سفر العدد – الإصحاح ٦
نَذْرَ النَّذِيرِ
أولًا. نَذْرَ النَّذِيرِ
أ ) الآيات (١-٢): الغرض من نَذْرَ النَّذِيرِ.
١وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: ٢«كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِذَا انْفَرَزَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ لِيَنْذُرَ نَذْرَ النَّذِيرِ، لِيَنْتَذِرَ لِلرَّبِّ.
١. لِيَنْتَذِرَ لِلرَّبِّ: كان الغرض من نذر النذير هو تعبير الشخص عن رغبته الخاصة في الاقتراب إلى الله، والانفصال عن وسائل الراحة، وعن ملذات هذا العالم. كان بإمكان رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ في إسرائيل أن ينذر نذرًا.
• انْفَرَزَ: بحسب ألن (Allen) وكول (Cole)، الكلمة العبرية التي تُرجِمت إلى ’انْفَرَزَ‘ تعبِّر عن شيء استثنائي، أو رائع، أو مُعجزي.
كان هذا نذرًا خاصًّا، يفوق بكثير الوعد أو التعهُّد العادي.
كان هذا نذرًا شاملًا، يتعلَّق بما يأكله الشخص، وكذلك بمظهره وعلاقاته.
• “الكلمة العربية نذير هي الترجمة الصوتية بحسب النطق للكلمة العبرية Nazir، التي معناها ’شخص مُفرَز.‘” وينهام (Wenham)
• “قد يحدث خلط في بعض الأحيان بين كلمة Nazirite الإنجليزية (نذير) وكلمة Nazarene (ناصري)، وهي الكلمة التي تصف موطن يسوع الأصلي (انظر متى ٢: ٢٣؛ مرقس ١٤: ٦٧؛ ١٦: ٦؛ أعمال الرسل ٢٤: ٥). ففي حين تأتي الكلمتان من الجذر العبري نفسه (Nazar، بمعنى ينذر)، لكنهما مختلفتان.” ألن (Allen)
٢. لِيَنْذُرَ نَذْرَ النَّذِيرِ: كان هناك العديد من النُّذَرَاء البارزين في الكتاب المقدس، مثل شمشون (قضاة ١٣: ٥)، ويوحنا المعمدان (لوقا ١: ١٥)، وبولس (أعمال الرسل ١٨: ١٨). وقد انتذرت والدة شمشون (زوجة منوح) وهي حبلى (قضاة ١٣: ٤).
• اشتملت الأمور المحظورة على النَّذِير على بعضٍ من تلك المحظورة على الكهنة، لكن بدرجة أشد صرامة. فلم يكن مسموحًا للكهنة بأن يشربوا خمرًا خلال قيامهم بخدمتهم الكهنوتية (لاويين ١٠: ٩)، في حين لم يكن مسموحًا للنَّذِير قط بأن يشرب الخمر. كذلك، كان مسموحًا للكهنة بأن يندبوا أقرب أقربائهم عند موتهم حسب العُرف (لاويين ٢١)، في حين لم يُسمح للنَّذِير بفعل ذلك على الإطلاق.
• أتاح نَذْرَ النَّذِيرِ الفرصة، بشكلٍ كبير، لكلِّ إسرائيلي بأن يقطع على نفسه عهدًا شبيهًا بعهد الكهنوت، وبأن يعيش حياة تكريسٍ لله شبيهة بحياة الكاهن، على الأقل لبعض الوقت. كان الكهنوت قاصرًا على فئة معينة، حيث لم يكن مسموحًا إلا للرجال وحدهم، في سن معيَّن، ومن عشيرة محددة، بأن يكونوا كهنة. لكن نَذْرَ النَّذِيرِ كان متاحًا للجميع، بمن فيهم النساء أيضًا.
• “طوال الفترة الكتابية، كانت ممارسة نَذْرَ النَّذِيرِ تحظى بقدرٍ كبير من الاحترام. فإن شمشون، وصموئيل، والفتيان المعاصرين لعاموس النبي (عاموس ٢: ١١)، نذروا نذورًا. ويَذكُر المؤرخ يوسيفوس أن هذه النذور كانت شائعة أيضًا في القرن الأول الميلادي.” وينهام (Wenham)
• افترض آدم كلارك (Adam Clarke) أن نَذْرَ النَّذِيرِ لم يكن يؤخذ قط مدة تقل عن العام. فإن أقل من هذه الفترة لن تسمح بنمو الشعر بما يكفي لحرقه على نار المذبح (كما نقرأ في العدد ٦: ١٨)
• “لم يكن في هذا الأمر ما يمت بصلة للرهبنة، لأن أولئك الأشخاص لم ينعزلوا عن الحياة العادية التي يعيشها الآخرون، لكنهم كانوا يعيشون نوعًا من الانفصال الخاص، الذي له علاماته.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٣-٨): متطلبات نَذْرَ النَّذِيرِ.
٣فَعَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ، وَلاَ يَشْرَبْ خَلَّ الْخَمْرِ وَلاَ خَلَّ الْمُسْكِرِ، وَلاَ يَشْرَبْ مِنْ نَقِيعِ الْعِنَبِ، وَلاَ يَأْكُلْ عِنَبًا رَطْبًا وَلاَ يَابِسًا. ٤كُلَّ أَيَّامِ نَذْرِهِ لاَ يَأْكُلْ مِنْ كُلِّ مَا يُعْمَلُ مِنْ جَفْنَةِ الْخَمْرِ مِنَ الْعَجَمِ حَتَّى الْقِشْرِ. ٥كُلَّ أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لاَ يَمُرُّ مُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. إِلَى كَمَالِ الأَيَّامِ الَّتِي انْتَذَرَ فِيهَا لِلرَّبِّ يَكُونُ مُقَدَّسًا، وَيُرَبِّي خُصَلَ شَعْرِ رَأْسِهِ. ٦كُلَّ أَيَّامِ انْتِذَارِهِ لِلرَّبِّ لاَ يَأْتِي إِلَى جَسَدِ مَيْتٍ. ٧أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَخُوهُ وَأُخْتُهُ لاَ يَتَنَجَّسْ مِنْ أَجْلِهِمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، لأَنَّ انْتِذَارَ إِلهِهِ عَلَى رَأْسِهِ. ٨إِنَّهُ كُلَّ أَيَّامِ انْتِذَارِهِ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ.
١. فَعَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ: كان النَّذِير يُمنَع من أكل أو شرب أيِّ شيء من جَفْنَةِ الْخَمْرِ، أي العِنَبِ (مِنَ الْعَجَمِ حَتَّى الْقِشْرِ). وكان هذا شكلًا من أشكال إنكار الذات المتصل بتكريس خاص لله. فبوجه عام، كان يُعتقد أن الخمر ومنتجات العنب هي دلالة على البركة (أمثال ٣: ١٠)، أي إنها أمور يجب أن نَقبَلها من الله في امتنانٍ (مزمور ١٠٤: ١٥).
• عَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ: كان من شأن ذلك أن يشمل كلَّ المشروبات المسكِرة، مثل البيرة أو الكحوليات بأنواعها. فقد كان على النذير أن يبتعد عن كلِّ ما هو مُسْكِر، أو كل ما له علاقة بالعِنَب (الكَرمَة).
٢. لَا يَمُرُّ مُوسَى عَلَى رَأْسِهِ: طوال فترة النذر، كان يُسمَح للشعر بالنمو، ثم يُقَص عند انتهاء النذر. وكانت هذه وسيلة بصرية تبيِّن للآخرين أن هذا الرجل أو هذه المرأة تحت نذرٍ خاص.
• فيما يتعلق بشَعر النَّذِير، علَّق كول (Cole) على كلمة ’نَّذِير‘ (nazir) قائلًا: “تُستخدَم هذه الكلمة أيضًا للإشارة إلى الكروم ’المُهمَلة‘ خلال السنة السبتية (أو سنة العطلة) الوارد ذكرها في لاويين ٢٥: ٥، ١١. ومن المرجح أن هذه الكروم سُمِّيت ’نَّذِير‘ (nazir) لأنها لم تكن تتلقَّى عناية أو تشذيبًا، تمامًا مثل النَّذِير الذي كان عليه ألا يقص شعره خلال فترة النذر الخاصة. وبالتالي، كان النَّذِير شخصًا مكرسًا بشكل خاص للرب، ويميِّزه الشكل غير المعتاد لشعره.”
• كان بإمكان النساء أن ينذرن نذرًا. لم تكن النساء يقصصن شعرهن في المعتاد في الثقافة اليهودية القديمة. ولذلك، من المحتمَل أن نذرهن كان يتجلَّى ظاهريًّا في عدم اعتنائهم بشعرهن، أو الإبقاء عليه منسدلًا وغير مصفَّف نسبيًّا.
• في حالة شمشون، كان مصدر قوته هو نذره بالتكريس والانفراز لله. ولذلك، عندما قصت دليلة شعره (وهو ما كان أكبر دليل علني ومنظور على نذره)، فقد قوته.
• كان شمشون قد خالف نذره قبل ذلك، أولًا بإقامته ولائم لشرب الخمر (القضاة ١٤: ١٠)، وثانيًا بلمسه جثة (القضاة ١٤: ٨-٩). لكن قبل أن تقص دليلة شعره، لم يكن قد كسر نذره بأشد الصور وضوحًا وعلانية. وهذا يوضح المبدأ الذي مفاده أن الخطايا العلنية تشكِّل، من ناحية ما، خطورة أكبر، لأنها تجلب المزيد من العار على اسم الله وعلى شعبه.
٣. لَا يَأْتِي إِلَى جَسَدِ مَيْتٍ: كان الجانب الثالث من نَذْرَ النَّذِير هو الابتعاد التام عن أي جَسَد مَيْتٍ. فلم يكن يُسمح للنَّذِير بالاقتراب إلى أي جثة خلال فترة النذر، حتى وإن كانت جثة أقرب أقربائه. فقد كان الانفصال عن الموت – الذي يُعَد أبرز وأبشع عاقبة للخطية – أمرا ضروريًّا خلال فترة النذر.
• أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَخُوهُ وَأُخْتُهُ: كانت هذه الكلمات تحذيرًا جادًّا للشخص الذي ينوي أن يكون نذيرًا. فحتى إذا مات أَبُوهُ أو أُمُّهُ خلال أيام نذره، لم يكن مسموحًا له بأن يندبهم كالمعتاد. كان مسموحًا حتى للكاهن نفسه بالاهتمام بجثة أقرب أقربائه (لاويين ٢١: ١-٣)، في حين لم يكن مسموحًا للنذير بذلك.
• “ألمح يسوع إلى هذا الجانب من التكريس في حياة تلاميذه عندما حثَّهم قائلًا: ’اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ‘ (متى٨ :٢١-٢٢).” كول (Cole)
• “يؤكِّد البعض بقوة أن النذير كان مثالًا للرب يسوع، لكننا لسنا نجد أيَّ وجه شبه أو أيَّ برهان على ذلك. فإن ربَّنا المبارك كان يشرب الخمر، كما أنه لمس الأموات، الأمر الذي لم يكن النذير ليفعله قط.” كلارك (Clarke)
٤. إِنَّهُ كُلَّ أَيَّامِ انْتِذَارِهِ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ: من المثير للاهتمام أنه لم تكن هناك أية متطلبات أخلاقية أخرى من النذير، مثل الامتناع عن ممارسة العلاقة الجنسية داخل إطار الزواج.
• “لم تكن هناك أماكن خاصة للنذراء، ولم يعيَّن رقيب رسمي على سلوكهم. فقد كانوا يختلطون بالآخرين في الحياة العادية، ويمارسون عملهم كما هو الحال في أي وقت آخر. لكن ما كان يميِّزهم هو شعرهم غير المحلوق، الذي كان يُشعِرهم بأن عيني الله، وأعين الآخرين أيضًا، عليهم؛ وبالتالي، كانوا يسلكون بحذر، وفي وعيٍ منهم بنذرهم.” واتسون (Watson)
ج) الآيات (٩-١٢): عواقب مخالفة النذر.
٩وَإِذَا مَاتَ مَيْتٌ عِنْدَهُ بَغْتَةً عَلَى فَجْأَةٍ فَنَجَّسَ رَأْسَ انْتِذَارِهِ، يَحْلِقُ رَأْسَهُ يَوْمَ طُهْرِهِ. فِي الْيَوْمِ السَّابعِ يَحْلِقُهُ. ١٠وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يَأْتِي بِيَمَامَتَيْنِ أَوْ بِفَرْخَيْ حَمَامٍ إِلَى الْكَاهِنِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، ١١فَيَعْمَلُ الْكَاهِنُ وَاحِدًا ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، وَالآخَرَ مُحْرَقَةً وَيُكَفِّرُ عَنْهُ مَا أَخْطَأَ بِسَبَبِ الْميْتِ، وَيُقَدِّسُ رَأْسَهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. ١٢فَمَتَى نَذَرَ لِلرَّبِّ أَيَّامَ انْتِذَارِهِ يَأْتِي بِخَرُوفٍ حَوْلِيٍّ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ، وَأَمَّا الأَيَّامُ الأُولَى فَتَسْقُطُ لأَنَّهُ نَجَّسَ انْتِذَارَهُ.
١. وَإِذَا مَاتَ مَيْتٌ عِنْدَهُ بَغْتَةً عَلَى فَجْأَةٍ: إذا انكسر نذر أحدهم (ربما بسبب سقوط أحدهم ميتًا بجوار النذير)، فعلى النذير أن يحلق شعر رأسه، ويقدِّم ذبيحة، ثم يبدأ النذر من جديد.
٢. وَأَمَّا الْأَيَّامُ الْأُولَى فَتَسْقُطُ لِأَنَّهُ نَجَّسَ انْتِذَارَهُ: كانت الذبائح المنصوص عليها حتى للكسر غير المتعمَّد لنذر النذير هي ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ ومُحْرَقَةً. فقد طالب الله بذبيحةٍ للتكفير، وذبيحةٍ لإعادة التكريس، بالإضافة إلى إسقاط الْأَيَّامُ الْأُولَى من النذر.
• “يروي لنا الميشناه كيف كادت الملكة هيلانة تنهي سبع سنوات من النذر، لكنها تنجَّست، فتحتم عليها أن تواصل الانتذار لسبع سنوات أخرى.” وينهام (Wenham)
ثانيًا. إنهاء نَذْرَ النَّذِير
أ ) الآيات (١٣-١٥): الأشياء اللازمة لتقديم الذبيحة.
١٣وَهذِهِ شَرِيعَةُ النَّذِيرِ: يَوْمَ تَكْمُلُ أَيَّامُ انْتِذَارِهِ يُؤْتَى بِهِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، ١٤فَيُقَرِّبُ قُرْبَانَهُ لِلرَّبِّ خَرُوفًا وَاحِدًا حَوْلِيًّا صَحِيحًا مُحْرَقَةً، وَنَعْجَةً وَاحِدَةً حَوْلِيَّةً صَحِيحَةً ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، وَكَبْشًا وَاحِدًا صَحِيحًا ذَبِيحَةَ سَلاَمَةٍ، ١٥وَسَلَّ فَطِيرٍ مِنْ دَقِيق أَقْرَاصًا مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ، وَرِقَاقَ فَطِيرٍ مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ مَعَ تَقْدِمَتِهَا وَسَكَائِبِهَا.
١. يُؤْتَى بِهِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ: كان إنهاء نذر النذير يتخذ صورة طقس علني، يُقدَّم فيه عدد كبير من الذبائح: خَرُوفًا وَاحِدًا… وَنَعْجَةً وَاحِدَةً … وكَبْشًا وَاحِدًا … وَسَلَّ فَطِيرٍ … وَسَكَائِبِهَا.
• “كانت تقدمات النذير يَوْمَ تَكْمُلُ أَيَّامُ انْتِذَارِهِ (الآية ١٣) كثيرة وباهظة الثمن؛ وكانت تعبِّر عن تكريسه التام ليهوه خلال تلك الفترة الخاصة.” ألن (Allen)
٢. فَيُقَرِّبُ قُرْبَانَهُ لِلرَّبِّ: كان الإتمام العادي للنذر يستلزم ذبيحةً من ثلاثة حيوانات وأكثر. وكان هذا يكلف الكثير. فلم يكن نذر النذير بالشيء الذين يمكن الخوض فيه بنوع من الاستهانة.
• عندما زار بولس أورشليم، طُلِب منه تسديد النفقات عن بعض المؤمنين الذين كان عليهم نذر، وكانوا على وشك إنهائه عن طريق ممارسة هذا الطقس نفسه (أعمال الرسل ٢١: ٢٣-٢٤).
ب) الآيات (١٦-٢١): الذبائح التي تقدَّم.
١٦فَيُقَدِّمُهَا الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ وَيَعْمَلُ ذَبِيحَةَ خَطِيَّتِهِ وَمُحْرَقَتَهُ. ١٧وَالْكَبْشُ يَعْمَلُهُ ذَبِيحَةَ سَلاَمَةٍ لِلرَّبِّ مَعَ سَلِّ الْفَطِيرِ، وَيَعْمَلُ الْكَاهِنُ تَقْدِمَتَهُ وَسَكِيبَهُ. ١٨وَيَحْلِقُ النَّذِيرُ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ رَأْسَ انْتِذَارِهِ، وَيَأْخُذُ شَعْرَ رَأْسِ انْتِذَارِهِ وَيَجْعَلُهُ عَلَى النَّارِ الَّتِي تَحْتَ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ. ١٩وَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ السَّاعِدَ مَسْلُوقًا مِنَ الْكَبْشِ، وَقُرْصَ فَطِيرٍ وَاحِدًا مِنَ السَّلِّ، وَرُقَاقَةَ فَطِيرٍ وَاحِدَةً، وَيَجْعَلُهَا فِي يَدَيِ النَّذِيرِ بَعْدَ حَلْقِهِ شَعْرَ انْتِذَارِهِ، ٢٠وَيُرَدِّدُهَا الْكَاهِنُ تَرْدِيدًا أَمَامَ الرَّبِّ. إِنَّهُ قُدْسٌ لِلْكَاهِنِ مَعَ صَدْرِ التَّرْدِيدِ وَسَاقِ الرَّفِيعَةِ. وَبَعْدَ ذلِكَ يَشْرَبُ النَّذِيرُ خَمْرًا. ٢١هذِهِ شَرِيعَةُ النَّذِيرِ الَّذِي يَنْذُرُ، قُرْبَانُهُ لِلرَّبِّ عَنِ انْتِذَارِهِ فَضْلًا عَمَّا تَنَالُ يَدُهُ. حَسَبَ نَذْرِهِ الَّذِي نَذَرَ كَذلِكَ يَعْمَلُ حَسَبَ شَرِيعَةِ انْتِذَارِهِ».
١. فَيُقَدِّمُهَا الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ: في الجزء الأول من طقس إنهاء نذر النذير، كان الكاهن يقدِّم الحيوانات المطلوبة وتقدمة الدقيق.
٢. وَيَأْخُذُ شَعْرَ رَأْسِ انْتِذَارِهِ وَيَجْعَلُهُ عَلَى النَّارِ: بعدما يقدم الكاهن الذبيحة، كان شعر النذير يُحلَق، ويوضَع على نار المذبح.
٣. وَيَجْعَلُهَا فِي يَدَيِ النَّذِيرِ… وَيُرَدِّدُهَا الْكَاهِنُ تَرْدِيدًا أَمَامَ الرَّبِّ: ربما يعني ذلك أن النذير والكاهن كانا يردِّدان قطع التقدمة معًا أمام الرب، أو ربما كان الكاهن يستردها مرة أخرى من يد النذير ليردِّدها هو أمام الرب. في كلتا الحالتين، كان للنذير دور فعال في هذا الطقس.
٤. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَشْرَبُ النَّذِيرُ خَمْرًا: كان هذا هو الإنهاء الرسمي للنذر. وعلى الأرجح، كان الخمر جزءًا من وجبة الشركة التي تتضمَّن أجزاءً من لحم الذبيحة التي تُعطَى نصيبًا للشخص الذي أنهى نذره.
ثالثًا. البركة الكهنوتية
أ ) الآيات (٢٢-٢٣): الأمر بمباركة الشعب.
٢٢وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: ٢٣كَلِّمْ هَارُونَ وَبَنِيهِ قَائِلًا: هكَذَا تُبَارِكُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ لَهُمْ.
١. هَكَذَا تُبَارِكُونَ: أمر الله موسى، وهارون، وبنيهما بأن يباركوا شعب الله. وكان عليهم أن يفعلوا ذلك وفقًا للإجراء المنصوص عليه تفصيلًا في الآيات التالية.
• ” كان الكهنة ينطقون بهذه البركة دائمًا في ختام الخدمة الصباحية اليومية في الهيكل، ثم في المجامع اليهودية لاحقًا.” وينهام (Wenham)
• إن مجيء البركة الكهنوتية عقب المقطع الخاص بنذر النذير يمثِّل أهمية. فكلما وُجِد فعل إظهار خاص للتكريس أو الانفراز لله، نميل بسهولة إلى الظن بأن هؤلاء الأشخاص المفرَزين هم وحدهم الذين يريد الله أن يباركهم، أو هم الذين سيباركهم الله بالفعل. لذلك، نحن بحاجة إلى أن يُذَكِّرنا أحد بأنه رغم القيمة الكبيرة لأفعال التكريس الخاصة، فإن بركة الله ليست شيئًا يُربَح بتلك الأفعال الخاصة. فإن الله يحب أن يبارك شعبه، وبركته لهم مجانية أكثر بكثير من تصوُّرهم.
• “هكذا فعل المسيح مع رُسله، وكان هذا آخر ما فعله على الأرض (لوقا ٢٤: ٥٠). وهكذا يجب على جميع رعاة الكنائس، الذين يريدون أن ينجحوا في خدمتهم، أن يصلُّوا طالبين بركة لرعيتهم.” تراب (Trapp)
٢. قَائِلِينَ لَهُمْ: لا يقدِّم لنا الكتاب المقدس الكثير من الصلوات المكتوبة التي يَلزَم ترديدها. ورد مثال آخر لصلاة مكتوبة في متى ٦: ٩-١٣، وهي التي تسمَّى ’الصلاة الربانية‘ (وربما من الأفضل أن تسمَّى ’صلاة التلميذ‘).
• “إن الصلاة الحرة والعفوية أشد نفعًا، وأكثر توافقًا بالطبيعة مع القيادة الحرة للروح القدس. لكن في حالة المباركة، كان من الجيد أن تُملَى الصلاة على رجل الله. فقد كان من الممكن لبني إسرائيل أن يفقدوا البركة بسبب جهل هارون، أو نسيانه، أو عدم إيمانه؛ ولذلك، لم يُترَك الأمر في يده، بل كان عليه أن يحفظ عن ظهر قلب كلَّ كلمة وجملة في هذه الصلاة. وبهذه الطريقة وحدها، كان ينبغي أن يبارك الشعب. يروق لي ذلك، لأنه إذا كان الله نفسه هو الذي وضع الكلمات على فم كاهنه، فإنها حقًّا تكون كلمات الله.” سبيرجن (Spurgeon)
• “تتبرهن الأهمية التي كانت هذه البركة تمثِّلها في حياة الإسرائيليين القدامى من خلال العثور على نسخة من هذه الصلاة بعد التنقيب في منطقة كتف هنوم، الواقعة جنوب غرب جبل صهيون ومدينة أورشليم القديمة. ففي أثناء التنقيب داخل مجمَّع كنيسة سان أندرو الإسكتلندية، التي تقع على المنحدر الغربي لوادي هنوم، في عام ١٩٧٩، عثرت البعثة بقيادة عالم الآثار ج. باركاي (G. Barkai) على مقبرة يعود تاريخها إلى ما بين أواخر القرن السابع والقرن السادس ق.م. ومن بين البقايا التي استُخرِجت من هذه المقبرة، عُثِر على تميمةٍ تحوي لفيفتين من الفضة بحجم سيجارة صغيرة، مكتوب عليهما صيغتان من البركة الكهنوتية. كانت هذه اللفائف تُستخدَم كتمائم خلال حياة الأشخاص المدفونين هناك، أو كانت تعلَّق في المقبرة. والنص المكتوب على اللفيفة الأكبر يكاد يكون مطابقًا للنص المازوري، في حين كُتبت على اللفيفة الأصغر صيغة مختصرة من البركة الثانية والبركة الثالثة. وبهذا، تشهد هاتان اللفيفتان عن موثوقية وقِدَم البركة الكهنوتية. وتحتوي هذه النصوص أيضًا على أقدم شهادة على اسم يهوه المكوَّن في العبرية من أربعة أحرف (YHWH)، وهي موجودة حتى يومنا هذا في مدينة أورشليم.” كول (Cole)
ب) الآيات (٢٤-٢٦): البركة الهارونية.
٢٤يُبَارِكُكَ الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. ٢٥يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. ٢٦يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَمًا.
١. يُبَارِكُكَ الرَّبُّ: هذه الرغبة البسيطة هي بداية كل شيء. فإن الله يحب أن يُبَارِك شعبه. وهو يريد قادةً يتوقون إلى هذه البركة أيضًا. كذلك، هذا إقرار بأن كلَّ بركة تأتي بالفعل من عند الله. ودون بركته، لا شيء يسير على ما يرام.
• ندرك جيدًا أن بركة الله تهدف دائمًا إلى خيرنا الأعظم والأسمى. وإننا نتوقع في كثير من الأحيان أن تعني بركة الله حياةً من الراحة واليسر؛ لكن هذا لا يحقِّق بالتأكيد أعظم وأسمى خير في حياتنا. فإن الله يعرف الطريقة التي نحتاج أن نبارَك بها، حتى وإن كنا نحن أنفسنا لا نعرف ذلك.
• إننا كثيرًا ما اكتفينا بالحصول على السعادة، أو الراحة، أو الغنى، في حين يريد الله أن يباركنا. فإن البركة الحقيقية التي من عند الله أسمى بكثير من السعادة، أو الغنى، أو الراحة.
٢. وَيَحْرُسُكَ: إن حفظ الرب لنا (أي تملُّكه لنا) هو بركة حقيقية. البعض تتملَّكهم خطاياهم وشهواتهم، والبعض الآخر تتملكهم عبادة الأوثان والطمع، وآخرون أيضًا تتملكهم المرارة والغضب. لكن تملُّك الرب لنا (أي أن يحرسنا الرب ويحفظنا) يضمن لنا الحياة، والسلام، والنجاح.
٣. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ: أعظم هبة يمكن لأي شخص أن يحصل عليها هي أن يضيء وجه الله المجيد عليه في رضا وسرور. فلا يوجد مصدر للسلام والقوة في الحياة أعظم من أن تعرف أنه عندما ينظر الله إليك، يكون راضيًا، ليس بسبب شيء فيك، أو شيء فعلته، بل لأنك في المسيح يسوع.
• نستطيع أن نتخيل أبًا يؤدب ابنه، فيُخرِجه من حضرته، ثم يعود ليقبله مرة أخرى، حتى يرى وجهه المحب. هكذا يقبل الله الخطاة الذين يأتون إلى يسوع بالإيمان.
• “لمَ قد ينتاب أحدهم القلق والله متبسِّم له؟ ما الذي يهم لو أدان العالم كله أحدهم بينما يؤيِّده يهوه. فإن نظرة استحسان من الله تنشئ داخل النفس سكينة عميقة وممتعة.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. وَيَرْحَمُكَ: يعني ذلك أن الله سيظهر رحمة حانية ورعاية لشعبه.
٥. يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ: كان على الكاهن أن يصلي إلى الله طالبًا منه أن ينظر إلى شعبه فيما يباركهم، ويحرسهم، ويضيء بوجهه عليهم، ويرحمهم. فأيُّ نظرة يوجهها الله إلى شعبه ليست مليئة إلا بالبركة. فإن اهتمامه المحب منصبٌّ على المؤمن.
• المقصود بأن يَرْفَعُ أحدهم عينيه أو وجهه هو أن ينتبه جيدًا إلى أحدهم، أو ينظر إليه نظرة تأييد. “عندما يتبسَّم الله لشعبه، فإنهم يستطيعون أن يتيقنوا من أنه سيرحمهم، أي سينجيهم من كل متاعبهم، ويستجيب صلواتهم، ويخلِّصهم من أعدائهم.” وينهام (Wenham)
٦. وَيَمْنَحُكَ سَلَامًا: الكلمة في الأصل العبري هي shalom (شالوم)، ومعناها أعمق من مجرد انتهاء العداوة. فإن هذا السَلَام، أي shalom، هو الكلمة التي يستخدمها الله للتعبير عن السلامة، والخير، والشبع، والاكتفاء التام في الحياة. وهذه هي الحياة الأفضل التي وعد بها يسوع (يوحنا ١٠: ١٠).
٧. الرَّبُّ … الرَّبُّ … الرَّبُّ: ليس تكرار كلمة الرَّبُّ ثلاث مرات هنا دليلًا على عقيدة الثالوث، بل توضيحًا لها.
• فإن الله الآب يبارك أولاده ويحرسهم.
• والله الابن يجعل وجه الله يضيء علينا، ويجلب لنا الرحمة والنعمة.
• والله الروح القدس ينقل إلينا اهتمام الله بنا، ويمنحنا سلامًا.
“الاسم يهوه [YHWH] المذكور ثلاث مرات، والذي لم يكن تكراره ضروريًّا من الناحية اللغوية، بالإضافة إلى النهاية المدوِّية لهذا الإصحاح – ’وَأَنَا [قطعًا] أُبَارِكُهُمْ‘ – يزيدان من حدة التأكيد على أن إله إسرائيل هو مصدر كل نعمة، وبركة، ورجاء، وسلام.” كول (Cole)
“لن أقول إن هذا المقطع يُعلِّم بعقيدة الثالوث، لكن يجب أن أقول إن إيماني بعقيدة الثالوث مكَّنني من فهم هذا المقطع بشكل أفضل. فإن ظلَّ الله الواحد في ثلاثة أقانيم يخيِّم على هذه البركة المقدسة من خلال تكرار اسم الرب ثلاث مرات.” سبيرجن (Spurgeon)
٨. يُبَارِكُكَ … وَيَحْرُسُكَ … عَلَيْكَ … وَيَرْحَمُكَ … عَلَيْكَ … وَيَمْنَحُكَ: تكرَّر ضمير المخاطب المفرد ست مرات هنا للتأكيد على أن الله يريد أن يباركك أنت. فإننا نشعر أحيانًا كما لو أن الله قطعًا يريد أن يبارك شخصا آخر. لكنه في حقيقة الأمر يريد أن يباركنا نحن.
• “ما دمت تؤمن بالمسيح، فإن يسوع، رئيس الكهنة الأعظم، يتكلَّم من المجد الأبدي، قائلًا: ’ليباركك الرب.‘ وربما تقول: ’لكنني لا أستحق ذلك.‘ أجل، هذا صحيح تمامًا، لكن ’ليباركك الرب.‘ وربما تقول أيضًا: ’لكنني لا أستحق ذلك، فإنني كثير الزلل والارتداد.‘ أجل، لكنَّ الرب يسوع المسيح يعرف كل ذلك، ويستر كلَّ ذلك. دعونا نقرأ إذن هذه الكلمات كالتالي: ’يُبَارِكُكَ الرَّبُّ (أنت) وَيَحْرُسُكَ (أنت). يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ (أنت) وَيَرْحَمُكَ (أنت). يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَلَيْكَ (أنت) وَيَمْنَحُكَ (أنت) سَلَامًا.‘ فهل اخترقت تلك الكلمات أعماق قلوبكم؟” سبيرجن (Spurgeon)
• عندما يُغْدِق الله بركاته علينا، علينا أن نقبلها بالإيمان. فينبغي أن نكون مثل يعقوب، الذي لم يشأ أن يطلق الله حتى يباركه.
• “صيغت هذه الصلاة في صورة شعرية، وربما كانت واحدة من أقدم القصائد في الكتاب المقدس.” وينهام (Wenham)
ج) الآية (٢٧): نتيجة البركة.
٢٧فَيَجْعَلُونَ اسْمِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا أُبَارِكُهُمْ.
١. فَيَجْعَلُونَ اسْمِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أن تكون مُباركًا من الله معناه أن يكون اسْمِه عليك، أي أن تكون متحدًا بشخصه وبكلِّ طبيعته. كانت هذه هبةً عظيمةً، أن يكون اسم الله على الشعب.
• أُوصِي هارون بأن ينطق بهذه البركة على شعب إسرائيل، وليس على شعوب أخرى. فمع أن الله يبارك كلَّ الجنس البشري، فإن لديه بالفعل بركات خاصة لشعبه. وعلينا أن ننضم إليه ونتحد به حتى ننال تلك البركات.
٢. وَأَنَا أُبَارِكُهُمْ: وعد الله بأن يبارك بحسب هذه الكلمات. وهذا الأمر يجعلها كلمات ملائمةً لينطق بها رعاة الكنائس على رعيتهم. والأهم من ذلك أنه على كل مؤمن أن يتذكر أن لنا رئيس كهنة في السماء، هو يسوع المسيح، وهو حيٌّ إلى الأبد ليصلِّي لأجلنا ويباركنا.
• “عندما يقول الله إنه سيفعل شيئًا (وَأَنَا أُبَارِكُهُمْ)، لا تستطيع كلُّ شياطين الجحيم أن تعوق البركة، ولن تستطيع كلُّ الدهور أن تغيِّر كلمة الملك.” سبيرجن (Spurgeon)
• “بَارَكَ الرب شعبه، وهو يريد أن يعرفوا ذلك. فهو قد باركهم بكلِّ بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع، وهو يريد أن يختبروا ملء هذه البركة. فهل يوجد أحد في شعب الرب ليس على دراية أو وعي بهذه البركة؟ ليست مشيئة الله أن تظلُّوا في هذه الحالة المتدنية من الجهل.” سبيرجن (Spurgeon)