سفر العدد – الإصحاح ٣٢
الأسباط التي سكنت شرق الأردن
أولًا. الالتماس الذي قدَّمه سبطا رأوبين وجاد
أ ) الآيات (١-٥): الالتماس بالسكنى على الجانب الشرقي من نهر الأردن.
١وَأَمَّا بَنُو رَأُوبَيْنَ وَبَنُو جَادَ فَكَانَ لَهُمْ مَوَاشٍ كَثِيرَةٌ وَافِرَةٌ جِدًّا. فَلَمَّا رَأَوْا أَرْضَ يَعْزِيرَ وَأَرْضَ جِلْعَادَ، وَإِذَا الْمَكَانُ مَكَانُ مَوَاشٍ، ٢أَتَى بَنُو جَادَ وَبَنُو رَأُوبَيْنَ وَكَلَّمُوا مُوسَى وَأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ وَرُؤَسَاءِ الْجَمَاعَةِ قَائِلِينَ: ٣«عَطَارُوتُ وَدِيبُونُ وَيَعْزِيرُ وَنِمْرَةُ وَحَشْبُونُ وَأَلِعَالَةُ وَشَبَامُ وَنَبُو وَبَعُونُ، ٤الأَرْضُ الَّتِي ضَرَبَهَا الرَّبُّ قُدَّامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هِيَ أَرْضُ مَوَاشٍ، وَلِعَبِيدِكَ مَوَاشٍ». ٥ثُمَّ قَالُوا: «إِنْ وَجَدْنَا نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلْتُعْطَ هذِهِ الأَرْضُ لِعَبِيدِكَ مُلْكًا، وَلاَ تُعَبِّرْنَا الأُرْدُنَّ».
١. إِنْ وَجَدْنَا نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلْتُعْطَ هَذِهِ الْأَرْضُ لِعَبِيدِكَ مُلْكًا: كان شعب إسرائيل قد هزموا الموآبيين والمديانيين، وصارت أراضي رَعيٍ مثالية قابعة أمامهم على الجانب الشرقي من نهر الأردن. وعندما رأى رؤساء سبط رأوبين وسبط جاد أن الْمَكَانُ مَكَانُ مَوَاشٍ، صاروا مكتفين وراضين بهذه الأراضي، وطلبوا أن تُعطَى لهم نصيبًا.
• “على نحو غير متوقَّع، تلك المكاسب الوافرة من المواشي، التي نتجت عن الانتصارات المتتالية على سيحون ملك الأموريين في حشبون، وعوج ملك باشان، بالإضافة إلى الهزيمة المعجزية للمديانيين، أدَّت إلى حدوث أزمة في وسط بني إسرائيل.” كول (Cole)
• مَكَانُ مَوَاشٍ: “خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، أُجريت أعمال تنقيب مكثَّفة وأعمال مسوحات سطحية في هذه المناطق الواقعة شرق نهر الأردن، ونتج عن ذلك إجماعٌ على أن هذه المناطق لم تكن ذات كثافة سكانية عالية في فترة سفر الخروج (بغض النظر عن التاريخ الذي تعود إليه هذه الفترة). وبالتالي، فإن البراهين الكتابية في هذا الإصحاح تتوافق جيدًا مع البراهين الأثرية. فقد كان هذا مكانًا مثاليًّا لرعاية أعداد كبيرة من الغنم والماشية.” ألن (Allen)
• هِيَ أَرْضُ مَوَاشٍ، وَلِعَبِيدِكَ مَوَاشٍ: “تكرَّرت كلمة مواشٍ (miqneh) هنا للتوكيد. فلا بد أن قطعان مواشيهم كانت كبيرةً على نحو استثنائي.” ألن (Allen)
• أَرْضَ جِلْعَادَ: “تشير أرض جلعاد إلى مناطق مختلفة في العهد القديم. ومعناها الرئيسي (الذي ورد هنا) هو منطقة التلال الواقعة جنوب وادي يبوق… وفي أحيان أخرى، كان هذا الاسم يشير إلى كلِّ أراضي شرق الأردن التي امتلكها شعب إسرائيل (على سبيل المثال، يشوع ٢٢: ٩، ١٣، إلخ). وهذه الأراضي المرتفعة التي تطل على وادي الأردن (والتي يبلغ ارتفاعها نحو ٢٥٠٠ قدم) كانت تحظى بكميات غزيرة من الأمطار، وبالتالي فإنها كانت شديدة الخصوبة.” وينهام (Wenham)
٢. وَلَا تُعَبِّرْنَا الْأُرْدُنَّ: طوال نحو ٤٠٠ سنة، ظلت أسباط اسرائيل تتوق إلى عبور الْأُرْدُنَّ لدخول أرض كنعان. لكن الآن، يبدو أن هذين السبطين صارا قانعَين بعدم عبور الأردن، وبدا أنهما صارا مكتفيين بالقليل.
• “إن مجرد تفكير أيِّ سبط من أسباط إسرائيل في الاستقرار خارج الأرض التي وعد بها الله إبراهيم إنما ينم عن لا مبالاة مزعجة بكلمة الله، تلك الكلمة التي كان وجود أمة إسرائيل بأكمله يعتمد عليها.” وينهام (Wenham)
• “لكن هذه الأراضي كانت، من ناحيةٍ، شبيهةً بهدب الثوب. فهي لم تكن في قلب الأرض. وكان الاستقرار عند الأطراف بمثابة نعمة ونقمة في الوقت نفسه… لأنهم كانوا منفصلين إلى حدٍّ ما عن مركز الحياة في الأرض، وكانوا أكثر عرضة للتأثُّر بالذين هم من خارج.” ألن (Allen)
• كان ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan) ضمن المفسِّرين الذي رأوا أن هذه الرغبة التي أبداها سبط رأوبين وسبط جاد لم تكن إلا رغبة شريرة. فقد كان هناك احتمال شبه مؤكَّد أن ينتج عنها شرٌّ عظيم. لكن هنا، في سفر العدد ٣٢، يبدو أن أسباط شرق الأردن تعاملوا بشكل جيد مع تحفظات ومخاوف موسى. فقطعًا، أسهم الاستيلاء على هذه الأرض في توسيع مساحة أراضي أسباط إسرائيل، وشكَّل حاجزًا أمام التهديدات القادمة من الشرق.
ب) الآيات (٦-٧): رد فعل موسى تجاه طلب سبطي رأوبين وجاد.
٦فَقَالَ مُوسَى لِبَنِي جَادٍ وَبَنِي رَأُوبَيْنَ: «هَلْ يَنْطَلِقُ إِخْوَتُكُمْ إِلَى الْحَرْبِ، وَأَنْتُمْ تَقْعُدُونَ ههُنَا؟ ٧فَلِمَاذَا تَصُدُّونَ قُلُوبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنِ الْعُبُورِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ؟
١. لِمَاذَا تَصُدُّونَ قُلُوبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنِ الْعُبُورِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ: كان موسى يخشى أن يؤدي موقف سبط رأوبين وسبط جاد هذا إلى منع الأسباط الأخرى من دخول كنعان، وكأنهم كانوا بهذا الموقف يقولون: “لقد حاربنا بما يكفي، وعانينا بما يكفي، دعونا نستقر إذن حيث نحن الآن.”
• كان خوف موسى مبرَّرًا. فعندما نرافق أناسًا راضين بوضعهم الراهن، وليست لديهم أي رغبة في التعمُّق أكثر، أو المضي قدمًا، فإن هذا التوجُّه غالبًا ما سيؤثر فينا. فإذا كانت هذه الأسباط مذنبةً بالفعل بتهمة الرضا عن وضعها الراهن، قد يؤثر ذلك بشكل خطير في الأسباط الأخرى.
• الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ: “هذه العبارة التي تصف أرض الموعد بأنها ’الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ،‘ والتي وردت هنا وفي الآية ٩ أيضًا، تُذَكِّرنا بلغة سفر العدد ١٣: ١؛ ١٤: ٨، ١٦، ٣٠، بالإضافة إلى العديد من الوعود الأخرى بالأرض عبر أسفار موسى الخمسة.” كول (Cole)
٢. هَلْ يَنْطَلِقُ إِخْوَتُكُمْ إِلَى الْحَرْبِ، وَأَنْتُمْ تَقْعُدُونَ هَهُنَا: أراد موسى أن يعرف هؤلاء أنه توجد حرب يجب خوضها، وأن عليهم مسؤولية خوض هذه الحرب جنبًا إلى جنب مع الأسباط الأخرى. فإن قناعة هذين السبطين بالبقاء في مكانهم لم يكن يُعفيهم من مسؤولية المشاركة في الحرب، عندما ينطلق إِخْوَتُهمْ إِلَى الْحَرْبِ.
ج) الآيات (٨-١٥): موسى يخشى أن يحذو هؤلاء حذو الجيل السابق غير المؤمن الذي هلك في البرية.
٨هكَذَا فَعَلَ آبَاؤُكُمْ حِينَ أَرْسَلْتُهُمْ مِنْ قَادَشَ بَرْنِيعَ لِيَنْظُرُوا الأَرْضَ. ٩صَعِدُوا إِلَى وَادِي أَشْكُولَ وَنَظَرُوا الأَرْضَ وَصَدُّوا قُلُوبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ دُخُولِ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ. ١٠فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَأَقْسَمَ قَائِلًا: ١١لَنْ يَرَى النَّاسُ الَّذِينَ صَعِدُوا مِنْ مِصْرَ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، الأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُونِي تَمَامًا، ١٢مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ الْقِنِزِّيَّ وَيَشُوعَ بْنَ نُونَ، لأَنَّهُمَا اتَّبَعَا الرَّبَّ تَمَامًا. ١٣فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَتَاهَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى فَنِيَ كُلُّ الْجِيلِ الَّذِي فَعَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. ١٤فَهُوَذَا أَنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ عِوَضًا عَنْ آبَائِكُمْ، تَرْبِيَةَ أُنَاسٍ خُطَاةٍ، لِكَيْ تَزِيدُوا أَيْضًا حُمُوَّ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ. ١٥إِذَا ارْتَدَدْتُمْ مِنْ وَرَائِهِ، يَعُودُ يَتْرُكُهُ أَيْضًا فِي الْبَرِّيَّةِ، فَتُهْلِكُونَ كُلَّ هذَا الشَّعْبِ».
١. هَكَذَا فَعَلَ آبَاؤُكُمْ: لم يكن لدى الجيل الذي مات في البرية الإيمان اللازم للدخول بشجاعةٍ إلى أرض الموعد، وقرَّروا أنهم يفضِّلون البقاء في مكانهم. ولذلك، انتاب موسى القلق حيال أن يكون هذا التوجُّه نفسه من عدم الإيمان موجودًا بين سبطي رأوبين وجاد.
• يشير كلٌّ من ألن (Allen)، ووينهام (Wenham)، وكول (Cole) إلى وجود العديد من “التشابهات اللفظية” بين الإصحاحين ١٣ و١٤، والإصحاح ٣٢، وهما الإصحاحان اللذان يصفان رفض الجيل الأول الوثوق بالله لدخول أرض الموعد بالإيمان.
• “كان الشعب على أهبة الاستعداد لعبور نهر الأردن، وامتلاك ميراثهم، وفجأة أعلنت ثلاثة أسباط عزمها على الانسحاب. بدا الأمر هنا إذن كما لو أن قصة تجسس الأرض (سفر العدد ١٣-١٤) تتكرَّر مرة أخرى.” وينهام (Wenham)
• صَعِدُوا إِلَى وَادِي أَشْكُولَ وَنَظَرُوا الْأَرْضَ: “في هذا الخطاب، قدَّم موسى مثالًا للاستخدام الكتابي للتاريخ في تعليم شعب الله. فقد تحدَّث بأسلوب محدَّد، وبشغفٍ، مقدِّمًا تاريخًا، لكن مضفيًا عليه في الوقت نفسه لمسة عصرية، رابطًا بذلك خبرة الماضي بحاضر مستمعيه. ولذلك، يمكن اعتبار هذا المقطع، بشكلٍ ما، نموذجًا للوعظ الكتابي.” ألن (Allen)
٢. وَصَدُّوا قُلُوبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ذكَّر موسى رؤساء سبط رأوبين وسبط جاد بسبب عدم دخول شعب إسرائيل أرض كنعان قبل ذلك بنحو ٣٨ عامًا. فإن المذمَّة التي أشاعها معظم الجواسيس آنذاك صَدَّت قُلُوبَ شعب الله، حتى فقدوا رغبتهم في امتلاك الأرض بالإيمان.
• إنها خطية شنيعة أن تصدَّ قلب مؤمن آخر.
٣. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُونِي تَمَامًا: لهذا السبب أحدث الإحباط الذي أشاعه الجواسيس العشرة غير الأمناء تأثيرًا في رجال ذلك الجيل. فلو كانوا يَتَّبِعُونِ الرب تَمَامًا، لما أحدثت المذمَّة تأثيرًا كبيرًا إلى هذا الحد فيهم.
• لكن، كان يشوع وكالب مختلفَين لأنهما اتَّبَعَا الرَّبَّ تَمَامًا. فإنهما لم ينحنيا أمام التقرير المحبِط الذي جاء به الجواسيس العشرة غير الأمناء.
• عندما لا نتَّبع الرَّبَّ تَمَامًا، نكون على الأرجح أكثر عُرضة للتأثُّر بالأشخاص المحبِطين وذوي الفكر الدنيوي المحيطين بنا.
٤. إِذَا ارْتَدَدْتُمْ مِنْ وَرَائِهِ، يَعُودُ يَتْرُكُهُ أَيْضًا فِي الْبَرِّيَّةِ: ربما افترض هذا الجيل أن امتلاكهم أرض كنعان أمرًا مسلَّمًا به ومضمونًا، ظانين أن جيل عدم الإيمان قد دفع الثمن بالفعل. لكن هذا لم يكن صحيحًا. فإذا لم يسع هذا الجيل أيضًا إلى الأمام بالإيمان، فإن الله سوف يَعُودُ يَتْرُكُهُ أَيْضًا فِي الْبَرِّيَّةِ.
• تَرْبِيَةَ أُنَاسٍ خُطَاةٍ: “بعبارة ’تَرْبِيَةَ أُنَاسٍ خُطَاةٍ‘ (الآية ١٤)، كان موسى يتنبأ بفحوى كرازة يسوع (على سبيل المثال، متى ١٢: ٣٤؛ راجع متى ٣: ٧).” ألن (Allen)
٥. فَتُهْلِكُونَ كُلَّ هَذَا الشَّعْبِ: بدا الأمر كما لو أن موسى يقول لهم: “إذا ثبطتم همة الشعب، فإنكم ستهلكونهم، تمامًا كما أهلك الجواسيس العشرة غير الأمناء الجيل السابق.”
• ربما شعر موسى بأن سبطي رأوبين وجاد قد اتخذوا قرارًا خاطئًا سيؤثر فيهم، أي إنهم باستقرارهم في الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن، كانوا يؤذون أنفسهم. لكن ما أثار قلق موسى أيضًا هو أن رضاهم المحتمَل بحالتهم الراهنة قد يفسد الأسباط الأخرى أيضًا. فمن السيء أن يؤذي المؤمن نفسه بسبب عدم إيمانه ورضاه بحالته الراهنة، لكن من الأسوأ كثيرًا أن يؤثِّر عدم إيمانه ورضاه بحالته الراهنة في آخرين أيضًا.
ثانيًا. حسم مسألة أسباط شرق الأردن
أ ) الآيات (١٦-١٩): رؤساء سبطي رأوبين وجاد يعرضون إرسال جنودهم للمساعدة في الاستيلاء على الأرض الواقعة غرب نهر الأردن.
١٦فَاقْتَرَبُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: «نَبْنِي صِيَرَ غَنَمٍ لِمَوَاشِينَا ههُنَا وَمُدُنًا لأَطْفَالِنَا. ١٧وَأَمَّا نَحْنُ فَنَتَجَرَّدُ مُسْرِعِينَ قُدَّامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى نَأْتِيَ بِهِمْ إِلَى مَكَانِهِمْ، وَيَلْبَثُ أَطْفَالُنَا فِي مُدُنٍ مُحَصَّنَةٍ مِنْ وَجْهِ سُكَّانِ الأَرْضِ. ١٨لاَ نَرْجعُ إِلَى بُيُوتِنَا حَتَّى يَقْتَسِمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ. ١٩إِنَّنَا لاَ نَمْلِكُ مَعَهُمْ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ وَمَا وَرَاءَهُ، لأَنَّ نَصِيبَنَا قَدْ حَصَلَ لَنَا فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ إِلَى الشَّرْقِ».
١. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَتَجَرَّدُ مُسْرِعِينَ قُدَّامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى نَأْتِيَ بِهِمْ إِلَى مَكَانِهِمْ: حسم هذا بشكل فعَّال مسألة صدِّ قلوب الشعب. فبهذا، لن يحسد أيٌّ من الأسباط سبطي رأوبين وجاد، لكونهم مستريحين، بينما يقاتل الباقون للاستيلاء على أراضيهم. فإن رجال سبطي رأوبين وجاد سيحاربون معهم.
٢. لَا نَرْجِعُ إِلَى بُيُوتِنَا حَتَّى يَقْتَسِمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ: وعد رؤساء سبطي رأوبين وجاد بأنهم سيواصلون القتال مع الأسباط الأخرى على الجانب الغربي لنهر الأردن، حتى يكتمل الاستيلاء على أرض كنعان.
ب) الآيات (٢٠-٢٤): موسى يَقبَل عرضهم، شريطة أن يوفوا به.
٢٠فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: «إِنْ فَعَلْتُمْ هذَا الأَمْرَ، إِنْ تَجَرَّدْتُمْ أَمَامَ الرَّبِّ لِلْحَرْبِ، ٢١وَعَبَرَ الأُرْدُنَّ كُلُّ مُتَجَرِّدٍ مِنْكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ حَتَّى طَرَدَ أَعْدَاءَهُ مِنْ أَمَامِهِ، ٢٢وَأُخْضِعَتِ الأَرْضُ أَمَامَ الرَّبِّ، وَبَعْدَ ذلِكَ رَجَعْتُمْ، فَتَكُونُونَ أَبْرِيَاءَ مِنْ نَحْوِ الرَّبِّ وَمِنْ نَحْوِ إِسْرَائِيلَ، وَتَكُونُ هذِهِ الأَرْضُ مُلْكًا لَكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ. ٢٣وَلكِنْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هكَذَا، فَإِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ إِلَى الرَّبِّ، وَتَعْلَمُونَ خَطِيَّتَكُمُ الَّتِي تُصِيبُكُمْ. ٢٤اِبْنُوا لأَنْفُسِكُمْ مُدُنًا لأَطْفَالِكُمْ وَصِيَرًا لِغَنَمِكُمْ. وَمَا خَرَجَ مِنْ أَفْوَاهِكُمُ افْعَلُوا».
١. إِنْ فَعَلْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ: فإذا فعلوا كما يقولون، سيكونون أَبْرِيَاءَ مِنْ نَحْوِ الرَّبِّ وَمِنْ نَحْوِ إِسْرَائِيلَ. لكن إذا لم يفعلوا ذلك، سيكونون مذنبين.
• أَمَامَ الرَّبِّ: “عبارة lipne YHWH (’أمام يهوه‘) تكرَّرت أربع مرات في الآيات ٢٠-٢٢ للتوكيد.” كول (Cole)
٢. وَلَكِنْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هَكَذَا، فَإِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ إِلَى الرَّبِّ: فإذا لم ينفذوا ما قالوه يخطئون. الخطية المشار إليها هنا هي تحديدًا خطية “عدم فعل شيء” (السلبية). فإن عدم مساعدتهم لإخوتهم، أو عدم القتال معهم، أو عدم الانضمام إليهم في صراعهم، هو خطية، وهو خطية عدم فعل شيء. وكان هذا أمرًا أراد موسى أن ينتبهوا إليه جيدًا.
• فإذا لم يفعل سبط رأوبين وسبط جاد أيَّ شيء، أي إذا مكثوا في أرضهم فيما يقاتل إخوتهم للاستيلاء على أرض الموعد، فمن المؤكَّد أن هذه الخطية، وهي خطية عدم فعل شيء، سوف تُصِيبُهم.
• “إذا فهمتَ النص كما هو، ستجد أنه لا يحوي شيئًا عن القتل، أو السرقة، أو أيِّ شيء من هذا القبيل. فإن الأمر هنا لا يتعلق بما يفعله البشر، بل بما لا يفعلونه. فإن الذنب المتمثِّل في عدم فعل شيء هو خطية لا تحظى باهتمام كبير كما ينبغي.” سبيرجن (Spurgeon)
• تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)، في عظته بعنوان “خطية عدم فعل شيء،” ذكر العديد من السمات المختلفة لخطية عدم فعل شيء:
هذه خطية يرتكبها شعب الله، وليس الأمم الوثنية.
هي خطية التَرَاخِي والتَكَاسُل والانغماس في الملذات.
هي خطية الأنانية وغياب التآخي.
هي خطية عدم الامتنان.
هي خطية عدم المصداقية والحنث بالوعود.
هذه الخطية تسبِّب ضررًا بالغًا للآخرين.
• “إن التَرَف الروحي شرٌّ رهيبٌ. ومع ذلك، فإننا نراه في كلِّ مكان من حولنا. ففي يوم الأحد في الكنيسة، يطالب هؤلاء المتسكِّعون بالحصول على غذاء جيد، ويفتشون عن تلك العظات التي تغذِّيهم، دون أن يخطر ببالهم فعل أي شيء آخر إلى جانب تناول الطعام… يريد هؤلاء أن يسمعوا عظات سارة، فيأكلون السمين، ويشربون الحلو، ويتزاحمون أمام وليمة السَمَائِنَ المُمِخَّةٍ، والخمر المصفَّى على دَرْدِيٍّ، ويتلذذون بالاحتفالات الروحية، ساعين وراء العظات، والمؤتمرات، ومحافل قراءة الكتاب المقدس، وما إلى ذلك، بينما يتجاهلون ممارسة الخدمة المنتظمة بالطرق المعتادة.” سبيرجن (Spurgeon)
• “الشخص الذي يقول إنه مؤمن لكنه لا يفعل شيئًا هو مجرد عضو اسمي في الكنيسة، والعضو الاسمي هو عائق حقيقي. فإنه لا يساهم بشيء، ولا يصلي، ولا يعمل، ولا يتألم لأجل النفوس، ولا يمارس أيَّ دور في الخدمة المسيحية، ومع ذلك فإنه يحصل على كلِّ امتيازات الكنيسة. فهل هذا عدل؟ وما نفع هذا الشخص؟ فإنه يجلس، ويستمع، وفي بعض الأحيان يغلبه النوم في وسط العظة، وهذا كلُّ شيء.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. وَتَعْلَمُونَ خَطِيَّتَكُمُ الَّتِي تُصِيبُكُمْ: إن خطية عدم فعل شيء سوف تنكشف. وفي الواقع، ثمة شيء في تلك الخطية نفسها من شأنه أن يعمل بجدٍّ على أن تنكشف. فمن ناحية، إن خَطِيَّتَكُمُ نفسها سوف تُصِيبُكُمْ (تكشفكم).
• خَطِيَّتَكُمُ الَّتِي تُصِيبُكُمْ: “اللغة هنا لافتة للنظر. فلا يعني ذلك فقط أن خطيتهم ستنكشف، بل أن خطيتهم نفسها ستكون أداة فاعلة في الكشف عنهم.” ألن (Allen)
• “تشبه الخطية الأرجوحة… فهي تعود مرة أخرى إلى الذراع الذي دفعها. اتُّهِم يوسف من إخوته بالتجسس، فألقوه في البئر. لكن بعد ذلك، ألقوا هم أنفسهم في السجن بهذه التهمة نفسها. وارتكب داود الملك خطيتي الزنا والقتل، فقابله أبشالوم ابنه بالمثل.” ماير (Meyer)
• “سيلاحقك ذنبك عن كثب مثل كلب صيد، وستدركك العقوبة.” تراب (Trapp)
• أشار سبيرجن (Spurgeon) إلى عدة طرق يمكن للخطية أن تكشفنا:
أن نشعر بالقلق والانزعاج.
أن نشعر بالدونية والحقارة.
أن نصاب بالضعف والضمور بسبب تقاعسنا عن العمل.
ألا نشعر بفرحٍ بتقدُّم الكنيسة وازدهارها.
أن نفقد شهيتنا للاجتماع مع شعب الله.
• “عندما تأتي الخطية لتصيبك، مثل كلب صيد يتعقَّب مجرمًا، احرص على أن تجدك هذه الخطية في يسوع. ’وَأُوجَدَ فِيهِ.‘ فلن ينفع شيءٌ في التصدُّي لعقوبة الخطية الرهيبة إلا دم يسوع وبرُّه. لذلك، ضع يسوع بينك وبين خطاياك، وبينك وبين ماضيك، وبينك وبين عقوبة كسر الناموس.” ماير (Meyer)
ج) الآيات (٢٥-٢٧): موافقة رؤساء سبطي رأوبين وجاد.
٢٥فَكَلَّمَ بَنُو جَادَ وَبَنُو رَأُوبَيْنَ مُوسَى قَائِلِينَ: «عَبِيدُكَ يَفْعَلُونَ كَمَا أَمَرَ سَيِّدِي. ٢٦أَطْفَالُنَا وَنِسَاؤُنَا وَمَوَاشِينَا وَكُلُّ بَهَائِمِنَا تَكُونُ هُنَاكَ فِي مُدُنِ جِلْعَادَ. ٢٧وَعَبِيدُكَ يَعْبُرُونَ، كُلُّ مُتَجَرِّدٍ لِلْجُنْدِ أَمَامَ الرَّبِّ لِلْحَرْبِ كَمَا تَكَلَّمَ سَيِّدِي».
١. عَبِيدُكَ يَفْعَلُونَ كَمَا أَمَرَ سَيِّدِي: أظهر هذا خضوعًا وتسليمًا. فلم يحاول رؤساء سبطي رأوبين وجاد التفاوض مع موسى، والتوصل إلى اتفاق أفضل.
٢. أَطْفَالُنَا وَنِسَاؤُنَا وَمَوَاشِينَا وَكُلُّ بَهَائِمِنَا تَكُونُ هُنَاكَ فِي مُدُنِ جِلْعَادَ: كانت هذه أيضًا خطوة إيمانٍ. فقد كان على الأسباط الأخرى أن تثق بالله من جهة خوض الحروب اللازمة لامتلاك أرض كنعان. أما سبطا رأوبين وجاد، فكان عليهما أن يثقا بالله من جهة وحماية عائلاتهم، فيما يساعد جزء كبير من رجال الحرب في هذين السبطين الأسباط الأخرى للاستقرار غرب نهر الأردن.
• أشار آدم كلارك (Adam Clarke) إلى أن ما يزيد على ثلث الرجال الخارجين للحرب ذهبوا لمساعدة الأسباط الأخرى على الجانب الغربي من نهر الأردن. “من خلال يشوع ٤: ١٣، نعرف أنه من بين سبط رأوبين وسبط جاد ونصف سبط منسى، عبر نهر الأردن فقط ٤٠,٠٠٠ من رجال الحرب لمساعدة إخوتهم في امتلاك الأرض. وبالتالي، فقد تركوا وراءهم ٧٠.٥٨٠ رجلًا لحماية النساء والأطفال والمواشي.”
د ) الآيات (٢٨-٤٢): حُسِمت الاتفاقية، وأُعطِيت المدن للأسباط التي ستستقر في الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن.
٢٨فَأَوْصَى بِهِمْ مُوسَى أَلِعَازَارَ الْكَاهِنَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ وَرُؤُوسَ آبَاءِ الأَسْبَاطِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ٢٩وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: «إِنْ عَبَرَ الأُرْدُنَّ مَعَكُمْ بَنُو جَادَ وَبَنُو رَأُوبَيْنَ، كُلُّ مُتَجَرِّدٍ لِلْحَرْبِ أَمَامَ الرَّبِّ، فَمَتَى أُخْضِعَتِ الأَرْضُ أَمَامَكُمْ، تُعْطُونَهُمْ أَرْضَ جِلْعَادَ مُلْكًا. ٣٠وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَعْبُرُوا مُتَجَرِّدِينَ مَعَكُمْ، يَتَمَلَّكُوا فِي وَسَطِكُمْ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ». ٣١فَأَجَابَ بَنُو جَادٍ وَبَنُو رَأُوبَيْنَ قَائِلِينَ: «الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عَنْ عَبِيدِكَ كَذلِكَ نَفْعَلُ. ٣٢نَحْنُ نَعْبُرُ مُتَجَرِّدِينَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ، وَلكِنْ نُعْطَى مُلْكَ نَصِيبِنَا فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ». ٣٣فَأَعْطَى مُوسَى لَهُمْ، لِبَنِي جَادٍ وَبَنِي رَأُوبَيْنَ وَنِصْفِ سِبْطِ مَنَسَّى بْنِ يُوسُفَ، مَمْلَكَةَ سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ وَمَمْلَكَةَ عُوجٍ مَلِكِ بَاشَانَ، الأَرْضَ مَعَ مُدُنِهَا بِتُخُومِ مُدُنِ الأَرْضِ حَوَالَيْهَا. ٣٤فَبَنَى بَنُو جَادَ: دِيبُونَ وَعَطَارُوتَ وَعَرُوعِيرَ ٣٥وَعَطْرُوتَ شُوفَانَ وَيَعْزِيرَ وَيُجْبَهَةَ ٣٦وَبَيْتَ نِمْرَةَ وَبَيْتَ هَارَانَ مُدُنًا مُحَصَّنَةً مَعَ صِيَرِ غَنَمٍ. ٣٧وَبَنَى بَنُو رَأُوبَيْنَ: حَشْبُونَ وَأَلِعَالَةَ وَقَرْيَتَايِمَ ٣٨وَنَبُوَ وَبَعْلَ مَعُونَ، مُغَيَّرَتَيِ الاسْمِ، وَسَبْمَةَ، وَدَعَوْا بِأَسْمَاءٍ أَسْمَاءَ الْمُدُنِ الَّتِي بَنَوْا. ٣٩وَذَهَبَ بَنُو مَاكِيرَ بْنِ مَنَسَّى إِلَى جِلْعَادَ وَأَخَذُوهَا وَطَرَدُوا الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ فِيهَا. ٤٠فَأَعْطَى مُوسَى جِلْعَادَ لِمَاكِيرَ بْنِ مَنَسَّى فَسَكَنَ فِيهَا. ٤١وَذَهَبَ يَائِيرُ ابْنُ مَنَسَّى وَأَخَذَ مَزَارِعَهَا وَدَعَاهُنَّ: حَوُّوثَ يَائِيرَ. ٤٢وَذَهَبَ نُوبَحُ وَأَخَذَ قَنَاةَ وَقُرَاهَا وَدَعَاهَا نُوبَحَ بِاسْمِهِ.
١. إِنْ عَبَرَ الْأُرْدُنَّ مَعَكُمْ بَنُو جَادَ وَبَنُو رَأُوبَيْنَ… تُعْطُونَهُمْ أَرْضَ جِلْعَادَ مُلْكًا: كان امتلاك أَرْضَ جِلْعَاد مشروطًا بوفائهم بوعدهم. ولذلك، أوصى موسى ألعازار بأن يتأكَّد من وفائهم بوعدهم قبل أن يعطيهم أرض جلعاد.
• “إن سرد بعض المدن، مثل دِيبُونَ، وَعَطَارُوتَ، وَعَرُوعِيرَ، وَعَطْرُوتَ شُوفَانَ، وَيَعْزِيرَ، وغيرها، يمثل أهمية، ليس فقط من الناحية الجغرافية، بل من الناحية اللاهوتية أيضًا. فإن تلك الأرض صارت الآن لهم بالفعل، وأُعيد بناء المدن التي أُخرِبت، وفي بعض الحالات أُعيد تسميتها أيضًا (الآية ٣٨).” ألن (Allen)
٢. فَأَعْطَى مُوسَى لَهُمْ، لِبَنِي جَادٍ وَبَنِي رَأُوبَيْنَ وَنِصْفِ سِبْطِ مَنَسَّى بْنِ يُوسُفَ: يضيف سفر العدد ٣٢: ٣٣ سبطًا آخر – وهو فعليًّا نصف سبط منسى – قنع بالاستقرار في الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن. ففي المجمل، حصل سبطان ونصف السبط على نصيبهم من الأرض في الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن.
• “ربما لم يشارك ممثِّلو سبط منسى في المفاوضات إلا بعدما وافق موسى من حيث المبدأ على الاستقرار شرق الأردن.” وينهام (Wenham)
٣. وَذَهَبَ بَنُو مَاكِيرَ بْنِ مَنَسَّى إِلَى جِلْعَادَ وَأَخَذُوهَا: ليس لدينا شرحٌ تفصيليٌّ لسبب انقسام سبط منسى إلى نصفين، النصف الأول يسكن في شرق الأردن، والنصف الثاني في غربه. ومن المرجَّح أن يكون السبب متعلقًا باستيلاء بَنُي مَاكِيرَ على أرض واسعة وجيدة شرق نهر الأردن، ولذلك قرَّروا أن يسكنوا فيها.