١ صموئيل ٢٤
داود يستبقي شاول حيًّا
أولًا. داود يمتنع عن قتل شاول رغم وجود الفرصة لذلك.
أ ) الآيات (١-٢): شاول يسعى وراء داود في برية عين جدي.
١وَلَمَّا رَجَعَ شَاوُلُ مِنْ وَرَاءِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «هُوَذَا دَاوُدُ فِي بَرِّيَّةِ عَيْنِ جَدْيٍ». ٢فَأَخَذَ شَاوُلُ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَجُلٍ مُنْتَخَبِينَ مِنْ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَذَهَبَ يَطْلُبُ دَاوُدَ وَرِجَالَهُ عَلَى صُخُورِ ٱلْوُعُولِ.
١. وَلَمَّا رَجَعَ شَاوُلُ مِنْ وَرَاءِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ: في الإصحاح السابق، أنقذ الله داود بشكل معجزي بجذبه بعيدًا ليحارب الفلسطيين عندما كان قريبًا من الإمساك بداود. لكن عندما فرغ من الفلسطيين، رجع إلى مطاردته.
غالبًا ما نتمنى أن يكون انتصارنا التالي انتصارًا دائمًا. ونتمنى أن ييأس أعداؤنا الروحيون منا فلا نضطر للتعامل معهم بعد ذلك. فحتى عندما نحرز نصرًا عليهم ويرتدون، فإنهم يرجعون ويهاجمون. وسيستمر هذا حتى نذهب إلى المجد مع الرب. وهذا هو النصر الدائم الوحيد الذي سنجده.
٢. بَرِّيَّةِ عَيْنِ جَدْيٍ: يمتد وادي عين جدي إلى الغرب من البحر الميت. وما يزال بإمكان المرء أن يرى الجدول ذا الحجم الجيد المتدفق إلى أسفل الوادي، جاعلًا عين جدي وشلالاتها ونباتاتها تبدو وكأنها استوائية أكثر منها في وسط الصحراء.
يمكن أن يرى المرء كهوفًا كثيرة في التلال. ولهذا كان مكانًا رائعًا لاختباء داود ورجاله. وفي وسط الصحراء القاحلة الممتدة، يمكن للكشافة أن يتحرّوا بسهولة القوات المقتربة. وكانت هنالك مياه كثيرة، وحيوانات برية، وكهوف كثيرة، ومواقع دفاعية.
ب) الآية (٣): يدخل شاول بلا تردد، وعن جهل، المكان الذي اختبأ فيه داود ورجاله.
٣وَجَاءَ إِلَى صِيَرِ ٱلْغَنَمِ ٱلَّتِي فِي ٱلطَّرِيقِ. وَكَانَ هُنَاكَ كَهْفٌ فَدَخَلَ شَاوُلُ لِكَيْ يُغَطِّيَ رِجْلَيْهِ، وَدَاوُدُ وَرِجَالُهُ كَانُوا جُلُوسًا فِي مَغَابِنِ ٱلْكَهْفِ.
١. صِيَرِ ٱلْغَنَمِ: يشير هذا إلى أنه كان كهفًا كبيرًا يتسع لقطيع من الغنم، ويسمح لرجال داود الذين بلغ عددهم ٦٠٠ بأن يختبئوا في تجاويف الكهف.
٢. يُغَطِّيَ رِجْلَيْهِ (يقضي حاجته): بما أن الكتاب المقدس كتاب حقيقي يتعامل مع أشخاص حقيقيين يعيشون حياة حقيقية، فإننا لا نفاجأ عندما نراه يذكر اهتمام شاول باحتياجاته الشخصية. لكن شيئًا أساسيًّا وشائعًا كهذا تمّ توقيته وترتيبه من الله من دون أن تكون لشاول أية معرفة بهذا التوقيت والترتيب الإلهيين.
يشير ذهاب شاول لتغطية رجليه إلى أنه دخل الكهف وحده، بينما كان جنوده وحراسه في الخارج ينتظرونه.
٣. وَدَاوُدُ وَرِجَالُهُ كَانُوا جُلُوسًا فِي مَغَابِنِ ٱلْكَهْفِ: ما هي الاحتمالات؟ كان لا بد لشاول أن يقضي حاجته في نفس اللحظة التي مرّ بها في الكهف الذي اختبأ فيه داود. لم يكن هذا من قبيل الصدفة، بل ترتيبًا من الله ليمتحن داود، ويدرّبه، ويُظهر قلبه التقي.
ج) الآيات (٤-٧): يمنع داود نفسه ورجاله من قتل شاول.
٤فَقَالَ رِجَالُ دَاوُدَ لَهُ: «هُوَذَا ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي قَالَ لَكَ عَنْهُ ٱلرَّبُّ: هَأَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ فَتَفْعَلُ بِهِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ». فَقَامَ دَاوُدُ وَقَطَعَ طَرَفَ جُبَّةِ شَاوُلَ سِرًّا. ٥وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ قَلْبَ دَاوُدَ ضَرَبَهُ عَلَى قَطْعِهِ طَرَفَ جُبَّةِ شَاوُلَ، ٦فَقَالَ لِرِجَالِهِ: «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا ٱلْأَمْرَ بِسَيِّدِي، بِمَسِيحِ ٱلرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ هُوَ». ٧فَوَبَّخَ دَاوُدُ رِجَالَهُ بِٱلْكَلَامِ، وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَقُومُونَ عَلَى شَاوُلَ. وَأَمَّا شَاوُلُ فَقَامَ مِنَ ٱلْكَهْفِ وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ.
١. فَقَالَ رِجَالُ دَاوُدَ لَهُ: من الواضح أن رجال داود تحمّسوا لهذه الفرصة، واعتقدوا أنها هدية من الله. فكانوا يعلمون أنه ليس من قبيل الصدفة أن يأتي شاول بمفرده إلى ذلك الكهف في تلك اللحظة. ظنوا أن هذه كانت فرصة من الله لقتل شاول.
وعلى ما يبدو: وعد الله داود في مناسبات سابقة: “هَأَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ فَتَفْعَلُ بِهِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ.” فاعتقدوا أن هذا كان تحقيقًا لذلك الوعد، وأن على داود أن يأخذ هذا الوعد بالإيمان وبالسيف.
٢. فَقَامَ دَاوُدُ وَقَطَعَ طَرَفَ جُبَّةِ شَاوُلَ سِرًّا: يمكننا أن نتخيل داود وهو يستمع إلى هذه المشورة وسيفه يزحف بسرعة نحو شاول مغطىً بظلمة الكهف. وكان رجاله متحمسين. فحياتهم كطريدين ستنتهي عما قريب، وسرعان ما سينصَّبون كأصدقاء وشركاء لملك إسرائيل الجديد. لكن عندما اقترب داود من شاول ومدَّ يده، لم يَهْوِ به على رقبته أو يغرزه في ظهره. وبدلًا من ذلك، قطع سرًّا طرفًا من رداء شاول.
يتساءل بعضهم كيف أمكن داود ذلك من دون أن يتم اكتشافه. ربما وضع شاول رداءه في جزء من الكهف وقضى حاجته في جزء آخر منه. ولهذا لم يكن داود محتاجًا إلى الوقوف بجانبه ليقطع طرف ردائه. أو ربما كانت ضوضاء وجلبة من آلاف الجنود الواقفين خارج الكهف، إضافة إلى أصوات الخيول، بحيث لم يكن داود قابلًا للاكتشاف.
قرر داود أن يستبقي حياة شاول لأنه عرف أن الله وعده بأن يرث عرش إسرائيل. وعرف أن شاول كان في طريق ذلك الوعد. لكنه عرف أيضًا أن قتله لشاول سيكون عصيانًا للرب، لأن الرب وضعه في موضع سلطة. فكانت مهمة الله، لا داود، أن يتكفل بأمر شاول. أراد داود أن يتحقق الوعد، لكنه رفض أن يحققه من خلال عصيانه للرب.
أحيانًا، عندما يكون لدينا وعد من الله، فإننا نعتقد أننا مبررون في ارتكاب خطية لتحقيقه. وهذا خطأ دائمًا. فالله هو الذي يحقق وعوده. لكنه يفعل ذلك بطريقته وبشكل بار. وبدلًا من ذلك، ينبغي أن نكون مثل إبراهيم الذي أطاع الله باستعداده لتقديم ابنه ذبيحة رغم أن هذا بدا ضد تحقيق الوعد المقدم له (تكوين ٢٢). وبالأحرى، ينبغي أن نكون مثل يسوع الذي رفض عرض إبليس “استعادة العالم” على حساب العصيان (لوقا ٤: ٥-٨).
في كل هذا نرى أن داود لم يعرف كيف ينتظر عند الرب فحسب، بل عرف أن ينتظر الرب أيضًا: “نحن ننتظر عند الرب بالصلاة والتضرعات باحثين عن إشارة إلى إرادته. ونحن ننتظر الرب بالصبر والخضوع باحثين عن تدَخُّل يده.” (ماير) صمم داود على أن وصوله إلى العرش لن يعتمد على إزاحته لشاول من طريقه، بل على عمل الله في إزاحة شاول عن عرشه. أراد أن تكون بصمات الله، لا بصماته هو، على هذا العمل.
نرى أيضًا أن داود لم يخزن مرارة وغضبًا تجاه شاول. وحتى عندما جعل شاول حياة داود تعيسة، رفع داود الأمر إلى الرب. فكان الرب يطهره من الأذى والمرارة والغضب. ولو اختزن داود مثل هذه المشاعر تجاه شاول، لما قاوم التجربة بقتله في فرصة بدت خالية من المخاطر.
٣. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ قَلْبَ دَاوُدَ ضَرَبَهُ عَلَى قَطْعِهِ طَرَفَ جُبَّةِ شَاوُلَ: هذا ضمير رقيق ملحوظ في داود. قد ينزعج قلب كثيرين – لو كانوا في مكان داود – إذا لم ينتهزوا الفرصة لقتل شاول. لقد أنَّبَه ضميره على قطع طرف رداء شاول. لماذ؟ كان الرداء رمزًا لسلطة شاول الملكية. وقد أحس بالذنب بحق لأنه فعل شيئًا ضد مسيح الرب، الملك شاول.
يعبّر داود عن هذا بقوله: “حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا ٱلْأَمْرَ بِسَيِّدِي، بِمَسِيحِ ٱلرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ هُوَ.” رأى داود أفضل من أي شخص آخر أن شاول كان قائدًا مضطربًا وفاسدًا. لكن إزاحته هي في قدرة الله. ولن يفعل داود شيئًا لا يفعله إلا الله.
“كان ما فعله أمرًا تافهًا، غير أنه بدا إهانة لملك الله الممسوح، ولهذا ضربه قلبه. أحيانًا نقوم في محادثاتنا وانتقاداتنا بقطع طرف أو جزء من المعدن الأخلاقي لشخص ما، أو من تأثيره الصالح، أو تقدير الآخرين له. ألا ينبغي لقلبنا أن يضربنا بسبب هذا السلوك الطائش؟ ألا ينبغي أن نعترف ونجبر الكسر؟” ماير (Meyer)
٤. فَوَبَّخَ دَاوُدُ رِجَالَهُ بِٱلْكَلَامِ، وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَقُومُونَ عَلَى شَاوُلَ: لم يمنع نفسه من الانتقام فحسب، بل منع خدامه من هذا أيضًا. قد يقول كثيرون في مثل هذا الموقف: “حسنًا، لن أقتل شاول، لكن إن فعل هذا أحد خدامي، فماذا أفعل؟” وبهذا يتركون الباب مفتوحًا لقتل شاول. لكن داود لن يفعل شيئًا من هذا القبيل، فقام بمنع خدامه.
بِٱلْكَلَامِ (بهذه الكلمات): كانت هذه كلمات ضمير رقيق متواضع أمام الله. كانت كلمات رجل أنّبه ضميره على مجرد قطع طرف أو جزء بسيط من رداء شاول. فعندما رأى خدامه تقواه، وكيف أنه يريد أن يرضي االله في كل شيء، امتنعت قلوبهم عن فعل أي شر تجاه شاول.
ثانيًا. داود يناشد شاول.
أ ) الآية (٨): داود يكشف وجوده لشاول.
٨ثُمَّ قَامَ دَاوُدُ بَعْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنَ ٱلْكَهْفِ وَنَادَى وَرَاءَ شَاوُلَ قَائِلًا: «يَا سَيِّدِي ٱلْمَلِكُ». وَلَمَّا ٱلْتَفَتَ شَاوُلُ إِلَى وَرَائِهِ، خَرَّ دَاوُدُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ.
١. ثُمَّ قَامَ دَاوُدُ بَعْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنَ ٱلْكَهْفِ: قام داود بمخاطرة كبيرة هنا. كان بإمكانه أن يبقى مختبئًا وآمِنًا، لأن شاول لم يجده. لكنه سلّم نفسه لشاول، لأنه أراد أن ينتهز الفرصة لإظهار قلبه تجاه شاول والتصالح معه.
٢. يَا سَيِّدِي ٱلْمَلِكُ…. خَرَّ دَاوُدُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ: كان هذا خضوعًا عظيمًا من داود لشاول. ربما نعتقد أنه كان لدى داود الحق في أن يأتي إلى شاول كمساوٍ له. “لقد مُسِحنا كلانا ملكًا. ولديك الآن العرش. لكني سأحصل عليه ذات يوم، وأنت تعرف ذلك. والآن، أقول من ملك ممسوح إلى آخر: انظر كيف استبقيت حياتك.” لم تكن هذه نظرة داود على الإطلاق. بل قال: “يا شاول، أنت الملك، وأنا أعرف هذا. وأنا أوقّر مكانك كقائدي وملكي.”
عندما خرّ داود على وجهه إلى الأرض، وسجد، أظهر ثقة عظيمة بالله، لأنه جعل نفسه مكشوفًا بالكامل لشاول. فكان بإمكان الملك أن يقتله بسهولة في تلك اللحظة. لكن داود كان واثقًا بأنه إذا فعل الصواب أمام الرب، فسيحميه ويحقق وعده له.
ب) الآيات (٩-١٥): كلام داود إلى شاول.
٩وَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «لِمَاذَا تَسْمَعُ كَلَامَ ٱلنَّاسِ ٱلْقَائِلِينَ: هُوَذَا دَاوُدُ يَطْلُبُ أَذِيَّتَكَ؟ ١٠هُوَذَا قَدْ رَأَتْ عَيْنَاكَ ٱلْيَوْمَ هَذَا كَيْفَ دَفَعَكَ ٱلرَّبُّ ٱليَومَ لِيَدِي فِي ٱلْكَهْفِ، وَقِيلَ لِي أَنْ أَقْتُلَكَ، وَلَكِنَّنِي أَشْفَقْتُ عَلَيْكَ وَقُلْتُ: لَا أَمُدُّ يَدِي إِلَى سَيِّدِي، لِأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ هُوَ. ١١فَٱنْظُرْ يَا أَبِي، ٱنْظُرْ أَيْضًا طَرَفَ جُبَّتِكَ بِيَدِي. فَمِنْ قَطْعِي طَرَفَ جُبَّتِكَ وَعَدَمِ قَتْلِي إِيَّاكَ ٱعْلَمْ وَٱنْظُرْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِي شَرٌّ وَلَا جُرْمٌ، وَلَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ تَصِيدُ نَفْسِي لِتَأْخُذَهَا. ١٢يَقْضِي ٱلرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَيَنْتَقِمُ لِي ٱلرَّبُّ مِنْكَ، وَلَكِنْ يَدِي لَا تَكُونُ عَلَيْكَ. ١٣كَمَا يَقُولُ مَثَلُ ٱلْقُدَمَاءِ: مِنَ ٱلْأَشْرَارِ يَخْرُجُ شَرٌّ. وَلَكِنْ يَدِي لَا تَكُونُ عَلَيْكَ. ١٤وَرَاءَ مَنْ خَرَجَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ؟ وَرَاءَ مَنْ أَنْتَ مُطَارِدٌ؟ وَرَاءَ كَلْبٍ مَيْتٍ! وَرَاءَ بُرْغُوثٍ وَاحِدٍ! ١٥فَيَكُونُ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانَ وَيَقْضِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَرَى وَيُحَاكِمُ مُحَاكَمَتِي، وَيُنْقِذُنِي مِنْ يَدِكَ.
١. لِمَاذَا تَسْمَعُ كَلَامَ ٱلنَّاسِ ٱلْقَائِلِينَ: أظهر داود لطفًا كبيرًا ولباقة تجاه شاول. إذ عرف أن خوف شاول منه كان نابعًا من نفسه، لا من شخص آخر، لكنه وضع اللوم على أشخاص لم يُسَمِّهم حتى يسهل على شاول أن يقول: ’كانوا على خطأ،‘ بدلاً من أن يقول: ’كنتُ على خطأ.‘ فحتى في المواجهة، كان داود يغطّي خطية شاول.
“يقوم داود بحكمة وتواضع بنقل الذنب من شاول إلى أتباعه ومستشاريه الأشرار.” بوله (Poole)
ربما قال بعضهم: “يا داود، انشر الغسيل كما هو على الحبل! أخبر الحقيقة كما هي”، وسيفعل داود ذلك إلى حد ما. لكن حتى عندما يفعل هذا، فإنه يُظهر رحمة ولطفًا لشاول. وهنا يطبق داود أمثال ١٠: ١٢: “ٱلْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ ٱلذُّنُوبِ”، و١ بطرس ٤: ٨ “لِأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ ٱلْخَطَايَا.”
٢. لَا أَمُدُّ يَدِي إِلَى سَيِّدِي، لِأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ هُوَ: إن هذا المبدأ في التعامل مع انتقاد قادة الله الممسوحين جيد، لكنه في الغالب يساء استخدامه.
إن عبارة ’لَا أَمُدُّ يَدِي إِلَى سَيِّدِي، لِأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ،‘ أو ’لا تمس مسيح الرب‘ رائجة بين بعض المؤمنين وقادة كثيرين. وغالبًا ما يعني هذا لهم: “لا يمكنك أبدًا أن تنتقد راعيًا أو قائدًا. فهو فوق انتقادك أو توبيخك، فاصمتْ!” وهي تُستخدم أحيانًا حتى لمنع تقييم أو تعليم كتابي. لكن عندما استخدم داود هذه العبارة المتعلقة بعد إيذاء مسيح الرب، فقد عنى أنه لن يقتل شاول. لكن من الخطأ أن يستخدم الناس فكرة عدم المسّ بمسيح الرب لعزل القائد عن أي انتقاد أو مساءلة.
٣. ٱنْظُرْ أَيْضًا طَرَفَ جُبَّتِكَ بِيَدِي: كان هذا برهانًا أنه سنحت لداود فرصة كاملة لقتل شاول، لكنه لم ينتهز هذه الفرصة. وعندما أرى داود شاول القطعة الممزقة من ردائه، لا بد أن شاول سمع روح الله يكلّم قلبه بصوت عالٍ.
أرسل الله رسالة من خلال الرداء المقطوع. كان الرداء صورة لسلطة شاول الملكية. وقال الله من خلاله: ’سأقطع سلطتك الملكية.‘
في ١ صموئيل ١٥: ٢٧-٢٨، وبّخ النبي صموئيل شاول على تقسية قلبه وعصيانه لله. وحاول الملك في محنته أن يستبقي صموئيل في المكان ممسكًا بردائه، فتمزق جزء من ردائه. وعندما تُرك شاول ممسكًا بقطعة رداء صموئيل المقطوعة، قال له صموئيل: “يُمَزِّقُ ٱلرَّبُّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ عَنْكَ ٱلْيَوْمَ وَيُعْطِيهَا لِصَاحِبِكَ ٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.” والآن عندما واجه داود شاول بردائه الممزق، لا بد أن شاول تذكّر تلك الحادثة. فكانت رسالة الله إلى شاول عالية وواضحة.
٤. وَيَقْضِي (الرب) بَيْنِي وَبَيْنَكَ: لم يكن يحتاج داود إلى أن يفعل شيئًا غير أن يدافع عن نفسه أمام شاول. ورفع الأمر إلى الرب. وسيدع داود الرب يترافع في قضيته ويكون القاضي فيها. فلم يقتل شاول (يَدِي لَا تَكُونُ عَلَيْكَ) فحسب، لكنه برهن هذا بعدم قتله إياه عندما سنحت الفرصة له لذلك.
تقدّم ترجمة تفسيرية معنى جيدًا لنص ١ صموئيل ٢٤: ١٢ ’ربما سيقتلك الرب على ما تحاول أن تفعله بي، لكني لن أمد يدي عليك أبدًا.‘ وفي واقع الأمر، حمى داود شاول بمنع رجاله من قتله.
كان لا بد من أن يدان شاول، وأن يفقد عرشه. لكن عمل الله وحده، لا عمل أي شخص آخر، هو أن ينجز هذا الأمر. وقد صاغ يسوع المبدأ نفسه في متى ١٨: ٧ عندما قال ’وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ ٱلْعَثَرَاتِ! فَلَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي بِهِ تَأْتِي ٱلْعَثْرَةُ!‘ إن دينونة الله هي عمل الله. ونحن نضع أنفسنا في وضع سيئ عندما نجعل أنفسنا أدوات لدينونة الله.
٥. مِنَ ٱلْأَشْرَارِ يَخْرُجُ شَرٌّ. وَلَكِنْ يَدِي لَا تَكُونُ عَلَيْكَ: استخدم داود هذا المثل لتوضيح نقطة: “يا شاول، إن كنتُ شريرًا كما يقول مستشاروك عني، فيعني هذا أني كنت عازمًا على قتلك. وكان بإمكاني أن أفعل هذا العمل الشرير في الكهف. لكن لم يخرج شيء شرير مني عندما سنحت لي الفرصة. ويعني هذا أنه لا توجد نية شريرة تجاهك.
٦. فَيَكُونُ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانَ وَيَقْضِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَرَى وَيُحَاكِمُ مُحَاكَمَتِي، وَيُنْقِذُنِي مِنْ يَدِكَ: أخبر داود شاول ما مفاده: “ما زلت أتكل على الرب، وسينقذني من يدك.” وبدلًا من أن يجد داود طريقة للخروج من محنته في الجسد، فإنه فعل الأمر الأصعب. إذ اتكل على الله في إنقاذه، ولم يتكل على نفسه.
ثالثًا. رد فعل شاول لداود.
أ ) الآيات (١٦-١٩): شاول يكرم رحمة داود تجاهه.
١٦فَلَمَّا فَرَغَ دَاوُدُ مِنَ ٱلتَّكَلُّمِ بِهَذَا ٱلْكَلَامِ إِلَى شَاوُلَ، قَالَ شَاوُلُ: «أَهَذَا صَوْتُكَ يَا ٱبْنِي دَاوُدُ؟» وَرَفَعَ شَاوُلُ صَوْتَهُ وَبَكَى. ١٧ثُمَّ قَالَ لِدَاوُدَ: «أَنْتَ أَبَرُّ مِنِّي، لِأَنَّكَ جَازَيْتَنِي خَيْرًا وَأَنَا جَازَيْتُكَ شَرًّا. ١٨وَقَدْ أَظْهَرْتَ ٱلْيَوْمَ أَنَّكَ عَمِلْتَ بِي خَيْرًا، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَنِي بِيَدِكَ وَلَمْ تَقْتُلْنِي. ١٩فَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ عَدُوَّهُ، فَهَلْ يُطْلِقُهُ فِي طَرِيقِ خَيْرٍ؟ فَٱلرَّبُّ يُجَازِيكَ خَيْرًا عَمَّا فَعَلْتَهُ لِي ٱلْيَوْمَ هَذَا.”
١. أَهَذَا صَوْتُكَ يَا ٱبْنِي دَاوُدُ؟: أبدى شاول رد فعل عاطفيًّا، لأنه عاش في وهم أن داود عازم على النيل منه. ولا شك أن رفض داود لقتل شاول، عندما سنحت الفرصة له لذلك، برهن بشكل لا يدع مجالًا للشك أن هذا كان خطأ. وقد أحدثت طاعة داود لله، ومحبته لشاول، كل الفرق في تليين قلب الملك.
٢. أَنْتَ أَبَرُّ مِنِّي، لِأَنَّكَ جَازَيْتَنِي خَيْرًا… وَقَدْ أَظْهَرْتَ ٱلْيَوْمَ أَنَّكَ عَمِلْتَ بِي خَيْرًا، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَنِي بِيَدِكَ وَلَمْ تَقْتُلْنِي… فَٱلرَّبُّ يُجَازِيكَ خَيْرًا عَمَّا فَعَلْتَهُ لِي ٱلْيَوْمَ هَذَا: كان هذا تغييرًا مثيرًا في قلب شاول. فقد حدث كل تغيير تمنّاه داود في قلب شاول. وبدا الملك صادقًا حقًّا في ذلك حيث رَفَعَ شَاوُلُ صَوْتَهُ وَبَكَى. إذ وضع داود أكوامًا من جمرات اللطف على رأس الملك، فذاب قلبه.
ب) الآيات (٢٠-٢٢): شاول يتطلع إلى المستقبل.
٢٠وَٱلْآنَ فَإِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَكُونُ مَلِكًا وَتَثْبُتُ بِيَدِكَ مَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ. ٢١فَٱحْلِفْ لِي ٱلْآنَ بِٱلرَّبِّ إِنَّكَ لَا تَقْطَعُ نَسْلِي مِنْ بَعْدِي، وَلَا تُبِيدُ ٱسْمِي مِنْ بَيْتِ أَبِي». ٢٢فَحَلَفَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ. ثُمَّ ذَهَبَ شَاوُلُ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَمَّا دَاوُدُ وَرِجَالُهُ فَصَعِدُوا إِلَى ٱلْحِصْنِ.
١. وَٱلْآنَ فَإِنِّي عَلِمْتُ (يقينًا) أَنَّكَ تَكُونُ مَلِكًا: عرف شاول ذلك طوال الوقت (١ صموئيل ٢٣: ١٧)، لكنه عرف هذا الآن يقينًا.
٢. فَٱحْلِفْ لِي ٱلْآنَ بِٱلرَّبِّ إِنَّكَ لَا تَقْطَعُ نَسْلِي مِنْ بَعْدِي: أراد ببساطة نفس الوعد الذي قدّمه داود ليوناثان في ١ صموئيل ٢٠: ١٣-١٦. ففي ذلك الزمن، كان شائعًا أن تقتل العائلة المالكة الجديدة كل الحكام المحتملين من العائلة المالكة القديمة. وعرف شاول أن داود ونسله سيملكون على إسرائيل. فأراد وعدًا أن داود ونسله لن يقتلوا نسل شاول أو يسيئوا معاملتهم.
“كان يمكن لداود أن يلزم نفسه بالقسم، لكنه لا يستطيع أن يلزم الرب الذي تقدَّم له الوعود والنذور والأقسام التي تسره. وقد فعل داود هذا بأمر من الرب – ٢ صموئيل ٢١: ١٤.” بول (Poole)
٣. ثُمَّ ذَهَبَ شَاوُلُ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَمَّا دَاوُدُ وَرِجَالُهُ فَصَعِدُوا إِلَى ٱلْحِصْنِ: لم يرجع داود مع شاول ليُسترَد إلى بيته وإلى مكانه في القصر، لأن داود عرف، رغم ما عناه شاول في تلك اللحظة، أن الصراع سيبقى في مكان الانتصار.
في كثير من الأحيان، يتوب شخص ويدّعي أنه أدرك طرقه الآثمة، كما فعل شاول، لكن مشروعية التوبة وتغيير القلب لا يتجليان في العاطفة الآنيّة أو بصدق اللحظة، بل يتجليان من خلال الاتجاه المستمر لحياة المرء. وكان لداود كل الحق في أن يقول: “سأبقى في الحصن حتى أرى اتجاه حياة شاول.”
“يا لها من صورة بائسة لشاول؟ فما فائدة القول: “لقد كنتُ أحمق” إن كان سيستمر في حماقته؟ وما فائدة دموعه واعترافه أمام داود إن لم يتصرف وفق ندمه؟” ريدباث (Redpath)
في واقع الأمر، فإنه أسوأ لك أن يكون لديك هذا النوع من الاستجابة العاطفية إذا لم تُثمر عن توبة حقيقية. “إذا كان شخص ما مضطربًا عاطفيًّا، مثل شاول، واستيقظ على حقيقة حالته، ولم يطِع الله، فإن حالته أسوأ ألف مرة من حالته الأولى. فالعاطفة التي لا تؤدي إلى عمل تؤدي إلى عمق آخر في الخطية والتمرد.” ريدباث (Redpath)