سفر العدد – الإصحاح ١٤
الشعب يرفض كنعان
أولًا. تمرُّد بني إسرائيل في قادش برنيع
أ ) الآية (١): حُزن شعب إسرائيل بسبب وقوفهم أمام الاختيار بين الإيمان وعدم الإيمان.
١فَرَفَعَتْ كُلُّ الْجَمَاعَةِ صَوْتَهَا وَصَرَخَتْ، وَبَكَى الشَّعْبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
١. فَرَفَعَتْ كُلُّ الْجَمَاعَةِ صَوْتَهَا وَصَرَخَتْ: وقفت أسباط إسرائيل أمام تقريرين عن أرض الموعد. قال اثنان من الجواسيس الاثني عشر (كالب ويشوع): “إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا لِأَنَّنَا قَادِرُونَ عَلَيْهَا” (سفر العدد ١٣: ٣٠)، بينما كانت رسالة الجواسيس العشرة الآخرين هي: “إن ما وعد به الله بشأن هذه الأرض صحيحٌ، لكن رغم ذلك، سكان هذه الأرض جبابرة، ولن نستطيع التغلب عليهم، رغم ما وعد به الله” (كما نقرأ في سفر العدد ١٣: ٣١-٣٣).
• أُرسِل الجواسيس الاثنا عشر بصفتهم ممثِّلين عن الأسباط الاثني عشر (سفر العدد ١٣: ٢)؛ وبهذا، فإنهم كانوا حقًّا يمثلون شعب إسرائيل. وكان عدم إيمان معظم الجواسيس يمثِّل عدم الإيمان الذي كان سائدًا بين غالبية شعب إسرائيل.
• بكى الشعب لأن أرض كنعان بأكملها بدت أمامهم حصنًا منيعًا لا يمكن الاستيلاء عليه، ونسوا تمامًا أن الله حرَّرهم من عبوديتهم وهزم شعب مصر، وهي الأمة التي كانت أقوى بكثير من الكنعانيين.
• في هذا الجزء، تكرَّرت الكلمات “كل” و”جميع” كثيرًا:
“كُلُّ الْجَمَاعَةِ” (١٤: ١)
“جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (١٤: ٢)
“كُلُّ الْجَمَاعَةِ” (١٤: ٢)
“كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (١٤: ٧)
“كُلُّ الْجَمَاعَةِ” (١٤: ١٠)
“كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (١٤: ١٠)
• أولئك الذين لم يثقوا بالله وبوعده لم يكونوا أقلية، أو حتى أغلبية طفيفة، بل قد ساد عدم الإيمان بين شعب الله مثل الجائحة، مصيبًا جميع شعب إسرائيل تقريبًا. ونرى هنا سياسة القطيع في صورة شريرة ومدمرة.
• “إن الخوف مُعدٍ أكثر من الشجاعة، لأن أيَّ جماعة من الغوغاء دائمًا ما تميل إلى اتباع الغرائز الوضيعة أكثر من الغرائز السامية.” ماكلارين (Maclaren)
٢. وَبَكَى الشَّعْبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ: إن عدم إيمان الجواسيس العشرة كان يمثِّل بدقة عدم إيمان الأمة. فقد بَكَى بنو إسرائيل تِلْكَ اللَّيْلَةَ عندما سمعوا أن الأعداء في كنعان أقوياء. وكان لحزنهم الممزوج بالدموع أربعة جوانب مختلفة على الأقل:
• فقد ناحوا وبكوا لأن الله لن يجعل الأمر “يسيرًا” عليهم. ونحن كثيرًا ما نتوقَّع ذلك من الله، ولذلك فإننا عادة ما ننفر من الشدائد ونرفضها. وهذا يُعَد بمثابة نسيان لمثال يسوع، الذي واجه صعوبات كثيرة في حياته وخدمته. وننسى أننا، نحن التلاميذ، لسنا أفضل من معلِّمنا يسوع.
• ناحوا وبكوا في استياءٍ من الله، ملقين كلَّ اللوم عليه. وبهذا، أنكروا أن الرب أب محب يهتم بأولاده.
• ناحوا وبكوا في استسلام لمشاعر عدم الإيمان والخوف. وهذا الحزن سمح لمشاعرهم بأن تسيطر على أفكارهم وتصرفاتهم، بدلًا من أن توجَّه تلك المشاعر من خلال إيمان عاقل بالله الحي. وبالتالي، كانت هذه بمثابة ثقة آثمة وغير مؤمنة في مشاعر الخوف والحزن.
• ناحوا وبكوا على الخسارة التي لحقت بهم. إننا كثيرًا ما نبكي وننوح بسبب موت شيء ما. فقد شعر الشعب بأن الوعد بأرض كنعان قد مات، أي إنه أصبح مستحيلًا. لكن في المقابل، أراد منهم الله أن “يموتوا” عن عدم إيمانهم، وعن ثقتهم بأنفسهم.
٣. وَبَكَى الشَّعْبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ: دعا الله بني إسرائيل إلى امتلاك أرض كنعان، لكنهم تمرَّدوا عليه ببكائهم ونوحهم. فقد جعلهم عدم الإيمان يظنون أن الخير الذي من عند الله لهم (أي عطية أرض الموعد) هو شرٌّ.
• يبيِّن ذلك المأساة الكبيرة لعدم الإيمان. فبعد أقل من عامين على خروج شعب إسرائيل من أرض مصر، وقفوا على أعتاب أرض الموعد. وطوال الإصحاحات العشرة الأولى من سفر العدد، صار شعب إسرائيل على أتم الاستعداد ليعيشوا، ويتقدموا إلى الأمام، بصفتهم شعب أرض الموعد. فقد خضعوا لترتيب وتنظيم، وتطهير وتنقية، وتقدَّسوا وبورِكوا، وتعلَّموا العطاء، وتعلَّموا كيف يكونون كهنة. وفي تلك الفترة، جرى تذكيرهم بنجاتهم من الدينونة، وبالخلاص الذي تحقَّق لهم. كما أنهم وُهِبوا حضور الله ليكون مرشدًا لهم، ومُنِحوا أيضًا الأدوات اللازمة لقيادة الشعب. ومع ذلك، فإن عدم الإيمان منع هذا الشعب المتأهب من نوال مواعيد الله.
ب) الآيات (٢-٣أ): تمرُّد شعب إسرائيل عن طريق التذمُّر.
٢وَتَذَمَّرَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى هَارُونَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لَهُمَا كُلُّ الْجَمَاعَةِ: «لَيْتَنَا مُتْنَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ لَيْتَنَا مُتْنَا فِي هذَا الْقَفْرِ! ٣وَلِمَاذَا أَتَى بِنَا الرَّبُّ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ لِنَسْقُطَ بِالسَّيْفِ؟ تَصِيرُ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً…
١. وَتَذَمَّرَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى هَارُونَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: كان تذمُّرهم موجهًا في البداية إلى مُوسَى وَهَارُونَ، لكن لأنهما كانا القائدين المعيَّنين من الرب، فإنهم في الواقع تذمَّروا على الرب. فقد كان هدف موسى وهارون (وهو إدخال شعب إسرائيل إلى أرض الموعد) هو أيضًا هدف الرب. ولذلك، كان تذمر الشعب في الأساس على الله، حتى وإن حاولوا إخفاء ذلك بتوجيه تذمرهم إلى مُوسَى وَهَارُونَ.
• ربما ادَّعى بعضٌ من شعب إسرائيل أنهم يثقون بالله حقًّا، وادَّعوا أن مشكلتهم الأساسية كانت مع موسى وهارون، وليس مع الله. لكن بما أن موسى وهارون كانا موجَّهين، كما ينبغي، نحو تتميم قصد الله لشعب إسرائيل، فإن التذمر عليهما في هذا الأمر كان تذمرًا على الله.
• أدرك يشوع وكالب أن هذا كان تمردًا على يهوه: “إِنَّمَا لَا تَتَمَرَّدُوا عَلَى الرَّبِّ” (سفر العدد ١٤: ٩). وكان الرب أيضًا يعلم أن هذا تمردٌ عليه: “حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ؟” (سفر العدد ١٤: ١١).
٢. لَيْتَنَا مُتْنَا: بدا تحدي الإيمان الذي واجه الشعب عظيمًا ومخيفًا جدًا لدرجة أنهم فضَّلوا الموت على مواصلة تنفيذ خطة الرب لهم.
• “عندما يكون أحدهم في حالة تمرد على الله، يفقد عادة تماسكه وثباته الروحي، وتصير الحكمة والقدرة على التمييز أمرين بعيدي المنال، ويصير اتخاذ القرار السليم أمرًا بالغ الصعوبة، ويسيطر القلق والخوف على طريقة تفكيره.” كول (Cole)
• للأسف الشديد، أعطى الله هذا الجيل من بني إسرائيل ما تمنَّته قلوبهم المتمردة وغير المؤمنة. فقد ماتوا بالفعل في البرية، ولم يصلوا قط إلى أرض الموعد.
٣. وَلِمَاذَا أَتَى بِنَا الرَّبُّ إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ لِنَسْقُطَ بِالسَّيْف: اتهم الشعب الربَّ القدير هنا بصورة مباشرة بارتكابه إثمًا وشرًّا من نحوهم. فقد كانوا غاضبين من الله، واتهموه بالتخطيط لقتلهم وقتل نِسَاؤُهم وَأَطْفَالُهم.
• كانت هذه حالة من التمرد الشديد والعميق. فإن الله، الذي لا يمكن أن يصنع شرًّا، والذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، قد دُعي من شعبه شريرًا وقاتلًا.
• علَّق الله على هذه الأحداث لاحقًا، في المزمور ٩٥. ووصف ذلك بكلمة “مَرِيبَةَ” ([“تمرُّد”، بحسب ترجمات أخرى]، مزمور ٩٥: ٨)، حيث جرَّب شعب إسرائيل الرب، واختبروه، رغم أنهم أبصروا أفعاله القديرة (مزمور ٩٥: ٩). واستخدم كاتب الرسالة إلى العبرانيين هذه الأحداث للتحذير بجدية من عدم الإيمان (عبرانيين ٣: ٧-١٣، ١٦-١٩).
• يفترض البعض أنه من الصحي أن تغضب من الله، وتعبَّر عن غضبك منه، حتى يمكن أن تتصالحا معًا. صحيح أن الإنسان قد يغضب من الله، وأنه يجب أن يأتي بكل هذه المشاعر إليه، لكن من الخطأ أن نفترض أو حتى نلمح إلى أن مثل هذه المشاعر مبرَّرة. فإذا غضبنا من الله، نكون قد ارتكبنا خطية، لأن الله لم يفعل شيئًا على الإطلاق يستحق غضبنا منه. لذلك، علينا أن نأتي بهذه الخطية بصدقٍ أمام الله، لكن دون أن نشعر ولو للحظة واحدة بأنها مبرَّرة.
٤. تَصِيرُ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً: برَّر غير المؤمنين من شعب إسرائيل عدم إيمانهم هذا قائلين إنهم قلقين على نِسَاؤُهم وَأَطْفَالُهم. وللأسف، مات هؤلاء في البرية بسبب عدم إيمانهم، وورث أَطْفَالُهم – أي الجيل الجديد المؤمن – أرض الموعد.
• “فقط أطفالهم، الذين ادعى هؤلاء بوقاحة أن الله خطط لموتهم، هم الذين تمكَّنوا من دخول الأرض.” ألن (Allen)
• “لذلك، يا إخوتي، دعونا نُسقط كلَّ الأقنعة عن إحباطاتنا وتذمُّرنا، ونراها على حقيقتها؛ وعندئذ، سينكشف تشوُّهها الواضح، وسيتبيَّن أنها تشكيك في مصداقية الله. صحيح أن الصعوبات التي نواجهها قد تبدو شديدة، لكنها لا يمكن أن تكون شديدة بالنسبة للرب، الذي وعدنا بأن يَعظُم انتصارنا.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٣ب-٤): شعب إسرائيل يتمرَّد بتوقه إلى الرجوع إلى مصر.
٣… أَلَيْسَ خَيْرًا لَنَا أَنْ نَرْجعَ إِلَى مِصْرَ؟» ٤فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «نُقِيمُ رَئِيسًا وَنَرْجعُ إِلَى مِصْرَ».
١. أَلَيْسَ خَيْرًا لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى مِصْرَ: لم يكن هذا في الحقيقة خيرًا لهم. في الإصحاحات العشرة الأولى من سفر العدد، قاد الله شعب إسرائيل في عملية كان من شأنها أن تحولهم من شعب يفكر بعقلية العبيد إلى شعب “أرض الموعد.” لكنهم هنا تراجعوا بالكامل مرة أخرى إلى ما يمكن أن نسميه “عقلية العبيد،” وأعلنوا أنهم يفضلون العبودية في مصر على أن يسلكوا طريق الإيمان الذي قصده الله لهم.
• رفض شعب إسرائيل أن يعيشوا حياة الإيمان. فإذا كان الله ينوي أن يقودهم إلى مزيد من الثقة به والاتكال عليه، فإنهم لم يريدوا أن يكون لهم أي دخل في ذلك. فلا بأس أن يعطيهم الله أرض الموعد دون أن يضطروا للحصول عليها بالإيمان وبأعمال الإيمان. وبالتالي، فإنهم لم يرغبوا في سلوك طريق الإيمان.
• كثيرًا ما نعتقد أن اختبار الأمور المعجزية يبني وينمي الإيمان، لكن نادرًا ما يحدث ذلك. ففي العامين السابقين للإصحاح ١٤، اختبر شعب إسرائيل معجزات هائلة لا حصر لها، منها المعجزات اليومية من الإمداد بالمَنّ، وحضور الله في عمود النار وفي السحاب. لكن عندما حان الوقت للاتكال على وعد الله في لحظة حرجة، أخفقوا في ذلك.
• قطعًا، كان من شأن غير المؤمنين من شعب إسرائيل أن يدَّعوا إيمانهم بالله من جهة عدة أمور. فقد كانوا يؤمنون بأن حضوره سيلازمهم في عمود السحاب وعمود النار. وكانوا يؤمنون بأنه سيدبِّر لهم الْمَنّ كل يوم، وسيوفر لهم الماء حسب الحاجة. فقد كانوا يؤمنون به بالفعل من جهة أمور كثيرة، عدا من جهة هذا الأمر، وفي هذه اللحظة الحرجة أو هذا الاحتياج الملح. هكذا نحن أيضًا قد نؤمن بالله من جهة كل شيء عدا من جهة الأمر المحدَّد الذي نواجه فيه تحديًا.
• عندما لا نضع ثقتنا في الله، ونشك فيه، يجب أن نسأل أنفسنا أيَّ صفة من صفاته نعتقد أنها ستخيب؟ فهل نظن أن الله فقد قدرته؟ أم صلاحه؟ أم صدقه؟ أم أمانته؟ أم محبته؟
٢. نُقِيمُ رَئِيسًا وَنَرْجِعُ إِلَى مِصْرَ: كان هذا تمردًا بحتًا. فقد أعلنوا أنهم لا يريدون خطة الله، ولا رؤساء الله، ولا أرض الله. وهنا، ظن بنو إسرائيل أنهم أحكم من الله.
• “هذه المرة، اقترحوا بالفعل أن يعودوا إلى مصر، رافضين بهذا تمامًا خطة الفداء بأكملها.” وينهام (Wenham)
• كان تمردهم متمحورًا حول الإنسان. إذ تعني جملة ’فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‘ أنهم اتخذوا القرار فيما بينهم، معتقدين أن تصويت الأغلبية أحكم من رأي الله. ’نُقِيمُ‘ معناها أن اختيار الله لم يَعُد يروق لهم، ولذلك أرادوا رئيسًا يمثلهم بحقٍّ، ويمثِّل أيضًا تمرُّدهم على الله.
د ) الآيات (٥-٩): رد فعل موسى، وهارون، ويشوع، وكالب على تمرد الشعب.
٥فَسَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وَجْهَيْهِمَا أَمَامَ كُلِّ مَعْشَرِ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ٦وَيَشُوعُ بْنُ نُونَ وَكَالِبُ بْنُ يَفُنَّةَ، مِنَ الَّذِينَ تَجَسَّسُوا الأَرْضَ، مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا ٧وَكَلَّمَا كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلَيْنِ: «الأَرْضُ الَّتِي مَرَرْنَا فِيهَا لِنَتَجَسَّسَهَا جَيِّدَةٌ جِدًّا جِدًّا. ٨إِنْ سُرَّ بِنَا الرَّبُّ يُدْخِلْنَا إِلَى هذِهِ الأَرْضِ وَيُعْطِينَا إِيَّاهَا، أَرْضًا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا. ٩إِنَّمَا لاَ تَتَمَرَّدُوا عَلَى الرَّبِّ، وَلاَ تَخَافُوا مِنْ شَعْبِ الأَرْضِ لأَنَّهُمْ خُبْزُنَا. قَدْ زَالَ عَنْهُمْ ظِلُّهُمْ، وَالرَّبُّ مَعَنَا. لاَ تَخَافُوهُمْ».
١. فَسَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وَجْهَيْهِمَا: كان موسى وهارون في ذلك الوقت أكبر سنًّا وأكثر حكمة، ولذلك أدركا مدى سوء الوضع، فاكتفيا بالانحناء للصلاة، ولم يقولا كلمة واحدة للشعب (ربما شعرا بأن الكلام لن يجدي نفعًا). فقد علما أنهما يجب أن يصرخا إلى الله طلبًا لمعجزة، إذا أرادا إنقاذ حياة شعب إسرائيل.
• “لا عجب أن موسى وهارون سَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا، لا ليتضرَّعا لأجل الإبقاء على حياتهما، بل للتعبير عن هلعهما ورهبتهما من تجديف الشعب. فإن سقوط أحدهم على وجهه كان العلامة الأساسية في العهد القديم على العبادة والرهبة (تكوين ١٧: ٣؛ لاويين ٩: ٢٤). لكن في سفر العدد، كان هذا السقوط في المعتاد توقعًا وإنذارًا بفعل دينونة عظيم (راجع سفر العدد ١٦: ٤، ٢٢، ٤٥؛ ٢٠: ٦).” وينهام (Wenham)
٢. وَيَشُوعُ بْنُ نُونَ وَكَالِبُ بْنُ يَفُنَّةَ: كان يشوع وكالب، الجاسوسان الأمينان، أصغر سنًّا وأكثر تفاؤلًا من موسى وهارون، ولذلك حاولا إقناع الشعب.
• أظهر يشوع وكالب مدى خطورة الوضع عندما مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا، تعبيرًا عن حزنهما العميق ونوحهما. فقد تصرَّفا كما لو أن أحدهم قد مات، أو كان على وشك الموت.
• ذكَّر يشوع وكالب الشعب بأن الْأَرْضُ… جَيِّدَةٌ جِدًّا جِدًّا. فقد وعد الرب بأن أرض كنعان ستكون أرضًا جيدة، وقد كانت كذلك بالفعل، حيث رآها يشوع وكالب بأعينهما. وبالتالي، فإذا كان الله قد وعد بأن يتمكن شعب إسرائيل من امتلاك الأرض، عليهم إذن أن يثقوا بذلك الوعد أيضًا.
• عندما نظر شعب الله إلى عناقيد العنب الضخمة (سفر العدد ١٣: ٢٣، ٢٦-٢٧)، قال بعضهم: “هذه العناقيد الضخمة تثبت كم أن الأرض التي وعدنا بها الله جيدة. فقد قال الله إن الأرض ستكون جيدة، وهي كذلك بالفعل.” لكن غالبيتهم قالوا: “هذه العناقيد الضخمة تعني أن شعبًا عملاقًا ساكن في الأرض، وهم شعب أقوى من أن نتمكن من هزيمتهم.”
• “رأى هذان الرجلان ما رآه الآخرون جميعهم وأكثر. فقد أدركوا جيدًا كم كانت هذه الأرض جيدة، ولم يكونوا غافلين بأي شكل من الأشكال عن الصعوبات الهائلة التي كانت تحول بينهم وبين امتلاكها. لكنهم أيضًا رأوا الله. وإذ انطلقوا من هذه الرؤية، رأوا كل شيء آخر في ضوئها.” مورجان (Morgan)
• لِأَنَّهُمْ خُبْزُنَا: “إننا سنقضي عليهم بالسهولة نفسها التي نأكل بها خبزنا أو طعامنا العادي.” بوله (Poole)
• قَدْ زَالَ عَنْهُمْ ظِلُّهُمْ: “الكلمة العبرية التي تُرجِمت إلى ’ظل‘ هنا هي كلمة (sel). وهذه هي الترجمة المعتادة للكلمة. ففي المناطق الحارة والجافة في الشرق الأوسط، كانت فكرة الظل ترمز إلى النعمة والرحمة، وإلى التخفيف من الحرارة الحارقة (راجع مزمور ٩١: ١).” ألن (Allen)
• حذر يشوع وكالب الشعب قائلَين: إِنَّمَا لَا تَتَمَرَّدُوا عَلَى الرَّبِّ، وَلَا تَخَافُوا مِنْ شَعْبِ الْأَرْضِ… وَالرَّبُّ مَعَنَا. كان خوفهم وعدم إيمانهم تمرُّدًا متعمَّدًا. ولذلك، ناشد يشوع وكالب إرادة الشعب، وطلبا منهم أن يقرِّروا التخلي عن تمردهم، ويرجعوا إلى الرب. فلم يكن شعب إسرائيل مضطرين أن يستسلموا لمشاعر الخوف والغضب من الرب، الناتجة عن عدم الإيمان، بل كان بإمكانهم، بنعمة الله، أن يختاروا الخضوع لله والإيمان به.
هـ) الآية (١٠): استجابتان لمناشدة يشوع وكالب.
١٠وَلكِنْ قَالَ كُلُّ الْجَمَاعَةِ أَنْ يُرْجَمَا بِالْحِجَارَةِ. ثُمَّ ظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِكُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
١. قَالَ كُلُّ الْجَمَاعَةِ أَنْ يُرْجَمَا بِالْحِجَارَةِ: كانت هذه هي استجابة الشعب. فإن المتمردين وغير المؤمنين لا يستطيعون تحمُّل رجال الإيمان الذين يضعون أمامهم تحدِّي الإيمان. فقد أرادوا أن يقتلوا يشوع وكالب لأنهما دعاهما إلى التخلي عن عدم إيمانهم والثقة بالله.
• أولئك الذين يسلكون في تمرد وعدم إيمان ينزعجون عادة من الذين يسلكون بالإيمان، في خضوع لله، ولا سيما إذا حاول الذين يسلكون بالإيمان تقويم أو توجيه المتمردين وغير المؤمنين.
٢. ثُمَّ ظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ: كانت هذه هي استجابة الرب. لم تَذكُر الآية ١٠ بعد ما الذي فعله مجد الرب، لكن ليس من الصعب أن نخمِّن ذلك. فإن تصرفات ومشاعر الجواسيس العشرة غير المؤمنين، وغالبية شعب إسرائيل، كانت متعارضةً مع مجد الرب.
• كان عدم الإيمان متعارضًا مع مجد الرب.
• كان البكاء بسبب صعوبة طريق الإيمان متعارضًا مع مجد الرب.
• كان التوق إلى الموت متعارضًا مع مجد الرب.
• كان اتهام الله بالتخطيط لقتلهم متعارضًا مع مجد الرب.
• كانت الرغبة في الرجوع إلى عبودية أرض مصر متعارضة مع مجد الرب.
• كان رفض الرؤساء الذين أقامهم الله متعارضًا مع مجد الرب.
• كان التهديد بقتل الذين دعوهم إلى مزيد من الثقة بالله متعارضًا مع مجد الرب.
ثانيًا. تَشَفُّع موسى الرائع عن بني إسرائيل
أ ) الآيات (١١-١٢): دعوى الله ضد شعب إسرائيل، وتقديم عرض لموسى.
١١وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هذَا الشَّعْبُ؟ وَحَتَّى مَتَى لاَ يُصَدِّقُونَنِي بِجَمِيعِ الآيَاتِ الَّتِي عَمِلْتُ فِي وَسَطِهِمْ؟ ١٢إِنِّي أَضْرِبُهُمْ بِالْوَبَإِ وَأُبِيدُهُمْ، وَأُصَيِّرُكَ شَعْبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ».
١. وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هنا، لم يكلِّم الله شعب إسرائيل كأمة. فقد علم أنهم تجاوزوا مرحلة الرغبة في الاستماع إليه. ولذلك، كلم الرب موسى مباشرة.
• كثيرون من أولاد الله الذين يسلكون في تمرُّد يتساءلون لماذا لم يعودوا يسمعون صوت الله، ولماذا لم يعد الله يكلِّمهم من خلال الكتاب المقدس كما كان يفعل قبلًا. لكن في الواقع، عندما نرفض ما قاله الله بالفعل، نسد آذاننا عما قد يواصل التكلم به إلينا من خلال الكتاب المقدس.
٢. حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ: لم يكن الله إلا صالحًا ومحسنًا تجاه شعب إسرائيل، وقد أظهر لهم قوته المُحِبة مرات لا حصر لها. ولذلك، كان رفضهم له غير منطقي. وكان من حق الله أن يتساءل قائلًا: “حَتَّى مَتَى؟”
٣. إِنِّي أَضْرِبُهُمْ… وَأُبِيدُهُمْ: في هذا المقطع، قال الله إنه سيعطي شعب إسرائيل المتمرِّد ما يستحقونه، أي الدينونة. وستكون الدينونة هي ما أقرُّوا هم أنفسهم بأنهم يريدونه في سفر العدد ١٤: ٢، وهو أن يموتوا في البرية.
٤. وَأُصَيِّرُكَ شَعْبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ: كان هذا عرضًا مذهلًا قدَّمه الله لموسى. فقد عرض الله على موسى أن يتمِّم وعوده بأرض، وأمة، وبركة، التي وعد بها إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، من خلال موسى، وليس من خلال أسباط إسرائيل الاثني عشر ككلٍّ.
• كان هذا عرضًا مبهرًا لموسى. فقد عرض الله عليه منصب “الأب.” أي بأن يصير أبًا لشعب إسرائيل، كما كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. كان موسى يعرف بالتأكيد مدى عظمة هؤلاء الآباء وشهرتهم. فقد استخدمه الله ليجمع قصصهم في سفر التكوين.
• يجب أن نعتبر هذا عرضًا حقيقيًا من الله. فإن الرب لا ينطق بكلام في الهواء. فلو لم يكن موسى قد فعل أي شيء، لكانت خطة الله هذه ستدخل حيِّز التنفيذ، وكان الرب سيهلك شعب إسرائيل الحالي، ويقيم شعب إسرائيل جديدًا من نسل موسى. بل وقد وعد الله موسى أيضًا بأن هذا الشَعْب الجديد سيكون أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ من الشعب الحالي.
• قبل ذلك بنحو سنة، قدم الله عرضًا مشابهًا لموسى، مقترحًا عليه أن يقيم “شَعْبًا عَظِيمًا” من نسله بعدما يدين شعب إسرائيل في حالته الراهنة (خروج ٣٢: ٩-١٠).
ب) الآيات (١٣-١٦): موسى يشفع عن الشعب، محتكمًا إلى مجد الله.
١٣فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «فَيَسْمَعُ الْمِصْرِيُّونَ الَّذِينَ أَصْعَدْتَ بِقُوَّتِكَ هذَا الشَّعْبَ مِنْ وَسَطِهِمْ، ١٤وَيَقُولُونَ لِسُكَّانِ هذِهِ الأَرْضِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا أَنَّكَ يَا رَبُّ فِي وَسَطِ هذَا الشَّعْبِ، الَّذِينَ أَنْتَ يَا رَبُّ قَدْ ظَهَرْتَ لَهُمْ عَيْنًا لِعَيْنٍ، وَسَحَابَتُكَ وَاقِفَةٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ سَائِرٌ أَمَامَهُمْ بِعَمُودِ سَحَابٍ نَهَارًا وَبِعَمُودِ نَارٍ لَيْلًا. ١٥فَإِنْ قَتَلْتَ هذَا الشَّعْبَ كَرَجُل وَاحِدٍ، يَتَكَلَّمُ الشُّعُوبُ الَّذِينَ سَمِعُوا بِخَبَرِكَ قَائِلِينَ: ١٦لأَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُدْخِلَ هذَا الشَّعْبَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي حَلَفَ لَهُمْ، قَتَلَهُمْ فِي الْقَفْرِ.
١. فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: يبدو أن موسى لم يفكر في عرض الله ولو للحظة واحدة. لكنه تضرَّع لأجل الشعب، وأحبهم رغم تمرُّدهم.
• كتب آدم كلارك (Adam Clarke) عن كلمات صلاة موسى، قائلًا إنها كانت: “مليئة بالبساطة والحيوية. وكان جداله مع الله (لأنه تحاجج وتحاور مع خالقه بالفعل) موجَّهًا، ومُقنِعًا، ومفعَم بالاحترام. وفي حين أظهرت هذه الكلمات قلبًا مليئًا بالإنسانية، إلا أنها برهنت أيضًا على اهتمام شديد بمجد الله.”
٢. فَيَسْمَعُ الْمِصْرِيُّونَ الَّذِينَ أَصْعَدْتَ بِقُوَّتِكَ هَذَا الشَّعْبَ مِنْ وَسَطِهِمْ: طلب موسى من الله أن يرحم شعب إسرائيل الحالي لأجل مجده واسمه. كان موسى يعلم أنه إذا ضرب الله الشعب الحالي وأبادهم (سفر العدد ١٤: ١٢)، وأقام شعبًا جديدًا من موسى، فسيكون ذلك وصمة عار على اسم الله أمام الشعوب، ولا سيما أرض مصر.
• فربما تقول الشعوب الأخرى عندئذ إن الرَّبَّ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُدْخِلَ هَذَا الشَّعْبَ إِلَى الْأَرْضِ. وربما تقول الشعوب الوثنية إن خطية الإنسان وتمرده أعظم من قدرة الله وصلاحه.
• “هنا عرض الله على موسى فرصة لربحٍ خاص، لكن موسى رفض العرض بحكمة، لأن الله سيكون هو الخاسر فيها.” تراب (Trapp)
٣. الَّتِي حَلَفَ لَهُمْ: وضع موسى الله أمام وعده، وتوسل إليه ألا يعطي الشعوب الوثنية فرصةً للظن بأن الله لم يكن صادقًا في كلمته.
ج) الآيات (١٧-١٩): موسى يشفع عن الشعب، محتكمًا إلى قدرة الله ووعده.
١٧فَالآنَ لِتَعْظُمْ قُدْرَةُ سَيِّدِي كَمَا تَكَلَّمْتَ قَائِلًا: ١٨الرَّبُّ طَوِيلُ الرُّوحِ كَثِيرُ الإِحْسَانِ، يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ، لكِنَّهُ لاَ يُبْرِئُ. بَلْ يَجْعَلُ ذَنْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ إِلَى الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ. ١٩اِصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ هذَا الشَّعْبِ كَعَظَمَةِ نِعْمَتِكَ، وَكَمَا غَفَرْتَ لِهذَا الشَّعْبِ مِنْ مِصْرَ إِلَى ههُنَا».
١. لِتَعْظُمْ قُدْرَةُ سَيِّدِي: كان موسى يفتخر بقدرة الله، لكنه طلب منه أن يستخدم قدرته هذه في إظهار رحمة وطول أناة من نحو شعب إسرائيل المتمرد.
٢. كَمَا تَكَلَّمْتَ: هذه القائمة من الصفات الواردة في سفر العدد ١٤: ١٨-١٩ تكاد تكون اقتباسًا حرفيًّا من إعلان الله عن ذاته لموسى في اللقاء المثير الذي جرى بينه وبين الله في سفر الخروج ٣٤: ٦-٨.
• طَوِيلُ الرُّوحِ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ، يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ، لَكِنَّهُ لَا يُبْرِئُ … نِعْمَتِكَ: ذُكِر كل هذا للمرة الأولى في خروج ٣٤: ٦-٨.
• قال موسى ما معناه: “يا رب، أنت قد أعلنتَ لي عن ذاتك من خلال كلمتك. فإن كلمتك تعلن عن طبيعة شخصك. والآن يا رب، فلتصنع مع إسرائيل بحسب ما أعلنته في كلمتك عن ذاتك.”
٣. اِصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ هَذَا الشَّعْبِ كَعَظَمَةِ نِعْمَتِكَ: كان موسى يعرف قدرة الله، فاحتكم إليها. وكان يعرف وعد الله، فاحتكم إليه. وكان يعرف مجد الله، فاحتكم إليه. كان هذا مثالًا مذهلًا للشفاعة.
• لم يكن أسلوب موسى (أي الاحتكام إلى مجد الله، وقدرته، ووعده) هو الذي جعل هذه الشفاعة رائعةً في المقام الأول، بل بالأحرى قلب موسى وأحشاؤه. فهنا، لم يكن موسى أنانيًّا على الإطلاق، أو مهتمًّا بمجده الشخصي، بل كان مهتمًّا فقط بشعب إسرائيل. وقد أظهر أحشاءً مثل أحشاء الله تجاه شعبه، وهذا ما جعل شفاعته رائعة.
• “يمكن النظر إلى موسى هنا على أنه ظل خافت للمسيح. فإن ’مُوسَى كَانَ أَمِينًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ،‘ لكن يسوع هو الوسيط الحقيقي، الذي تتمثل شفاعته في تطبيق الفاعلية الدائمة لذبيحته. وهو الشفيع الذي يقول له الله دائمًا: ’قَدْ صَفَحْتُ حَسَبَ قَوْلِكَ.‘” ماكلارين (Maclaren)
ثالثًا. مصير شعب إسرائيل بعد تمرد قَادَش بَرْنِيع
أ ) الآية (٢٠): وعد الله بالصفح استجابةً لشفاعة موسى.
٢٠فَقَالَ الرَّبُّ: قَدْ صَفَحْتُ حَسَبَ قَوْلِكَ.
١. قَدْ صَفَحْتُ: نجحت أحشاء موسى وأسلوبه الشفاعي في المهمة. وما أحلى هذه الكلمات على مسامع أي خاطئ.
٢. حَسَبَ قَوْلِكَ: يعني ذلك أن صلاة موسى كانت مهمة. ربما يتساءل البعض إذا كانت الصلاة مجرد لعبة مدروسة، فيها يهدد الله بأن يفعل شيئًا لن يفعله أبدًا على أي حال، ثم نصلي نحن، متظاهرين بأننا نصدق أن الله سيفعل ما هدد به، وعندما يسمع الله صلاتنا، ينسى تهديده الفارغ، ويفعل ما كان ينوي القيام به من البداية. لكن الصلاة لا تعمل بهذه الطريقة على الإطلاق.
• إننا لسنا نفهم العلاقة بين خطة الله الأزلية والسيادية، وبين صلواتنا، لكننا نعلم أن الصلاة ليست لعبة. فلم يشأ الله قط أن يظن موسى أن صلاته عبارة عن لعبة، بل أراد الله أن يعرف موسى أن صلواته أحدثت تأثيرًا مباشرًا في النتيجة: قَدْ صَفَحْتُ حَسَبَ قَوْلِكَ! لذا، علينا أن نصلي كما لو أن الحياة والموت، والسماء والجحيم، هي أمور متوقفة على صلواتنا!
ب) الآيات (٢١-٢٥): مصير المتمردين ومصير الأمناء.
٢١وَلكِنْ حَيٌّ أَنَا فَتُمْلأُ كُلُّ الأَرْضِ مِنْ مَجْدِ الرَّبِّ، ٢٢إِنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَأَوْا مَجْدِي وَآيَاتِي الَّتِي عَمِلْتُهَا فِي مِصْرَ وَفِي الْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُونِي الآنَ عَشَرَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِي، ٢٣لَنْ يَرَوْا الأَرْضَ الَّتِي حَلَفْتُ لآبَائِهِمْ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ أَهَانُونِي لاَ يَرَوْنَهَا. ٢٤وَأَمَّا عَبْدِي كَالِبُ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ رُوحٌ أُخْرَى، وَقَدِ اتَّبَعَنِي تَمَامًا، أُدْخِلُهُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا، وَزَرْعُهُ يَرِثُهَا. ٢٥وَإِذِ الْعَمَالِقَةُ وَالْكَنْعَانِيُّونَ سَاكِنُونَ فِي الْوَادِي، فَانْصَرِفُوا غَدًا وَارْتَحِلُوا إِلَى الْقَفْرِ فِي طَرِيقِ بَحْرِ سُوفَ».
١. وَلَكِنْ حَيٌّ أَنَا فَتُمْلَأُ كُلُّ الْأَرْضِ مِنْ مَجْدِ الرَّبِّ: كان من شأن رد فعل الله تجاه شعب إسرائيل أن يكون ممتلئًا من مجده، وانعكاسًا لهذا المجد. فهو سيُظهِر رحمة وصفحًا، لكن على نحو متوافق مع مجده.
• “صحيح أن الذين تصرَّفوا بهذه الطريقة غير المقبولة لن يموتوا، لكن الأمور لن تعود أيضًا إلى ما كانت عليه قبل التمرد. كانت كلمات الله في الآية ٢١ حادة ومباشرة. فطالما كان حيًّا، وطالما كان مجده يملأ الأرض، سيتحتم إنزال عقوبةٍ.” ألن (Allen)
• وَجَرَّبُونِي الْآنَ عَشَرَ مَرَّاتٍ: “قال الله إن بني إسرائيل جربوه ’عَشَرَ مَرَّاتٍ،‘ وهو تعبير يشير إلى فعلٍ يمارَس بصفة مستمرة على مدار فترة زمنية طويلة. ومع أن التلمود البابلي أشار إلى عشرة مواقف محدَّدة من العصيان الإسرائيلي، استُخدِم هذا الرقم على الأرجح بأسلوب مجازي، أو ربما في تباين مع الضربات العشر التي أنزلها الله على المصريين.” كول (Cole)
٢. لَنْ يَرَوْا الْأَرْضَ الَّتِي حَلَفْتُ لِآبَائِهِمْ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ أَهَانُونِي لَا يَرَوْنَهَا: لذلك، فإن أولئك الذين جرَّبوا الله، وتمردوا على وعده، لن يروا أرض الموعد. وقد استُثنِيت من ذلك القلة الأمينة، مثل كالب ويشوع.
٣. وَأَمَّا عَبْدِي كَالِبُ… كَانَتْ مَعَهُ رُوحٌ أُخْرَى، وَقَدِ اتَّبَعَنِي تَمَامًا، أُدْخِلُهُ إِلَى الْأَرْضِ: امتدح الله كالب، الذي انحاز (مع يشوع) إلى صف الإيمان، في حين لم يصدق غالبية شعب إسرائيل وعد الله، ولم يؤمنوا بصلاحه.
• كان كالب عَبْدًا لله، وهذا لقب مبجَّل. ففي حين سلك جميع إسرائيل اتجاهًا واحدًا، كانت مع كالب رُوحٌ أُخْرَى، وظل أمينًا من نحو الرب.
• وَقَدِ اتَّبَعَنِي تَمَامًا: بحسب كلارك (Clarke) وآخرين، المعنى الحرفي لهذه العبارة العبرية هو “امتلأ ورائي.” فقد كان كالب كاملًا، أي ممتلئًا، في تبعيته للرب، دون أدنى تحفظ أو استثناء.
• نال كالب مكافأة رائعة ومناسبة. “مُنِح كالب نصيب أرض ضمن نصيب سبط يهوذا، في منطقة حبرون، وهي المدينة الذي ذكر النص صراحةً أنها كانت مسكن العناقيين العمالقة، وأنها أيضًا كانت قريبة من المكان الذي أُخِذ منه عنقود العنب الضخم.” كول (Cole)
٤. فَانْصَرِفُوا غَدًا وَارْتَحِلُوا إِلَى الْقَفْرِ: فقد جاء بهم الله إلى أعتاب أرض الموعد، لكنهم تمرَّدوا عليه، ولم يدخلوها، ولذلك سيعيدهم الله مرة أخرى إلى البرية.
• أثبت شعب إسرائيل أنهم لا زالوا يعيشون بعقلية العبيد، ولا يفكرون بطريقة شعب أرض الموعد. لذلك، فإن الأمر سيتطلب مزيدًا من التدريب في البرية، إلى أن يصير الجيل الجديد شعبًا مستعدًّا للعيش في أرض الموعد.
• “إن المصاعب والآلام التي تواجه الإنسان في طريق الابتعاد عن الله أشد بكثير من تلك التي تصيب عبيده (أو خدامه). فإن تبعية الرب تنطوي على صراعات ونزاعات، لكن تجنب المعركة لا يعطي حصانة من النزاعات.” ماكلارين (Maclaren).
ج) الآيات (٢٦-٣٥): الحُكم بالموت على المتمردين.
٢٦وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلًا: ٢٧«حَتَّى مَتَى أَغْفِرُ لِهذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَذَمِّرَةِ عَلَيَّ؟ قَدْ سَمِعْتُ تَذَمُّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي يَتَذَمَّرُونَهُ عَلَيَّ. ٢٨قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ، لأَفْعَلَنَّ بِكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ فِي أُذُنَيَّ. ٢٩فِي هذَا الْقَفْرِ تَسْقُطُ جُثَثُكُمْ، جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ حَسَبَ عَدَدِكُمْ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيَّ. ٣٠لَنْ تَدْخُلُوا الأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا، مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ. ٣١وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ، فَيَعْرِفُونَ الأَرْضَ الَّتِي احْتَقَرْتُمُوهَا. ٣٢فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هذَا الْقَفْرِ، ٣٣وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي الْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ حَتَّى تَفْنَى جُثَثُكُمْ فِي الْقَفْرِ. ٣٤كَعَدَدِ الأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي. ٣٥أَنَا الرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ. لأَفْعَلَنَّ هذَا بِكُلِّ هذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ. فِي هذَا الْقَفْرِ يَفْنَوْنَ، وَفِيهِ يَمُوتُونَ».
١. جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ… مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا: كلَّم الرب الشعب بالرسالة التالية: هذا الجيل سيموت في البرية، ولن يروا أرض الموعد على الإطلاق. بدا الأمر كما لو أن الله يقول لهم: “أنتم لم تريدوا الأرض عندما قُدِّمت لكم، ولذلك لن تحصلوا عليها البتة.”
• قال الشعب: “لَيْتَنَا مُتْنَا فِي هَذَا الْقَفْرِ!” (سفر العدد ١٤: ٢). والآن، سيحقِّق لهم الله رغبتهم. فإذا كانوا قد فضَّلوا الموت على السلوك بالإيمان، سيجعل الله هذا مصيرهم.
• جُثَثُكُمْ: “اللفظ المستخدم هنا للإشارة إلى أجسادهم المتناثرة… يُستخدم عادة لوصف الجثث البشرية التي تتناثر وتتبعثر على الأرض بعد انتهاء معركة عظيمة.” كول (Cole)
٢. مَا عَدَا كَالِبَ… وَيَشُوعَ: كان هذان الرجلان المؤمنان هما الاستثناء العظيم. فإنهما سيدخلان أرض الموعد لأن لديهما قلب وفكر الإنسان الجديد.
• لم يُستثنَ حتى موسى وهارون نفسهما. فإنهما لم يدخلا أرض الموعد، لكن لأسباب تخص كل واحدٍ منهما على حدةٍ. لكننا نتذكر جيدًا أن موسى لم يكن بريئًا تمامًا من الذنب في هذه المأساة بأكملها، لأنه وافق على طلب الشعب بإرسال جواسيس إلى الأرض، بدلًا من أن يأخذوا الأرض بالإيمان.
٣. وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ: بينما كان بنو إسرائيل يبرِّرون عدم إيمانهم، ادَّعوا قلقهم على أطفالهم (سفر العدد ١٤: ٣)، متَّهمين الله بأنه أتى بهم إلى البرية ليقتل نساءهم وأطفالهم. لكن في مفارقة عجيبة، قال الله إن أَطْفَالُهم هم الذين سيرثون الأرض، في حين سيهلك آباؤهم غير المؤمنين في القفر.
• وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ: كلمة فُجُور هنا تحمل معنى الزنا. وهي تشير في هذا السياق إلى الزنا الروحي، أي إلى خيانة الله عن طريق الولاء للأوثان. لسنا نقرأ في سفر العدد ١٤ عن أية أوثان حقيقية عبدها شعب إسرائيل، لكن من المؤكد أنهم صارعوا مع بعض الأوثان التي نصارع معها اليوم، مثل أوثان الراحة، والسعي وراء الأمان، ورفض المخاطرة بأي شيء بناء على وعد الله.
٤. الْأَرْضَ الَّتِي احْتَقَرْتُمُوهَا: لم يثق جيل عدم الإيمان بأن الله سيعطيهم أرض كنعان الجيدة، وكان هذا بمثابة احتقارٍ للأرض نفسها. فقد كانت أرض الموعد أرضًا تؤخَذ بالإيمان، إلا أن غير المؤمنين والمتمردين احْتَقَرْوا وعد الله الصالح، وبالتالي احتقروا الأرض نفسها.
٥. أَرْبَعِينَ يَوْمًا… أَرْبَعِينَ سَنَةً: أخفق الجواسيس، الذين كانوا يمثِّلون شعب إسرائيل بأكمله، في اختبار الأربعين يومًا. والآن، سيُختَبَر الشعب لمدة أربعين سنة، وسيخرجون من هذا الاختبار طاهرين، ومستعدين أن يرثوا أرض الموعد، لكن ليس قبل أن يفنى الجيل غير المؤمن والمتمرِّد في القفر.
• هذا الإخفاق في نوال وعد الله بالإيمان شكَّل نقطة تحوُّل في تاريخ شعب إسرائيل. وقد أشير إليه مرة أخرى في سفر العدد ٣٢؛ تثنية ١؛ نحميا ٩؛ مزمور ٩٥، ١٠٦؛ عاموس ٢، ٥؛ ١كورنثوس ١٠؛ عبرانيين ٣-٤.
• نستطيع أن نجد هنا تشابهًا روحيًّا مع الحياة في يسوع تحت العهد الجديد. فإن الإنسان العتيق، أي الإنسان الذي لا يزال خاضعًا لعقلية العبد للخطية، لا يستطيع أبدًا الدخول إلى مواعيد الله. لذلك، يجب أن يموت الإنسان العتيق، وعلى المؤمن أن يحسب هذا الأمر قد تم بالفعل في يسوع المسيح (رومية ٦: ٦).
• إن نقطة التحول هذه في تاريخ شعب إسرائيل تُعَد درسًا لا غنى عنه لكل مؤمن، كما نقرأ في مزمور ٩٥: ٧-١١: الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، فَلَا تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي مَرِيبَةَ، مِثْلَ يَوْمِ مَسَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ، حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. اخْتَبَرُونِي. أَبْصَرُوا أَيْضًا فِعْلِي. أَرْبَعِينَ سَنَةً مَقَتُّ ذَلِكَ الْجِيلَ، وَقُلْتُ: «هُمْ شَعْبٌ ضَالٌّ قَلْبُهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا سُبُلِي». فَأَقْسَمْتُ فِي غَضَبِي: «لَا يَدْخُلُونَ رَاحَتِي».
• ويضيف مزمور ١٠٦: ٢٤-٢٧ ما يلي: وَرَذَلُوا الْأَرْضَ الشَّهِيَّةَ. لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ. بَلْ تَمَرْمَرُوا فِي خِيَامِهِمْ. لَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ الرَّبِّ، فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيُسْقِطَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَلِيُسْقِطَ نَسْلَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَلِيُبَدِّدَهُمْ فِي الْأَرَاضِي.
• وبعد ذلك ببضعة قرون، أقرَّ رؤساء شعب إسرائيل بهذه الخطية في الصلاة التالية: وَلَكِنَّهُمْ بَغَوْا هُمْ وَآبَاؤُنَا، وَصَلَّبُوا رِقَابَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِوَصَايَاكَ، وَأَبَوْا الِاسْتِمَاعَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عَجَائِبَكَ الَّتِي صَنَعْتَ مَعَهُمْ، وَصَلَّبُوا رِقَابَهُمْ. وَعِنْدَ تَمَرُّدِهِمْ أَقَامُوا رَئِيسًا لِيَرْجِعُوا إِلَى عُبُودِيَّتِهِمْ. (نحميا ٩: ١٦-١٧أ)
• ويوضح عبرانيين ٣: ٧-٤: ١٦ أنه لدى الله موضع راحة، ووعدًا لكلِّ مؤمن بالدخول إلى هذه الراحة، لكن فقط بالإيمان. فإن غير المؤمن، والمتكل على نفسه، والمتمركز حول ذاته، لن يتمكن البتة من الدخول إلى راحة الله وإلى فيض غناه.
د ) الآيات (٣٦-٣٨): الحكم بالموت الفوري على الجواسيس العشرة غير الأمناء.
٣٦أَمَّا الرِّجَالُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ مُوسَى لِيَتَجَسَّسُوا الأَرْضَ، وَرَجَعُوا وَسَجَّسُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْجَمَاعَةِ بِإِشَاعَةِ الْمَذَمَّةِ عَلَى الأَرْضِ، ٣٧فَمَاتَ الرِّجَالُ الَّذِينَ أَشَاعُوا الْمَذَمَّةَ الرَّدِيئَةَ عَلَى الأَرْضِ بِالْوَبَإِ أَمَامَ الرَّبِّ. ٣٨وَأَمَّا يَشُوعُ بْنُ نُونَ وَكَالِبُ بْنُ يَفُنَّةَ، مِنْ أُولئِكَ الرِّجَالِ الَّذِينَ ذَهَبُوا لِيَتَجَسَّسُوا الأَرْضَ، فَعَاشَا.
١. أَمَّا الرِّجَالُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ مُوسَى لِيَتَجَسَّسُوا الْأَرْضَ… مَاتَ الرِّجَالُ… بِالْوَبَإِ أَمَامَ الرَّبِّ: إذا كان موت الجيل غير المؤمن قد استغرق نحو ٣٨ سنة (عدد السنوات المتبقية ليصير الزمن الإجمالي من بعد الخروج أربعين سنة)، فإن موت الجواسيس العشرة غير الأمناء حدث على الفور.
• الرِّجَالُ الَّذِينَ أَشَاعُوا الْمَذَمَّةَ الرَّدِيئَةَ: استغل آدم كلارك (Adam Clarke) الدينونة التي حلَّت على الجواسيس غير الأمناء، الذين أشاعوا المذمة الرديئة، كفرصةٍ لتحذير الكارزين غير الأمناء، الذين يحولون دون دخول الناس إلى وعود الله الأبدية، قائلًا: “ليحترس أولئك الذين يكرزون بكلمة الله من أن يضيِّقوا طريق الخلاص، أو يجعلوا ذلك الطريق الذي جعله الله واضحًا وسهلًا طريقًا محيرًا وصعبًا، من خلال وصفهم المجحف له.”
٢. فَمَاتَ الرِّجَالُ… بِالْوَبَإِ أَمَامَ الرَّبِّ: كانت هذه الدينونة التي وقعت على هؤلاء الجواسيس العشرة غير المؤمنين صارمة ومرعبة. فقد كانت خطيتهم أكبر من مجرد الخوف وعدم الإيمان، لكنهم دفعوا كل شعب إسرائيل إلى أن يحذوا حذوهم في عدم الإيمان.
هـ) الآيتان (٣٩-٤٠): توبة شعب إسرائيل غير الصادقة والسطحية.
٣٩وَلَمَّا تَكَلَّمَ مُوسَى بِهذَا الْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَكَى الشَّعْبُ جِدًّا. ٤٠ثُمَّ بَكَّرُوا صَبَاحًا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ قَائِلِينَ: «هُوَذَا نَحْنُ! نَصْعَدُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ الرَّبُّ عَنْهُ، فَإِنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا».
١. بَكَى الشَّعْبُ جِدًّا: عندما سمع شعب إسرائيل ردَّ الله على عدم إيمانهم، ورأوا الدينونة التي حلَّت على الجواسيس العشرة غير المؤمنين، أدركوا أنهم اتخذوا قرارًا خاطئًا، مدفوعًا بالخوف، وعدم الإيمان. ولذلك، بَكَى الشَّعْب، إذ أدركوا أنهم سوف يقاسون الموت طوال ٣٨ سنة في البرية بسبب ذلك القرار.
٢. ثُمَّ بَكَّرُوا صَبَاحًا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ قَائِلِينَ: «هُوَذَا نَحْنُ! نَصْعَدُ … فَإِنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا»: تمنَّى شعب إسرائيل أن يتمكنوا من تغيير عواقب ذلك القرار البشع الذي اتخذوه بدافع الخوف وعدم الإيمان. ولذلك، فعلوا الكثير من الأمور “الحسنة”:
• كانوا نشطين (بَكَّرُوا صَبَاحًا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ).
• أسلموا أنفسهم إلى موسى وإلى الله (هُوَذَا نَحْنُ).
• أعلنوا عن التزامهم بالمضي قدمًا في إيمان (نَصْعَدُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ الرَّبُّ عَنْهُ).
• اعترفوا بخطيتهم (فَإِنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا).
لكن، لم يقبل الله هذه الأفعال الصالحة الكثيرة، ولم يتراجع عن دينونته الرهيبة بأن يتيه هذا الجيل في البرية، ويموتوا هناك. فقد كانت هذه الأفعال مجرد محاكاة زائفة للتوبة الحقيقية.
و ) الآيات (٤١-٤٣): موسى يحذر شعب إسرائيل من أن توبتهم السطحية لن تحظى برضا الله.
٤١فَقَالَ مُوسَى: «لِمَاذَا تَتَجَاوَزُونَ قَوْلَ الرَّبِّ؟ فَهذَا لاَ يَنْجَحُ. ٤٢لاَ تَصْعَدُوا، لأَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ فِي وَسَطِكُمْ لِئَلاَّ تَنْهَزِمُوا أَمَامَ أَعْدَائِكُمْ. ٤٣لأَنَّ الْعَمَالِقَةَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ هُنَاكَ قُدَّامَكُمْ تَسْقُطُونَ بِالسَّيْفِ. إِنَّكُمْ قَدِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الرَّبِّ، فَالرَّبُّ لاَ يَكُونُ مَعَكُمْ».
١. لِمَاذَا تَتَجَاوَزُونَ قَوْلَ الرَّبِّ: رأى موسى خطبًا ما في هذه الكلمات وهذه الأفعال السطحية وغير الصادقة. فقد أظهروا ندمًا بسبب عواقب خطية الخوف وعدم الإيمان، لكنهم لم يُظهِروا توبة حقيقية عن خطاياهم الفعلية.
• نستطيع أن نشعر هنا بأن توبة إسرائيل لم تكن تجاوبًا مع تبكيت الروح القدس، بل كانت بمبادرة شخصية منهم، كمحاولة منهم لفرض مشيئتهم على خطة الله.
٢. فَهَذَا لَا يَنْجَحُ: تكلَّم موسى نيابة عن الله، محذرًا شعب إسرائيل من أنهم لن يستطيعوا الإفلات من عواقب خطيتهم التي ارتكبوها في اليوم السابق. فإذا حاولوا دخول كنعان قبل أن يقودهم الله إليها بالإيمان، لن يكون الرب فِي وَسَطِهمْ، وبالتالي سيخفقون. في بعض الأحيان، تأتينا فرصٌ خاطفة للسلوك بالإيمان، وإذا لم نغتنمها، فإنها ستمضي ولن تعود ثانيةً.
• “في بعض الأحيان، تكون عواقب الخطية والتمرد بلا رجعة، ويجب على الإنسان أن يتحمَّل دينونة الله، وبعدها يمكن أن تأتي البركة من خلال مسلك جديد.” كول (Cole)
ز ) الآيات (٤٤-٤٥): المحاولة الفاشلة للاستيلاء على أرض كنعان.
٤٤لكِنَّهُمْ تَجَبَّرُوا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ. وَأَمَّا تَابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ وَمُوسَى فَلَمْ يَبْرَحَا مِنْ وَسَطِ الْمَحَلَّةِ. ٤٥فَنَزَلَ الْعَمَالِقَةُ وَالْكَنْعَانِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي ذلِكَ الْجَبَلِ وَضَرَبُوهُمْ وَكَسَّرُوهُمْ إِلَى حُرْمَةَ.
١. تَجَبَّرُوا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ: كان شعب إسرائيل يأملون في النجاح في الاستيلاء على أرض كنعان دون حضور الله ومعونته (وَأَمَّا تَابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ وَمُوسَى فَلَمْ يَبْرَحَا مِنْ وَسَطِ الْمَحَلَّةِ).
• “هذا المشهد القصير يبرز بوضوح الرسالة التي تقدِّمها قصة التجسس بأكملها. فقد ظل شعب إسرائيل لا يأخذون الله على محمل الجد، ولا يصغون إلى موسى الذي عيَّنه الله ممثلًا له. ولذلك، فإنهم لن يدخلوا أرض كنعان إلى أن يتعلموا هذا الدرس، وقد يستغرق ذلك وقتا طويلًا.” وينهام (Wenham)
٢. فَنَزَلَ… الْكَنْعَانِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ وَضَرَبُوهُمْ وَكَسَّرُوهُمْ إِلَى حُرْمَةَ: سرعان ما فشلت محاولتهم للاستيلاء على أرض كنعان بحكمتهم وقوتهم الشخصية. فقد قاموا بمحاولة غير مجدية وفاشلة، كي يحققوا بالجسد ما كانوا قد رفضوا القيام به بالإيمان، فانتهت هذه المحاولة بهزيمتهم.
• من المفارقة العجيبة أنه عندما كان الله مع إسرائيل، لم يظنوا أن هذا كافٍ للاستيلاء على أرض كنعان. لكن عندما لم يعُد الله معهم، ظنوا أنهم قادرون على الاستيلاء على أرض كنعان.
• “إن الطبيعة البشرية المسكينة والضعيفة والساقطة، دائمًا ما تتمادى إلى واحد من طرفي نقيض. فقد ظن هذا الشعب البائس، قبل ذلك بفترة وجيزة، أنهم لن يتمكنوا من الاستيلاء على الأرض وامتلاكها، رغم وجود الله كليِّ القدرة معهم! والآن، تصوَّروا أنهم سيكونون مؤهَّلين لطرد سكان الأرض، وامتلاك أراضيهم، رغم عدم ذهاب الله نفسه معهم!” كلارك (Clarke)