سفر العدد – الإصحاح ٢٥
إسرائيل تسجد للبعل
أولًا. الزنا، وعبادة الأوثان، ونتائج ذلك
أ ) الآيات (١-٣): زنا شعب إسرائيل مع بَنَاتِ مُوآب.
١وَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي شِطِّيمَ، وَابْتَدَأَ الشَّعْبُ يَزْنُونَ مَعَ بَنَاتِ مُوآبَ. ٢فَدَعَوْنَ الشَّعْبَ إِلَى ذَبَائِحِ آلِهَتِهِنَّ، فَأَكَلَ الشَّعْبُ وَسَجَدُوا لآلِهَتِهِنَّ. ٣وَتَعَلَّقَ إِسْرَائِيلُ بِبَعْلِ فَغُورَ. فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ.
١. وَابْتَدَأَ الشَّعْبُ يَزْنُونَ مَعَ بَنَاتِ مُوآبَ: دخلت بَنَاتِ مُوآب في وسط رجال إسرائيل، وقمن بإغوائهن بارتكاب خطايا جنسية، وكذلك بعبادة الأوثان (وَسَجَدُوا لِآلِهَتِهِنَّ). كانت هاتان الخطيتان مرتبطتين معًا في المعتاد في الأشكال المنحرفة من عبادة الأوثان في العالم القديم.
• “الفعل الذي استُخدِم لوصف ما فعله رجال إسرائيل [يَزْنُونَ] هو فعل يُستخدِم عادةً لوصف سلوك امرأة منفلتة، أي امرأة عاهرة. فهنا، صار الشعب مثل رجل يمارس الجنس مقابل المال مع النساء الأجنبيات والوثنيات. وفي بيئة الشرق الأدنى القديم، توحي مثل هذه الإشارات الجنسية دائمًا بوجود تداخل بين الزنا، وبين الدعارة الدينية، التي كانت تعتبر جزءًا أساسيًّا من العبادات الدينية الوثنية في ذلك الوقت.” ألن (Allen)
• “فقد اعتاد هؤلاء، بمجرد الانتهاء من تقديم ذبائحهم، أن يتجهوا إلى أحد الأركان داخل معبد إلههم؛ وهناك، يُشبِعون شهواتهم بطريقة غير شرعية مثل الحيوانات البرية.” تراب (Trapp)
• إن خطية شعب إسرائيل في بَعْلِ فَغُور تحمل في طياتها أيضًا عدم امتنان شديد. كان الله قد حفظ شعب إسرائيل لتوِّه بطريقة مذهلة من الجهود المضنية التي بذلها بَلْعَام وبَالاَق لصب اللعنة عليهم؛ وبدلًا من ذلك، بارك الله شعبه ولعن أعداءهم. ولذلك، كان زناهم، الجسدي والروحي على حد سواء، نوعًا من عدم الامتنان.
• في هذا الإصحاح، قيل عن البنات وشعبهن في بعض الأحيان إنهن مديانيات، وقيل في أحيان أخرى إنهن موآبيات. السبب في ذلك هو أن المديانيين كانوا جماعات من الرحالة، وكانوا متواجدين في تلك الفترة بأعداد كبيرة في وسط الموآبيين.
• شِطِّيمَ: “قال يوسيفوس إن هذا الموقع يوازي مدينة أبيلا في عصره، وهو مكان يقع على مسافة سبعة أميال شرق نهر الأردن، وعلى مسافة نحو خمسة أميال شمال البحر الميت. وهذه المنطقة الواسعة، الواقعة على بعد أميال قليلة شمال شرق البحر الميت، والتي سُمِّيت أيضًا ’عَرَبَاتِ مُوآبَ عَلَى أُرْدُنِّ أَرِيحَا،‘ كانت هي الموقع الجغرافي الذي أقام فيه شعب إسرائيل طوال بقية فترة إقامتهم في البرية، قبيل دخولهم أرض الموعد.” كول (Cole)
٢. وَتَعَلَّقَ إِسْرَائِيلُ بِبَعْلِ فَغُورَ: كان الإله بَعْل هو إله الخصوبة العظيم لدى الكنعانيين. وقد شكَّلت عبادة البَعْل مصدر إغراء مستمرٍّ لبني إسرائيل. وتنبأ بَلْعَام على الأرجح من هذا المكان نفسه، من مُرْتَفَعَاتِ بَعْلٍ (سفر العدد ٢٢: ٤١) – بَعْلِ فَغُور. وتَعَلَّقَ إِسْرَائِيلُ بِبَعْلِ فَغُور، بمعنى أنهم صاروا تحت نير، أو في شراكة، مع بَعْل، إله الكنعانيين.
• حتى هذه المرحلة من قصة الخروج ككلٍّ، أخطأ شعب إسرائيل إلى الله بطرق متعدِّدة. فقد تذمَّروا واشتكوا عليه، ولم يبدوا امتنانًا له على عنايته السخية بهم. كما أنهم عبدوه بطريقة خاطئة، زاعمين أن تمثال العجل الذهبي يمكن أن يمثِّله. كذلك، هم أخطأوا إليه بعدم إيمانهم، عندما رفضوا أن يضعوا ثقتهم فيه وفي وعده. لكن طوال هذا الوقت، لم يكن هذا الشعب قد عبد إلهًا آخر بشكل صريح. وبالتالي، كانت خطية عبادة الأوثان هذه تختلف عن أية خطية ارتُكِبت قبل ذلك في رحلة الخروج.
• “وبهذا التصرف، خالف الشعب المبدأ الذي جاء في نبوة بَلْعَام الأولى عنهم، وهو أنهم ’شَعْبٌ يَسْكُنُ وَحْدَهُ.‘ فقد كان هذا فعل تمرد على الله، ومن ثمَّ كان بمثابة إخلالٍ وإفساد للعهد.” مورجان (Morgan)
• هذا أول ذكرٍ للقاء يحدث بين شعب إسرائيل والإله بَعْل، وهو يشكِّل بداية نمط مؤسف من تعاملات لاحقة بين إسرائيل وهذا الإله الوثني المعروف بين الكنعانيين. كان الإغراء بعبادة الأوثان عن طريق ممارسة علاقات جنسية مع نساء وثنيات إغراءً شديدًا على شعب إسرائيل، لدرجة أنه حتى سليمان، ملك إسرائيل، الذي اشتهر بحكمته، وقع فريسةً له (١ملوك ١١: ١-١٠).
• فقط في سفر العدد ٣١: ٨، ١٦ نعرف أنَّ كلَّ هذا حدث من خلال مشورة بَلْعَام. فمن ناحيةٍ، دخلت عبادة البَعْل إلى إسرائيل للمرة الأولى من خلال مشورة بَلْعَام.
٣. فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ: لم يستطع بَالاَق أن يدفع لبَلْعَام ما يكفي من المال حتى يقنع الله بأن يلعن إسرائيل. ففي الإصحاح السابق، حاول بَلْعَام أن يلعن إسرائيل ولم يستطع، لكنه في المقابل، وبوحيٍ من الرب، بارك إسرائيل ولعن أعداءهم. لكن الآن، في بَعْلِ فَغُور، لُعِن إسرائيل بسبب وقوع غَضَب الرَّبِّ عليهم، بسبب خطيتهم التي ارتكبوها في حقه.
• فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ: وفقًا لتفسير ألن (Allen)، المعنى الحرفي للغضب هنا هو ’اِحمِرَار الأنف،‘ وهو استعارة تُعبِّر عن اشتعال الغضب. ونعرف في جزء لاحق من هذا الإصحاح أن غَضَبُ الرَّبِّ تجلَّى في صورة وبأ ابتدأ يصيب الآلاف من بين شعب إسرائيل، وبدا كما لو أنه سيستمر حتى يُفنَى الشعب بأكمله.
• ما لم يستطع أيُّ عدو أن يفعله بإسرائيل، فعله إسرائيل بأنفسهم من خلال عصيانهم. ينطبق هذا المبدأ نفسه على شعب الله اليوم. فإن أشد هجمات الشيطان علينا لا تستطيع أن تُحدث الضرر نفسه الذي تُحدِثه خطايانا وتمرُّدنا على الرب.
• “لم يقدر سيف أو لعنة أيِّ شخص غريب أن يقضي على إسرائيل، لكنَّ إسرائيل وحدها استطاعت أن تجلب على نفسها الشقاء، وذلك بانشقاقها عن الله وعن شريعته.” – المعلم اليهودي هيرش، واقتبسه ألن (Allen)
• “عندما وجد شعب موآب، الذين صاروا الآن جيرانًا لشعب إسرائيل، أنفسهم عاجزين عن تنفيذ مخططهم ضد إسرائيل عن طريق الحرب أو السحر، استعملوا أسلوبًا آخر” بوله (Poole). وعلى هذا المنوال نفسه، لا يمكن لقوة الشيطان وسحره أن يكون لهما أي تأثير دائم على المؤمن. لكن إذا تمكن الشيطان من إيقاعنا في الخطية، يصير قضاؤه علينا أمرُا سهلًا.
٤. فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ: فعل بَلْعَام كل ما بوسعه ليلعن إسرائيل، لكنه لم ينجح. إلا أن حبه للمال لم يدع الأمر يمرُّ وينتهي دون أن يتمكن من إرضاء الرجل الذي استأجره، وهو بَالاَق ملك موآب. ولذلك، دفعه جشعه إلى الإصرار على البحث عن وسيلة يساعد بها بَالاَق في إشعال غَضَبُ الرَّبِّ على إسرائيل.
• تخبرنا الآية في رسالة بطرس الثانية ٢: ١٥ عن بَلْعَام، الرجل “الَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ الْإِثْمِ.” وتربط الآية في رؤيا ٢: ١٤ بين محاولة بَلْعَام الفاشلة ليلعن إسرائيل وبين عبادة الأوثان التي أعقبت ذلك، قائلة: “بَلْعَامَ، الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ بَالَاقَ أَنْ يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلْأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا.”
• بعد إخفاق بَلْعَام في لَعن إسرائيل، قال لبَالَاقَ شيئًا من هذا القبيل: “لا أستطيع أن ألعن هذا الشعب، لكننا نستطيع أن نجعلهم يجلبون اللعنة على أنفسهم، إذا نجحنا في استدراجهم ليتمرَّدوا على إلههم. فلترسل إليهم أشد بنات موآب إثارة، وقل لهن أن يغوين رجال إسرائيل بارتكاب الزنا وعبادة الأوثان.” وقد نجحت هذه الخطة.
• حصل بَلْعَام على ما أراد من خلال مشورته الشريرة لبَالَاقَ، لكن انتهى به الحال أيضًا إلى الموت ضمن أعداء الله (سفر العدد ٣١: ٧-٨). وبالتالي، لم يستمتع بأجرته إلا لفترة وجيزة.
ب) الآيات (٤-٥): دينونة الله على المتعدِّين.
٤فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «خُذْ جَمِيعَ رُؤُوسِ الشَّعْبِ وَعَلِّقْهُمْ لِلرَّبِّ مُقَابِلَ الشَّمْسِ، فَيَرْتَدَّ حُمُوُّ غَضَبِ الرَّبِّ عَنْ إِسْرَائِيلَ». ٥فَقَالَ مُوسَى لِقُضَاةِ إِسْرَائِيلَ: «اقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ قَوْمَهُ الْمُتَعَلِّقِينَ بِبَعْلِ فَغُورَ».
١. خُذْ جَمِيعَ رُؤُوسِ الشَّعْبِ وَعَلِّقْهُمْ لِلرَّبِّ: رأى الله أنه ثمة أهمية أن يُحاكَم المتعدُّون علانيةً. فلم تكن هذه خطيةً يمكن التستر عليها، بل كان ينبغي التعامل مع هذه الخطية العلنية بطريقة علنية.
• كانت هذه دينونة قاسية بحقٍّ، بسبب الشعور العميق بالعار والخزي المصاحب لعدم دفن الجثث: “كان على موسى أن يجمع كلَّ رؤساء الأسباط – أي ممثِّلي الشعب الذين كان من المفترض إما أن يمنعوا الممارسات الوثنية وإما أن يتولُّوا معاقبة المذنبين من بين أعضاء سبطهم – ثم كان على هؤلاء الرؤساء أن ينفِّذوا حكم الموت فيهم، بتعليقهم على رايات، بحيث تُعلَّق أجسادهم في العراء في وضح النهار.” كول (Cole)
٢. اقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ قَوْمَهُ الْمُتَعَلِّقِينَ بِبَعْلِ فَغُورَ: أُوكِلت هذه المسؤولية إلى جَمِيعَ رُؤُوسِ الشَّعْبِ. فقد كان عليهم أن يفتشوا فيما بينهم عن الذين ارتكبوا خطايا عبادة الأوثان والزنا مع بنات موآب. وكان لا بد أن تكون عقوبتهم هي الموت (اقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ قَوْمَهُ).
• “يبدو كما لو أن الرب قال لموسى: ’اجمع الرؤساء والقضاة، واجرِ تحقيقًا بشأن المتعدِّين، ثم علِّق الذين يُدانون منهم أمام الرب، لأن هذا هو ما يقتضيه عدله.‘” كلارك (Clarke)
• كانت هذه دينونة قاسية، لكنها كانت متوافقة مع ما وعد به الله شعب إسرائيل في اشتراطات العهد الذي قطعه معهم عند جبل سيناء. “وَالْآنَ اذْهَبِ اهْدِ الشَّعْبَ إِلَى حَيْثُ كَلَّمْتُكَ. هُوَذَا مَلَاكِي يَسِيرُ أَمَامَكَ. وَلَكِنْ فِي يَوْمِ افْتِقَادِي أَفْتَقِدُ فِيهِمْ خَطِيَّتَهُمْ.” (خروج ٣٢: ٣٤)
• عندما يتساهل مجتمعٌ ما مع خطية كهذه، أو يصادق عليها، تكون هذه علامة أكيدة على الانحطاط والتدهور؛ والرب – الذي تكلَّم على فم موسى – لن يقبل بهذا الانحطاط. فهو قد أمر الجماعة (جَمِيعَ رُؤُوسِ الشَّعْبِ) بأن يأتوا بالمتعدِّين ليُعاقَبوا، كي يُظهِروا بهذا أنهم لن يقبلوا بوجود هذا النوع من الخطايا في وسطهم.
ثانيًا. إدانة خطية صارخة وصريحة
أ ) الآيات (٦-٩): دفاع فِينْحَاسُ عن البر يوقف وبأ الله الناجم عن سخطه.
٦وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَ وَقَدَّمَ إِلَى إِخْوَتِهِ الْمِدْيَانِيَّةَ، أَمَامَ عَيْنَيْ مُوسَى وَأَعْيُنِ كُلِّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ بَاكُونَ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. ٧فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ فِينْحَاسُ بْنُ أَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ الْكَاهِنِ، قَامَ مِنْ وَسَطِ الْجَمَاعَةِ وَأَخَذَ رُمْحًا بِيَدِهِ، ٨وَدَخَلَ وَرَاءَ الرَّجُلِ الإِسْرَائِيلِيِّ إِلَى الْقُبَّةِ وَطَعَنَ كِلَيْهِمَا، الرَّجُلَ الإِسْرَائِيلِيَّ وَالْمَرْأَةَ فِي بَطْنِهَا. فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ٩وَكَانَ الَّذِينَ مَاتُوا بِالْوَبَإِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا.
١. الْمِدْيَانِيَّةَ، أَمَامَ عَيْنَيْ مُوسَى وَأَعْيُنِ كُلِّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: كان هذا مثالًا صارخًا لقُبح الخطية التي كانت تُرتكَب في كلِّ أنحاء إسرائيل. فقد اقترب رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ومعه امرأة مِدْيَانِيَّةَ، من بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ.
• يعتقد بعض المفسِّرين (مثل ألن Allen) أن هذا الرجل كان يمارس الجنس مع هذه المرأة المديانية أمام خيمة الاجتماع مباشرة، لكنَّ النص حجب هذه المعلومة، لأن الأمر كان مشينًا ومسيئًا للغاية. “هذا الرجل مجدِّف بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى. فإن خطيته كانت بمثابة إثارةٍ متعمَّدة لغضب الرب، وانتفاخٍ على القداسة، واستهزاءٍ بها، بفظاظة لا تصدَّق.” ألن (Allen)
٢. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ فِينْحَاسُ بْنُ أَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ الْكَاهِنِ، قَامَ مِنْ وَسَطِ الْجَمَاعَةِ: كان فِينْحَاس ضمن بني إسرائيل الذين لم يقبلوا هذا التمرُّد واسع الانتشار على الله. وقد أوقع دينونة الله بطعنه كلًّا من الرَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، والْمِدْيَانِيَّةَ برمحٍ، على ما يبدو في أثناء ممارستهما فعل الزنا.
• أمام خطية صادمة ومشينة كهذه، كان من الطبيعي أن يتجمَّد المتفرِّجون في أماكنهم في حالة من الذهول وعدم التصديق لما يحدث. لكن رجلًا واحدًا تحرَّك، وهو فِينْحَاس، أحد أحفاد هارون (خروج ٦: ٢٥)، وقد تصرَّف ببسالة مع هذا الفعل المشين. “كان غضبه انعكاسُا للغضب الإلهي.” وينهام (Wenham)
• لم يكن فِينْحَاس رجل قصاصٍ، وفعلته الباسلة هذه (وإشادة الله بها) لا يبرِّران مبدأ الاقتصاص. يوضح سفر العدد ٣، ٤ أن الكهنة كانوا مسئولين عن أمن خيمة الاجتماع، وعن حفظها من الدخلاء، وقتل كلِّ من يتجرأ على تعدِّي حدودها. وقد أدَّى فِينْحَاس هذه المهمة بصفته حارسًا رسميًّا لخيمة الاجتماع، ولأن هذا كان هجومًا صارخًا وشائنًا على قدسية المسكن.
• “إن وضعية الرمح، وتمكُّنه من اختراق كلا الجسدين، جسد الرجل أولًا ثم جسد المرأة، يوحي بأنهما انخرطا في ممارسة الجنس فور دخولهما إلى الخيمة.” كول (Cole)
• في الأصل العبري للآية ٦، سبق كلمة مِدْيَانِيَّةَ أداة تعريف، الأمر الذي يميِّزها، ويدل على أنها كانت شخصية بارزة إلى حدٍّ ما: “يوحي ذلك بأن هذه المرأة لم تكن مجرد واحدة من عاهرات المعبد المحليات، لكنها كانت شخصية بارزة. وبرأيي، استُخدِمت أداة التعريف هنا لتمييز هذه المرأة، باعتبارها طرفًا محوريًّا في هذا الحدث. وربما كانت هذه المرأة هي الكاهنة العليا للديانة في بعل فغور.” ألين (Allen)
٣. فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ربما لم يكن فِينْحَاس هو الشخص الوحيد الذي اتخذ موقفًا كهذا لصالح البر، إلا أن الفضل في امتناع الوبأ نُسِب إليه هو.
• من السهل أن نظن أن دفاع شخص واحد عن البرِّ لن يشكل أيَّ فارق، في ظل الوجود المهيمن للخطية في مجتمع ما. لكنَّ الله يستطيع أن يكرم فعلَ برٍّ واحدًا فحسب، ويصنع به فارقًا. ونستطيع القول إنه من خلال فعلِ برٍّ واحدٍ، صار يسوع المسيح هو مخلِّص العالم (يوحنا ١٢: ٣٢).
• “رأى بعض المفسِّرين المسيحيين أن فِينْحَاس رمز للمسيح. من المشروع قطعًا أن يكون السبب في ذلك هو أن فِينْحَاس جسد المثل الأعلى للكهنوت الإسرائيلي: فقد غضب ربنا يسوع أكثر من مرة على الخطية (على سبيل المثال، مرقس ٣: ٥؛ ١١: ١٥). لكن يوجد جانب آخر من هذا الأمر: ففي حين كان رمح فِينْحَاس الذي اخترق الخطاة هو الذي كفَّر عن إسرائيل، كانت المسامير والحربة التي اخترقت جسد يسوع هي التي كفرت عن خطايا العالم أجمع.” وينهام (Wenham)
• “إن تصرف فِينْحَاس الكاهن يبيِّن كيف يمكن لشخص واحد مُخلص لله وغيور على مجده أن يقف في وجه السلوك الخاطئ لشعبٍ بأكمله. فقد تجرأ فِينْحَاس على رفض المشاركة في هذه الممارسات الخاطئة، وعاقب بصورة فورية وشنيعة الشخصين اللذين أخطآ بوقاحة.” مورجان (Morgan)
٤. أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا: مات كلُّ هذا العدد بسبب الْوَبَأ. لا بد أن هذا الأمر أسعد قلب بَالاَق ملك موآب. فقد علم عندئذ أن بَلْعَام نجح في أن يلعن إسرائيل، أو بالأحرى، في أن يجعلهم يلعنون أنفسهم بأنفسهم.
• وَكَانَ الَّذِينَ مَاتُوا بِالْوَبَإِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا: يبدو أن بولس أشار إلى هذا الحدث في ١كورنثوس ١٠: ٨، لكنه ذكر أن ٢٣,٠٠٠ فقط، وليس ٢٤,٠٠٠، هم الذين ماتوا في تلك الواقعة. “يمكن التوفيق بين العددين على النحو التالي: قُتِل ١٠٠٠ شخصًا نتيجة العقوبة التي أُلحِقت بالشعب في الآية ٤، ثم مات ٢٣٠٠٠ شخصًا نتيجة للأوامر التي أُصدِرت في الآية ٥، وبالتالي يصير الناتج الإجمالي ٢٤٠٠٠ شخصًا. وعلى الأرجح، أشار القديس بولس إلى العدد الأخير فحسب.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (١٠-١٣): الله يكرم فِينْحَاس لأجل غيرته.
١٠فَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: ١١«فِينْحَاسُ بْنُ أَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ الْكَاهِنِ قَدْ رَدَّ سَخَطِي عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِكَوْنِهِ غَارَ غَيْرَتِي فِي وَسَطِهِمْ حَتَّى لَمْ أُفْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْرَتِي. ١٢لِذلِكَ قُلْ: هأَنَذَا أُعْطِيهِ مِيثَاقِي مِيثَاقَ السَّلاَمِ، ١٣فَيَكُونُ لَهُ وَلِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِيثَاقَ كَهَنُوتٍ أَبَدِيٍّ، لأَجْلِ أَنَّهُ غَارَ للهِ وَكَفَّرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ».
١. بِكَوْنِهِ غَارَ غَيْرَتِي فِي وَسَطِهِمْ حَتَّى لَمْ أُفْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْرَتِي: لم يلتفت الله فقط إلى طاعة فِينْحَاس، بل أيضًا إلى كونه غَارَ غَيْرَتِي فِي وَسَطِهِمْ. فقد كان فِينْحَاس شغوفًا بالأمور التي كان الله شغوفًا بها. وفي هذا الموقف، أظهر فِينْحَاس بكلِّ أمانة غَيْرَة الله على خيانة شعب إسرائيل للعهد.
٢. فَيَكُونُ لَهُ وَلِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِيثَاقَ كَهَنُوتٍ أَبَدِيٍّ: بارك الله فِينْحَاس بقطعه وعدًا له بأن يظل الكهنوت في نسله هو دونًا عن بني هارون الآخرين.
• كانت هذه بركةً ملائمةً، لأن غيرة فِينْحَاس هي التي كَفَّرَت عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تمامًا كما كان يتعين على الكاهن أن يكون مسؤولًا عن خدمة التكفير.
ج) الآيات (١٤-١٨): الله يأمر إسرائيل بمضايقة الْمِدْيَانِيِّين وضربهم.
١٤وَكَانَ اسْمُ الرَّجُلِ الإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قُتِلَ مَعَ الْمِدْيَانِيَّةِ، زِمْرِيَ بْنَ سَالُو، رَئِيسَ بَيْتِ أَبٍ مِنَ الشِّمْعُونِيِّينَ. ١٥وَاسْمُ الْمَرْأَةِ الْمِدْيَانِيَّةِ الْمَقْتُولَةِ كُزْبِيَ بِنْتَ صُورٍ، هُوَ رَئِيسُ قَبَائِلِ بَيْتِ أَبٍ فِي مِدْيَانَ. ١٦ثُمَّ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: ١٧«ضَايِقُوا الْمِدْيَانِيِّينَ وَاضْرِبُوهُمْ، ١٨لأَنَّهُمْ ضَايَقُوكُمْ بِمَكَايِدِهِمِ الَّتِي كَادُوكُمْ بِهَا فِي أَمْرِ فَغُورَ وَأَمْرِ كُزْبِي أُخْتِهِمْ بِنْتِ رَئِيسٍ لِمِدْيَانَ، الَّتِي قُتِلَتْ يَوْمَ الْوَبَإِ بِسَبَبِ فَغُورَ».
١. زِمْرِيَ بْنَ سَالُو… كُزْبِيَ بِنْتَ صُورٍ: هذان هما اسما الرجل الإسرائيلي والمرأة الموآبية اللذين لم يُذكَر اسماهما قبلًا (في الآية ٦، ٨)، واللذين أخطآ على نحو علني ومشين للغاية أمام الشعب. وقد ذُكِرت أسماءهما لإلحاق عارٍ أبدي بهما. ونلاحظ هنا أن كليهما كان من أبوين من الرؤساء.
• الاسم زِمْرِيَ معناه “ذِكري.” وقد لصقت بهذا الرجل بالفعل أسوأ ذكرى على الإطلاق. والاسم كُزْبِي معناه ’كذبتي‘ أو ’خِداع.‘ وربما نُسِب إليها هذا الاسم لاحقًا عن عمدٍ، ليكون أكثر توافقًا مع الخزي والعار اللذين لحقا بها.
• كُزْبِي… بِنْتِ رَئِيسٍ لِمِدْيَانَ: “من المرجح أن هذه المرأة كانت كاهنةً في ديانتها. وهي بمثابة نموذج أوَّلي لإيزابل، التي لعبت فيما بعد دورًا فعالًا في إدخال عبادة البعل وعشتاروث إلى حياة شعب إسرائيل.” ألن (Allen)
• في إسرائيل، كان الرجال فقط هم المسموح لهم بأن يكونوا كهنةً. لكن في معظم الشعوب المحيطة بإسرائيل، كان هناك كهنة من النساء في كثير من الأحيان، وعادة ما ارتبطت ’خدمتهن‘ الكهنوتية بالزنا والدعارة.
٢. ضَايِقُوا الْمِدْيَانِيِّينَ وَاضْرِبُوهُمْ، لِأَنَّهُمْ ضَايَقُوكُمْ بِمَكَايِدِهِمِ الَّتِي كَادُوكُمْ بِهَا فِي أَمْرِ فَغُورَ: أمر الله شعب إسرائيل بعدم إظهار أيِّ نوع من التساهل مع الْمِدْيَانِيِّينَ، الذين لعبوا دورًا في إغواء شعب إسرائيل بارتكاب خطايا الزنا وعبادة الأوثان. وبهذا، أمر الله شعب إسرائيل بمحاربة المديانيين كلما أتيحت لهم الفرصة.
• ضَايِقُوا الْمِدْيَانِيِّينَ وَاضْرِبُوهُمْ: يذكر سفر العدد ٣١: ١-٢٠ أن “اثني عشر ألف إسرائيليًّا شنُّوا هجومًا على المديانيين، وأخربوا جميع مدنهم، وقتلوا ملوكهم الخمسة، وكل ذكر، وكل امرأة عرفت رجلًا، وأخذوا كلَّ غنائمهم.” كلارك (Clarke)
• “اكتملت عقوبة الجيل الأول بوبأ ِبَعْلِ فَغُور، وأصبحت عملية إعداد الجيل الثاني لدخول أرض الموعد في متناول اليد.” كول (Cole)