١ صموئيل ١٨
الصراع بين شاول وداود
أولًا. داود ويوناثان وشاول
أ ) الآيات (١-٤): الصداقة بين داود ويوناثان.
١وَكَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلَامِ مَعَ شَاوُلَ أَنَّ نَفْسَ يُونَاثَانَ تَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ دَاوُدَ، وَأَحَبَّهُ يُونَاثَانُ كَنَفْسِهِ. ٢فَأَخَذَهُ شَاوُلُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَمْ يَدَعْهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ. ٣وَقَطَعَ يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ عَهْدًا لِأَنَّهُ أَحَبَّهُ كَنَفْسِهِ. ٤وَخَلَعَ يُونَاثَانُ ٱلْجُبَّةَ ٱلَّتِي عَلَيْهِ وَأَعْطَاهَا لِدَاوُدَ مَعَ ثِيَابِهِ وَسَيْفِهِ وَقَوْسِهِ وَمِنْطَقَتِهِ.
١. وَكَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلَامِ مَعَ شَاوُلَ: لَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلَامِ مَعَ شَاوُلَ حول قتل جليات، تأكَّدَ صيتُه في إسرائيل. فقد أدى عملًا بطوليًّا فذًّا، وتم الترحيب به في البداية من قيادة إسرائيل.
٢. أَنَّ نَفْسَ يُونَاثَانَ تَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ دَاوُدَ، وَأَحَبَّهُ يُونَاثَانُ كَنَفْسِهِ: ظهر يوناثان بن شاول من قبل في ١ صموئيل ١٤. وكان رجل إيمان شجاعًا بشكل ملحوظ، حيث بادر إلى شن حرب بمفرده على الفلسطيين.
كان يوناثان يشبه داود كثيرًا. كانا متقاربي العمر، مع أن يوناثان كان يكبره حوالي خمس سنوات على الأقل. كانا شجاعين ويثقان بالله كثيرًا. وكانا من رجال الفعل، لا الكلام. وأهم من هذا كله أنه كانت لديهما علاقة حميمة حقيقية بالرب.
وفي الوقت نفسه، كان داود ويوناثان مختلفين. كان يوناثان بكر ملك (١ أخبار ٩: ٣٩). وكان داود آخر مولود لمزارع. فلم يجعل هذا يوناثان أميرًا فحسب، بل وليّ العهد أيضًا. وحسب توقعات الجميع، سيكون ملك إسرائيل التالي.
٣. أَنَّ نَفْسَ يُونَاثَانَ تَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ دَاوُدَ: حدث هذا بعد أن فرغ داود من الكلام مع شاول. وسمع يوناثان داود وهو يقدم شرحًا مفصّلًا لقلبه وإيمانه بالإله الحي. وعرف يوناثان أنه يشترك مع داود في نفس القلب. وما كان ممكنًا أن يصبحا صديقين حميمين هكذا من دون أن يعرف يوناثان حقيقة داود.
حسب الطريقة التي يفكر فيها معظم الناس، كان يفترض أن يكون يوناثان أكثر الأشخاص خشية من نجاح داود. غير أنه أحب داود، لأنه جمعتهما علاقة بالرب الإله. فكان هذا أكبر من كل اختلاف.
٤. فَأَخَذَهُ شَاوُلُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ: لن يعود داود راعيًا مرة أخرى، لكنه احتفظ بقلب الراعي، غير أنه سيكون أكثر من راعٍ.
٥. وَقَطَعَ يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ عَهْدًا: كان هذان الرجلان في طريقهما إلى نفس العرش. ومع هذا، صنعا عهد صداقة تَبيَّنَ أنه أقوى من الغيرة والحسد والطموح.
٦. وَخَلَعَ يُونَاثَانُ ٱلْجُبَّةَ ٱلَّتِي عَلَيْهِ وَأَعْطَاهَا لِدَاوُدَ مَعَ ثِيَابِهِ وَسَيْفِهِ وَقَوْسِهِ وَمِنْطَقَتِهِ: عندما أعطى يوناثان داود ثيابه وسلاحه، قال بهذا العمل: “ستكون أنت ملك إسرائيل التالي. ينبغي أن ترتدي وتتسلح بصفتك وليّ العهد. فيد الله عليك. وهذه كلها تخصّك كحق مشروع.” ولأن يوناثان كان مستسلمًا لله، استطاع أن يرى يد الرب على داود. لقد عرف مصير داود، وكان مستعدًّا تمامًا للتخلي عن طموحه لإكرام اختيار الرب.
٧. وَأَعْطَاهَا لِدَاوُدَ: حصل داود على ثياب يوناثان وَسَيْفِهِ وَقَوْسِهِ وَمِنْطَقَتِهِ. ولكنه لم يقل أو يفكر لاحقًا: “هذا جيد يا يوناثان. صار واضحًا للجميع الآن من هو المدير هنا. ابتعد الآن عن طريقي لأنني سأحل محل والدك قريبًا جدًا.” ولكن استغرق استلام داود لعرش إسرائيل حوالي حوالي ٢٠ عامًا. إن كان يوناثان مستعدًا للاعتراف بأن هو الذي اختاره الله ليملك على إسرائيل، كان داود مستعدًا للسماح للرب بأن يجلسه على العرش، وأن يفعل ذلك وفقًا لتوقيته هو. فكلاهما خضع تمامًا للرب.
لم يستطع داود أن يقبل درع شاول وسلاحه، لكنه قبِل درع يوناثان وسلاحه، ليس لأنهما كانا أكثر تشابهًا في الحجم فحسب، بل لأنهما كانا يشتركان في نفس الروح أيضًا، وهذا أكثر أهمية. إذ كانا يحبان الله وعاشا من أجله، لا من أجل نفسيهما. وعرف كلاهما أنه إذا انقلبت الظروف، فإن داود سيفعل نفس الشيء ليوناثان، لأنهما كانا يشتركان في نفس الروح.
لو لم تحسم قضية ’من سيكون الملك التالي؟‘ في قلبَي يوناثان وداود، لما كان لديهما هذا النوع من المحبة والصداقة الحميمة. كانا يحبان أحدهما الآخر أكثر من عرش إسرائيل، لأنهما كانا يحبان الرب أكثر من عرش إسرائيل.
قرأ بعضهم علاقة جنسية مثلية في المحبة التي جمعت بين داود ويوناثان. وهم يفترضون أنه لا يستطيع أن يحب رجلان أحدهما الآخر من دون أن يكون هنالك ما يسمّيه الكتاب المقدس بوضوح انحلالًا أخلاقيًّا جنسيًّا. لكن علاقة يوناثان بداود تبيّن أن الكتاب المقدس لا يدين المحبة الحقيقية بين الرجال. بل يدين الممارسات الجنسية بينهم.
ب) الآيات (٥-٩): غيرة شاول من داود.
٥كَانَ دَاوُدُ يَخْرُجُ إِلَى حَيْثُمَا أَرْسَلَهُ شَاوُلُ. كَانَ يُفْلِحُ. فَجَعَلَهُ شَاوُلُ عَلَى رِجَالِ ٱلْحَرْبِ. وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ وَفِي أَعْيُنِ عَبِيدِ شَاوُلَ أَيْضًا. ٦وَكَانَ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ حِينَ رَجَعَ دَاوُدُ مِنْ قَتْلِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّ، أَنَّ ٱلنِّسَاءَ خَرَجَتْ مِنْ جَمِيعِ مُدُنِ إِسْرَائِيلَ بِٱلْغِنَاءِ وَٱلرَّقْصِ لِلِقَاءِ شَاوُلَ ٱلْمَلِكِ بِدُفُوفٍ وَبِفَرَحٍ وَبِمُثَلَّثَاتٍ. ٧فَأَجَابَتِ ٱلنِّسَاءُ ٱللَّاعِبَاتُ وَقُلْنَ: «ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رِبْوَاتِهِ. ٨فَٱحْتَمى شَاوُلُ جِدًّا وَسَاءَ هَذَا ٱلْكَلَامُ فِي عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: «أَعْطَيْنَ دَاوُدَ رِبْوَاتٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَعْطَيْنَنِي ٱلْأُلُوفَ! وَبَعْدُ فَقَطْ تَبْقَى لَهُ ٱلْمَمْلَكَةُ». ٩فَكَانَ شَاوُلُ يُعَايِنُ دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ فَصَاعِدًا.
١. كَانَ دَاوُدُ يَخْرُجُ إِلَى حَيْثُمَا أَرْسَلَهُ شَاوُلُ. كَانَ يُفْلِحُ (يتصرف بحكمة): كان داود خاضعًا لشاول، وسعى إلى خدمته بحكمة بكل طريقة. فقد عرف داود طريق البركة، وهي أن يعمل بجد ويكون بركة لرئيسه. ولن يقوّض منصب شاول أو سلطته بأية طريقة.
ما المركز الذي أعطاه شاول لداود؟ لقد جعله رئيسًا على رجال الحرب، وهذه ترقية مذهلة. كان في العشرينات من عمره، وصار الآن قائدًا في جيش إسرائيل.
٢. وَحَسُنَ فِي أَعْيُنِ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ وَفِي أَعْيُنِ عَبِيدِ شَاوُلَ أَيْضًا: سرعان ما كسب شعبية بين الشعب والقادة (عَبِيدِ شَاوُلَ). ولم يكن هذا لأنه كان من الأشخاص المتملّقين المنافقين الذين يريدون أن يرضوا الآخرين. فلم يسعَ داود إلى هذه الشعبية، ولم يعتمد على أيٍّ من تلك الأدوات الجسدية للحصول عليها. صار محبوبًا لأنه كان رجلًا حسب قلب الرب، فكان بإمكان الناس أن يروا محبة الله وحكمته وسلامه فيه.
يمكننا أن نتخيل أن رد فعل شاول الأوليّ كان جيدًا. “هذا حسن. فمساعدي الجيد مقبول لدى الآخرين. وسيعتقد الآخرون أني قمت باختيار عبقري في ضمّه إلى فريق عملي.”
٣. ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رِبْوَاتِهِ: كسب داود شعبية فجأة. فعندما بدأ شعب إسرائيل يتغنّون به، عرف الجميع أنه صار أكثر شعبية من شاول.
عندما تغني وترقص النساء لك، فإنك تصبح مشهورًا. وعندما يحدث هذا في كل مدن إسرائيل، فإنك تصبح مشهورًا. وكانت هذه الأغنية هي الأكثر رواجًا في إسرائيل. وقبِل داود هذه الشعبية بحكمة، لأن ١ صموئيل ١٨: ١٤ تقول عن هذه الفترة من حياة داود هكذا: “وَكَانَ دَاوُدُ مُفْلِحًا (حكيمًأ) فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَٱلرَّبُّ مَعَهُ.” ففي هذا الجو من المديح والشعبية، تصرّف داود بحكمة في كل طرقه.
عندما تحصل على مديح وشعبية، فليس من الحكمة أن تتركهما يدخلان إلى رأسك. كان داود سعيدًا لسماع كلمات التوكيد هذه، لكنه لم يسمح لها بأن تغيّر رأيه في نفسه. فاحتفظ بقلب الراعي وعقليته، حتى في موسم نجاح عظيم.
لم يكن هذا أمرًا سهلًا. إذ كان هذا امتحانًا أراد به إبليس أن يهدم داود، وامتحانًا أراد الرب أن يستخدمه ليبني داود. لم يحصل داود على مثل التوكيد عندما كان يرعى الأغنام. فلم ترقص وتغنِّ الأغنام له أغاني مديح. والآن، يواجه داود تحدّي النجاح. يتعامل كثيرون مع الشدائد بشكل حسن، لكنهم يسقطون تحت تحدّي النجاح.
لكن لأن داود كان قانعًا وسعيدًا جدًّا أمام الرب في رعايته للأغنام من دون مديح أو شعبية، فقد كان في وضع ملائم للتعامل مع المديح والشعبية. ففي حقل الراعي، صمّم في قلبه: “أنا أفعل هذا من أجل الرب. وأنا أحبه. ومكافأتي هي منه.” ولأن قلبه كان سليمًا، تصرّف بحكمة في كل طرقه عندما جاء المديح والشعبية.
نحن نرى هذا أيضًا من خلال رد فعل داود لاستهزاء أخيه ألياب وانتقاده له (١ صموئيل ١٧: ٢٨-٣٠). فعندما انتقده واستهزأ به، لم يعجبه ذلك، لكنه لم يسمح لهذا بأن يسحقه أو يردعه. يُفسد المديح والشعبية كثيرين إلى درجة أنهم يُسحقون تحت الاستهزاء والانتقاد. وبسبب ما بناه الله فيه في حقل الراعي، كان بإمكانه أن يحيا حياته من أجل الرب أكثر منه من أجل الآخرين. لم يكن الأمر أن داود لم يكن يهتم بالناس وآرائهم، لكنه استطاع أن يضع رأي البشر في المنظور الصحيح، لأنه اهتم أكثر برأي الله.
٤. فَٱحْتَمى شَاوُلُ جِدًّا: بناء على معرفتنا بمعدن شاول الأخلاقي، فإننا لا نفاجأ برد فعله. إذ لم تكن لديه أية علاقة سليمة أو وثيقة بالرب. فكان كل ما يحتاج إليه لتوكيد نفسه هو مديح الناس. ولهذا انزعج عندما حصل على مديح أكبر.
هذا مؤشّر سيّئ في أي قائد عندما يستاء أو يحس بالتهديد من نجاح المرؤوسين، لأن هذه علامة على ضعفه.
وَبَعْدُ فَقَطْ تَبْقَى لَهُ ٱلْمَمْلَكَةُ: هذا رد فعل نموذجي مفرط في الكبرياء والافتقار إلى الأمان. كان بإمكان شاول أن يفكر هكذا: “لقد أحْسَن داود صُنْعًا، وله مجده اليوم. وسأظل أخدم الرب، وسأحصل على المديح في يوم آخر.” لكنه بالغ في رد فعله وقال: ’وَبَعْدُ فَقَطْ تَبْقَى لَهُ ٱلْمَمْلَكَةُ.‘
غير أن هنالك ديناميكية أخرى تعمل في شاول، وهو ضمير مذنب. فهو يتذكر قول النبي صموئيل له: “لِأَنَّكَ رَفَضْتَ كَلَامَ ٱلرَّبِّ، فَرَفَضَكَ ٱلرَّبُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ.” عرف شاول أن خطيته نزعت أهليته للمُلك. وهو الآن يتمسك بالعرش بطاقة الجسد. يمكن لشخص ذي كرامة أن يتنحّى في مثل هذه الحالة، لكن شاول لم يكن ذا كرامة. ولهذا تسبب في هذه الفوضى, وظل يقلق: “متى سيقذفني الرب عن العرش؟ ومن الذي سيحل محلي؟” جعله الافتقار إلى الأمان والإحساس بالذنب يبالغ في رد فعله تجاه المديح والشعبية اللذين حصل عليهما داود.
غير أن الجموع مدحت شاول. فكانوا يغنّون: ’ضرب شاول أُلوفه.‘ لكن هذا لم يكن كافيًا له ما دام هنالك شخص آخر قتل ربوة (عشرة آلاف).
٥. فَكَانَ شَاوُلُ يُعَايِنُ دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ فَصَاعِدًا: والآن صار فكر شاول ممتلئًا بالشك تجاه داود. وبدأ يسمع كل شيء تقريبًا يقوله داود بأذنين مرتابتين، وراح ينظر إلى أفعال داود وتصرفاته بعينين مرتابتين. فكان الارتياب يلوي أفكاره.
أفسح شاول المجال لرذيلة الحسد الشيطانية التي صارت منذ ذلك اليوم نارًا في حضنه، أو كدودة تقضم أحشاءه باستمرار. نظر إلى داود بعين شريرة، متطفّلًا على كل تصرفاته، مفسّرًا إياها أسوأ تفسير.” تراب (Trapp)
ثانيًا. أول محاولة من شاول لقتل داود
أ ) الآية (١٠): المشهد في بلاط شاول الملكي.
١٠كَانَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلرَّدِيءَ مِنْ قِبَلِ ٱللهِ ٱقْتَحَمَ شَاوُلَ وَجُنَّ فِي وَسَطِ ٱلْبَيْتِ. وَكَانَ دَاوُدُ يَضْرِبُ بِيَدِهِ كَمَا فِي يَوْمٍ فَيَوْمٍ، وَكَانَ ٱلرُّمْحُ بِيَدِ شَاوُلَ.
١. أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلرَّدِيءَ مِنْ قِبَلِ ٱللهِ ٱقْتَحَمَ شَاوُلَ: ذُكر هذا الروح الرديء لأول مرة في ١ صموئيل ١٦: ١٤. اقتحم هذا الروح شاول بسماح من الرب بعدما ترك روح الرب شاول (١ صموئيل ١٦: ١٤). وقد استُدعي داود إلى البلاط الملكي ليعزف الموسيقى في خدمة لشاول لكي يهدأ عند معاناته من الروح الرديء.
٢. وَجُنَّ فِي وَسَطِ ٱلْبَيْتِ: تقول ترجمة ’وتنبّا في وسط البيت.‘ فلماذا يجعل هذا الروح الرديء شاول يتنبّأ؟ فلم يكن شاول يتكلم من الرب على الإطلاق. فهذه ترجمة سيئة هنا. ويمكن أن تدل اللغة هنا أيضًا على الاهتياج أو الانفعال الشديد. فكان شاول يهذي كرجل ليس في حالته العقلية السليمة.
“خرج عن طوره. ربما قدّم صلوات، وتضرعات، ولعنات غير متماسكة المعنى: ’يا رب، احفظ حياتي،‘ و’دمّر أعدائي‘ أو صلوات كهذه في حالته المضطربة.” كلارك (Clarke)
٣. وَكَانَ دَاوُدُ يَضْرِبُ بِيَدِهِ: إن نفس اليدين اللتين قتلتا جليات وقطعتا رأسه هما الآن تعزفان بعذوبة للرب في خدمة للملك المضطرب.
من الواضح أنه كانت لداود يدان ماهرتان، سواء أكان ذلك في الحرب أم في خدمة الموسيقى. وكان أكثر ما يلفت الانتباه هو قلبه المتواضع. فمعظم الرجال، لو حصلوا على نفس شهرة داود، يمكن أن يعُدوا مثل هذه الخدمة ’أدنى‘ من مستواهم. وكان داود قائدًا في الجيش، ومشهورًا في كل إسرائيل، وكانت النساء يرقصن ويغنين له. غير أنه قام بهذه الخدمة شخصيًّا لشاول في الموسيقى.
٤. وَكَانَ ٱلرُّمْحُ بِيَدِ شَاوُلَ: كان في يد داود عود يعزف عليه، بينما كان العنف في يد شاول.
ب) الآية (١١): يرمي شاول رمحًا على داود.
١١فَأَشْرَعَ شَاوُلُ ٱلرُّمْحَ وَقَالَ: «أَضْرِبُ دَاوُدَ حَتَّى إِلَى ٱلْحَائِطِ». فَتَحَوَّلَ دَاوُدُ مِنْ أَمَامِهِ مَرَّتَيْنِ.
١. فَأَشْرَعَ (رمى) شَاوُلُ ٱلرُّمْحَ: إن كان في يدك رمح، فمن المرجح أنك ستسخدمه. وعندما حمل شاول الرمح، بدأ الروح الرديء يقتحمه. وبدلًا من أن يقبل شاول خدمة داود الموسيقية، حثّه الروح الرديء على ضرب داود.
يتوجب علينا أن نقول إن الروح الرديء لم يجبر شاول على فعل هذا. لكنه حثّه على فعل ذلك. فكان شاول قادرًا على الاختيار: “هل أفعل هذا أم لا أفعله؟” وفي النهاية اختار أن يرمي الرمح على داود.
كانت هذه الخدمة الموسيقية نفسها هي التي هدّأت شاول ذات يوم، وأنعشته، وردّته إلى التعافي، معطيةً إياه راحة من الروح الرديء (١ صموئيل ١٦: ٢٣). وهي الآن بلا أي تأثير على الإطلاق. بل إن شاول استجاب لها بمحاولة قتل داود. لم تتغير خدمة داود أو قلبه، لكن شاول هو الذي تغيّر – إلى أسوأ. رفض أن يتلقى خدمة داود، فمهّد رفضه هذا الطريق إلى العنف.
٢. وَقَالَ: “أَضْرِبُ دَاوُدَ حَتَّى إِلَى ٱلْحَائِطِ” (سأعلّق داود بالحائط بهذا الرمح): لم يكن هذا من قبيل الصدفة. ربما أراد شاول أن يبدو الأمر هكذا. ورغم أن شاول لن يعترف بهذا، إلا أن قلبه كان مصمّمًا على قتل داود. لم يكن ينوي أن يخيفه فحسب، أو أن يجرحه فحسب. بل أراد أن يسدد له ضربة قاتلة تخترق جسده كله.
٣. فَتَحَوَّلَ دَاوُدُ مِنْ أَمَامِهِ: رمى شاول الرمح، فأخطأ داود. ربما كان تصويبه سيئًا متأثرًا بحالته العقلية والعاطفية السيئة. وربما رأى داود الرمح فتوارى عنه. وربما قاد الرب الرمح بشكل معجزي ليخطئ. وكيفما حدث الأمر، فقد أخطأ الرمح ووقع على الأرض. فَتَحَوَّلَ دَاوُدُ مِنْ أَمَامِهِ (نجا هاربًا من حضوره).
سيُكتب عن كثيرين منا: “التقط فلان الفلاني الرمح عن الأرض، وذهب إلى شاول قائلًا: “إن لم يستطع جليات أن يخيفني، فمن المؤكد أنك لن تستطيع ذلك. وإن لم يستطع جليات أن يقتلني، فمن المؤكد أنك لن تستطيع ذلك.” وبضربة واحدة بالرمح، علّق فلان الفلاني شاول على الحائط.”
لكن داود لم يلتقط الرمح ولم يرمِه ثانية نحو شاول. بل تحول وهرب من حضوره. لا يمكن لأحد أن يلوم داود لو أنه ردّ بالمثل. إذ يمكن أن يُدعى هذا دفاعًا عن النفس. لكن كان لداود قلب مختلف. لم يكن الأمر يتعلق بما يمكن أن يفلت به، لكن بما يريده قلب الله، لا أن ينتزع العرش بنفسه. وسيكون التعامل مع شاول مهمة الرب، لأن داود لن يتعامل معه.
قال داود: “يا رب، أنت وضعت شاول على العرش. وأنا أعرف أني سأكون الملك التالي، لأنك وعدتني بذلك ومسحتني لأجل هذا. لكن إخراج شاول من الطريق هو شأنك. لن ألمسه، لأنه سلطة عيّنتَها أنت. فأنت بدأتَ حُكمه، وعليك أنت أن تنهيه.
٤. فَتَحَوَّلَ دَاوُدُ مِنْ أَمَامِهِ مَرَّتَيْنِ: لعل أكثر الكلمات إلفاتًا للنظر في هذا الإصحاح هي كلمة ’مرّتين.‘ ويعني هذا أن شاول رمى الرمح مرّتين، وأنه أخطأ مرّتين، وأن داود رجع ليعزف له بعد المرة الأولى.
وهنا يرسم كثيرون حدودًا لهم. (فالمرة الأولى كافية بالنسبة لهم). “انظروا. أنا مستعد لأن أجلس مُشْرعًا صدري كهدف. وسأتفادى الرمح. بل سأترك الرمح على الأرض، وسأقاوم التجربة بأن ألتقطه لأرميه ثانيةً. لكن أزيز رمح واحد وهو يمر بجانب رأسي كافٍ. فإخطاءٌ واحدٌ وسأكون قد قدّمتُ ما عليّ. فإخطاءٌ واحد هو خضوع للرب. أمّا أن أنتظر المرة الثانية فهذا من قبيل الغباء (لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرتين).”
ربما يمكننا أن نقول إن استسلام داود لم يبدأ إلى أن جلس مرة أخرى ليعزف مرة أخرى بعد المحاولة الأولى لاغتياله. وقد أدرك الآن الخطر، وصار الآن يعرف قلب شاول، فكان عليه أن يضع ثقته في الرب.
لو أن داود ردَّ بالمثل بعد مقاومته للتجربة للمرة الأولى، يمكننا أن نفترض أنه سيصبح الملك. ويمكننا أن نفترض أننا سنظل نعجب بعدم إلقاء الرمح ثانيةً. وسنتفهّم كيف أنه ردّ في المرة الثانية. لكن إذا فعلنا هذا، نكون قد تخلّينا عن مصيره ليكون أعظم ملك في إسرائيل. سيظل ملكًا على أية حال، لكنه لن يكون الملك الذي قصده الله له أن يكون.
“بقيادتك بهذا العمل الصغير الفذّ المتمثّل في إعادة رمي الرمح، فإنك تبرهن أشياء كثيرة. فأنت شجاع، وتقف بجسارة ضد ما هو خطأ. وأنت صلب ولا يمكن العبث معك. وأنت لا تدافع عن الظلم والمعاملة غير المنصفة. وأنت مدافع عن الإيمان وحافظ الشعلة، وكاشف كل هرطقة. لا تقبل أن يساء إليك. وتجتمع كل هذه الصفات لتبرهن أنك من الواضح مرشَّح للمُلك. نعم، ربما تكون مسيح الرب، على رتبة الملك شاول. جين إدواردز (Gene Edwards) ’قصة ثلاثة ملوك‘
ج) الآيات (١٢-١٦): انتقال داود من القصر إلى الجيش.
١٢وَكَانَ شَاوُلُ يَخَافُ دَاوُدَ لِأَنَّ ٱلرَّبَّ كَانَ مَعَهُ، وَقَدْ فَارَقَ شَاوُلَ. ١٣فَأَبْعَدَهُ شَاوُلُ عَنْهُ وَجَعَلَهُ لَهُ رَئِيسَ أَلْفٍ، فَكَانَ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ أَمَامَ ٱلشَّعْبِ. ١٤وَكَانَ دَاوُدُ مُفْلِحًا فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَٱلرَّبُّ مَعَهُ. ١٥فَلَمَّا رَأَى شَاوُلُ أَنَّهُ مُفْلِحٌ جِدًّا فَزِعَ مِنْهُ. ١٦وَكَانَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا يُحِبُّونَ دَاوُدَ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ.
١. وَكَانَ شَاوُلُ يَخَافُ دَاوُدَ لِأَنَّ ٱلرَّبَّ كَانَ مَعَهُ: حسب كل المظاهر الخارجية، فإن شاول مسيطر على الأمور. فهو يمتلك العرش، والجيش تحت إمرته. ولديه الرماح. غير أنه خائف من داود لِأَنَّ ٱلرَّبَّ كَانَ مَعَهُ.
٢. وَقَدْ فَارَقَ شَاوُلَ: جعل هذا شاول غير مرتاح لداود، وصعَّب عليه إبقاء داود بالقرب منه. فَأَبْعَدَهُ شَاوُلُ عَنْهُ.
٣. وَجَعَلَهُ لَهُ رَئِيسَ أَلْفٍ: لم يرغب شاول في مباركة داود، بل كان يهيّئه للأذى. فقد دفعه حسده منه إلى التلاعب، والعمل في الخفاء، وحياكة مؤامرات سرية ضده.
“حدث هذا تحت حجة إكرامه، بينما كان يعمل على التخلص من موضوع حسده.” كلارك (Clarke)
٤. وَكَانَ دَاوُدُ مُفْلِحًا (حكيمًا) فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَٱلرَّبُّ مَعَهُ: ليس سهلًا أن تتصرف بحكمة عندما تُرمى الرماح عليك، وليس سهلًا أن تتصرف بحكمة عندما تُخرَج من القصر، وليس سهلًا أن تتصرف بحكمة عندما يكون لديك أعداء أقوياء عازمون على إيذائك. لكن حتى في وسط هذه الظروف الرهيبة، يمكنك أن تتصرف بحكمة لأن الرب معك.
٥. وَكَانَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا يُحِبُّونَ دَاوُدَ: كان داود أكثر شعبية لأن الرب كان معه. وكان مجرَّبًا بأن يستخدم شعبيته هذه كرمح ضد شاول، لكنه أبى.
٦. لِأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ: كان هذا تعبيرًا مجازيًا عبريًّا يعني أن “داود كان يجري عمليات عسكرية ناجحة”. كانت يد الله مع داود مع أن شاول كان ضده. كان بإمكان شاول أن يهاجم داود ويؤذيه بعدة طرق، لكن الله لن يسمح لشاول بأن ينتصر.
لم يكن داود ضحية قط. ربما بدا هذا لأنه تعرض للهجوم. لكنه لم يسمح بعقلية الضحية بأن تسيطر عليه، معتقدًا أن مصيره هو في يد مهاجمه. فقد عرف داود أن مصيره هو في يد الرب، ولهذا كان بإمكانه أن ينعم بالسلام.
ثالثًا. ينصب شاول فخًّا لداود، لكن داود المبارك ينجو منه.
أ ) الآيات (١٧-١٩): شاول ينوي أن يقتل داود.
١٧وَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ: «هُوَذَا ٱبْنَتِي ٱلْكَبِيرَةُ مَيْرَبُ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا ٱمْرَأَةً. إِنَّمَا كُنْ لِي ذَا بَأْسٍ وَحَارِبْ حُرُوبَ ٱلرَّبِّ». فَإِنَّ شَاوُلَ قَالَ: «لَا تَكُنْ يَدِي عَلَيْهِ، بَلْ لِتَكُنْ عَلَيْهِ يَدُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ». ١٨فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «مَنْ أَنَا، وَمَا هِيَ حَيَاتِي وَعَشِيرَةُ أَبِي فِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَكُونَ صِهْرَ ٱلْمَلِكِ؟». ١٩وَكَانَ فِي وَقْتِ إِعْطَاءِ مَيْرَبَ ٱبْنَةِ شَاوُلَ لِدَاوُدَ أَنَّهَا أُعْطِيَتْ لِعَدْرِيئِيلَ ٱلْمَحُولِيِّ ٱمْرَأَةً.
١. هُوَذَا ٱبْنَتِي ٱلْكَبِيرَةُ مَيْرَبُ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا ٱمْرَأَةً: سبق أن وعد شاول بأن يعطي ابنته للرجل الذي يقتل جليات (١ صموئيل ١٧: ٢٥). وهو الآن يفي بوعده، مقدمًا ابنته الكبرى لداود.
٢. لَا تَكُنْ يَدِي عَلَيْهِ، بَلْ لِتَكُنْ عَلَيْهِ يَدُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ: بدأ عرض الزواج كبادرة طيبة من جانب شاول. وكان يفترض في داود أن يصدق: “لقد غفر شاول. وعفا الله عما مضى. لقد ألقى بالرمح عليّ مرتين من قبل. لكن هذا في طيّ النسيان.” لكن شاول لم يكن يفكر هكذا. إذ كان في قلبه دافع آخر.
كان هذا فخًّا بسبب المهر الذي سيطالب به شاول. كان المهر يُدفع لوالد العروس. وكلما كانت العروس وعائلتها أكثر أهمية، ارتفعت قيمة المهر. ولأن داود كان من عائلة متواضعة، لم يكن له سبيل له إلى دفع مهر ابنة ملك. وعرف شاول هذا فطالب داود بقتل مئة فلسطي كمهر. اعتقد شاول أن هذه المهمة ستكون أكبر من داود وأكثر خطورة بحيث سيُقتل في محاولة كسب مهر ابنة الملك.
ما زال شاول يرغب في موت داود ورحيله عن المشهد. لكن، بدلًا من أن يلقي رماحًا بنفسه، استخدم تلاعبًا ماكرًا لقتل داود. فكّرَ في نفسه: “إن رماح الفلسطيين وسيوفهم بنفس حدّة رماحي. ولهذا سأتركهم ينجزون المهمة من أجلي.” ومن منظور جسدي، كانت هذه خطة ذكية من شاول.
كانت خطة جسدية ذكية جدًّا، لكن الله لن يُكرم تلاعب شاول هذا. فالتلاعب يستخدم أجندات خفية ودوافع خفية. وهو متستّر وسرّي، محاولًا استخدام الأشخاص والأحداث كأدوات لتحقيق أجندة خفية. قد يكون ذكيًّا من منظور جسدي، لكن الله لن يبارك هذا.
٣. كُنْ لِي ذَا بَأْسٍ وَحَارِبْ حُرُوبَ ٱلرَّبِّ: يعمل شاول كمتلاعب ذكي. فهو يستغل ولاء داود ووطنيته (كُنْ لِي ذَا بَأْسٍ)، ويستغل شجاعة داود وقلبه ومحبته للرب (وَحَارِبْ حُرُوبَ ٱلرَّبِّ).
٤. مَنْ أَنَا، وَمَا هِيَ حَيَاتِي وَعَشِيرَةُ أَبِي فِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَكُونَ صِهْرَ ٱلْمَلِكِ؟: لم يكن داود بهذا يحاول أن يتفوق على دهاء شاول. إذ لم تكن لديه أدنى فكرة عما كان يحدث في قلب شاول. فكان متواضعًا أمام الرب، فحماه من تلاعب شاول.
يبيّن سؤال داود ’من أنا؟‘ قلبه المتواضع. كان مشهورًا على نطاق الأُمّة كلها. وكان الجميع في إسرائيل يحبونه، بمن فيهم رجال شاول، ويوناثان وليّ العهد. وكانت النساء يرقصن ويغنّين إكرامًا له. ومع ذلك، عندما عُرض عليه الزواج من ميرب، لم يفكر: “أخيرًا حان الوقت. وأنا سعيد لأن شخصًا لاحظ أهميتي.”
٥. وَكَانَ فِي وَقْتِ إِعْطَاءِ مَيْرَبَ ٱبْنَةِ شَاوُلَ لِدَاوُدَ أَنَّهَا أُعْطِيَتْ لِعَدْرِيئِيلَ ٱلْمَحُولِيِّ ٱمْرَأَةً: عندما أظهر داود ترددًا في البداية في الزواج من ميرب، جرّب شاول إستراتيجية أخرى لكي يثير غضب داود أو حسده.
“سحب شاول بشكل غادر العرض مع اقتراب موعد الزفاف، قاصدًا بهذا أن يثير حماسة داود للانتقام، وبالتالي يصبح عرضة لتهمة الخيانة. لكن جهوده كلها باءت بالفشل في إثارة رغبة عابرة في الانتقام.” ماير (Meyer)
ب) الآيات (٢٠-٢٥): موافقة داود على الزواج من ميكال.
٢٠وَمِيكَالُ ٱبْنَةُ شَاوُلَ أَحَبَّتْ دَاوُدَ، فَأَخْبَرُوا شَاوُلَ، فَحَسُنَ ٱلْأَمْرُ فِي عَيْنَيْهِ. ٢١وَقَالَ شَاوُلُ: «أُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَتَكُونُ لَهُ شَرَكًا وَتَكُونُ يَدُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ عَلَيْهِ». وَقَالَ شَاوُلُ لِدَاوُدَ ثَانِيَةً: «تُصَاهِرُنِي ٱلْيَوْمَ». ٢٢وَأَمَرَ شَاوُلُ عَبِيدَهُ: «تَكَلَّمُوا مَعَ دَاوُدَ سِرًّا قَائِلِينَ: هُوَذَا قَدْ سُرَّ بِكَ ٱلْمَلِكُ، وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ قَدْ أَحَبُّوكَ. فَٱلْآنَ صَاهِرِ ٱلْمَلِكَ». ٢٣فَتَكَلَّمَ عَبِيدُ شَاوُلَ فِي أُذُنَيْ دَاوُدَ بِهَذَا ٱلْكَلَامِ. فَقَالَ دَاوُدُ: «هَلْ هُوَ مُسْتَخَفٌّ فِي أَعْيُنِكُمْ مُصَاهَرَةُ ٱلْمَلِكِ وَأَنَا رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَحَقِيرٌ؟» ٢٤فَأَخْبَرَ شَاوُلَ عَبِيدُهُ قَائِلِينَ: «بِمِثْلِ هَذَا ٱلْكَلَامِ تَكَلَّمَ دَاوُدُ». ٢٥فَقَالَ شَاوُلُ: «هَكَذَا تَقُولُونَ لِدَاوُدَ: لَيْسَتْ مَسَرَّةُ ٱلْمَلِكِ بِٱلْمَهْرِ، بَلْ بِمِئَةِ غُلْفَةٍ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ لِلِٱنْتِقَامِ مِنْ أَعْدَاءِ ٱلْمَلِكِ». وَكَانَ شَاوُلُ يَتَفَكَّرُ أَنْ يُوقِعَ دَاوُدَ بِيَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ.
١. وَمِيكَالُ ٱبْنَةُ شَاوُلَ أَحَبَّتْ دَاوُدَ: سُرَّ شاول بأن يسمع هذا (فَحَسُنَ ٱلْأَمْرُ فِي عَيْنَيْهِ). وليس غريبًا أن نسمع أن ميكال انجذبت إلى داود بسبب معدنه الأخلاقي، وصفاته، وشهرته. لكن من الواضح – كما سيتبيّن لاحقًا بعد الزواج – أنها لم تكن منجذبة إلى قلبه المحب للرب.
٢. أُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَتَكُونُ لَهُ شَرَكًا: يمكن أن يكون لهذا معنيان. أولًا، من الواضح أن شاول أراد أن يقع داود في شرك المهر. لكن من المحتمل أيضًا أن شاول كان يعرف طبيعة ميكال وقلبها، وعرف أنها ستكون له شركًا كزوجة، كما اتضح هذا في بعض الجوانب (٢ صموئيل ٦: ١٦-٢٣).
٣. لَيْسَتْ مَسَرَّةُ ٱلْمَلِكِ بِٱلْمَهْرِ، بَلْ بِمِئَةِ غُلْفَةٍ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ: والآن يبني شاول على خطته الذكية. “لن تتزوج ميكال لأنه لا يملك مهرًا كافيًا. وهو متواضع بحيث لا يسأل عن الشروط، ولهذا سأقترحها عليه. إن الطريقة نفسها التي صاغ بها خطته ذكية (لَيْسَتْ مَسَرَّةُ ٱلْمَلِكِ بِٱلْمَهْرِ). ويوحي هذا بأن شاول لا يريد شيئًا من داود (بَلْ بِمِئَةِ غُلْفَةٍ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ). يحاول أن يبد الأمر وكأنّ شاول لا يطلب الكثير، بينما في واقع الأمر كان يطلب ما هو أعظم بكثير من المال. فهو يطلب من داود أن يعرّض نفسه لخطر كبير، لأن شاول أراده ميّتًا.
حتى هذه الطلبة المحددة، مِئَةِ غُلْفَةٍ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، تنطوي على تلاعب. فكانت تهدف إلى دفع داود إلى الذهاب إلى الفلسطيين غير المختونين ليقتلهم. هدف شاول أن تكون المهمة صعبة، لأنه كان على داود أن يقتلهم ليحصل على غلفهم. وهدف أيضًا إلى أن يوغر صدر الفلسطيين على داود، لأنه من منظورهم لم يقتل رجالهم فحسب، بل أيضًا دنّس أجسادهم. “ها هو قفاز جميل على يد كريهة.” تراب (Trapp)
ج) الآيات (٢٦-٢٧): يلبّي داود طلبة شاول ويتزوج من ميكال.
٢٦فَأَخْبَرَ عَبِيدُهُ دَاوُدَ بِهَذَا ٱلْكَلَامِ، فَحَسُنَ ٱلْكَلَامُ فِي عَيْنَيْ دَاوُدَ أَنْ يُصَاهِرَ ٱلْمَلِكَ. وَلَمْ تَكْمُلِ ٱلْأَيَّامُ ٢٧حَتَّى قَامَ دَاوُدُ وَذَهَبَ هُوَ وَرِجَالُهُ وَقَتَلَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ مِئَتَيْ رَجُلٍ، وَأَتَى دَاوُدُ بِغُلَفِهِمْ فَأَكْمَلُوهَا لِلْمَلِكِ لِمُصَاهَرَةِ ٱلْمَلِكِ. فَأَعْطَاهُ شَاوُلُ مِيكَالَ ٱبْنَتَهُ ٱمْرَأَةً.
١. فَحَسُنَ ٱلْكَلَامُ فِي عَيْنَيْ دَاوُدَ: كان لدى داود قلب طاهر متواضع حتى أنه بدا أعمى عن تلاعب شاول ومكره. ويستطيع الإنسان البسيط أن يعيش وسط هذه الخيانة عندما يكون الله معه.
كان لدى داود قلب متواضع. يمكن أن يقول رجال كثيرون: “مهر؟ هل تريد مهرًا؟ أنت وعدت بأن تعطي ابنتك لمن يقتل جليات. إذا أردت المهر، فانظر المهر الذي دفعته. انظر إلى قبر العملاق الذي بلغ طوله عشرة أقدام في وادي البطم. هذا مهر كافٍ. وأنا أطالب بحقوقي.” لكن داود وافق على مطالب شاول بشأن المهر.
٢. قَامَ دَاوُدُ وَذَهَبَ هُوَ وَرِجَالُهُ وَقَتَلَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ مِئَتَيْ رَجُلٍ: ردَّ داود على محاولة شاول في التلاعب بالسيطرة على الموقف، وبالحفاظ على روح الخادم المتواضع، وبإعطاء ما هو أكثر مما هو مطلوب منه.
٣. وَأَتَى دَاوُدُ بِغُلَفِهِمْ فَأَكْمَلُوهَا لِلْمَلِكِ: نتمنّى مرات كثيرة لو كان لدينا كتاب مقدس مرئي (كفيلم سينمائي) لنرى الأحداث كما حدثت بالضبط. وهذه إحدى الحالات التي يسعدنا فيها أن لا نرى توضيحًا لما حدث!
د ) الآيات (٢٨-٣٠) شعبية داود المتنامية.
٢٨فَرَأَى شَاوُلُ وَعَلِمَ أَنَّ ٱلرَّبَّ مَعَ دَاوُدَ. وَمِيكَالُ ٱبْنَةُ شَاوُلَ كَانَتْ تُحِبُّهُ. ٢٩وَعَادَ شَاوُلُ يَخَافُ دَاوُدَ بَعْدُ، وَصَارَ شَاوُلُ عَدُوًّا لِدَاوُدَ كُلَّ ٱلْأَيَّامِ. ٣٠وَخَرَجَ أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَمِنْ حِينِ خُرُوجِهِمْ كَانَ دَاوُدُ يُفْلِحُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ عَبِيدِ شَاوُلَ، فَتَوَقَّرَ ٱسْمُهُ جِدًّا.
١. فَرَأَى شَاوُلُ وَعَلِمَ أَنَّ ٱلرَّبَّ مَعَ دَاوُدَ: لم يستخدم شاول هذه المعرفة في التوقف عن المحاولة في قتل داود. ولم يضع في قلبه أن يوقّر داود ويفسح المجال لمختار الرب بأن يصل إلى العرش بسلاسة. وبدلًا من ذلك، كلما اقترب داود إلى الرب، ابتعد شاول عنه. وصار شاول أكثر خوفًا من داود.
٢. وَخَرَجَ أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ (للحرب): استمرت خطة شاول الماكرة ضد داود. ولا شك أن الفلسطيين خرجوا إلى محاربة داود ردًّا على ما عدّوه وصمة عار على الشعب الفلسطي. أراد شاول أن يصبح داود رجلًا مستهدفًا من الفلسطيين، فنجح في ذلك.
٣. كَانَ دَاوُدُ يُفْلِحُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ عَبِيدِ شَاوُلَ، فَتَوَقَّرَ ٱسْمُهُ جِدًّا: غير أن خطة شاول جاءت بنتائج عكسية. فلم يكن داود ما زال على قيد الحياة فحسب، بل صار أكثر شعبية لدى الناس وأكثر قربًا إلى الرب من أي وقت مضى. ولن يتوقف شاول عن ألاعيبه، بل سيستخدم مزيدًا من التلاعب، والمكر، والعنف الصريح في مهاجمة داود.
كان تصرف داود الحكيم وتقديره العالي مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بقلبه المتواضع. وينطبق هذا (بمعنى أعظم بكثير) على ابن داود، يسوع المسيح. تقول فيلبي ٢: ٩ عن يسوع: “لِذَلِكَ رَفَّعَهُ ٱللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ ٱسْمًا فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ.” لماذا رُفِع اسم يسوع عاليًا؟ “فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِلهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ، مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ” (فيلبي ٢: ٥-٨). كان هذا الفكر والقلب في داود. وكان هذا الفكر والقلب في يسوع المسيح. ويريد الله أن يكون هذا الفكر والقلب في كل واحد فينا.