): الاعتراض على سلطة موسى الروحية.
٢فَقَالاَ: «هَلْ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلَمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضًا؟» فَسَمِعَ الرَّبُّ.
١. هَلْ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ كان الغرض من هذا السؤال هو انتقاد موسى، حيث طُرِح السؤال على افتراض أن موسى كان شخصًا متكبِّرًا. وكانت الفكرة التي استندوا إليها هي أن موسى قدَّم نفسه للشعب في كبرياءٍ على أنه هو المتحدث الوحيد باسم الله إلى بني إسرائيل. ومع أن هذا الانتقاد قُدِّم في صورة سؤال، فإنه كان في الواقع هجومًا على سلطة موسى، وعلى الإله الذي أقام موسى.
• من ناحية، كانت الإجابة الصحيحة على سؤالهم هي “كلا،” أي إن الرب لم يكَلَّمَ مُوسَى وَحْدَهُ.
فقد تكلَّم الله إلى الشعب من خلال هارون في خروج ٤: ٣٠.
وتكلم الله مرة أخرى إلى هارون ومن خلاله في خروج ١٢: ١.
ونطقت مريم بكلمات موحى بها من الله في خروج ١٥: ٢٠-٢١.
وفي موقف آخر، تكلَّم الرب بشكلٍ ما من خلال شيوخ إسرائيل، في سفر العدد ١١: ٢٤-٢٥.
• لكن من ناحية أخرى، كانت الإجابة على سؤالهم هي “نعم،” أي إن الله كَلَّمَ مُوسَى وَحْدَهُ. فقد عيَّن الله موسى ليكون القائد الوحيد لإسرائيل، واستخدمه ليكون المتحدث بلسانه إلى شعب إسرائيل.
• كان منطق هارون ومريم كالتالي: “بما أننا نحن أيضًا نمتلك مواهب روحية، وقد سبق أن تكلَّم الله من خلالنا، فعلى موسى إذن أن يُشرِكنا معه في سلطته على جماعة إسرائيل.” ولم يفهما أن امتلاكهما مواهب روحية، أو استخدام الله لهما، ليس مبرِّرًا في حد ذاته لتوليهما مسؤولية وسلطة قيادية على شعب الله.
٢. أَلَمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضًا؟ من ناحية، كان هذا السؤال غريبًا، لأن الله كلَّم هارون ومريم بالفعل في خروج ٤: ٣٠؛ ١٢: ١؛ ١٥: ٢٠-٢١. ففعليًّا، لم يكن هذا سؤالًا، بل محاولة من مريم وهارون للرفع من شأن أنفسهما. فقد أرادا بعضًا من السلطة والاهتمام اللذين حظي بهما موسى بتعيين الله إياه.
• بتعيينٍ من الله، تولَّى موسى منصبًا قياديًّا منفردًا على شعب إسرائيل. فلم يكن الشعب تحت قيادة مجلس أو لجنة. ونرى هذا النوع من القيادة كثيرًا في الكتاب المقدس، في قادة مثل يشوع، وداود، ودانيال، ويعقوب، وبطرس، وبولس، وتيموثاوس، وتيطس. وكان أعظم مثالٍ لهذا النوع من القيادة هو يسوع المسيح، الذي أُوصينا بأن نتمثَّل بأسلوبه في القيادة.
• “بين الحين والآخر، نسمع بعض السذج أو غيرهم يبدون اعتراضهم على نظام ’القيادة المنفردة،‘ في حين أن القيادة المنفردة هي النظام الذي كان متبَعًا منذ بداية العالم وحتى يومنا هذا. وكلما حاولتَ أن تتبع أي شكل آخر من أشكال الخدمة، حتى وإن فعلتَ ذلك بتدقيق، ومن القلب، وفي استقلالية وشجاعة في نظر الله، فإنك سرعان ما ستجد نفسك سائرًا على رمال متحركة.” سبيرجن (Spurgeon, A Cheery Word in Troublous Times)
٣. فَسَمِعَ الرَّبُّ: بالطبع سَمِعَ الله. فإن الله يسمع دائمًا، ويسمع بحسب الواقع الحقيقي، وليس بحسب الظاهر. فقد اتهمت مريم وهارون موسى بالكبرياء، وكانت هذه هي الخطية نفسها التي دفعتهما إلى توجيه الاتهام إليه.
ج) الآية (٣): قلب موسى الحليم (المتضع).
٣وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.
١. وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا: لم يكن موسى يعاني من مشكلة مع الكبرياء، لكنه كَانَ حَلِيمًا جِدًّا. وعلى النقيض تمامًا، كان الذين اتهموه هم الذين يعانون من مشكلة الكبرياء.
• إذا كان موسى، ذلك الرجل الحليم أو المتضع بحق، قد اتُّهِم بالكبرياء والديكتاتورية، فهذا يبيِّن أن الاتهامات بالكبرياء والاستبدادية تكون في بعض الأحيان غير صحيحة. وفي هذه الحالة، كان الاتهام غير صحيح، مع أنه وُجِّه من أشخاص مقرَّبين من المتهم.
٢. أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ: هذه العبارة ستبدو متناقضة مع نفسها إذا كان موسى هو الذي كتبها. فلا يليق برجل حَلِيم جِدًّا (متضع) أن يكتب عن اتضاعه الشديد. ومع أن موسى هو كاتب الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس، فمن المحتمل أن يكون أحدهم قد أضاف هذا التعليق بعد موت موسى. وربما كان هذا الشخص هو يشوع، الذي كان يعرف موسى جيدًا.
• من الأجزاء الأخرى في أسفار موسى التي أكملها محرِّر لاحق بوحيٍ من الله هو حدث موت موسى في تثنية ٣٤. وربما كان يشوع أيضًا هو المحرِّر الذي أضاف تثنية ٣٤.
• من المهم أن ندرك أن موسى لم يبدأ حياته متضعًا (حليمًا) أكثر من الجميع. فقد نشأ، كونه أميرًا لمصر، معتزًّا بنفسه، وواثقًا من إمكانياته. لكن الزمن وحده، الذي قضاه موسى في فترة البرية في مكانة وضيعة، هو ما كان كفيلًا بأن يجعل منه رجلًا حليمًا متضعًا، قابلًا للاستخدام من الله بشكل كبير.
٣. فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا: يفترض مفسرون آخرون أن المعنى الأفضل لكلمة حَلِيمًا هو ’محبَط‘ أو ’بائس،‘ وأن هذه الكلمة تصف مرحلة من الإحباط والانحدار في حياة موسى.
• حَلِيمًا: “لم تُستخدم هذه الكلمة في موضع آخر إلا في الأدب الشعري. وهي تشير أحيانًا إلى الذين يعيشون في فقر حقيقي، أو إلى الأشخاص الضعفاء والعرضة للاستغلال من الآخرين (عاموس ٢: ٧؛ إشعياء ١١: ٤). ومثل هؤلاء عليهم أن يلجأوا إلى الله طلبًا للمساعدة، لأنهم عاجزون عن مساعدة أنفسهم.” وينهام (Wenham)
• “لا يوجد ما هو أنسب من كلمة ’بائس‘ لوصف موسى في سياق هذا الإصحاح. فقد كان موسى يتعرَّض لهجوم من كل جانب.” ألن (Allen)
• كان موسى ’بائسًا‘ بسبب “العبء الكبير الذي كان عليه أن يحمله، وهو عبء العناية بهذا الشعب وقيادتهم، وكذلك بسبب عدم امتنانهم وتمردهم سواء على الله أو عليه. ونرى في الإصحاح السابق لهذا أكبر دليل على هذا الكم من الإحباط والألم. فإن السلطة نفسها التي حسدها هؤلاء كانت متعبة ومؤلمة لصاحبها، وكانت أثقل من أن يتحمَّلها كاهلا أيِّ شخص كان.” كلارك (Clarke)
ثانيًا. الله يرد على اتهام مريم وهارون لموسى
أ ) الآيات (٤-٥): ظهور الله العجيب لمريم وهارون.
٤فَقَالَ الرَّبُّ حَالًا لِمُوسَى وَهَارُونَ وَمَرْيَمَ: «اخْرُجُوا أَنْتُمُ الثَّلاَثَةُ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ». فَخَرَجُوا هُمُ الثَّلاَثَةُ. ٥فَنَزَلَ الرَّبُّ فِي عَمُودِ سَحَابٍ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ، وَدَعَا هَارُونَ وَمَرْيَمَ فَخَرَجَا كِلاَهُمَا.
١. حَالًا: لم يحدث أيُّ تأخر في الرد. تحلُّ الكثير من دينونات الله بعد وقت طويل، على الأقل من المنظور البشري. لكن في بعض الأحيان، يجري الله عدله حَالًا.
٢. اخْرُجُوا أَنْتُمُ الثَّلَاثَةُ إِلَى خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ: استدعى الله هؤلاء الثلاثة إلى أمام خيمة الاجتماع، على الأرجح بصوت مسموع. ربما ظنَّت مريم وهارون أن الله سيستغل هذا الموقف لتقويم موسى، الذي ادَّعى كلاهما أنه متكبِّر ومستبد.
٣. فَنَزَلَ الرَّبُّ فِي عَمُودِ سَحَابٍ: أولى الله هذه المسألة المهمة اهتمامًا شخصيًّا وكبيرًا. فقد أراد أن يعلن مشيئته بوضوح.
ب) الآيات (٦-٩): دفاع الله عن موسى.
٦فَقَالَ: «اسْمَعَا كَلاَمِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. ٧وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. ٨فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟». ٩فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْهِمَا وَمَضَى.
١. فَمًا إِلَى فَمٍ… أَتَكَلَّمُ مَعَهُ: كان أساس شكوى مريم وهارون هو كالتالي: “ما الشيء الذي يميِّز موسى تحديدًا؟” وأوضح لهما الله هنا ما كان يميِّزه تحديدًا إلى هذا الحد. فمعظم الأنبياء يتلقُّون إعلانًا من الله في حلم أو رؤيا، لكن الله كان يتكلم مع موسى فَمًا إِلَى فَمٍ.
• إننا نفهم عبارة فَمًا إِلَى فَمٍ بمعنى التقارب الشديد في العلاقة، دون وجود عائق. لكننا لسنا نفهم ذلك بمعنى أن موسى رأى بالفعل وجه الله بصورة مادية. فمن جهة ذلك الأمر، يصحُّ ما أعلنه الله في خروج ٣٣: ٢٠، ’لَا تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرَانِي وَيَعِيشُ.‘
• وهذا أيضًا تثبته العبارة التالية: وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فإن هذا ما كان موسى يراه فعليًّا من الله بعيني جسده، فقط شِبْهَ الرَّبِّ، وليس شيئًا محدَّدًا أو ماديًا، لأنه لا يقدر أن يرى الرب ويعيش.
• هذا الوضوح في الإعلان الآتي من الله هو الذي ميَّز موسى. “فإن موسى وحده هو الذي استطاع أن يقترب من الجبل المقدس ويحدِّق في شخص الله. وهو وحده الذي كان وجهه يلمع بعد هذه اللقاءات. فقد يسمع الآخرون كلمات من الله، لكن موسى وحده هو الذي رأى شخص الله… فعلى أقل تقدير، تشير هذه الكلمات إلى مستوى غير مسبوق من الحميمية بين الله وموسى.” ألن (Allen)
• “كلمة ’شِبْه‘ تُستخدَم للتعبير عن مظاهر أو صور أو تماثيل بصرية لكائنات أرضية وسماوية (خروج ٢٠: ٤). رأى أيوب شِبْهَ شخصٍ ما، لكنه لم يتمكَّن من التعرُّف على الشخص الذي يمثِّله هذا الشبه (أيوب ٤: ١٦).” وينهام (Wenham).
٢. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هَكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لَا بِالْأَلْغَازِ: كان موسى يتمتع بشركة وثيقة لافتة للنظر مع الله؛ ولذلك، يجدر بنا أن نفكر في سبب ذلك:
• كان السبب هو أن الله كان يلزمه رجل قريب منه إلى هذا الحد، ليكون إناءً للإعلان، وقائدًا مناسبًا للأمة، خلال فترة الخروج المهمة من أرض مصر. وكانت هذه العلاقة الوثيقة عطية من الله كليِّ السيادة لموسى.
• كذلك، كان السبب هو أن موسى كان رجلًا حَلِيمًا (متضعًا). فالحلماء (المتضعون) وحدهم، أي الغيريُّون بالحقيقة وغير الأنانيين، هم الذين يمكن أن يتعاملوا بمسؤولية مع هذا المستوى العميق من الشركة مع الله.
• وكان السبب أيضًا هو أن موسى كان، في نظر الله، أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فإن برَّه وطهارته، اللذين تبرهنا على مدار أربعين سنة قضاها في خدمة الله في الخفاء في أبسط الأشياء، كشفت عن أمانة القلب التي رآها الله في موسى. “إن امتياز رؤية الله لا يُعطَى لأصحاب القدرات الذهنية العالية، أو المواهب العقلية العظيمة، بل يُعطَى للخدام الأمناء في إدارة بيت الله… فمثل هؤلاء هم الذين يستمتعون بالشركة مع الله وجهًا لوجه، وبالحديث معه فمًا إلى فم.” ماير (Meyer)
• أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي: اقتبس كاتب الرسالة إلى العبرانيين هذه الفكرة في عبرانيين ٣: ٥، ليعقد مقارنة بين موسى ويسوع. فحقًّا، كان موسى أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِ الله؛ أما يسوع، فكان ولا يزال هو الابن في بيت الله. كذلك، “عاين موسى شِبْهَ الرَّبِّ، وسمع كلمته، في حين كان يسوع هو الكلمة، وكان في صورة الله (يوحنا ١: ١٤-١٨؛ فيلبي ٢: ٦).” وينهام (Wenham)
٣. فَلِمَاذَا لَا تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟ تلقَّى موسى بالفعل دعوة ومؤهلات فريدة من الرب، حتى على الرغم من رفض مريم وهرون الاعتراف بذلك. وإنهما لم يعترضا على موسى بصفته قائدًا لإسرائيل، بقدر اعتراضهما عليه بصفته عبدًا (خادمًا) لله.
• لم يكن هذا يعني أن موسى فوق مستوى النقد. فلم يكن من المفترض أن يُطاع موسى ويُمتدح فحسب، وألا يُحاسَب البتة، أو تُطرَح عليه أسئلة عسيرة. ففي الواقع، قام قريب آخر لموسى، وهو يثرون حموه، بمواجهته، وطرح أسئلة عسيرة عليه، واستخدم الله يثرون بقوة عندما فعل ذلك (خروج ١٨: ١٢-٢٤).
• كان على مريم وهارون أن يَخْشَيَا أَنْ يَتَكَلَّمَا عَلَى مُوسَى، لأن نقدهما له كان تافهًا ومتعلقًا بأمر لا يمثل أهمية، أو خارج عن السيطرة، وهو جنسية زوجة موسى أو مظهرها.
• كذلك، كان على مريم وهارون أن يَخْشَيَا أَنْ يَتَكَلَّمَا عَلَى مُوسَى لأن نقدهما له كان ببساطة غير صحيح، وذلك لأن موسى لم يكن شخصا متكبرًا، بل كان الرجل الأكثر حلمًا (اتضاعًا) على وجه الأرض.
• وكان على مريم وهارون أن يَخْشَيَا أَنْ يَتَكَلَّمَا عَلَى مُوسَى أيضًا لأن نقدهما كان بدافع السعي وراء مصالحهما الشخصية، إذ كانا يشعران بالغيرة من كل الاهتمام الذي حظي به موسى، وأرادا بعضًا من هذا الاهتمام نفسه لنفسهما.
• على القادة في بيت الله أن يكونوا خاضعين للمساءلة، ومنفتحين أمام النقد وطرح الأسئلة. لكن، ينبغي ألا يجعلوا من أنفسهم فريسة سهلة لأولئك الذين يوجِّهون إليهم انتقادات تافهة، وخاطئة، ومدفوعة بدوافع شخصية.
٤. فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْهِمَا وَمَضَى: بعدما أظهر الله غضبه، مضى حضوره الملحوظ من أمامهم. وكانت هذه الوقفة غير مطمئنة للغاية لمريم وهارون.
ثالثًا. معاقبة الله لمريم وهارون
أ ) الآية (١٠): مريم تصير بَرْصَاء.
١٠فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ السَّحَابَةُ عَنِ الْخَيْمَةِ إِذَا مَرْيَمُ بَرْصَاءُ كَالثَّلْجِ. فَالْتَفَتَ هَارُونُ إِلَى مَرْيَمَ وَإِذَا هِيَ بَرْصَاءُ.
١. إِذَا مَرْيَمُ بَرْصَاءُ كَالثَّلْجِ: كان البرص مرضًا يتسبَّب في تحلُّل وتعفُّن الجسد. وكان الشخص المصاب به يُحسَب ميتًا مع أنه لا يزال يتنفس. وقد أصيبت مريم بحالة متقدمة من البرص (بَرْصَاءُ كَالثَّلْجِ) بصورة فورية. وفي تلك اللحظة، جعل الله ما في قلبها ينعكس على جسدها.
• “يربط البعض مرض البرص بداء هانسن أو مرض الجذام. لكن مرض الجذام لم يصل إلى الشرق الأوسط إلا في أزمنة العهد الجديد. كما أن الجذام الحقيقي لا يختفي تلقائيًّا، مثلما كانت الإصابات المختلفة المذكورة في لاويين ١٣-١٤ تختفي. لكن، كان البرص الكتابي عبارة عن إصابة جلدية، تتسبَّب في ظهور بقع على الجلد، وتقشُّر الجلد. وهو شبيه بالصدفية أو الأكزيما الشديدة. وربما كان تساقُط القشور من الجلد، المصاحب لمثل هذه الإصابات، هو ما أدَّى إلى تشبيه الشخص بالثلج، أو بالرضيع المولود ميتًا من بطن أمه.” وينهام (Wenham)
٢. فَالْتَفَتَ هَارُونُ إِلَى مَرْيَمَ وَإِذَا هِيَ بَرْصَاءُ: يبدو أن مريم لم تعرف في الحال أنها صارت برصاءً، لكن هارون هو الذي لاحظ الأمر أولًا عندما التفت ونظر إليها.
ب) الآيات (١١-١٢): اعتذار هارون.
١١فَقَالَ هَارُونُ لِمُوسَى: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، لاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا الْخَطِيَّةَ الَّتِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا. ١٢فَلاَ تَكُنْ كَالْمَيْتِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ رَحِمِ أُمِّهِ قَدْ أُكِلَ نِصْفُ لَحْمِهِ».
١. أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، لَا تَجْعَلْ عَلَيْنَا الْخَطِيَّةَ الَّتِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا: كان هارون شخصًا سريع التأثر. فحين أراد شعب إسرائيل وثنًا، اقتنع سريعًا بأن يصنعه لهم صنمًا (خروج ٣٢: ١-٦). كما أنه تأثر بأخته (التي يبدو أنها كانت المثيرة الأكبر للاضطراب والمشكلات، حيث جاء اسمها أولًا، وكانت أول من أصيب بالبرص). والآن، تأثَّر هارون سريعًا مرة أخرى، فعاد إلى حالة الخضوع لموسى.
• أشار آدم كلارك (Adam Clarke) إلى واحد من الأسباب المحتملة لإصابة مريم بالبرص وعدم إصابة هارون به، قائلًا: “لو كان [هارون] قد ضُرِب بالبرص، لكانت طبيعته المقدَّسة قد تضرَّرت بشدة، ولتعرَّض الكهنوت نفسه على الأرجح للازدراء. فكم من كهنة وكارزين كانوا يستحقون أن يوبَّخوا، وأن يُلحَق بهم العار، لكنهم أعفوا من ذلك بسبب الطبيعة المقدَّسة التي يحملونها، لئلا تلام الخدمة! لكن الله العادل سوف يفتقد تعدياتهم بطريقة أخرى، إذا لم يندموا عليها، ويجدوا رحمةً في المسيح. فلا شيء يشوِّه مصداقية عمل الله أكثر من خطايا وسقطات أولئك الذين يخدمون في أمور الله المقدَّسة.”
• حَمِقْنَا بِهَا: “الأصل العبري لهذه الكلمة هو yaal، وهو لفظ نادر الاستخدام، جاء في إشعياء ١٩: ١٣؛ إرميا ٥: ٤؛ ٥٠: ٣٦ للإشارة إلى شخص يتصرف بطريقة مضلَّلة، نتيجة جهلٍ وافتقارٍ إلى معرفةٍ بالله وبطرقه.” كول (Cole).
• “ارتعد هارون لأنه نجا بأعجوبة، فلم يسعه سوى أن يعترف بحصته التي شارك بها في هذه المعصية.” واتسون (Watson)
٢. أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، لَا تَجْعَلْ عَلَيْنَا الْخَطِيَّةَ: دعا هارون موسى سيدًا (يَا سَيِّدِي)، ناسبًا إلى موسى المقدرة على ضرب مريم بالبرص. كذلك، اعترف هارون بأن انتقاده السابق له كان حماقة وخطية (الْخَطِيَّةَ الَّتِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا).
• للأسف، يبدو أننا عاجزون عن فصل التغيير الفوري والجذري الذي وقع في قلب هارون عن التهديد الذي تعرَّض له بأنه قد يكون الضحية التالية لدينونة الله. ولذلك، يرى البعض أن اعترافه هذا كان مدفوعًا بالأنانية والبحث عن المصلحة الشخصية.
ج) الآية (١٣): موسى يصلي لأجل مريم.
١٣فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ قَائِلًا: «اللّهُمَّ اشْفِهَا».
١. فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ: كانت هذه أول كلمة نطق بها موسى في هذا الإصحاح. فإنه لم يتكلَّم طوال الوقت الذي تعرَّض فيه للاتهامات والهجوم، بل ترك لله أمر الرد على منتقديه.
• عندما يدرك القائد أن الاتهامات الموجَّهة إليه تافهة، أو خاطئة، أو مدفوعة بدوافع شخصية، يكون التصرف الصائب في المعتاد هو أن يتجاهلها، ويترك أمرها لله، بينما يستمر في الانشغال بما دعاه الرب إلى القيام به كقائد. هذا ما فعله يسوع، كما نقرأ في إشعياء ٥٣: ٧، ’ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.‘
٢. اللَّهُمَّ اشْفِهَا: عندما تكلم موسى أخيرًا، صلَّى لأجل الذين اتَّهموه.
د ) الآيات (١٤-١٦): استرداد مريم.
١٤فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «وَلَوْ بَصَقَ أَبُوهَا بَصْقًا فِي وَجْهِهَا، أَمَا كَانَتْ تَخْجَلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ؟ تُحْجَزُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، وَبَعْدَ ذلِكَ تُرْجَعُ». ١٥فَحُجِزَتْ مَرْيَمُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَرْتَحِلِ الشَّعْبُ حَتَّى أُرْجِعَتْ مَرْيَمُ. ١٦وَبَعْدَ ذلِكَ ارْتَحَلَ الشَّعْبُ مِنْ حَضَيْرُوتَ وَنَزَلُوا فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ.
١. تُحْجَزُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تُرْجَعُ: شفى الله مريم في النهاية. فلو كانت قد ظلت برصاء، لما سُمح لها بالبقاء في محلة إسرائيل. فقد سُمح لها بأن تُرْجَعُ، لكن سمح الله بأن تعيش لمدة سبعة أيام بهذا الانعكاس المنظور لما كان بداخل قلبها، وسمح بأن ترى الأمة بأكملها ذلك.
٢. فَحُجِزَتْ مَرْيَمُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ: كان هذا حكمًا صائبًا، لأن مريم فعلت أمرًا مخزيًا أكثر من بصق أبيها في وجهها. فقد حاولت الإطاحة بقائد شعب الله، عن طريق توجيه انتقادات تافهة، وخاطئة، ومدفوعة بالسعي وراء المصلحة الشخصية.
• وَبَعْدَ ذَلِكَ ارْتَحَلَ الشَّعْبُ مِنْ حَضَيْرُوتَ: “بينما كانت مريم لا تزال في فترة العزل والتطهير الطقسي المطلوبة، بقيت محلة إسرائيل في حَضَيْرُوت. وربما نبع هذا التأخير من احترام أو تقدير لمريم ولمكانتها الرفيعة بصفتها ضمن قادة الجماعة. غير أنه لم يكن مسموحًا أيضًا لشعب إسرائيل بأن ينطلق إلى المرحلة التالية من رحلتهم إلى أرض الموعد إلا عندما يقودهم الرب من خلال السحابة. وبالتالي، برزت هنا بوضوح خطورة تمرُّد أحد قادة إسرائيل، وكيف أثَّرت عواقب هذا الفعل في الجماعة بأكملها.” كول (Cole)
٣. وَنَزَلُوا فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ: بعد مغادرة شعب إسرائيل جبل سيناء (سفر العدد ١٠: ١١-١٢)، وصلوا إلى نقطة الانطلاق للدخول إلى أرض كنعان وامتلاكها. فقد صاروا على أعتاب أرض الموعد، التي دعاهم الله إلى امتلاكها بالإيمان.
• “كانت برية فَارَان هي نقطة الانطلاق للهجوم على أرض كنعان… فقد حان الوقت الآن ليعيد شعب إسرائيل جمع صفوفهم، وليجروا استطلاعًا وتقييمًا، ويضعوا استراتيجيتهم قيد التنفيذ، ويشنُّوا هجومهم الانتصاري على الشعوب الكنعانية.” ألن (Allen)