سفر العدد – الإصحاح ٢٢
بَالاَق وبَلْعَام
أولًا. رغبة بَالاَق الشريرة
أ ) الآيات (١-٤): بَالاَق، ملك موآب، يخشى تقدُّم بني إسرائيل.
١وَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي عَرَبَاتِ مُوآبَ مِنْ عَبْرِ أُرْدُنِّ أَرِيحَا. ٢وَلَمَّا رَأَى بَالاَقُ بْنُ صِفُّورَ جَمِيعَ مَا فَعَلَ إِسْرَائِيلُ بِالأَمُورِيِّينَ، ٣فَزِعَ مُوآبُ مِنَ الشَّعْبِ جِدًّا لأَنَّهُ كَثِيرٌ، وَضَجِرَ مُوآبُ مِنْ قِبَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ٤فَقَالَ مُوآبُ لِشُيُوخِ مِدْيَانَ: «الآنَ يَلْحَسُ الْجُمْهُورُ كُلَّ مَا حَوْلَنَا كَمَا يَلْحَسُ الثَّوْرُ خُضْرَةَ الْحَقْلِ». وَكَانَ بَالاَقُ بْنُ صِفُّورَ مَلِكًا لِمُوآبَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ.
١. وَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: كان شعب إسرائيل في هذه المرحلة في حالة ارتحال. فقد كانوا قد أنهوا فترة سبيهم وتيهانهم في البرية، التي دامت ٣٨ سنة، ثم تقدَّموا صوب أرض كنعان، مقتربين منها أكثر ممَّا اقترب الجيل السابق غير المؤمن. وقد ظلوا في هذه المنطقة الواسعة (عَرَبَاتِ مُوآبَ مِنْ عَبْرِ أُرْدُنِّ أَرِيحَا) لمدة تقرب من السنة. ثم بعد ذلك، وصف سِفر يشوع أحداث عبورهم نهر الأردن، وهجومهم على أريحا.
• نال الجيل الحالي أيضًا بركة الانتصار، حيث كان الله يهيئهم لمحاربة الكنعانيين الأقوياء من خلال مجموعة من المعارك الأصغر ضد الكنعانيين الساكنين في الجنوب (سفر العدد ٢١: ١-٣)، والأموريين (سفر العدد ٢١: ٢٣-٢٤)، وسكان باشان (سفر العدد ٢١: ٣٣-٣٥).
• “هذا الموقع الجغرافي: ’ عَرَبَاتِ مُوآبَ مِنْ عَبْرِ أُرْدُنِّ أَرِيحَا‘ هو المكان الذي ستقع فيه بقية أحداث سفر العدد، وسفر التثنية أيضًا.” كول (Cole)
٢. وَضَجِرَ مُوآبُ مِنْ قِبَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: مع تقدُّم شعب إسرائيل صوب موآب، فَزِعَ بَالاَق ملك موآب جِدًّا، بسبب كثرة عدد شعب إسرائيل، وكذلك بسبب انتصاراتهم على الأمم المجاورة له.
• ضَجِرَ (ارتَعَبَ/مَلأَ الْخَوْفُ قَلْبَه): “أوضح المعلم اليهودي هيرش (Hirsch) أن هذا الفعل يعبِّر عن مشاعر قوية بداخل الشخص، لدرجة قد تدفعه إلى التقيؤ.” ألن (Allen)
٣. الْآنَ يَلْحَسُ الْجُمْهُورُ كُلَّ مَا حَوْلَنَا كَمَا يَلْحَسُ الثَّوْرُ خُضْرَةَ الْحَقْلِ: من ناحية، كان خوف بَالاَق منطقيًّا. ومن ناحية أخرى، لو كان فقط يعرف كلمة الله ويصدِّقها، لما وجد أيَّ داعٍ للخوف. فقد كان الله قد أمر شعب إسرائيل ألا يضايقوا موآب، لأنه لم يكن ينوي أن يعطي أرض الموآبيين نصيبًا لشعب إسرائيل (تثنية ٢: ٩).
• شكَّل لقاء بَالاَق مع شُيُوخِ مِدْيَان أهمية، لأننا نقرأ لاحقًا أن مؤامرة بَالاَق ضد إسرائيل اشتملت على نساء مديانيات (سفر العدد ٢٥: ٦-٩)
• “هذا التشبيه بالثور الذي يلحس خضرة الحقل متوافق بشكل خاص مع شعبٍ من رعاة الغنم والماشية… وتشبيه شعب إسرائيل بالثور يُعَد رمزًا يؤكِّد قوة هذا الشعب.” ألن (Allen)
ب) الآيات (٥-٦): توجيه بَالاَق دعوة إلى بَلْعَام.
٥فَأَرْسَلَ رُسُلًا إِلَى بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ، إِلَى فَتُورَ الَّتِي عَلَى النَّهْرِ فِي أَرْضِ بَنِي شَعْبِهِ لِيَدْعُوَهُ قَائِلًا: «هُوَذَا شَعْبٌ قَدْ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ. هُوَذَا قَدْ غَشَّى وَجْهَ الأَرْضِ، وَهُوَ مُقِيمٌ مُقَابِلِي. ٦فَالآنَ تَعَالَ وَالْعَنْ لِي هذَا الشَّعْبَ، لأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنِّي، لَعَلَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَكْسِرَهُ فَأَطْرُدَهُ مِنَ الأَرْضِ، لأَنِّي عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي تُبَارِكُهُ مُبَارَكٌ وَالَّذِي تَلْعَنُهُ مَلْعُونٌ».
١. فَأَرْسَلَ رُسُلًا إِلَى بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ، إِلَى فَتُورَ: يَظهَر رجل يُدعَى بَلْعَام بصورة فجائية في سفر العدد. لسنا نَعلَم كيف صار هذا الرجل يُحسَب نبيًّا، يتمتع بقدرات روحية، لكن من المؤكَّد أن الملك بَالاَق كان على دراية بصيت بَلْعَام.
• لا شك أن بَلْعَام لم يكن إسرائيليًّا، لأنه كان من فَتُور، التي كانت واقعةً عَلَى النَّهْرِ. اعتبر المفسِّرون القدامى أن كلمة النَّهْرِ هنا إشارة إلى نهر الفرات، ولذلك افترضوا أن فَتُور (مدينة بترو القديمة) تقع في سوريا الحديثة (قريبًا من مقاطعة كوباني). وكان هذا الموقع يبعد عن موآب مسافة تزيد على ٤٠٠ ميلًا (٦٤٠ كيلومترًا). لكن منذ اكتشاف نقش دير علا في عام ١٩٦٧، والذي ربما يشير إلى بَلْعَام بالاسم، قُدِّمت حُجة تؤيِّد كون فَتُورَ هي مدينة دير علا الحديثة التي تقع في الأردن، وأن النَّهْر هو نهر الأردن. وكان هذا الموضع قريبًا بالفعل من موآب.
• “إن اكتشاف نصوص بَلْعَام النبوية المكتوبة باللغة الأرامية، والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس، في مدينة دير علا بالأردن، يبيِّن مدى الشهرة التي تمتَّع بها هذا الرجل في الشرق الأدنى القديم، حتى بعد موته بقرونٍ.” ألن (Allen)
• من خلال بقية القصة، يتضح لنا أن بَلْعَام كان يعرف إله إسرائيل، الإله الحقيقي، بعض المعرفة التي تتعدَّى كونها مجرد تواصل روحاني شيطاني مبهَم (مثلما يتضح من خلال إشارته المحدَّدة إلى الرب في سفر العدد ٢٢: ٨). لكننا لسنا نعلم بوضوح كيف عرف بَلْعَام الإله الحقيقي. كان بَلْعَام (في هذا الشأن) يشبه ملكي صادق (تكوين ١٤: ١٨) ويثرون (خروج ١٨)، وهما رجلان غير إسرائيليين، لكنهما تمتعا ببعض المعرفة الحقيقية بالإله الحقيقي.
• “لم يكن بَلْعَام نبيًّا صالحًا أصبح شريرًا، أو نبيًّا شريرًا يحاول أن يكون صالحًا، لكنه كان خارج دائرة أنبياء إسرائيل تمامًا. فهو مواطن أجنبي وثني، تتمحور أعماله التعويذية حول العرافة باستخدام الحيوانات، وهو الأمر الذي كان يشمل تشريح أكباد الحيوانات، وتحليل حركة الحيوانات والطيور. وكان يعتقد أنه يتمتع بحظوة أو دالة خاصة لدى الآلهة. وبالنسبة له، لم يكن يهوه هو رب السماء، بل كان مجرد إله آخر يستطيع التلاعب به. لكن، كانت تنتظره مفاجأة حياته.” ألن (Allen)
٢. فَالْآنَ تَعَالَ وَالْعَنْ لِي هَذَا الشَّعْبَ: أراد بَالاَق الملك أن يلْعَنْ بَلْعَام شعب إسرائيل، وبذلك يصيبهم بالشلل الروحي، حتى يُهزَموا في الحرب. ويبدو أن بَالاَق كان يَعلَم أن قوة شعب إسرائيل مصدرها روحي، وبالتالي فإذا أراد أن يهزمهم، كان عليه أن يفصلهم عن مصدر قوتهم.
• كان بَلْعَام معروفًا بأنه رجل مقتدر في الأمور الروحانية. وبالنسبة للملك بَالاَق، عندما يلعن بَلْعَام شخصًا أو شعبًا، أو يباركهم، لا بد أن يصير ذلك حقيقةً.
• “أراد بَالاَق من بَلْعَام أن يستحضر لعنة إلهية على شعب إسرائيل، من شأنها أن تضعفهم، وتضعف إلههم أيضًا بما يكفي ليتمكن من تحقيق انتصار عليهم، وطردهم من أرضه.” كول (Cole)
ثانيًا. اللقاءان بين بَلْعَام ورُسل بَالاَق
أ ) الآيات (٧-٨): بَالاَق يرسل رجالًا لاستئجار خدمات بَلْعَام كنبي.
٧فَانْطَلَقَ شُيُوخُ مُوآبَ وَشُيُوخُ مِدْيَانَ، وَحُلْوَانُ الْعِرَافَةِ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَتَوْا إِلَى بَلْعَامَ وَكَلَّمُوهُ بِكَلاَمِ بَالاَقَ. ٨فَقَالَ لَهُمْ: «بِيتُوا هُنَا اللَّيْلَةَ فَأَرُدَّ عَلَيْكُمْ جَوَابًا كَمَا يُكَلِّمُنِي الرَّبُّ». فَمَكَثَ رُؤَسَاءُ مُوآبَ عِنْدَ بَلْعَامَ.
١. حُلْوَانُ [رسوم] الْعِرَافَةِ: يشير ذلك إلى أنه كانت هناك رسوم محدَّدة وثابتة لعمل النبي. وقد أخذ الرجال هذه الرسوم المحدَّدة في أيديهم، وأتوا إلى بَلْعَام.
• “كلُّ من كان يذهب لاستشارة نبي كان يأخذ معه هدية، إذ كان الأنبياء يقتاتون من مثل هذه العطايا المجانية. لكن يشير النص هنا إلى أكثر من مجرد هدية. فربما أحضر هؤلاء معهم كل المواد اللازمة لعمل التعويذة. فقد كانت العقاقير، وغيرها من المواد المستخدمة في مثل هذه الحالات، باهظة الثمن في غالبية الأحيان. ويبدو أن بَلْعَام كان جشعًا للغاية، وأنه كان يحب أجرة الإثم، بل وربما كان يقتات عليها؛ انظر ٢ بطرس ٢: ١٥.” كلارك (Clarke)
٢. بِيتُوا هُنَا اللَّيْلَةَ فَأَرُدَّ عَلَيْكُمْ جَوَابًا: ربما دعا بَلْعَام الرجال إلى أن يبيتوا هنا اللَّيْلَةَ إما من باب حسن الضيافة المعتاد، وإما على أمل الحصول على حُلْوَانُ الْعِرَافَةِ، وذلك ليتمكَّن من سماع رأي الله بشأن عرضهم.
• من الخطأ تمامًا – سواء آنذاك أو في يومنا هذا – أن يكون أحدهم نبيًّا مقابل أجرٍ. قال بَلْعَام للرجال: “دعوني أسأل الله عن هذا الأمر،” مع أنه كان خطية واضحة، وكانت مشيئة الله واضحة فيه. فقد كان يهتم بحُلْوَانُ الْعِرَافَةِ أكثر بكثيرٍ من اهتمامه بمشيئة الله.
• انكشف ما في قلب بَلْعَام على الفور. فمع أنه كان رجلًا يتمتع بمواهب روحية بارزة، لم يكن قلبه صادقًا في تبعيته لله، بل كان ’يطلب مشيئة الله‘ بشأن أمرٍ من الواضح تمامًا أنه لم يكن بحسب مشيئته.
• ابتدأ بَلْعَام يسلك مسارًا خطرًا، حيث تساهل مع أمرٍ كان يَعلَم جيدًا أنه خطية، ثم خطط له، ووضع قلبه عليه، وبحث عن مبرِّر روحي لاتباع الخطية. وبسبب محبته للمال، حاول أن يتلاعب بالله كي يمنحه استثناءً خاصًّا.
ب) الآيات (٩-١٢): رد الله على بَلْعَام.
٩فَأَتَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ وَقَالَ: «مَنْ هُمْ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ الَّذِينَ عِنْدَكَ؟» ١٠فَقَالَ بَلْعَامُ للهِ: «بَالاَقُ بْنُ صِفُّورَ مَلِكُ مُوآبَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَقُولُ: ١١هُوَذَا الشَّعْبُ الْخَارِجُ مِنْ مِصْرَ قَدْ غَشَّى وَجْهَ الأَرْضِ. تَعَالَ الآنَ الْعَنْ لِي إِيَّاهُ، لَعَلِّي أَقْدِرُ أَنْ أُحَارِبَهُ وَأَطْرُدَهُ». ١٢فَقَالَ اللهُ لِبَلْعَامَ: «لاَ تَذْهَبْ مَعَهُمْ وَلاَ تَلْعَنِ الشَّعْبَ، لأَنَّهُ مُبَارَكٌ».
١. فَأَتَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ: لم يكن الله ملزَمًا بالرد على قلب جشع وأناني مثل قلب بَلْعَام. لكنَّ الله في رحمته ردَّ على بَلْعَام، محذِّرًا إياه من التعامل مع هؤلاء الرجال.
٢. مَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ الَّذِينَ عِنْدَكَ: كان الله يعرف إجابة هذا السؤال، لكنه طرحه لأن بَلْعَام لم يكن يعرف إجابته. كان بَلْعَام يَعلَم أن هؤلاء رجال أشرار، أتوا لغرض شرير، ألا وهو استئجار خدمات نبي، لكنه لم يتصرَّف بناء على هذه المعرفة.
٣. لَا تَذْهَبْ مَعَهُمْ وَلَا تَلْعَنِ الشَّعْبَ، لِأَنَّهُ مُبَارَكٌ: كانت كلمة الله لبَلْعَام واضحةً، حيث قال له: “يا بَلْعَام، لَا تَذْهَبْ، وَلَا تَلْعَن.”
• “وبالتالي، صار بَلْعَام محصورًا بين مطالب بَالاَق، وأوامر الله. وهذا الصراع هو الذي شكَّل أساس الأحداث التالية بأكملها.” وينهام (Wenham)
• لَا تَلْعَنِ الشَّعْبَ: “لم يلعن بَلْعَام الشعب بالكلام، لكنه فعل ذلك بطريقة أخرى، أي من خلال الإله بَعْلِ فَغُور.” ماكلارين (Maclaren)
ج) الآيات (١٣-١٥): ردُّ بَلْعَام على شيوخ موآب وشيوخ مديان.
١٣فَقَامَ بَلْعَامُ صَبَاحًا وَقَالَ لِرُؤَسَاءِ بَالاَقَ: «انْطَلِقُوا إِلَى أَرْضِكُمْ لأَنَّ الرَّبَّ أَبَى أَنْ يَسْمَحَ لِي بِالذَّهَابِ مَعَكُمْ». ١٤فَقَامَ رُؤَسَاءُ مُوآبَ وَأَتَوْا إِلَى بَالاَقَ وَقَالُوا: «أَبَى بَلْعَامُ أَنْ يَأْتِيَ مَعَنَا». ١٥فَعَادَ بَالاَقُ وَأَرْسَلَ أَيْضًا رُؤَسَاءَ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ أُولئِكَ.
١. انْطَلِقُوا إِلَى أَرْضِكُمْ: نطق بَلْعَام بالكلمات الصائبة، حيث طلب من زائريه، وهم شيوخ موآب وشيوخ مديان (سفر العدد ٢٢: ٧)، أن يعودوا أدراجهم بدونه.
٢. الرَّبَّ أَبَى أَنْ يَسْمَحَ لِي بِالذَّهَابِ مَعَكُمْ: مع أن بَلْعَام طلب من زائريه أن يغادروا، لكنه قال ذلك بأسلوب أوحى لهم بأنه يريد الذهاب معهم، لكن الله هو الذي أبى أن يسمح له بذلك. وبالتالي، كانت الرسالة التي وصلت إلى هؤلاء الشيوخ من بَلْعَام كالتالي: “انْطَلِقُوا إِلَى أَرْضِكُمْ. كنت أود حقًّا الذهاب معكم، لكن الله لم يسمح لي.”
• بدا الأمر إذن كما لو أن بَلْعَام يقول لهم: “لا يريدني الله أن أفعل هذا الأمر، لكن من الممكن إقناعي بغير ذلك.” كان من شأن هذه الرسالة أن تكون واضحة ومفهومة للملك بَالاَق.
٣. فَعَادَ بَالَاقُ وَأَرْسَلَ أَيْضًا رُؤَسَاءَ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ أُولَئِكَ: يبيِّن رد فعل بَالاَق أن بَلْعَام نجح في توصيل الرسالة التي مفادها: “رفض الله أن أذهب معكم، لكن ربما يمكنكم إقناعي بغير ذلك.” ولذلك، أرسل الملك بَالاَق رسلًا أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ أُولَئِكَ، ومعهم وعدٌ بمكافأة أكبر.
د ) الآيات (١٦-١٧): رسل بَالاَق يزيدون العرض المُقدَّم إلى بَلْعَام.
١٦فَأَتَوْا إِلَى بَلْعَامَ وَقَالُوا لَهُ: «هكَذَا قَالَ بَالاَقُ بْنُ صِفُّورَ: لاَ تَمْتَنِعْ مِنَ الإِتْيَانِ إِلَيَّ، ١٧لأَنِّي أُكْرِمُكَ إِكْرَامًا عَظِيمًا، وَكُلَّ مَا تَقُولُ لِي أَفْعَلُهُ. فَتَعَالَ الآنَ الْعَنْ لِي هذَا الشَّعْبَ».
١. لِأَنِّي أُكْرِمُكَ إِكْرَامًا عَظِيمًا: هذه المرة، لم يَعُد هؤلاء يحملون معهم حُلْوَانُ الْعِرَافَةِ المذكور في سفر العدد ٢٢: ٧ فحسب، بل قدَّموا له أيضًا وعدًا بثروات عظيمة.
٢. فَتَعَالَ الْآنَ الْعَنْ لِي هَذَا الشَّعْبَ: أَبَى بَلْعَام أن يضع حدًّا حاسمًا للتجربة حين تعرَّض لها في المرة الأولى. والآن عادت إليه التجربة بصورة أشد من ذي قبل.
هـ) الآيات (١٨-١٩): بَلْعَام يفكِّر في عرض رُسل بَالَاق.
١٨فَأَجَابَ بَلْعَامُ وَقَالَ لِعَبِيدِ بَالاَقَ: «وَلَوْ أَعْطَانِي بَالاَقُ مِلْءَ بَيْتِهِ فِضَّةً وَذَهَبًا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتَجَاوَزَ قَوْلَ الرَّبِّ إِلهِي لأَعْمَلَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. ١٩فَالآنَ امْكُثُوا هُنَا أَنْتُمْ أَيْضًا هذِهِ اللَّيْلَةَ لأَعْلَمَ مَاذَا يَعُودُ الرَّبُّ يُكَلِّمُنِي بِهِ».
١. وَلَوْ أَعْطَانِي بَالَاقُ مِلْءَ بَيْتِهِ فِضَّةً وَذَهَبًا: نستطيع أن نتخيَّل هنا نبرة صوت بَلْعَام وتعبيرات وجهه وهو ينطق بهذه الكلمات. ففي توقٍ منه إلى المزيد، وجد وسيلةً يطلب بها عرضًا أكبر من هؤلاء الرسل الأغنياء الذين أرسلهم بَالَاق.
٢. لَا أَقْدِرُ أَنْ أَتَجَاوَزَ قَوْلَ الرَّبِّ إِلَهِي لِأَعْمَلَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا: ورغم ذلك، كان بَلْعَام يَعلَم جيدًا أن النبوة الحقيقية لا تأتي بمبادرة شخصية منه، بل لا بد أن تأتي من عند الرب. فمع أنه أراد أن يفعل ما يطلبونه، لم يكن هذا باستطاعته.
• “تردِّد كلمات بَلْعَام صدى حقيقة أنه حظي بالفعل بلقاء مع إله إسرائيل، فيه قام الإله الحقيقي بمواجهة هذا العراف الوثني، وإعلان ذاته له. وإن يهوه إله إسرائيل سيستخدم أيَّ وسيلة تحلو له ليعلن عن ذاته للبشر.” كول (Cole)
٣. امْكُثُوا هُنَا… هَذِهِ اللَّيْلَةَ: كان هذا دليلًا على أن بَلْعَام كان لا يزال يفكِّر في هذه الخطية. فلم يكن هناك أيُّ داع أن يسأل الله مرة أخرى، إذ كانت مشيئة الله واضحةً سواء من خلال صوت ضميره (الذي كان يؤرِّقه من البداية)، أو من خلال إعلان الله الواضح (أي حديثه إليه في سفر العدد ٢٢: ١٢).
٤. لِأَعْلَمَ مَاذَا يَعُودُ الرَّبُّ يُكَلِّمُنِي بِهِ: تبدو هذه الكلمات روحيةً، لكنها لم تكن كذلك على الإطلاق. فقد يبدو من قبيل التقوى أن يقول: “دعوني أسأل الرب بشأن هذا الأمر.” لكن الله كان قد قال كلمته بوضوح. فقد كان بَلْعَام يشبه طفلًا يطلب شيئًا من والده مرة أخرى، مع أنه سمع ردَّه من قبل، وذلك على أمل أن يتغيَّر رأي والده.
و ) الآيات (٢٠-٢١): الله يسمح لبَلْعَام بالذهاب مع رسل بَالَاق.
٢٠فَأَتَى اللهُ إِلَى بَلْعَامَ لَيْلًا وَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَتَى الرِّجَالُ لِيَدْعُوكَ فَقُمِ اذْهَبْ مَعَهُمْ، إِنَّمَا تَعْمَلُ الأَمْرَ الَّذِي أُكَلِّمُكَ بِهِ فَقَطْ». ٢١فَقَامَ بَلْعَامُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى أَتَانِهِ وَانْطَلَقَ مَعَ رُؤَسَاءِ مُوآبَ.
١. قُمِ اذْهَبْ مَعَهُمْ: لم يغيِّر الله رأيه. فإذا ذهب بَلْعَام مع رسل بَالَاق الآن، لن يكون في مشيئة الله.
• نستطيع أن نقول إن الله لم يغيِّر مشيئته. فقد عبَّر عن مشيئته بكل وضوح، لكن بَلْعَام رفضها رفضًا قاطعًا. والآن، كان الله يجهِّز بَلْعَام للدينونة، كي يمتحن شر قلبه، ويكشفه.
• نحن نَعلَم أن الله في بعض الأحيان يقول “لا” لصلوات شعبه لأنه يحبهم. ولكنه في بعض الأحيان، يقول “نعم” لرغبات الأشرار كي يدينهم.
• “نُهِي بَلْعَام عن الذهاب في البداية، ثم أُمِر بالذهاب بعد ذلك. والتفسير الوحيد المرضي لذلك هو أنه في حين حاول بَلْعَام إظهار طاعة ظاهرية لمشيئة الله العليا هذه، كان قلبه يشتهي الثروات التي عرضها عليه بَالَاق.” مورجان (Morgan)
• لم تكن كلمات الله لبَلْعَام – قُمِ اذْهَبْ مَعَهُمْ – دليلًا على تأييد الله لطمع بَلْعَام، تمامًا مثلما لم تكن كلمات يسوع ليهوذا في يوحنا ١٣: ٢٧ (مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ) دليلًا على تأييده لتصرفات يهوذا.
٢. فَقَامَ بَلْعَامُ صَبَاحًا: لا شك أنه استيقظ عند طلوع الفجر، ولم يستطع الانتظار ليرتكب الخطأ الذي اشتهاه قلبه. فقد كان سعيدًا جدًا لأن الله ’باركه‘ بالسماح له بالذهاب.
• ربما حزن بَلْعَام وأصيب بالإحباط عندما قال له الله “لا” سواء من خلال ضميره أو بكلمات واضحة. لكن عندما قَامَ بَلْعَامُ صَبَاحًا، كان سعيدًا ومتحمسًا، حيث ظن أنه نجح في إقناع الله بأن يقول “نعم،” ولم يكن يدري ما الذي كان الله يفعله.
ثالثًا. بَلْعَام، والأَتَانَ، ومَلاَكُ الرَّبّ
أ ) الآيات (٢٢-٢٧): رسالة الله إلى بَلْعَام على فم مَلاَكُ الرَّبّ.
٢٢فَحَمِيَ غَضَبُ اللهِ لأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ، وَوَقَفَ مَلاَكُ الرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ لِيُقَاوِمَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى أَتَانِهِ وَغُلاَمَاهُ مَعَهُ. ٢٣فَأَبْصَرَتِ الأَتَانُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ فِي يَدِهِ، فَمَالَتِ الأَتَانُ عَنِ الطَّرِيقِ وَمَشَتْ فِي الْحَقْلِ. فَضَرَبَ بَلْعَامُ الأَتَانَ لِيَرُدَّهَا إِلَى الطَّرِيقِ. ٢٤ثُمَّ وَقَفَ مَلاَكُ الرَّبِّ فِي خَنْدَق لِلْكُرُومِ، لَهُ حَائِطٌ مِنْ هُنَا وَحَائِطٌ مِنْ هُنَاكَ. ٢٥فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الأَتَانُ مَلاَكَ الرَّبِّ زَحَمَتِ الْحَائِطَ، وَضَغَطَتْ رِجْلَ بَلْعَامَ بِالْحَائِطِ، فَضَرَبَهَا أَيْضًا. ٢٦ثُمَّ اجْتَازَ مَلاَكُ الرَّبِّ أَيْضًا وَوَقَفَ فِي مَكَانٍ ضَيِّق حَيْثُ لَيْسَ سَبِيلٌ لِلنُّكُوبِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا. ٢٧فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الأَتَانُ مَلاَكَ الرَّبِّ، رَبَضَتْ تَحْتَ بَلْعَامَ. فَحَمِيَ غَضَبُ بَلْعَامَ وَضَرَبَ الأَتَانَ بِالْقَضِيبِ.
١. فَحَمِيَ غَضَبُ اللهِ لِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ: يرى البعض أن هذا لم يكن إنصافًا، لأن الله قال لبَلْعَام أن يذهب (الآية ٢٠)، ثم غضب عليه بعد ذلك لأنه ذهب. لكن بَلْعَام ذهب فقط لأنه كان قد رفض أولًا صوت الله، سواء من خلال ضميره أو بالأمر الصريح، وبالتالي كان لا بد أن يغضب الله.
• “إن الله لا يجعل الطريق الخاطئ ممهَّدًا لشخص انتزع الإذن بالمسير فيه بالقوة.” واتسون (Watson)
٢. وَوَقَفَ مَلَاكُ الرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ لِيُقَاوِمَهُ: قطع مَلَاكُ الرَّبِّ الطريق على بَلْعَام المعاند، وهو راكب على أتانه، ليوجِّه له إنذارًا إضافيًّا.
• لكن في تلك اللحظة، لم يرَ بَلْعَام مَلَاكُ الرَّبِّ. “لم يره بَلْعَام، لأن غبار الطمع والشهوة، أو بريق الثراء الموعود، قد أعمى عينيه.” تراب (Trapp)
٣. فَأَبْصَرَتِ الْأَتَانُ مَلَاكَ الرَّبِّ: كانت بصيرة الْأَتَان أقوى من بصيرة هذا النبي. لم تكن الْأَتَان تتمتع بأية مواهب روحية، لكنها على الأقل كانت تعترف بخالقها. في المقابل، كان هذا النبي يتمتع مواهب روحية رائعة، لكن كان قلبه متمردًا وسلوكه عاصيًا.
• “عندما كان الله يُعطي رؤى، لم يكن يراها سوى المهتمون اهتمامًا خاصًّا بها، في حين لم يبصر الآخرون الموجودون برفقتهم شيئًا؛ انظر دانيال ١٠: ٧؛ أعمال الرسل ٩: ٧.” كلارك (Clarke)
• “نرى هنا بَلْعَام النبي رائيًا أعمى، يرى أقل مما يراه هذا الحيوان الأعجم.” ألن (Allen)
• “حتى هذه اللحظة، وُصِف بَلْعَام بأنه رجلٌ يتمتع بمكانة روحية عظيمة، ويستطيع أن يلتقي بالله وقتما يشاء، ولكلماته تأثير هائل على مصائر الأمم. لكن هنا، انكشف عماه الروحي وعجزه، إذ لم يستطع أن يرى ملاك الرب الواقف في طريقه، في حين استطاعت الأتان رؤيته.” وينهام (Wenham)
٤. فَمَالَتِ الْأَتَانُ عَنِ الطَّرِيقِ: تجاوبت الأتان مع ملاك الرب، فمالت إلى طريقٍ، ثم إلى طريقٍ آخر، حتى ربضت في النهاية كي تتجنَّب الدينونة. وَضَغَطَتْ انعطافات الأتان رِجْلَ بَلْعَامَ بِالْحَائِطِ، وعندما تألَّم هذا النبي العاصي، ضَرَبَ الْأَتَانَ عدة مرات، فتألمت هي أيضًا معه.
• تُعَد الأتان صورة مثالية لخادم الله البسيط وغير المبهر، لكن الطائع في الوقت نفسه. فقد كانت الأتان حساسة لتوجيه الله، وكانت بمثابة شوكة في حلق العصاة؛ وكانت ضحية لغضب الأشرار.
٥. فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الْأَتَانُ مَلَاكَ الرَّبِّ، رَبَضَتْ تَحْتَ بَلْعَامَ: ربما كان من شأن الظروف الصعبة والاستثنائية لهذه الرحلة أن توحي لبَلْعَام بأن رحلته هذه لم تكن من الله. لكن على الأرجح، فسَّر بَلْعَام الأمر برمته على أنه هجومٌ من خصم روحي، واستغل الظروف ليقوِّي أمله في أن الله يريده أن يعمل كنبي مأجور.
• وهذا يبيِّن الصعوبة الشديدة للحُكم على مشيئة الله من خلال الظروف. فمعظم الظروف يمكن تفسيرها بطريقتين، إن لم يكن أكثر.
• تأمَّل ف. ب. ماير (F. B. Meyer) في الطرق التي يمكن لله، في نعمته ورحمته، أن يقطع بها الطريق علينا، قائلًا: “ربما كنتَ عازمًا على السير في طريقك الخاص، لتنال أجرة الإثم، وإذ فجأة تعطَّلتَ عن المسير. فإن خطوة أخرى كانت ستؤدي بك إلى حافة الهاوية، لكن أوقفك ذلك الشخص فجأة، ومنعك من المضي قدمًا. فلا تلعن العَقَبة التي اعترضت طريقك، لأن وراءها ملاك الله المتحنِّن، الذي يحاول أن يثنيك عن بلوغ غايتك الشريرة.”
ب) الآيات (٢٨-٣٠): رسالة الله إلى بَلْعَام على فم الأتان.
٢٨فَفَتَحَ الرَّبُّ فَمَ الأَتَانِ، فَقَالَتْ لِبَلْعَامَ: «مَاذَا صَنَعْتُ بِكَ حَتَّى ضَرَبْتَنِي الآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ؟». ٢٩فَقَالَ بَلْعَامُ لِلأَتَانِ: «لأَنَّكِ ازْدَرَيْتِ بِي. لَوْ كَانَ فِي يَدِي سَيْفٌ لَكُنْتُ الآنَ قَدْ قَتَلْتُكِ». ٣٠فَقَالَتِ الأَتَانُ لِبَلْعَامَ: «أَلَسْتُ أَنَا أَتَانَكَ الَّتِي رَكِبْتَ عَلَيْهَا مُنْذُ وُجُودِكَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ؟ هَلْ تَعَوَّدْتُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ هكَذَا؟» فَقَالَ: «لاَ».
١. فَفَتَحَ الرَّبُّ فَمَ الْأَتَانِ: منح الله الأتان قدرة معجزية على التكلم، فتكلمت بالفعل، ووبَّخت النبي على قسوته (مَاذَا صَنَعْتُ بِكَ حَتَّى ضَرَبْتَنِي الْآنَ ثَلَاثَ دَفَعَاتٍ؟).
• لسنا نَعلَم الآلية الفعلية التي أعطى بها الله الأتان القدرة والصوت لتتكلَّم، لكننا نعلم جيدًا أن القيام بذلك كان يقع بالتأكيد ضمن نطاق قدرة الخالق.
• “وأين العجب في كلِّ ذلك؟ فلو أن الأتان هي التي فتحت فمها بنفسها ووبخت النبي الطائش، لكان يحق لنا أن نصاب بالذهول، لكن عندما يفتح الله الفم، تستطيع الأتان أن تتكلم بطلاقة مثل الإنسان تمامًا.” كلارك (Clarke)
٢. فَقَالَ بَلْعَامُ لِلْأَتَانِ: كان بَلْعَام غاضبًا وغير واعٍ تمامًا، لدرجة أنه أجاب الأتان دون تردُّد. فقد بدا أنه لم ينبهر أو يتعجَّب من إجراء الأتان حديثًا عاقلًا معه.
٣. لَكُنْتُ الْآنَ قَدْ قَتَلْتُكِ: ما أقسى هذه الكلمات التي خرجت من فم هذا النبي الشرير. فمن قبل أيام بَلْعَام، وبعدها أيضًا، لطالما هدَّد الأشرار بقتل رُسل الله لقولهم الحق، ولمحاولتهم اعتراض طريق شرِّ الأشرار.
• لَوْ كَانَ فِي يَدِي سَيْفٌ: تذمَّر بَلْعَام لأنه لم يكن في يده سيف. كان هناك بالفعل سيف قريب جدًا منه، لكنه لم يستطع رؤيته، أو رؤية ملاك الرب الذي كان ممسكًا بهذا السيف.
٤. فَقَالَ: «لَا»: أقرَّ بَلْعَام بأن الأتان أفحمته في هذا الحديث. فقد اضطر أن يتضع أمام الأتان، معترفًا بأنها لم تتصرف بهذه الطريقة من قبل، ولذلك ربما كان هناك سبب وجيه دفعها إلى التصرُّف بهذه الطريقة.
ج) الآيات (٣١-٣٣): رسالة الله إلى بَلْعَام من خلال إبصاره ملاك الرب.
٣١ثُمَّ كَشَفَ الرَّبُّ عَنْ عَيْنَيْ بَلْعَامَ، فَأَبْصَرَ مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ فِي يَدِهِ، فَخَرَّ سَاجِدًا عَلَى وَجْهِهِ. ٣٢فَقَالَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ: «لِمَاذَا ضَرَبْتَ أَتَانَكَ الآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ؟ هأَنَذَا قَدْ خَرَجْتُ لِلْمُقَاوَمَةِ لأَنَّ الطَّرِيقَ وَرْطَةٌ أَمَامِي، ٣٣فَأَبْصَرَتْنِي الأَتَانُ وَمَالَتْ مِنْ قُدَّامِي الآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ. وَلَوْ لَمْ تَمِلْ مِنْ قُدَّامِي لَكُنْتُ الآنَ قَدْ قَتَلْتُكَ وَاسْتَبْقَيْتُهَا».
١. مَلَاكَ الرَّبِّ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ فِي يَدِهِ: إن وضعية الملاك وسيفه أظهرا مشيئة الله بوضوح. فبهذا التصرف من مَلَاكَ الرَّبِّ، كان الله يقول لبَلْعَام بوضوح: “لا تذهب إلى بَالاَق، بل عُد أدراجك الآن.” لكن بَلْعَام لم يصغِ لهذا الكلام.
٢. لِمَاذَا ضَرَبْتَ أَتَانَكَ الْآنَ ثَلَاثَ دَفَعَاتٍ: لاحظ الله معاملة بَلْعَام القاسية لدابته، وطالب بمعرفة السبب. فإن الله يهتم بكيفية تعامُلنا مع الحيوانات.
• “الصِّدِّيقُ يُرَاعِي نَفْسَ بَهِيمَتِهِ، أَمَّا مَرَاحِمُ الْأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ” (أمثال ١٢: ١٠)
٣. الطَّرِيقَ وَرْطَةٌ أَمَامِي [“أَنَّ طَرِيقَكَ مُلْتَوِيَةٌ فِي نَظَرِي،” بحسب ترجمة كتاب الحياة]: وبَّخ ملاك الرب بَلْعَام على معاملته القاسية لأتانه، لكنه وبَّخه بصفة خاصة لأنه قد انحَرَفَ عن الطريق. وكلمة وَرْطَةٌ تشير إلى ’السير في الطريق الخطأ في اندفاع وتهوُّر.‘ وكانت هذه تحديدًا هي مشكلة بَلْعَام.
• بما أن هذا كان مَلَاكَ الرَّبِّ، وبما أنه أخبر بَلْعَام بأن خطيته كانت موجَّهة إليه بصفة شخصيَّة (الطَّرِيقَ وَرْطَةٌ أَمَامِي)، يدل ذلك إذن على أن هذا كان ظهورًا في العهد القديم لله الابن، أي يسوع، الأقنوم الثاني في الثالوث، قبل تجسده في صورة طفل في بيت لحم. فقد كان المسيح يظهر أحيانًا بصورة مؤقتة في هيئة إنسان أو ملاك، من أجل تتميم قصد إلهي محدَّد.
٤. لَكُنْتُ الْآنَ قَدْ قَتَلْتُكَ وَاسْتَبْقَيْتُهَا: كان ملاك الرب يتمتع بالقدرة والسلطان لإيقاع دينونة الله على بَلْعَام، وكاد يفعل ذلك بالفعل. ومن ناحية، كانت الأتان هي التي أنقذت النبي من هذه الدينونة.
د ) الآيات (٣٤-٣٥): توبة بَلْعَام السطحية ومساره الشرير.
٣٤فَقَالَ بَلْعَامُ لِمَلاَكِ الرَّبِّ: «أَخْطَأْتُ. إِنِّي لَمْ أَعْلَمْ أَنَّكَ وَاقِفٌ تِلْقَائِي فِي الطَّرِيقِ. وَالآنَ إِنْ قَبُحَ فِي عَيْنَيْكَ فَإِنِّي أَرْجعُ». ٣٥فَقَالَ مَلاَكُ الرَّبِّ لِبَلْعَامَ: «اذْهَبْ مَعَ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا تَتَكَلَّمُ بِالْكَلاَمِ الَّذِي أُكَلِّمُكَ بِهِ فَقَطْ». فَانْطَلَقَ بَلْعَامُ مَعَ رُؤَسَاءِ بَالاَقَ.
١. أَخْطَأْتُ: يبدو هذا تصرفًا متضعًا بما يكفي، لكن كان النطق به أمرًا بديهيًّا وطبيعيًّا في ضوء وقوف ملاك الرب أمام بَلْعَام وسيفه في يده. فإن التهديد بالدينونة الفورية يدفع معظم الناس إلى الاتضاع.
• علَّق واتسون (Watson) على اعتراف بَلْعَام بخطيته قائلًا: “كان هذا استسلامًا وإذعانًا متجهِّمًا صدر عن شخص مغامر أُحبِطت محاولاته، بعدما أُجبِر على أن يدرك ويستوعب حدود قوته.”
٢. إِنْ قَبُحَ فِي عَيْنَيْكَ فَإِنِّي أَرْجِعُ: بدا بَلْعَام غير حاسم بشأن ما إذا كان ما يفعله يُغضِب الله أم لا. أعلن الله مشيئته لبَلْعَام عدة مرات بوضوح؛ ومع ذلك، ظل بَلْعَام يحاول الوصول إلى الإجابة التي يريد أن يسمعها من الله. وبهذا، بيَّن بَلْعَام بكلِّ وضوح أنه لم يكن يريد ما سبق الله أن أعلنه بالفعل بكلِّ وضوح.
• في ٢ بطرس ٢: ١٥-١٦ وصف بطرس تصرف بَلْعَام، قائلًا إنه ضلَّ، وأحب أجرة الإثم، وكان مملوءًا إثمًا (تعديًا)، ولم يكن في كامل قواه العقلية (أي كان أحمقًا).
• كان أصل خطية بَلْعَام هو محبة المال، التي يسميها يهوذا ١: ١١ “ضَلَالَةِ بَلْعَامَ لِأَجْلِ أُجْرَةٍ.” فقد كان بَلْعَام على استعداد أن يعصى الله، ويلعن شعب الله، إذا كان ذلك مقابل الحصول على المال.
٣. اذْهَبْ مَعَ الرِّجَالِ: أمام قساوة قلب بَلْعَام، أسلمه الله لشهوته الشريرة. لم يغيِّر الله رأيه، لكن بسبب قساوة قلب بَلْعَام، سمح له الله بأن يواصل المسير في طريق الدينونة.
• تبيِّن رومية ١: ٢٤، ٢٦، ٢٨ كيف تتجلَّى دينونة الله أحيانًا في تسليم الناس إلى الخطية التي يشتهونها. إن الخطية مدمرة، وبالتالي، فحين يسلم الله أحدهم إلى خطيته، تكون هذه وسيلةً تؤدِّي بهم في النهاية إلى تدمير أنفسهم. وكان هذا هو بالفعل مصير بَلْعَام في نهاية المطاف.
هـ) الآيات (٣٦-٤١): بَلْعَام يلتقي ببَالاَق ملك موآب.
٣٦فَلَمَّا سَمِعَ بَالاَقُ أَنَّ بَلْعَامَ جَاءَ، خَرَجَ لاسْتِقْبَالِهِ إِلَى مَدِينَةِ مُوآبَ الَّتِي عَلَى تَخْمِ أَرْنُونَ الَّذِي فِي أَقْصَى التُّخُومِ. ٣٧فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: «أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لأَدْعُوَكَ؟ لِمَاذَا لَمْ تَأْتِ إِلَيَّ؟ أَحَقًّا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُكْرِمَكَ؟» ٣٨فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: «هأَنَذَا قَدْ جِئْتُ إِلَيْكَ. أَلَعَلِّي الآنَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ اَلْكَلاَمُ الَّذِي يَضَعُهُ اللهُ فِي فَمِي بِهِ أَتَكَلَّمُ». ٣٩فَانْطَلَقَ بَلْعَامُ مَعَ بَالاَقَ وَأَتَيَا إِلَى قَرْيَةِ حَصُوتَ. ٤٠فَذَبَحَ بَالاَقُ بَقَرًا وَغَنَمًا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَلْعَامَ وَإِلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ. ٤١وَفِي الصَّبَاحِ أَخَذَ بَالاَقُ بَلْعَامَ وَأَصْعَدَهُ إِلَى مُرْتَفَعَاتِ بَعْل، فَرَأَى مِنْ هُنَاكَ أَقْصَى الشَّعْبِ.
١. خَرَجَ لِاسْتِقْبَالِهِ: يبيِّن ذلك مدى سعادة بَالاَق بزيارة بَلْعَام، وذلك حتى يمكن لذلك النبي المزعوم أن يلعن شعب إسرائيل. يأمر المُلوك عادة بأن يأتي الناس إليهم؛ لكن هذه المرة، تكبَّد بَالاَق عناء اسْتِقْبَالِ بَلْعَام.
• خَرَجَ لِاسْتِقْبَالِهِ: “يتبرهن سرور بَالاَق بوصول بَلْعَام من خلال ذهابه لاستقباله عند تخوم موآب.” وينهام (Wenham)
٢. أَحَقًّا لَا أَقْدِرُ أَنْ أُكْرِمَكَ: كان الإكرام، من وجهة نظر بَالاَق، يتمثَّل في المال. فمن بداية كلام بَالاَق مع بَلْعَام، أخبر بَلْعَام بما يريد أن يسمعه، وهو أنه سيتقاضى الكثير من المال في مقابل أن يلعن شعب إسرائيل.
٣. اَلْكَلَامُ الَّذِي يَضَعُهُ اللهُ فِي فَمِي بِهِ أَتَكَلَّمُ: مرة أخرى، نبَّه بَلْعَام بَالاَق إلى أن القدرة على لعن شعب إسرائيل لم تكن في يده. ربما كان بَلْعَام يؤمن بذلك ويدركه بالفعل، أو ربما كانت هذه هي طريقته ليحمي نفسه في حالة فشله، لأنه سيقول حينئذ إن اللوم يقع على الله، وليس عليه.
٤. أَخَذَ بَالَاقُ بَلْعَامَ وَأَصْعَدَهُ إِلَى مُرْتَفَعَاتِ بَعْلٍ: بعد تقديم بعض الذبائح (بَقَرًا وَغَنَمًا)، طلب بَالَاق من بَلْعَام أن يفعل ما استأجره لأجله، وهو أن يلعن شعب إسرائيل، ويسلبهم قوتهم الروحية، حتى يتسنَّى له أن يهزمهم في المعركة.
• مُرْتَفَعَاتِ بَعْلٍ: “التعبير Bamoth-baal، وترجمته الحرفية ’مُرْتَفَعَاتِ بَعْلٍ‘ مطابق على الأرجح لمدينة بَامُوت المشار إليها في سفر العدد ٢١: ١٩-٢٠، والتي كانت مجاورةً لحشبون وديبون، حسب المذكور في يشوع ١٣: ١٧ (راجع سفر العدد ٢١: ٢٥-٢٦).” وينهام (Wenham)
• ” كان بَالَاق يَأمَل أن يؤدِّي منظر هذا الجيش الكبير، المتأهب لاقتحام أرضه، إلى إثارة حماسة بَلْعَام وتعزيز سحره.” بوله (Poole)