١ صموئيل ١٩
هروب داود من شاول
مزمور ذو صلة بهذا الإصحاح: المزمور ٥٩
أولًا. يوناثان يدافع عن داود أمام شاول
أ ) الآية (١): تآمر شاول على قتل داود بمحاولة إشراك يوناثان ومساعديه.
١وَكَلَّمَ شَاوُلُ يُونَاثَانَ ٱبْنَهُ وَجَمِيعَ عَبِيدِهِ أَنْ يَقْتُلُوا دَاوُدَ.
١. يُونَاثَانَ ٱبْنَهُ: وضع شاول ابنه يوناثان في موقف صعب. إذ كان يوناثان يحب داود، وصنع رباط صداقة مختومًا بعهد (١ صموئيل ١٨: ١-٤). عرف يوناثان أنه مقدَّر لداود أن يكون الملك التالي لإسرائيل، رغم أن يوناثان هو ولي العهد رسميًّا. وفي الوقت نفسه، أمره أبوه وملكه بأن يقتل داود.
٢. وَجَمِيعَ عَبِيدِهِ: وضع شاول جَمِيعَ عَبِيدِهِ في موقف صعب أيضًا. إذ كانوا جميعًا يحبون داود (١ صموئيل ١٨: ٥)، غير أنه أمرهم بقتله.
٣. أَنْ يَقْتُلُوا دَاوُدَ: وضع شاول داود في موقف صعب. فمن الذي يمكن لداود أن يثق به؟ فحتى لو وثق بيوناثان، فقد عرف أنه لا بد أن يكون بين رجال شاول رجل طموح واحد على الأقل يمكن أن يفعل أي شيء يمكن أن يطلبه الملك، بغضّ النظر عن كونه صوابًا أو خطأ.
ب) الآيات (٢-٣): يحذّر يوناثان الصديق الوفيّ داود.
٢وَأَمَّا يُونَاثَانُ بْنُ شَاوُلَ فَسُرَّ بِدَاوُدَ جِدًّا. فَأَخْبَرَ يُونَاثَانُ دَاوُدَ قَائِلاً: «شَاوُلُ أَبِي مُلْتَمِسٌ قَتْلَكَ، وَالآنَ فَاحْتَفِظْ عَلَى نَفْسِكَ إِلَى الصَّبَاحِ، وَأَقِمْ فِي خُفْيَةٍ وَاخْتَبِئْ. ٣وَأَنَا أَخْرُجُ وَأَقِفُ بِجَانِبِ أَبِي فِي الْحَقْلِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، وَأُكَلِّمُ أَبِي عَنْكَ، وَأَرَى مَاذَا يَصِيرُ وَأُخْبِرُكَ».
١. وَأَمَّا يُونَاثَانُ بْنُ شَاوُلَ فَسُرَّ بِدَاوُدَ جِدًّا: لا بد أن شاول وكثيرين من طاقمه القيادي انتقدوا داود. كانوا يبحثون عن شيء يمكن تقديمه ضده. وإذا لم يجدوا شيئًا، كانوا يختلقون شيئًا. وسمع يوناثان كل هذا، لكن هذا لم يغيّر رأيه في داود. إذ سُرَّ بِدَاوُدَ جِدًّا.
٢. فَأَخْبَرَ يُونَاثَانُ دَاوُدَ قَائِلًا: أثار هذا غضب شاول، لكن يوناثان عرف أنه فعل الصواب. فلا ينبغي له أن يقتل داود لمجرد أن أباه وملِكه طلب منه ذلك. فقد عرف يوناثان كلمة الله التي تقول: ’لا تقتل‘ (خروج ٢٠: ١٣). كان الكتاب المقدس واضحًا، بينما أعلن شاول أن عليهم أن يقتلوا داود (١ صموئيل ١٩: ١).
نحن تحت سلطة، ونحن مأمورون بأن نخضع للنظام الحكومي البشري في مجالات كثيرة متنوعة. فهنالك خضوع كتابي من الأبناء للوالدين، ومن المواطنين لحكومتهم، ومن الموظفين لأصحاب العمل، ومن المؤمنين لقادة كنيستهم، ومن الزوجات لأزواجهن. لكن في كل هذه العلاقات لا يُعفى المرء من مسؤولية الخطية على الإطلاق، لأننا أطعنا سلطة نأمرنا بأن لا نخطئ. وفي هذه الحالة، سيكون من الخطأ أن يطيع يوناثان أباه ويقتل داود.
كانت هذه حالة استطاع فيها يوناثان أن يقول ما قاله الرسل عندما طُلِب منهم أن يتوقفوا عن الكرازة بالإنجيل: “يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ ٱللهُ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنَّاسِ” (
أعمال الرسل ٥: ٢٩). لكن كان لدى يوناثان قلب الرسل في أعمال الرسل ٥: “وَدَعَوْا ٱلرُّسُلَ وَجَلَدُوهُمْ، وَأَوْصَوْهُمْ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا بِٱسْمِ يَسُوعَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ. وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ ٱلْمَجْمَعِ، لِأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ” (
أعمال الرسل ٥: ٤٠-٤١). وكان يوناثان مستعدًّا لأن يأخذ نصيبه من الانتقادات بسبب طاعته للرب. وقد فعل هذا من دون تذمُّر.
٣. شَاوُلُ أَبِي مُلْتَمِسٌ قَتْلَكَ، وَٱلْآنَ فَٱحْتَفِظْ عَلَى نَفْسِكَ إِلَى ٱلصَّبَاحِ، وَأَقِمْ فِي خُفْيَةٍ وَٱخْتَبِئْ: فعل يوناثان أكثر من مجرد رفضه لمساعدة شاول في قتل داود. إذ ساعد داود. كان بإمكان يوناثان أن يقول: “لا أريد أن أشترك في هذا الأمر. لن أساعد أبي في قتل داود. لكني في المقابل لن أحاول أن أفعل شيئًا لأوقفه. فسأكون محايدًا. وسأترك الله يتولّى الأمر.” لكن يوناثان لم يتبنَّ هذا الموقف.
ج) الآيات (٤-٥): في ولاء لداود، كلّم يوناثان شاول.
٤وَتَكَلَّمَ يُونَاثَانُ عَنْ دَاوُدَ حَسَنًا مَعَ شَاوُلَ أَبِيهِ وَقَالَ لَهُ: «لاَ يُخْطِئِ الْمَلِكُ إِلَى عَبْدِهِ دَاوُدَ، لأَنَّهُ لَمْ يُخْطِئْ إِلَيْكَ، وَلأَنَّ أَعْمَالَهُ حَسَنَةٌ لَكَ جِدًّا. ٥فَإِنَّهُ وَضَعَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ وَقَتَلَ الْفِلِسْطِينِيَّ فَصَنَعَ الرَّبُّ خَلاَصًا عَظِيمًا لِجَمِيعِ إِسْرَائِيلَ. أَنْتَ رَأَيْتَ وَفَرِحْتَ. فَلِمَاذَا تُخْطِئُ إِلَى دَمٍ بَرِيءٍ بِقَتْلِ دَاوُدَ بِلاَ سَبَبٍ؟»
١. وَتَكَلَّمَ يُونَاثَانُ عَنْ دَاوُدَ حَسَنًا مَعَ شَاوُلَ أَبِيهِ: فعل يوناثان ما هو أكثر من مجرد تقديم عون سري لداود بمعلومات، إضافة إلى الدفاع عن داود بامتداحه أمام شاول. إذ أخبر يوناثان أباه: “لديك رأي معين في داود، لكني لا أشاركك هذا الرأي. فأنا أحبه وأدعمه. وينبغي لك أن تفعل الشيء نفسه أيضًا.”
“تَكَلَّمَ يُونَاثَانُ عَنْ دَاوُدَ حَسَنًا، وهو أمر ما كان يمكن أن يفعله من دون تعريض نفسه إلى خطر. وقد فعل يوناثان هذا كصديق وفي وكرجل باسل.” بوله (Poole)
٢. لَا يُخْطِئِ ٱلْمَلِكُ إِلَى عَبْدِهِ دَاوُدَ: كان يوناثان جسورًا بما يكفي لإخبار الملك أن غضبه على داود وحسده له خطية. وقال: ’لَمْ يُخْطِئْ إِلَيْكَ.‘ شعر شاول أن داود أخطأ إليه بطريقة ما، ولهذا أحس بأنه بارّ في قضيته. فقدَّم يوناثان كلمة تصحيح ضرورية.
٣. فَإِنَّهُ وَضَعَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ وَقَتَلَ ٱلْفِلِسْطِينِيَّ فَصَنَعَ ٱلرَّبُّ خَلَاصًا عَظِيمًا لِجَمِيعِ إِسْرَائِيلَ: ذكّر يوناثان أباه بهذه الأحداث لأنّ شاول لوَّنها بمعنى يبرر رغبته الممتلئة بالحسد في قتل داود.
عرف شاول أن داود قتل الفلسطي، لكنه لم يصدّق أن داود فعل هذا لسبب بار. إذ فكّرَ: “فعل هذا ليكون مشهورًا وليأخذ عرشي. إنه خائن طمّاع. وأنا مبرر في قتله، وعليّ أن أقتله قبل أن يقتلني.”
حاول يوناثان أن يرجع شاول إلى أرض الواقع. فذكّر أباه: ’أَنْتَ رَأَيْتَ وَفَرِحْتَ،‘ كما لو أنه كان يقول لأبيه: عندما قتل داود جليات، فرحتَ مثل الجميع. والآن ملأ إبليس عقلك بالغيرة والحسد. فارجع إلى ما كنت تعتقده من قبل.
٤. فَلِمَاذَا تُخْطِئُ إِلَى دَمٍ بَرِيءٍ بِقَتْلِ دَاوُدَ بِلَا سَبَبٍ: في ذهن شاول، كان هنالك سبب. فلم يرَ أن داود بريء. غير أن الحقيقة هي أن داود كان بريئًا، ولم يكن هنالك سبب لقتله. وهكذا دعا يوناثان أباه إلى أرض الواقع.
د ) الآيات (٦-٧): مصالحة بين شاول وداود.
٦فَسَمِعَ شَاوُلُ لِصَوْتِ يُونَاثَانَ، وَحَلَفَ شَاوُلُ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ لاَ يُقْتَلُ». ٧فَدَعَا يُونَاثَانُ دَاوُدَ وَأَخْبَرَهُ بِجَمِيعِ هذَا الْكَلاَمِ. ثُمَّ جَاءَ يُونَاثَانُ بِدَاوُدَ إِلَى شَاوُلَ فَكَانَ أَمَامَهُ كَأَمْسٍ وَمَا قَبْلَهُ.
١. فَسَمِعَ شَاوُلُ لِصَوْتِ يُونَاثَانَ: تَطَلَّب هذا تواضعًا حقيقيًّا من شاول. إذ كان سهلًا أن يقول: “أنا الملك، وأنا على حق، ولا يهمني رأيك. لكن في هذه الحالة سَمِعَ شَاوُلُ لِصَوْتِ يُونَاثَانَ.
٢. وَحَلَفَ شَاوُلُ: “حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ لَا يُقْتَلُ.”: يدل هذا على أن الرب لمس قلب شاول. وقد استخدم الله يوناثان، لكن العمل لم يكن عمل يوناثان، بل عمل الرب. وأدرك شاول هذا بإعلانه هذا القسَم.
٣. فَدَعَا يُونَاثَانُ دَاوُدَ وَأَخْبَرَهُ يُونَاثَانُ بِجَمِيعِ هَذَا ٱلْكَلَامِ. ثُمَّ جَاءَ يُونَاثَانُ بِدَاوُدَ إِلَى شَاوُلَ فَكَانَ أَمَامَهُ كَأَمْسِ وَمَا قَبْلَهُ: يبدو أن هذا نجح. إذ تمّ إبطال الأمر بقتل داود، وصار شاول مع داود كما كانا في الأيام الماضية (فَكَانَ أَمَامَهُ كَأَمْسِ وَمَا قَبْلَهُ).
هـ) الآيات (٨-١٠): داود ينجو من محاولة أخرى لاغتياله.
٨وَعَادَتِ الْحَرْبُ تَحْدُثُ، فَخَرَجَ دَاوُدُ وَحَارَبَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَضَرَبَهُمْ ضَرْبَةً عَظِيمَةً فَهَرَبُوا مِنْ أَمَامِهِ. ٩وَكَانَ الرُّوحُ الرَّدِيءُ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ عَلَى شَاوُلَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ وَرُمْحُهُ بِيَدِهِ، وَكَانَ دَاوُدُ يَضْرِبُ بِالْيَدِ. ١٠فَالْتَمَسَ شَاوُلُ أَنْ يَطْعَنَ دَاوُدَ بِالرُّمْحِ حَتَّى إِلَى الْحَائِطِ، فَفَرَّ مِنْ أَمَامِ شَاوُلَ فَضَرَبَ الرُّمْحَ إِلَى الْحَائِطِ، فَهَرَبَ دَاوُدُ وَنَجَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
١. وَعَادَتِ ٱلْحَرْبُ تَحْدُثُ: يتحدث السياق عن حروب أخرى بين إسرائيل والفلسطيين، لكن هذا صحيح روحيًّا. ففي نهاية ١ صموئيل ١٩: ٧، كانت هنالك هدنة في الحرب الروحية بين داود وشاول. وعندما يكون هنالك وقف إطلاق نار في الحرب الروحية، فإننا نعرف أن المعركة ستُستأنف عما قريب. ويمكن أن يقال هذا دائمًا عن حياتنا: وَعَادَتِ ٱلْحَرْبُ تَحْدُثُ.
٢. وَحَارَبَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَضَرَبَهُمْ ضَرْبَةً عَظِيمَةً فَهَرَبُوا مِنْ أَمَامِهِ: من ناحية روحية، هذه غيوم تحذيرية من عاصفة مقبلة. فإن نجاح داود هو الذي أثار حسد شاول. فعندما ينجح داود ثانية، فإن من المؤكد أن شاول سيجرَّب بأن يحسده مرة أخرى.
٣. وَكَانَ ٱلرُّوحُ ٱلرَّدِيءُ مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ: كانت الأرواح الشريرة مستعدة تمامًا لمهاجمة شاول في النواحي الضعيفة التي كان فيها أكثر عرضة للهجوم. فكان الهجوم في الطريق.
٤. وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ وَرُمْحُهُ بِيَدِهِ: كان شاول في مكان سيئ. وهو يجرَّب ويهاجَم روحيًّا، وهو الآن يضع نفسه في موقف آثم محتمل. وكان داود يعزف الموسيقى، لكن شاول عرف الرماح أكثر من موسيقى التسبيح.
٥. فَٱلْتَمَسَ شَاوُلُ أَنْ يَطْعَنَ دَاوُدَ بِٱلرُّمْحِ حَتَّى إِلَى ٱلْحَائِطِ: انقلب حال شاول، فتغيّر قلبه، ونقض قسَمه بأن لا يقتل داود. رمى كل هذا مع رميه للرمح. لكن هذا لم يحدث فجأة أو صدفة. فلم يكن شاول مستعدًّا للتعامل مع التجربة أو الهجوم الروحي. وكانت فرصة ارتكاب الخطية في متناوله. وسيتعثّر معظمنا تحت هذه الظروف.
٦. فَفَرَّ مِنْ أَمَامِ شَاوُلَ فَضَرَبَ ٱلرُّمْحَ إِلَى ٱلْحَائِطِ: مضى داود لكن الرمح بقي. فقد بقي الشيء الوحيد الذي لم يكن يحتاج شاول إليه، وهو الرمح. وذهب الشيء الوحيد الذي كان محتاجًا إليه، وهو داود. فكان شاول هو الخاسر في الحالتين.
٧. فَهَرَبَ دَاوُدُ وَنَجَا تِلْكَ ٱللَّيْلَةَ: لم يعد داود إلى القصر إلا بعد حوالي عشرين سنة إلى أن صار ملك إسرائيل. ومن ذلك الوقت حتى موت شاول، سيعيش داود طريدًا.
ثانيًا. داود يهرب من شاول.
أ ) الآيات (١١-١٢): يهرب داود بمساعدة من زوجته ميكال.
١١فَأَرْسَلَ شَاوُلُ رُسُلاً إِلَى بَيْتِ دَاوُدَ لِيُرَاقِبُوهُ وَيَقْتُلُوهُ فِي الصَّبَاحِ. فَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ مِيكَالُ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً: «إِنْ كُنْتَ لاَ تَنْجُو بِنَفْسِكَ هذِهِ اللَّيْلَةَ فَإِنَّكَ تُقْتَلُ غَدًا». ١٢فَأَنْزَلَتْ مِيكَالُ دَاوُدَ مِنَ الْكُوَّةِ، فَذَهَبَ هَارِبًا وَنَجَا.
١. فَأَرْسَلَ شَاوُلُ رُسُلًا إِلَى بَيْتِ دَاوُدَ لِيُرَاقِبُوهُ وَيَقْتُلُوهُ: سبق أن أقسم شاول: ’حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ لَا يُقْتَلُ‘ (١ صموئيل ١٩: ٦). وهو الآن يرجع عن قسمه للمرة الثانية.
٢. فَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ مِيكَالُ ٱمْرَأَتُهُ: أنقذته في ذلك اليوم. كانت ميكال ابنةً لشاول. فكان هنالك صراع في الولاءات بالنسبة لها. فهل تعمل لمصلحة أبيها أم زوجها؟ وهنا اتخذت الخيار الصحيح ودعمت زوجها داود.
تصرفت ميكال حسب مبدأ تكوين ٢: ٢٤: “لِذَلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا.” رغم أن هذا النص يتحدث عن الزوج، إلا أنه يعبّر عن مبدأ ينطبق على كلا الشريكين في الزواج. فالولاءات والالتزامات العائلية السابقة تأخذ مكانًا ثانويًّا بعد الولاء والالتزام الجديد للأسرة الجديدة.
٣. فَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ: ربما رأت ميكال القتلة قبله، وعرفت طبيعة أبيها الأخلاقية أكثر مما عرفت داود. وربما كانت أقل اندهاشَا من داود لاكتشاف قتلة مرسلين من شاول.
أحيانًا يكون الرجال عنيدين ومتقسّي القلب بحيث لا يسمعون أبدًا كيف أن الرب يحذّرهم من خلال زوجاتهم. ولو أن داود تجاهل هذا التحذير لأنه لم يعجبه مصدره، لانتهى به الأمر إلى موت سريع.
٤. فَأَنْزَلَتْ مِيكَالُ دَاوُدَ مِنَ ٱلْكُوَّة: عندما قرر داود مسار العمل الذي سينهجه، كانت ميكال موجودة لتدعمه وتساعده على تنفيذ قراره. ونجحت مساعدة ميكال، لأن داود هرب فنجا.
أثناء تلك الليلة، عندما كان رجال شاول يراقبون بيت داود، نجا منهم، وقام بتأليف ترنيمة موجودة في المزمور ٥٩. تقول مقدمة المزمور: مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ لَمَّا أَرْسَلَ شَاوُلُ وَرَاقَبُوا ٱلْبَيْتَ لِيَقْتُلُوهُ. استطاع داود أن يرنم للرب في وقت الخطر.
ب) الآيات (١٣-١٧): ميكال تخدع الرجال الذين جاءوا لقتل داود.
١٣فَأَخَذَتْ مِيكَالُ التَّرَافِيمَ وَوَضَعَتْهُ فِي الْفِرَاشِ، وَوَضَعَتْ لُبْدَةَ الْمِعْزَى تَحْتَ رَأْسِهِ وَغَطَّتْهُ بِثَوْبٍ. ١٤وَأَرْسَلَ شَاوُلُ رُسُلاً لأَخْذِ دَاوُدَ، فَقَالَتْ: «هُوَ مَرِيضٌ». ١٥ثُمَّ أَرْسَلَ شَاوُلُ الرُّسُلَ لِيَرَوْا دَاوُدَ قَائِلاً: «اصْعَدُوا بِهِ إِلَيَّ عَلَى الْفِرَاشِ لِكَيْ أَقْتُلَهُ». ١٦فَجَاءَ الرُّسُلُ وَإِذَا فِي الْفِرَاشِ التَّرَافِيمُ وَلِبْدَةُ الْمِعْزَى تَحْتَ رَأْسِهِ. ١٧فَقَالَ شَاوُلُ لِمِيكَالَ: «لِمَاذَا خَدَعْتِنِي، فَأَطْلَقْتِ عَدُوِّي حَتَّى نَجَا؟» فَقَالَتْ مِيكَالُ لِشَاوُلَ: «هُوَ قَالَ لِي: أَطْلِقِينِي، لِمَاذَا أَقْتُلُكِ؟».
١. فَأَخَذَتْ مِيكَالُ ٱلتَّرَافِيمَ: كان الترافيم تمثالًا صغيرًا يُستخدم كوثن بيتي أو تعويذة للخصوبة أو للحظ السعيد. وكانت الترافيم في إسرائيل القديمة تهدف إلى المساعدة على عبادة الإله الحقيقي. ولم يُنظر إلى الترافيم كآلهة أخرى، بل كشيء يمثل إله إسرائيل.
من الواضح أنه لم يكن مطلوبًا من شعب الله أن يمتلك تماثيل كهذه أو أن يستخدموها. ولا نتخيل أن هذا التمثال، هذا الوثن البيتي، كان يخص داود. ولهذا، فإن وجوده يبيّن أنه لم تكن لميكال نفس العلاقة بالله التي ربطت داود. ويكشف ضعف هذه العلاقة بالله نفسه عندما تتكشف قصة حياة داود (٢ صموئيل ٦: ١٦-٢٣). “عندما نقرأ عن هذه الترافيم، فإننا لا نستغرب للعيوب الأخلاقية في طبيعة ميكال الأخلاقية.” بالايكي (Balikie)
٢. ٱصْعَدُوا بِهِ إِلَيَّ عَلَى ٱلْفِرَاشِ لِكَيْ أَقْتُلَهُ: يعني هذا أن خداع ميكال لم ينطلِ عليه. ويبيّن هذا شيئًا عن عمق بغض شاول لداود، لأنه أراد أن يقتله بنفسه (ٱصْعَدُوا بِهِ إِلَيَّ عَلَى ٱلْفِرَاشِ لِكَيْ أَقْتُلَهُ).
٣. عَدُوِّي: هذه أتعس كلمة في هذا النص. إذ يصف شاول داود بأنه عدوه. وفي واقع الأمر، كان داود صديقًا لشاول، وقدّم له مساعدة أكثر من أي شخص آخر. وكان داود عدوًّا لشاول لأن شاول أراده هكذا.
ثالثًا. داود يهرب إلى نايوت مطارَدًا من شاول.
أ ) الآية (١٨): داود يزور صموئيل في الرامة.
١٨فَهَرَبَ دَاوُدُ وَنَجَا وَجَاءَ إِلَى صَمُوئِيلَ فِي ٱلرَّامَةِ وَأَخْبَرَهُ بِكُلِّ مَا عَمِلَ بِهِ شَاوُلُ. وَذَهَبَ هُوَ وَصَمُوئِيلُ وَأَقَامَا فِي نَايُوتَ.
١. وَجَاءَ إِلَى صَمُوئِيلَ فِي ٱلرَّامَةِ وَأَخْبَرَهُ بِكُلِّ مَا عَمِلَ بِهِ شَاوُلُ: فعل داود الشيء الصواب عندما كان في موقف صعب ومربك. ذهب ليقضي وقتًا مع رجل تقي. ويمكننا أن نتخيل داود وهو يسكب قلبه أمام النبي: “يا صموئيل، أنت مسحتني ملكًا، وانظر ما حدث معي! أعتقد أنه لم يحن الوقت بعد، لكن لماذا ينبغي أن تكون الأمور بهذه الصعوبة؟ هل يريدني الله ميتًا؟ لماذا يسمح بهذا؟”
٢. وَأَقَامَا فِي نَايُوتَ: كلمة ’نايوت‘ مستمدة من كلمة عبرية تعني ’إقامة‘ أو ’مقر.‘ وهي تشير إلى بيت صموئيل (الذي ربما يسمّى نايوت)، أو ربما تشير الكلمة إلى مَعْلَم أو مكان محدد في الرامة. وكلما ذُكرت كلمة نايوت، كانت ترتبط معها كلمة الرامة.
ب) الآيات (١٩-٢١): يرسل شاول رسلًا للقبض على داود، لكن الروح القدس يلمسه، ويتنبّأ في حضور صموئيل والأنبياء الآخرين.
١٩فَأُخْبِرَ شَاوُلُ وَقِيلَ لَهُ: «هُوَذَا دَاوُدُ فِي نَايُوتَ فِي الرَّامَةِ». ٢٠فَأَرْسَلَ شَاوُلُ رُسُلاً لأَخْذِ دَاوُدَ. وَلَمَّا رَأَوْا جَمَاعَةَ الأَنْبِيَاءِ يَتَنَبَّأُونَ، وَصَمُوئِيلَ وَاقِفًا رَئِيسًا عَلَيْهِمْ، كَانَ رُوحُ اللهِ عَلَى رُسُلِ شَاوُلَ فَتَنَبَّأُوا هُمْ أَيْضًا. ٢١وَأَخْبَرُوا شَاوُلَ، فَأَرْسَلَ رُسُلاً آخَرِينَ، فَتَنَبَّأُوا هُمْ أَيْضًا. ثُمَّ عَادَ شَاوُلُ فَأَرْسَلَ رُسُلاً ثَالِثَةً، فَتَنَبَّأُوا هُمْ أَيْضًا.
١. فَأَرْسَلَ شَاوُلُ رُسُلًا لِأَخْذِ دَاوُدَ: شاول رجل شرير، لكنه مثابر. ونحن لا نُعجب أبدًا بعمل إبليس، لكن يمكننا أن نُعجب بمثابرته التي هي مبدأ عمل إبليس.
٢. وَلَمَّا رَأَوْا جَمَاعَةَ ٱلْأَنْبِيَاءِ يَتَنَبَّأُونَ، وَصَمُوئِيلَ وَاقِفًا رَئِيسًا عَلَيْهِمْ: عندما جاء رسل شاول للقبض على داود، جاءوا إلى وسط اجتماع عبادة. وكان صموئيل وتلاميذه (جماعة الأنبياء) ينتظرون الرب، ويعبدونه، ويتكلمون إليه، ويستمعون إليه.
عندما يقول النص إنهم كانوا جميعً يتنبّأون، لا يعني هذا أنهم كانوا يتوقعون أحداثًا في المستقبل. فالكلمة العبرية تحمل فكرة التكلم تحت تأثير الروح القدس. وربما كانوا جميعًا يقدمون تسبيحًا عفويًّا ملهمًا للرب.
٣. كَانَ رُوحُ ٱللهِ عَلَى رُسُلِ شَاوُلَ فَتَنَبَّأُوا هُمْ أَيْضًا: لقد أُسروا بجو العبادة والتكريس للرب. وحل روح الرب عليهم.
كان هذا عملًا غير عادي للروح القدس أن يأتي ويحل على أشخاص لم يطلبوا الله ولم يتوقوا إلى الملء بروحه. وقد فعل الله هذا ليحمي داود. وكانت هذه طريقته في نزع سلاح الذين جاءوا للقبض عليه.
كان هذا أيضًا تحذيرًا لهؤلاء الرجال ولشاول. فكأن الروح القدس يقول: لا أريد أن يُلقى القبض على داود. وسأعيد هؤلاء الرجال خالي الوفاض. وبدلًا من السعي إلى قتل داود، ينبغي أن تسعوا إلى الامتلاء بروح الرب.
٤. فَأَرْسَلَ رُسُلًا آخَرِينَ: لم يفهم شاول الرسالة. ولهذا أرسل رسلًا آخرين. لكن نفس الشيء حدث. إذ تنبّأوا أيضًا. ومرة أخرى، لم يفهم شاول الرسالة، فأرسل ثانية وثالثة. ورجعت مجموعات الرسل الثلاث. وقال الله نفس الشيء في كل مرة من خلالهم.
ج) الآيات (٢٢-٢٤): شاول يلاحق داود بنفسه، لكنه يتنبّأ أيضًا في حضور صموئيل والأنبياء.
٢٢فَذَهَبَ هُوَ أَيْضًا إِلَى الرَّامَةِ وَجَاءَ إِلَى الْبِئْرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي عِنْدَ سِيخُو وَسَأَلَ وَقَالَ: «أَيْنَ صَمُوئِيلُ وَدَاوُدُ؟» فَقِيلَ: «هَا هُمَا فِي نَايُوتَ فِي الرَّامَةِ». ٢٣فَذَهَبَ إِلَى هُنَاكَ إِلَى نَايُوتَ فِي الرَّامَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا رُوحُ اللهِ، فَكَانَ يَذْهَبُ وَيَتَنَبَّأُ حَتَّى جَاءَ إِلَى نَايُوتَ فِي الرَّامَةِ. ٢٤فَخَلَعَ هُوَ أَيْضًا ثِيَابَهُ وَتَنَبَّأَ هُوَ أَيْضًا أَمَامَ صَمُوئِيلَ، وَانْطَرَحَ عُرْيَانًا ذلِكَ النَّهَارَ كُلَّهُ وَكُلَّ اللَّيْلِ. لِذلِكَ يَقُولُونَ: «أَشَاوُلُ أَيْضًا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ؟».
١. فَذَهَبَ هُوَ أَيْضًا إِلَى ٱلرَّامَةِ: قال الروح القدس ثلاث مرات لشاول: “اترك داود وشأنه. فروحي أقوى منك. ولن تفوز بهذه المعركة ضدي وضد داود.” وبدلًا من ذلك، تولّى شاول زمام الأمور بنفسه بدرجة أكبر. فقد ذهب إلى الرامة بنفسه.
٢. فَكَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا رُوحُ ٱللهِ: عمِل الروح القدس هنا، كما من قبل، على الحيلولة دون إلقاء القبض على داود. وقال الله أيضًا: “ارفع يدك عن عبدي داود. فأنا المسؤول هنا.”
ربما كانت هنالك رسالة إضافية إلى شاول هنا: “يا شاول، أنت الآن تتنبّأ، وتتكلم بكلمات تسبيح وتمجيد جملية لي. هذه هي الطريقة التي يمكن أن أعمل بها فيك طوال الوقت إذا كنت متواضعًا وراغبًا.”
٣. فَخَلَعَ هُوَ أَيْضًا ثِيَابَهُ وَتَنَبَّأَ: دفع الروح القدس شاول على فعل هذا كتعبير عن التواضع العميق. ولن يقبل شاول أن يتواضع أمام الرب، لكن الرب سيجد طريقة لإذلاله.
من غير المحتمل – رغم أنه أمر ممكن – أن شاول خلع ثيابه كلها ليكون عاريًا تمامًا. فالكلمة العبرية المستخدمة يمكن أن تدل على خلع الملابس إلى الثياب الداخلية. فمن المرجح أن شاول خلع ملايسه الملكية التي تدل على الأبّهة والهيبة الملكية، ووضع نفسه أمام الرب في ملابسه الداخلية الكتانية. فكانت هذه طريقة ليقول بها الله: “لم تعد ملكي المختار، يا شاول. لقد نزعت مجدك الملكي!”
يمكن أن يتأثر المرء بقوة الله فينتج عن ذلك خبرات مذهلة من دون أن يستسلم لقوة الله التي تنتج تغييرًا في الحياة.
٤. أَشَاوُلُ أَيْضًا بَيْنَ ٱلْأَنْبِيَاءِ؟: ذُكرت هذه العبارة لأول مرة في ١ صموئيل ١٠: ١٠-١٢. وهي تعبر عن الاندهاش عندما يصبح شخص متحمسًا للدين. فلم يكن شاول رجلًا روحيًّا فصار روحيًّا جدًّا في لحظة حلول روح الرب عليه.
١ صموئيل ٢٠
محاولة يوناثان الأخيرة في إجراء المصالحة بين شاول وداود
أولًا. داود يأتي من نايوت لمقابلة يوناثان.
أ ) الآيات (١-٤): داود يسأل يوناثان حول نيّة شاول تجاهه، ويوناثان يعده بالمساعدة.
١فَهَرَبَ دَاوُدُ مِنْ نَايُوتَ فِي ٱلرَّامَةِ، وَجَاءَ وَقَالَ قُدَّامَ يُونَاثَانَ: «مَاذَا عَمِلْتُ؟ وَمَا هُوَ إِثْمِي؟ وَمَا هِيَ خَطِيَّتِي أَمَامَ أَبِيكَ حَتَّى يَطْلُبَ نَفْسِي؟» ٢فَقَالَ لَهُ: «حَاشَا. لَا تَمُوتُ! هُوَذَا أَبِي لَا يَعْمَلُ أَمْرًا كَبِيرًا وَلَا أَمْرًا صَغِيرًا إِلَّا وَيُخْبِرُنِي بِهِ. وَلِمَاذَا يُخْفِي عَنِّي أَبِي هَذَا ٱلْأَمْرَ؟ لَيْسَ كَذَا». ٣فَحَلَفَ أَيْضًا دَاوُدُ وَقَالَ: «إِنَّ أَبَاكَ قَدْ عَلِمَ أَنِّي قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ، فَقَالَ: لَا يَعْلَمْ يُونَاثَانُ هَذَا لِئَلَّا يَغْتَمَّ. وَلَكِنْ حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ، إِنَّهُ كَخَطْوَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَ ٱلْمَوْتِ». ٤فَقَالَ يُونَاثَانُ لِدَاوُدَ: «مَهْمَا تَقُلْ نَفْسُكَ أَفْعَلْهُ لَكَ».
١. فَهَرَبَ دَاوُدُ مِنْ نَايُوتَ: حمى روح الرب داود في نايوت بطريقة قوية. وكان بإمكانه أن يبقى هناك مهما طال الوقت الذي يمكن أن يستغرقه شاول للاستسلام أو للموت. غير أن داود غادر المكان لسبب وجيه. إذ أراد أن يعرف إن كان قلب شاول قد تغيّر، وإن كانت هنالك فرصة للتصالح معه.
٢. مَاذَا عَمِلْتُ؟: هنا يفحص داود علاقته بيوناثان. أراد أن يعرف ما يفكر فيه شاول. لكن ما هو أهم من ذلك هو أن يعرف ما يفكر فيه يوناثان. ففي سؤاله ’مَاذَا عَمِلْتُ؟‘ أراد داود أن يعرف إن كان قد توصّل إلى اتفاق مع أبيه شاول.
٣. فَقَالَ لَهُ: “حَاشَا!”: أكّد هذا لداود أن يوناثان ما زال صديقه المخلص، وأنه لم يقتنع بأكاذيب شاول عنه. كما أكد يوناثان لداود حمايته عن طريق تحذيره من نيّة شاول.
وَلِمَاذَا يُخْفِي عَنِّي أَبِي هَذَا ٱلْأَمْرَ؟ لَيْسَ كَذَا: من الواضح أن داود تساءل لماذا لم يخبره يوناثان عن محاولة القبض عليه في نايوت. فعبّر يوناثان عن دهشته لعدم إخبار أبيه شاول بهذا. لكنه طمأن داود بشأن محبته له.
٤. إِنَّهُ كَخَطْوَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَ ٱلْمَوْتِ: يشير هذا إلى إحباط داود. عرف أن شاول حاول أن يقتله مرات كثيرة. وبدا أنه لن يتوقف عن المحاولة إلى أن يموت داود. أحس داود بأن موته أمر لا مفر منه، وأنه كمن يسير على لوح خشبي زلق فوق وادٍ سحيق.
٥. مَهْمَا تَقُلْ نَفْسُكَ أَفْعَلْهُ لَكَ: واصل يوناثان طمأنة داود مقدِّمًا التشجيع وعارضًا العون على هذا الرجل المحبط. ومن المعقول أن يكون يوناثان قد قال لداود: “أين إيمانك، يا أخي؟ لماذا لا تثق بالرب؟” وبدلًا من ذلك، علم يوناثان أن قلب داود موجّه في الاتجاه الصحيح، فعرض عليه المساعدة.
ب) الآيات (٥-١١): يقترح داود امتحانًا لموقف شاول.
٥فَقَالَ دَاوُدُ لِيُونَاثَانَ: «هُوَذَا ٱلشَّهْرُ غَدًا حِينَمَا أَجْلِسُ مَعَ ٱلْمَلِكِ لِلْأَكْلِ. وَلَكِنْ أَرْسِلْنِي فَأَخْتَبِئَ فِي ٱلْحَقْلِ إِلَى مَسَاءِ ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ. ٦وَإِذَا ٱفْتَقَدَنِي أَبُوكَ، فَقُلْ: قَدْ طَلَبَ دَاوُدُ مِنِّي طِلْبَةً أَنْ يَرْكُضَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ مَدِينَتِهِ، لِأَنَّ هُنَاكَ ذَبِيحَةً سَنَوِيَّةً لِكُلِّ ٱلْعَشِيرَةِ. ٧فَإِنْ قَالَ هَكَذاَ: حَسَنًا. كَانَ سَلَامٌ لِعَبْدِكَ. وَلَكِنْ إِنِ ٱغْتَاظَ غَيْظًا، فَٱعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أُعِدَّ ٱلشَّرُّ عِنْدَهُ. ٨فَتَعْمَلُ مَعْرُوفًا مَعَ عَبْدِكَ، لِأَنَّكَ بِعَهْدِ ٱلرَّبِّ أَدْخَلْتَ عَبْدَكَ مَعَكَ. وَإِنْ كَانَ فِيَّ إِثْمٌ فَٱقْتُلْنِي أَنْتَ، وَلِمَاذَا تَأْتِي بِي إِلَى أَبِيكَ؟». ٩فَقَالَ يُونَاثَانُ: «حَاشَا لَكَ! لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ٱلشَّرَّ قَدْ أُعِدَّ عِنْدَ أَبِي لِيَأْتِيَ عَلَيْكَ، أَفَمَا كُنْتُ أُخْبِرُكَ بِهِ؟». ١٠فَقَالَ دَاوُدُ لِيُونَاثَانَ: «مَنْ يُخْبِرُنِي إِنْ جَاوَبَكَ أَبُوكَ شَيْئًا قَاسِيًا؟». ١١فَقَالَ يُونَاثَانُ لِدَاوُدَ: «تَعَالَ نَخْرُجُ إِلَى ٱلْحَقْلِ». فَخَرَجَا كِلَاهُمَا إِلَى ٱلْحَقْلِ.
١. وَإِذَا ٱفْتَقَدَنِي أَبُوكَ: طلب داود من يوناثان أن يلاحظ رد فعل شاول لغياب داود في عيد مهم يقام شهريًّا من أجل كبار رجال الدولة. وتساءل إن كان شاول سينتهز الفرصة للمصالحة أو أنه سيستغلها في محاولة قتله.
هُوَذَا ٱلشَّهْرُ (القمر الجديد) غَدًا حِينَمَا أَجْلِسُ مَعَ ٱلْمَلِكِ لِلْأَكْلِ: كانت تقدم ذبائح خاصة عند الشهر الجديد (القمر الجديد – عدد ٢٨: ١١-١٥).
٢. وَإِنْ كَانَ فِيَّ إِثْمٌ: ومرة أخرى، يبدو أن داود تأثر إلى حد ما بعدم إخبار يوناثان له عن محاولة القبض عليه في نايوت، ولهذا يسأل داود يوناثان هنا: ’أأنا مخطئ هنا؟ أما زلتَ معي؟‘ يقول داود هنا ما مفاده: “إن كنت تعمل حقًّا من أجل والدك، وإن كنتَ توافقه على أني مستحق للقتل، فاقتلني أنت الآن.”
ينبغي أن نرى هذا كله من منظور داود. تَذَكَّر أن دعم يوناثان له ووُجِه بتحدي عداوة شاول له. وتذكَّر أيضًا دعم يوناثان له ووُجه بتحدي بكون يوناثان التالي في ترتيب العرش، ولهذا يمكن أن يقف ضده.
إن استجابة يوناثان هنا هي نفسها في ١ صموئيل ٢٠: ٢. لم يكن يعلم أن شاول انطلق للقبض على داود في نايوت رغم أنه كان يخبره كل شيء في الماضي.
٣. حَاشَا لَكَ: بهذا التشجيع، يطلب يوناثان من داود ألاّ يشك في ولائه بعد. فقد أحس يوناثان بأن داود في وضع ضعيف مكشوف، وأنه محتاج إلى تقديم تشجيع في وسط هذه المحنة.
٤. مَنْ يُخْبِرُنِي: إن كان شاول قد عقد العزم على فعل الشر تجاه داود، فإن داود أراد من يوناثان أن يحذّره. فكيف سيفعل هذا؟ لكن كيف يمكن أن يوصل يوناثان الرسالة إلى داود؟
ثانيًا. موافقة يوناثان
أ ) الآيات (١٢-١٣): يوناثان يكتشف حالة قلب أبيه.
١٢وَقَالَ يُونَاثَانُ لِدَاوُدَ: “يَا رَبُّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ، مَتَى ٱخْتَبَرْتُ أَبِي مِثْلَ ٱلْآنَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَإِنْ كَانَ خَيْرٌ لِدَاوُدَ وَلَمْ أُرْسِلْ حِينَئِذٍ فَأُخْبِرَهُ، ١٣فَهَكَذَا يَفْعَلُ ٱلرَّبُّ لِيُونَاثَانَ وَهَكَذَا يَزِيدُ. وَإِنِ ٱسْتَحْسَنَ أَبِي ٱلشَّرَّ نَحْوَكَ، فَإِنِّي أُخْبِرُكَ وَأُطْلِقُكَ فَتَذْهَبُ بِسَلَامٍ. وَلْيَكُنِ ٱلرَّبُّ مَعَكَ كَمَا كَانَ مَعَ أَبِي.”
١. مَتَى ٱخْتَبَرْتُ أَبِي: سيكتشف يوناثان قلب أبيه، وسيبلغ داود بهذا، سواء أكان هذا أمرًا جيدًا لداود أم سيئًا بالنسبة له.
٢. فَإِنِّي أُخْبِرُكَ وَأُطْلِقُكَ فَتَذْهَبُ بِسَلَامٍ: يعرف يوناثان أنه إذا نوى أبوه شاول شرًّا لداود سيعني أنه يتوجب على داود أن يذهب. فلن يكون موضع ترحيب في القصر، ولن يكون آمنًا في بيته. ومن شأن إعطاء يوناثان تحذيرًا مبكرًا لداود أن يساعده في أن يذهب بسلام.
٣. وَلْيَكُنِ ٱلرَّبُّ مَعَكَ كَمَا كَانَ مَعَ أَبِي: يريد يوناثان أن يعطي داود أكثر من تحذير. فهو يعطيه تشجيعًا. “فحتى لو اضطررت إلى ترك القصر وبيتك لتهرب وتحيا طريدًا، سيكون الرب معك. ويمكنك التأكد من ذلك.”
يُظهر يوناثان نضجًا روحيًّا عندما يقول: ’كَمَا كَانَ مَعَ أَبِي.‘ إذ قد يظن المرء أن الرب كان ضد شاول حقًّا بدلًا من أن يعمل لخيره. إذ عرف يوناثان أن الرب كان صالحًا مع شاول، لأنه قدّم له فرصًا كثيرة للتوبة.
ب) الآيات (١٤-١٧): واستجابة لهذا، يطلب يوناثان من داود أن يلتزم هو نفسه بالعهد بينهما.
١٤وَلَا وَأَنَا حَيٌّ بَعْدُ تَصْنَعُ مَعِي إِحْسَانَ ٱلرَّبِّ حَتَّى لَا أَمُوتَ، ١٥بَلْ لَا تَقْطَعُ مَعْرُوفَكَ عَنْ بَيْتِي إِلَى ٱلْأَبَدِ، وَلَا حِينَ يَقْطَعُ ٱلرَّبُّ أَعْدَاءَ دَاوُدَ جَمِيعًا عَنْ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ. ١٦فَعَاهَدَ يُونَاثَانُ بَيْتَ دَاوُدَ وَقَالَ: «لِيَطْلُبِ ٱلرَّبُّ مِنْ يَدِ أَعْدَاءِ دَاوُدَ». ١٧ثُمَّ عَادَ يُونَاثَانُ وَٱسْتَحْلَفَ دَاوُدَ بِمَحَبَّتِهِ لَهُ لِأَنَّهُ أَحَبَّهُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ.
١. بَلْ لَا تَقْطَعُ مَعْرُوفَكَ عَنْ بَيْتِي إِلَى ٱلْأَبَد: كان يوناثان للديناميكية السياسية بين عائلة داود وعائلة شاول. ففي تلك الأيام، عندما يحل بيت ملكيٌّ محل بيت ملكيّ آخر، كان من الشائع أن يقتل البيت الملكي الجديد جميع الحكام المحتملين من البيت الملكي القديم. وعرف يوناثان أن داود ونسله سيملكون ذات يوم على إسرائيل. فأراد وعدًا بأن داود ونسله لن يقتلوا أو يسيئوا معاملة نسل يوناثان.
٢. فَعَاهَدَ يُونَاثَانُ بَيْتَ دَاوُدَ: اتفق داود ويوناثان على أن يعتني أحدهما بالآخر. فوافق يوناثان على أن يعتني بداود في وجه تهديد شاول. ووافق داود على الاعتناء بيوناثان وعائلته في المستقبل. ووفى داود بوعده ليوناثان (٢ صموئيل ٩: ١-٨ و٢١: ٧).
ج) الآيات (١٨-٢٣): يقترح يوناثان إشارة لإعلام داود برد فعل شاول.
١٨وَقَالَ لَهُ يُونَاثَانُ: «غَدًا ٱلشَّهْرُ، فَتُفْتَقَدُ لِأَنَّ مَوْضِعَكَ يَكُونُ خَالِيًا. ١٩وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ تَنْزِلُ سَرِيعًا وَتَأْتِي إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي ٱخْتَبَأْتَ فِيهِ يَوْمَ ٱلْعَمَلِ، وَتَجْلِسُ بِجَانِبِ حَجَرِ ٱلِٱفْتِرَاقِ. ٢٠وَأَنَا أَرْمِي ثَلَاثَةَ سِهَامٍ إِلَى جَانِبِهِ كَأَنِّي أَرْمِي غَرَضًا. ٢١وَحِينَئِذٍ أُرْسِلُ ٱلْغُلَامَ قَائِلًا: ٱذْهَبِ ٱلْتَقِطِ ٱلسِّهَامَ. فَإِنْ قُلْتُ لِلْغُلَامِ: هُوَذَا ٱلسِّهَامُ دُونَكَ فَجَائِيًا، خُذْهَا. فَتَعَالَ، لِأَنَّ لَكَ سَلَامًا. لَا يُوجَدُ شَيْءٌ، حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ. ٢٢وَلَكِنْ إِنْ قُلْتُ هَكَذَا لِلْغُلَامِ: هُوَذَا ٱلسِّهَامُ دُونَكَ فَصَاعِدًا. فَٱذْهَبْ، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ أَطْلَقَكَ. ٢٣وَأَمَّا ٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي تَكَلَّمْنَا بِهِ أَنَا وَأَنْتَ، فَهُوَذَا ٱلرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ.
١. وَأَنَا أَرْمِي ثَلَاثَةَ سِهَامٍ: بعد أن يعرف يوناثان قلب أبيه ونيّته تجاه داود، سيوصل هذه المعلومة إلى داود من خلال إشارة. سيقوم يوناثان بالتدرُّب على رمي السهام. وسيشير المكان الذي تقع عليه السهام إلى الجواب الذي ينتظره داود.
٢. ثَلَاثَةَ سِهَامٍ: ستقوم هذه السهام الثلاثة بتوصيل إحدى رسالتين: إما أن يكون قلب شاول قد تغيَّر تجاه داود، وعندئذٍ سيكون له أمان (لِأَنَّ لَكَ سَلَامًا)، وإما أن يكون ما زال مصممًا على قتل داود، وعندئذ ينبغي له أن يهرب (فَٱذْهَبْ، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ أَطْلَقَكَ).
كانت هذه فترة حاسمة في حياة داود. فإما أن يعود إلى القصر وإلى بيته، أو أن يكون طريدًا إلى أن يتخلى شاول عن مطاردته. إذ يعتمد الكثير على الرسالة التي ستجلبها السهام.
ثالثًا. كراهية شاول الراسخة تجاه داود
أ ) الآيات (٢٤-٣٤): يستشيط شاول غضبًا لغياب داود.
٢٤فَٱخْتَبَأَ دَاوُدُ فِي ٱلْحَقْلِ. وَكَانَ ٱلشَّهْرُ، فَجَلَسَ ٱلْمَلِكُ عَلَى ٱلطَّعَامِ لِيَأْكُلَ. ٢٥فَجَلَسَ ٱلْمَلِكُ فِي مَوْضِعِهِ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى مَجْلِسٍ عِنْدَ ٱلْحَائِطِ. وَقَامَ يُونَاثَانُ وَجَلَسَ أَبْنَيْرُ إِلَى جَانِبِ شَاوُلَ، وَخَلَا مَوْضِعُ دَاوُدَ. ٢٦وَلَمْ يَقُلْ شَاوُلُ شَيْئًا فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، لِأَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّهُ عَارِضٌ. غَيْرُ طَاهِرٍ هُوَ. إِنَّهُ لَيْسَ طَاهِرًا». ٢٧وَكَانَ فِي ٱلْغَدِ ٱلثَّانِي مِنَ ٱلشَّهْرِ أَنَّ مَوْضِعَ دَاوُدَ خَلَا، فَقَالَ شَاوُلُ لِيُونَاثَانَ ٱبْنِهِ: «لِمَاذَا لَمْ يَأْتِ ٱبْنُ يَسَّى إِلَى ٱلطَّعَامِ لَا أَمْسِ وَلَا ٱلْيَوْمَ؟» ٢٨فَأَجَابَ يُونَاثَانُ شَاوُلَ: «إِنَّ دَاوُدَ طَلَبَ مِنِّي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، ٢٩وَقَالَ: أَطْلِقْنِي لِأَنَّ عِنْدَنَا ذَبِيحَةَ عَشِيرَةٍ فِي ٱلْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَوْصَانِي أَخِي بِذَلِكَ. وَٱلْآنَ إِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَدَعْنِي أُفْلِتُ وَأَرَى إِخْوَتِي. لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ إِلَى مَائِدَةِ ٱلْمَلِكِ». ٣٠فَحَمِيَ غَضَبُ شَاوُلَ عَلَى يُونَاثَانَ وَقَالَ لَهُ: «يَا ٱبْنَ ٱلْمُتَعَوِّجَةِ ٱلْمُتَمَرِّدَةِ، أَمَا عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدِ ٱخْتَرْتَ ٱبْنَ يَسَّى لِخِزْيِكَ وَخِزْيِ عَوْرَةِ أُمِّكَ؟ ٣١لِأَنَّهُ مَا دَامَ ٱبْنُ يَسَّى حَيًّا عَلَى ٱلْأَرْضِ لَا تُثْبَتُ أَنْتَ وَلَا مَمْلَكَتُكَ. وَٱلْآنَ أَرْسِلْ وَأْتِ بِهِ إِلَيَّ لِأَنَّهُ ٱبْنُ ٱلْمَوْتِ هُوَ». ٣٢فَأَجَابَ يُونَاثَانُ شَاوُلَ أَبَاهُ وَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا يُقْتَلُ؟ مَاذَا عَمِلَ؟». ٣٣فَصَابَى شَاوُلُ ٱلرُّمْحَ نَحْوَهُ لِيَطْعَنَهُ، فَعَلِمَ يُونَاثَانُ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى قَتْلِ دَاوُدَ. ٣٤فَقَامَ يُونَاثَانُ عَنِ ٱلْمَائِدَةِ بِحُمُوِّ غَضَبٍ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي مِنَ ٱلشَّهْرِ، لِأَنَّهُ ٱغْتَمَّ عَلَى دَاوُدَ، لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ أَخْزَاهُ.
١. أَنَّ مَوْضِعَ دَاوُدَ خَلَا: كان من المتوقع أن يكون داود في الاحتفال الخاص بالقمر الجديد، ولهذا كان غيابه ملحوظًا بوضوح. وفي البداية، لم يزعج الأمر شاول كثيرًا ، لِأَنَّهُ قَالَ: ’لَعَلَّهُ عَارِضٌ. غَيْرُ طَاهِرٍ هُوَ. إِنَّهُ لَيْسَ طَاهِرًا.‘ فقد تسبّب النجاسة الاحتفالية في غياب شخص عن عيد كهذا. لكن النجاسة الاحتفالية لا تدوم إلا يومًا واحدًا فقط (لاويين ٢٢: ٣-٧). وعندما تكرر غيابه في اليوم التالي (وَكَانَ فِي ٱلْغَدِ ٱلثَّانِي مِنَ ٱلشَّهْرِ أَنَّ مَوْضِعَ دَاوُدَ خَلَا)، طالب شاول بتفسير.
تعليق ماير على تعبير ’ابن يسّى:‘ “يتحدث شاول عنه بازدراء بصفته ’ابن يسّى‘ مشدِّدًا على أصله الوضيع، متجاهلًا العلاقة التي ربطته بالعائلة المالكة.”
٢. فَأَجَابَ يُونَاثَانُ شَاوُلَ: إِنَّ دَاوُدَ طَلَبَ مِنِّي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ: قام يوناثان بالتغطية على داود، محاولًا إعطاء شاول تفسيرًا معقولًا (وصادقًا) لغياب داود.
“يبدو أنه ذهب أولًا إلى بيت لحم كما طلب من يوناثان أن يخبر أباه (الآية ٦)، ومن ثَمَّ إلى الحقل عندما اقتضى الأمر، وإلا فإنه يتوجب علينا أن نتهمه بالكذب الصريح، وهو أمر لا نتخيّله (من دون أي سبب واضح) في ما يخص بإنسان صالح.” بوله (Poole)
٣. فَحَمِيَ غَضَبُ شَاوُلَ عَلَى يُونَاثَانَ وَقَالَ لَهُ: يَا ٱبْنَ ٱلْمُتَعَوِّجَةِ ٱلْمُتَمَرِّدَةِ: علِم يوناثان من هذا الجواب أن قلب شاول كان مصمّمًا على الشر تجاه داود. فلو كان قلبه مختلفًا عن هذا، لما أحس بهذه الخيبة أو بهذا الغضب الشديد.
٤. ٱبْنُ ٱلْمَوْتِ هُوَ: يعني هذا التعبير أنه لا بد أن يموت لا محالة. ومن المؤكد أن هذه كانت نيّة داود رغم قسَمه السابق: ’حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ لَا يُقْتَلُ‘ (١ صموئيل ١٩: ٦). ورغم مقاصد شاول، إلا أن داود لن يموت على يد شاول، أو على يد أي عدو آخر. فالإنسان يسعى، لكن الكلمة العليا هي للرب.
٥. لِمَاذَا يُقْتَلُ؟ مَاذَا عَمِلَ؟: ردّ يوناثان لا بالدفاع عن داود فحسب، بل أيضًا عن الحق في هذه القضية. فلم يكن دعمه لداود دعمًا أعمى. بل ارتكز على ما هو صواب أمام الرب. فأثار رد يوناثان غضب شاول، فألقى رمحًا عليه ليقتله. ويبيّن هذا عمق كراهية شاول لداود. فهو مستعد لأن يقتل ابنه بسبب وقوفه إلى جانب داود.
“قام يوناثان بمحاولة عبثية للتفاهم مع العاهل الغاضب، وكأنه حاول أن يوقف فيضان نهر الأردن في وقت الفيضان.” ماير (Meyer)
ب) الآيات (٣٥-٤٠): يوناثان يبلغ داود الجواب من خلال علامة السهام.
٣٥وَكَانَ فِي ٱلصَّبَاحِ أَنَّ يُونَاثَانَ خَرَجَ إِلَى ٱلْحَقْلِ إِلَى مِيعَادِ دَاوُدَ، وَغُلَامٌ صَغِيرٌ مَعَهُ. ٣٦وَقَالَ لِغُلَامِهِ: «ٱرْكُضِ ٱلْتَقِطِ ٱلسِّهَامَ ٱلَّتِي أَنَا رَامِيهَا». وَبَيْنَمَا ٱلْغُلَامُ رَاكِضٌ رَمَى ٱلسَّهْمَ حَتَّى جَاوَزَهُ. ٣٧وَلَمَّا جَاءَ ٱلْغُلَامُ إِلَى مَوْضِعِ ٱلسَّهْمِ ٱلَّذِي رَمَاهُ يُونَاثَانُ، ٣٨نَادَى يُونَاثَانُ وَرَاءَ ٱلْغُلَامِ وَقَالَ: «أَلَيْسَ ٱلسَّهْمُ دُونَكَ فَصَاعِدًا؟». وَنَادَى يُونَاثَانُ وَرَاءَ ٱلْغُلَامِ قَائِلًا: «ٱعْجَلْ. أَسْرِعْ. لَا تَقِفْ». فَٱلْتَقَطَ غُلَامُ يُونَاثَانَ ٱلسَّهْمَ وَجَاءَ إِلَى سَيِّدِهِ. ٣٩وَٱلْغُلَامُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ شَيْئًا، وَأَمَّا يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ فَكَانَا يَعْلَمَانِ ٱلْأَمْرَ. ٤٠فَأَعْطَى يُونَاثَانُ سِلَاحَهُ لِلْغُلَامِ ٱلَّذِي لَهُ وَقَالَ لَهُ: “ٱذْهَبِ. ٱدْخُلْ بِهِ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ.”
١. أَلَيْسَ ٱلسَّهْمُ دُونَكَ فَصَاعِدًا: تطلَّب الأمر شجاعة كبيرة من يوناثان ليتواصل مع داود، حتى سرًّا. فقد عرف أنه إذا علم أبوه بالأمر، فسيركز غضبه القاتل عليه نفسه. فكان ليوناثان التزام نبيل نحو داود كصديق.
“لكن لا يوجد ما هو أكثر نُبلًا – عندما يجرؤ المرء وسط أية صُحبة على النذر بالولاء للرب يسوع. فهو، شأنه شأن داود، مغمور وسيّئ السمعة. فاسمه لا يحظى بشعبية كبيرة، ويساء تقديم رسالة إنجيله. ويتعرض أتباعه للتوبيخ والسخرية. فهذه هي الأيام التي ينبغي الدفاع عنه أكثر من الدفاع عن الدين التقليدي. وهذا أكثر نُبلًا، لأنه يكلّف شيئًا. ولهذا لا ينبغي أن نتوانى.” ماير (Meyer)
٢. وَأَمَّا يُونَاثَانُ وَدَاوُدُ فَكَانَا يَعْلَمَانِ ٱلْأَمْرَ: أخبرت إشارة بسيطة بسهم واحد داود أن حياته كلها قد تغيرت. فلن يكون موضع ترحيب في القصر أو في الجيش. ولن يتمكن من الذهاب إلى بيته. إذ صار الآن طريدًا من ملِك غاضب حسود عازم على إهلاكه.
ربما تتحول حياتنا كلها بسبب شيء صغير. فليلةٌ طائشة يمكن أن تغير حياة فتاة إلى الأبد. وقد ينتج عن ليلة مع الحشد الخطأ تسجيل اسم صبي في سجل الاعتقال. وغالبًا ما لا يبدو أن يكون من المنصف أن قدرًا كبيرًا من الحياة يعتمد على لحظات صغيرة. لكن العمر لا يتألف إلا من لحظات صغيرة كثيرة.
ج) الآيات (٤١-٤٢): وداع باكٍ ليوناثان وداود.
٤١اَلْغُلَامُ ذَهَبَ وَدَاوُدُ قَامَ مِنْ جَانِبِ ٱلْجَنُوبِ وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَقَبَّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَبَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ حَتَّى زَادَ دَاوُدُ. ٤٢فَقَالَ يُونَاثَانُ لِدَاوُدَ: «ٱذْهَبْ بِسَلَامٍ لِأَنَّنَا كِلَيْنَا قَدْ حَلَفْنَا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ قَائِلَيْنِ: ٱلرَّبُّ يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِي وَنَسْلِكَ إِلَى ٱلْأَبَدِ». فَقَامَ وَذَهَبَ، وَأَمَّا يُونَاثَانُ فَجَاءَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ.
١. وَبَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا: أحبّ يوناثان وداود أحدهما الآخر كثيرًا، وكانت صداقتهما متينة. ومن المرجح أنهما تصورا العمل معًا كشريكين وصديقين قبل أن يصبح داود ملكًا وبعد ذلك. لكن فات الأوان على هذا، لأنه لم يكن بمقدور داود أن يبقى، ولا بمقدور يوناثان أن يذهب معه. ولهذا بكيا معًا.
٢. زَادَ دَاوُدُ: كانت لدى يوناثان أسباب للبكاء، لكن كانت لدى داود أسباب أكثر. كان ألم الفراق سيئًا بما يكفي، لكنه كان أسوأ بالنسبة لداود. فهو مقطوع عن كل شيء، وكان مقدَّرًا له أن يعيش حياة الطريد لسنوات كثيرة.
“خلفك صباح مشمس، وأمامك أفق مكفهر. خلفك التمتع المبارك بالصداقة، والزوجة، والبيت، والرضا الملكي، وإعجاب الشعب. وأمامك حياة شخص منبوذ” ماير (Meyer)
٣. ٱذْهَبْ بِسَلَامٍ لِأَنَّنَا كِلَيْنَا قَدْ حَلَفْنَا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ قَائِلَيْنِ: عرف يوناثان أنه ربما لن يرى داود ثانية. وفي واقع الأمر، سيلتقيان قبل وقت قصير من موت يوناثان. لكن عندما غادر داود ليمضي حياة اختباء وخطر، كان بمقدور يوناثان أن يودعه في سلام، لأنهما اتفقا على أن يكرم أحدهما الآخر، لا أثناء حياتهما فحسب، بل أن يكرم أحدهما عائلة الآخر بعد موت أحدهما.
٤. فَقَامَ وَذَهَبَ: لن يعود داود إلى ’الحياة العادية‘ إلى أن يموت شاول ويصبح ملكًا بعده. فكان هذا طريقًا كئيبًا بالنسبة لداود، لكن هذا هو الطريق الذي اختاره الله له.
هل كان داود في إرادة الله؟ كيف يمكن أن يسير في مثل هذا الطريق القاتم ويكون في إرادة الله؟ لأن الله يجعل أبناءه يمضون وقتًا معه على هذا الطريق القاتم. وهو يعيّن بعض الأشخاص المفضّلين له ليمضوا وقتًا على هذا الطريق. ونحن نجد أمثلة لهذا في أيوب، ويوسف، وبولس، وحتى يسوع.
كان هذا الطريق القاتم مهمًّا في حياة داود، لأنه إذا وضعه الله في مكان يتوجب عليه فيه أن يعتمد على الله، فسيعلّمه الله كيف يعتمد عليه وحده، لا على نفسه، أو على شاول، أو على يوناثان، أو أي شخص آخر غير الله.
كان هذا الطريق القاتم مهمًّا في حياة داود، لأنه إذا كان له أن يكون آمِنًا الآن ويُرَقَّى إلى ملك لاحقًا، يتوجب عليه أن يجعل الله حاميه ومُرَقِّيه.
كان هذا الطريق القاتم مهمًّا في حياة داود، لأنه إذا كان له أن يوضع في منصب ذي سلطة عظيمة، يتوجب عليه أن يخضع لسلطة الله، حتى ولو كان هذا من خلال رجل مثل شاول.
“دع الله يُفرغك حتى يخلّصك من أن تصبح باليًا روحيًّا، ويقودك إلى الأمام. وهو يدعونا دائمًا إلى تجاوز ما لا نعلمه إلى ما هو مجهول. والعرش هو قصد الله لك، والصليب هو الطريق لك، والإيمان هو خطة الله لك.” ريدباث (Redpath)