سفر العدد – الإصحاح ٢٤
نبوات بَلْعَام (تابع)
أولًا. النبوة الثالثة: كلمة نبوية على فم بَلْعَام
أ ) الآيات (٢٧:٢٣-٢:٢٤): التجهيز للنبوة.
٢٧فَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: «هَلُمَّ آخُذْكَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، عَسَى أَنْ يَصْلُحَ فِي عَيْنَيِ اللهِ أَنْ تَلْعَنَهُ لِي مِنْ هُنَاكَ». ٢٨فَأَخَذَ بَالاَقُ بَلْعَامَ إِلَى رَأْسِ فَغُورَ الْمُشْرِفِ عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ. ٢٩فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: «ابْنِ لِي ههُنَا سَبْعَةَ مَذَابحَ، وَهَيِّئْ لِي ههُنَا سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ». ٣٠فَفَعَلَ بَالاَقُ كَمَا قَالَ بَلْعَامُ، وَأَصْعَدَ ثَوْرًا وَكَبْشًا عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ.
١فَلَمَّا رَأَى بَلْعَامُ أَنَّهُ يَحْسُنُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ أَنْ يُبَارِكَ إِسْرَائِيلَ، لَمْ يَنْطَلِقْ كَالْمَرَّةِ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ لِيُوافِيَ فَأْلًا، بَلْ جَعَلَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ وَجْهَهُ. ٢وَرَفَعَ بَلْعَامُ عَيْنَيْهِ وَرَأَى إِسْرَائِيلَ حَالاُ حَسَبَ أَسْبَاطِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ اللهِ.
١. هَلُمَّ آخُذْكَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، عَسَى أَنْ يَصْلُحَ فِي عَيْنَيِ اللهِ أَنْ تَلْعَنَهُ لِي مِنْ هُنَاكَ: حتى بعد محاولتين فاشلتين لدفع بَلْعَام إلى أن يلعن إسرائيل، ظل بَالاَق على استعداد لتكرار المحاولة، وهو ما يبيِّن كلًّا من يأسه، وظنه بأن حصوله على ما يريد يستلزم مجرد إقناع إلهٍ مترددٍ. فقد ظن بَالاَق أن مَكَانًا آخَرَ ربما يساعده في الحصول على النتائج المرجوَّة.
• إِلَى رَأْسِ فَغُورَ: “هذا الموضع هو الذي كان الإله بعل، وهو الإله السامي المعروف في الجهة الشمالية الغربية، يُعبَد، ربما بسبب اعتقادٍ بظهور البعل في هذا الموضع في عصور أقدم (سفر العدد ٢٥: ٣؛ تثنية ٤: ٣؛ مزمور ١٠٦: ٢٨؛ هوشع ٩: ١٠).” كول (Cole)
٢. ابْنِ لِي هَهُنَا سَبْعَةَ مَذَابِحَ، وَهَيِّئْ لِي هَهُنَا سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ: بناءً على طلب بَلْعَام، قدَّم بالاق سبعة ثيران وسبعة كباش آخرين. وبحلول ذلك الوقت، كان بَالاَق قد قدم ٢١ ثورًا و٢١ كبشًا، بالإضافة إلى أجر بَلْعَام. وفي هذه المرة الثالثة، اختار كلاهما مكانًا آخر للتنبؤ مرة أخرى.
٣. فَلَمَّا رَأَى بَلْعَامُ أَنَّهُ يَحْسُنُ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ أَنْ يُبَارِكَ إِسْرَائِيلَ: إذا لم يكن بَالاَق قد فهم بعد أن الله مع شعب إسرائيل وليس عليهم، يبدو أن بَلْعَام، عند هذه المرحلة، كان قد صار على قناعة بهذه الحقيقة.
٤. لَمْ يَنْطَلِقْ كَالْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لِيُوافِيَ فَأْلًا: بما أن بَلْعَام صار أخيرًا على قناعة بأن الله يريد أن يُبَارِكَ إِسْرَائِيلَ، لا أن يلعنهم، لم يُوافِ فَأْلًا في النبوة التالية. ربما يعني ذلك أنه في النبوتين الأولى والثانية، اتبع بَلْعَام العادات التقليدية لتمييز مشيئة الآلهة، عن طريق فحص أحشاء الحيوانات المقدَّمة ذبائح. لكنه في هذه المرة، توقف عن اتباع الأساليب الوثنية الكاذبة والمصطنعة، واكتفى بسماع صوت الرب.
• ربما استخدم بَلْعَام تلك الأساليب الوثنية في النبوتين الأولى والثانية، والله، في رحمته الشديدة، ورغبته في التواصل مع البشر الخطاة والمؤمنين بالخرافات، تكلَّم إليه ومن خلاله. وهذا يعني أن الله تكلَّم على الرغم من هذه الأساليب، وليس بفضلها.
• هذه النبوة الثالثة، والنبوات التي تليها، صدرت عن رجل تلقَّى إعلانًا حقيقيًّا من الله. “فكما اجتاز شاول اختبارًا في الطريق إلى دمشق، هكذا اجتاز بَلْعَام اختبارًا في الطريق إلى موآب.” ألن (Allen)
ب) الآيات (٣-٩): نبوة بَلْعَام الثالثة: شعب إسرائيل مبارَكون بالجمال والقوة.
٣فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «وَحْيُ بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ. وَحْيُ الرَّجُلِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ. ٤وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ. الَّذِي يَرَى رُؤْيَا الْقَدِيرِ، مَطْرُوحًا وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَيْنَيْنِ: ٥مَا أَحْسَنَ خِيَامَكَ يَا يَعْقُوبُ، مَسَاكِنَكَ يَا إِسْرَائِيلُ! ٦كَأَوْدِيَةٍ مُمْتَدَّةٍ. كَجَنَّاتٍ عَلَى نَهْرٍ، كَشَجَرَاتِ عُودٍ غَرَسَهَا الرَّبُّ. كَأَرْزَاتٍ عَلَى مِيَاهٍ. ٧يَجْرِي مَاءٌ مِنْ دِلاَئِهِ، وَيَكُونُ زَرْعُهُ عَلَى مِيَاهٍ غَزِيرَةٍ، وَيَتَسَامَى مَلِكُهُ عَلَى أَجَاجَ وَتَرْتَفِعُ مَمْلَكَتُهُ. ٨اَللهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ. لَهُ مِثْلُ سُرْعَةِ الرِّئْمِ. يَأْكُلُ أُمَمًا، مُضَايِقِيهِ، وَيَقْضِمُ عِظَامَهُمْ وَيُحَطِّمُ سِهَامَهُ. ٩جَثَمَ كَأَسَدٍ. رَبَضَ كَلَبْوَةٍ. مَنْ يُقِيمُهُ؟ مُبَارِكُكَ مُبَارَكٌ، وَلاَعِنُكَ مَلْعُونٌ».
١. وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ: كانت هذه النبوة مختلفة. فلم يتلقَّ بَلْعَام هذه الكلمات من خلال الخرافات والتعويذات الوثنية، لكنه تكلَّم الآن بصفته الرَّجُلِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ، الذي يَرَى رُؤْيَا الْقَدِيرِ.
• الرَّجُلِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ: “في البداية، كانت عينا بَلْعَام مغلقتين بشدة، لدرجة أنه عجز عن رؤية الملاك الذي اعترض طريقه، إلا بعدما فتح الله عينيه. كذلك، عجز بَلْعَام عن رؤية مقاصد الله العظيمة من نحو شعب إسرائيل، إلا عندما انفتحت عينا ذهنه بقوة روح الله.” كلارك (Clarke)
• “يفسِّر العديد من الدارسين والعلماء كلمات بَلْعَام بأنها دلالة على كونه دخل في نوعٍ من الغفوة، أو في حالة من النشوة الروحية عندما حل عليه روح الله، كما حدث مع شاول في ١صموئيل ١٠: ٦-١٣. إلا أن الطبيعة المحدَّدة لهذه الحالة تظل مبهَمة.” كول (Cole)
٢. مَا أَحْسَنَ خِيَامَكَ يَا يَعْقُوبُ: تتحدث هذه النبوة الرائعة عن بركة الوفرة والغنى، والقوة، والسيادة على الأمم المجاورة، التي سيعطيها الله لإسرائيل. فببركة الله، سيتمتع شعب إسرائيل بوفرة في المياه، تمتد إلى كل أنحاء الأرض، صانعةً ثمرًا (وَيَكُونُ زَرْعُهُ عَلَى مِيَاهٍ غَزِيرَةٍ). وببركة الله، سيتمتع شعب إسرائيل بقوة الرِّئْمِ، وبسموِّ الأَسَدٍ.
• “شبَّه بَلْعَام سكنى شعب إسرائيل المستقبلية في أرض كنعان بالأشجار القوية التي تنمو على جداول المياه الواهبة حياة، كَأَوْدِيَةٍ مُمْتَدَّةٍ.” وينهام (Wenham)
• وَيَكُونُ زَرْعُهُ عَلَى مِيَاهٍ غَزِيرَةٍ: “ربما كانت هذه استعارة أنيقة ومحتشمة تشير إلى إنجاب نسل كثير.” كلارك (Clarke)
٣. وَيَتَسَامَى مَلِكُهُ عَلَى أَجَاجَ: كان أَجَاجَ إما لقبًا مشتركًا بين ملوك عماليق، وإما كان هذا تنبؤًا بأمرٍ كان سيحدث بعد ذلك بمئات السنين (١صموئيل ١٥: ٣٢-٣٣).
• “يعتقد المفسرون من اليهود، وغيرهم من المفسرين الآخرين، أن أَجَاجَ ربما هو اللقب المشترك بين ملوك عماليق، مثل اسم أبيمالك لدى الفلسطينيين، واسم فرعون لدى المصريين، واسم قيصر لدى الرومان.” بوله (Poole)
٤. مُبَارِكُكَ مُبَارَكٌ، وَلَاعِنُكَ مَلْعُونٌ: تشير هذه النبوة على الأغلب إلى بركة الله الدائمة على إسرائيل، كما أنها بمثابة توبيخ مباشر لبَالاَق على محاولته أن يلعن إسرائيل (وَلَاعِنُكَ مَلْعُونٌ). وهذا تكرارٌ متعمَّد لمنطوق بركة الله لإبراهيم ونسله في تكوين ١٢: ١-٣.
ج) الآيات (١٠-١٣): خيبة أمل بالاق من بَلْعَام.
١٠فَاشْتَعَلَ غَضَبُ بَالاَقَ عَلَى بَلْعَامَ، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ وَقَالَ بَالاَقُ لِبَلْعَامَ: «لِتَشْتِمَ أَعْدَائِي دَعَوْتُكَ، وَهُوَذَا أَنْتَ قَدْ بَارَكْتَهُمُ الآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ. ١١فَالآنَ اهْرُبْ إِلَى مَكَانِكَ. قُلْتُ أُكْرِمُكَ إِكْرَامًا، وَهُوَذَا الرَّبُّ قَدْ مَنَعَكَ عَنِ الْكَرَامَةِ». ١٢فَقَالَ بَلْعَامُ لِبَالاَقَ: «أَلَمْ أُكَلِّمْ أَيْضًا رُسُلَكَ الَّذِينَ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ قَائِلًا: ١٣وَلَوْ أَعْطَانِي بَالاَقُ مِلْءَ بَيْتِهِ فِضَّةً وَذَهَبًا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتَجَاوَزَ قَوْلَ الرَّبِّ لأَعْمَلَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا مِنْ نَفْسِي. الَّذِي يَتَكَلَّمُهُ الرَّبُّ إِيَّاهُ أَتَكَلَّمُ.
١. لِتَشْتِمَ أَعْدَائِي دَعَوْتُكَ، وَهُوَذَا أَنْتَ قَدْ بَارَكْتَهُمُ الْآنَ ثَلَاثَ دَفَعَاتٍ: خلال النبوات الثلاث الأولى، كانت الأمور تسير من سيء لأسوأ بالنسبة لبَالاَق:
• في النبوة الأولى، فشل بَلْعَام في أن يلعن إسرائيل.
• في النبوة الثانية، بارك بَلْعَام إسرائيل.
• في النبوة الثالثة، لعن بَلْعَام بَالاَق، وبارك إسرائيل مرة أخرى.
٢. قُلْتُ أُكْرِمُكَ إِكْرَامًا، وَهُوَذَا الرَّبُّ قَدْ مَنَعَكَ عَنِ الْكَرَامَةِ: إن الأموال التي استُخدمت لاستئجار بلعام، وبناء ٢١ مذبحًا، وتقديم ٢١ ثورًا و٢١ كبشًا ذبيحة، لم تُنفَق في محلها. أدرك بَالاَق ذلك، فقال إنه لن يدفع لبَلْعَام شيئًا. ومن ناحية، كان قول بَلْعَام بأن الرَّبُّ هو الذي مَنَعَ بَلْعَام عَنِ الْكَرَامَةِ صحيحًا. فإن أكثر شيء أراده قلب بَلْعَام الفاسد (أجر كثير مقابل كونه نبيًّا) لم يحصل عليه، وكان ذلك من عند الرب.
٣. الَّذِي يَتَكَلَّمُهُ الرَّبُّ إِيَّاهُ أَتَكَلَّمُ: حاول بَلْعَام بكلِّ جهده أن يبرِّر نفسه، ويلقي باللوم على الله، لكنه علم أنه لن يحصل على المكافأة التي كان يرجوها، لأنه لم يرضِ رب عمله.
• ربما أدرك بَلْعَام في تلك اللحظة حكمة الله الشديدة حين طلب منه ألا يذهب، لأن الآن تبيَّن له أن تلك الرحلة بأكملها كانت مضيعة كبيرة للوقت.
ثانيًا. النبوات الأربع الأخيرة: كلمات نبوية على فم بَلْعَام
أ ) الآية (١٤): مقدِّمة.
١٤وَالآنَ هُوَذَا أَنَا مُنْطَلِقٌ إِلَى شَعْبِي. هَلُمَّ أُنْبِئْكَ بِمَا يَفْعَلُهُ هذَا الشَّعْبُ بِشَعْبِكَ فِي آخِرِ الأَيَّامِ.
١. وَالْآنَ هُوَذَا أَنَا مُنْطَلِقٌ إِلَى شَعْبِي: بدا هنا كما لو أن بَلْعَام قد أنهى مهمته. فقد فشل في أن يلعن إسرائيل، وحُرِم من مكافأة بَالاَق؛ ولذلك، صار على استعداد للعودة إلى وطنه. لكن الله ألزمه بأن يقدِّم لبَالاَق أكثر مما أراد أو طلب. احتفظ بَلْعَام بأفضل ما عنده – أو بأسوأ ما عنده من منظور بَالاَق – للنهاية.
٢. هَلُمَّ أُنْبِئْكَ: لم يكن هناك داعٍ للتجهيز لهذه النبوة. وبما أن بَالاَق لن يدفع شيئًا لبَلْعَام، نطق بَلْعَام هنا بنبوة مجانية، أظهرت كم سيكون إسرائيل شعبًا مباركًا وغالبًا (بِمَا يَفْعَلُهُ هَذَا الشَّعْبُ بِشَعْبِكَ) الآن، وكذلك فِي آخِرِ الْأَيَّامِ.
• “من الواضح أن كلمات بَلْعَام الأخيرة كانت تتعلق بالمستقبل البعيد: فِي آخِرِ الْأَيَّامِ (الآية ١٤). ومع أن هذه العبارة قد تعني ببساطة ’في المستقبل‘ (كما في إرميا ٢٣: ٢٠)، فإنها قد تعني أيضًا ’الأيام الأخيرة،‘ أَيًّا كانت الفترة التي تشكل الإطار الزمني المحدَّد للنبي.” وينهام (Wenham)
ب) الآيات (١٥-١٩): نبوة بَلْعَام الرابعة: كوكب وقضيب يخرجان من إسرائيل.
١٥ثُمَّ نَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «وَحْيُ بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ. وَحْيُ الرَّجُلِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ. ١٦وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ وَيَعْرِفُ مَعْرِفَةَ الْعَلِيِّ. الَّذِي يَرَى رُؤْيَا الْقَدِيرِ سَاقِطًا وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَيْنَيْنِ: ١٧أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ، فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى. ١٨وَيَكُونُ أَدُومُ مِيرَاثًا، وَيَكُونُ سِعِيرُ أَعْدَاؤُهُ مِيرَاثًا. وَيَصْنَعُ إِسْرَائِيلُ بِبَأْسٍ. ١٩ وَيَتَسَلَّطُ الَّذِي مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَهْلِكُ الشَّارِدُ مِنْ مَدِينَةٍ».
١. وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ: هذا التكرار لما جاء في سفر العدد ٢٤: ٣-٤ يؤكِّد أنه في هذه النبوة الرابعة، كما في النبوة الثالثة أيضًا، كان بَلْعَام يتكلم دون أي استخدام للخرافات الوثنية. فقد تكلَّم بَلْعَام هنا بصفته الرَّجُلِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ، الذي يَرَى رُؤْيَا الْقَدِيرِ.
• كانت نبوات بَلْعَام الأربع الأخيرة عبارة عن لعنات، وهو ذلك النوع من النبوات الذي أراد بَالاَق من بَلْعَام أن ينطق به ضد إسرائيل، لكن نُطِق بها هنا ضد أعداء إسرائيل.
٢. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ: مرة أخرى، تكلَّم بَلْعَام، نبي يهوه العجيب والمستبعَد من أن يكون نبيًّا، بوحي من الروح القدس، فوصف شخصًا مجيدًا (مثل كَوْكَبٌ)، يتمتَّع بالسلطان الذي يؤهِّله للحُكم (وهو ما تمثِّله صورة القَضِيب).
• تنبَّأ بَلْعَام قبل ذلك عن جمال إسرائيل، وقوتها، والبركات التي لها. لكن الآن، استخدمه الله ليتكلم عن ذروة جمال إسرائيل، وقوتها، وبركاتها، أي عن المسيا، يسوع المسيح. فإن بركة إسرائيل الكبرى تأتي من يسوع، الذي هو مَسِيَّاهم.
• فهم الكُتَّاب اليهود الأوائل أن هذه كانت إشارة إلى المسيا. “ترى مخطوطات البحر الميت (التي يعود تاريخها إلى نحو القرن الأول ق.م.) أن الكوكب والقضيب يشيران إلى مسيَّا هارون ومسيَّا إسرائيل، أي إلى المسيا الكهنوتي والمسيا الملوكي. وقد أشاد المعلم اليهودي عاكيفا بزعيم الثورة اليهودية الثانية (التي وقعت في ١٣٢-١٣٥م)، قائلًا إنه هو المسيا، وأطلق عليه اسم بار كوخبا، أي ابن الكوكب.” وينهام (Wenham)
• رأى الكُتَّاب المسيحيون الأوائل أن هذه كانت إشارة إلى المسيا. فقد رأى كلٌّ من يوستينوس الشهيد (في كتابه بعنوان “الدفاع الأول،” الفصل ٣٢)، وأثناسيوس الكبير (في كتابه بعنوان “تجسد الكلمة،” الفصل ٣٣) أن هذا الكَوْكَب هو إشارة إلى يسوع المسيح.
• واجه مارتن لوثر صعوبة في تفسير هذه النبوة على أنها نبوة مسيانية، وذلك لأن بَلْعَام لم يكن نبيًّا جديرًا بحمل مثل هذه الرسالة المجيدة. إلا أن “حق الكتاب المقدس لا يمكن أن يعتمد البتة على استحقاق الكاتب، أو على التقوى الشخصية للمتحدِّث، وإلا صارت لدينا درجات في الوحي أو في الجدارة بالثقة. ولذلك، أستطيع أن أقول بتبجيل، لكن بجرأة في الوقت نفسه، إن كلمات بَلْعَام، ذلك العراف الوثني، التي تكلم بها تحت سيطرة روح الله القدوس، هي كلمات صحيحة ومؤكَّدة تمامًا، مثلها مثل كلمات المخلِّص يسوع المكتوبة في العهد الجديد.” ألن (Allen)
• “يستطيع رجل أعمى أن يحمل مصباحًا في يده كي ينتفع به آخرون، في حين لا ينتفع هو شيئًا. وهذا هو الحال هنا.” تراب (Trapp)
• “لم يستشهد العهد الجديد بنبوات بَلْعَام بشكل صريح، لكن ثمة بعض الإشارات المحتمَلة إليها في لوقا ١: ٧٨؛ رؤيا ٢: ٢٦-٢٨؛ ٢٢: ١٦. وقطعًا، أعلن نجم (كوكب) عن ميلاد المسيح (متى ٢: ١-١٠).” وينهام (Wenham)
٣. فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى: سوف يملك المسيا في النهاية على كلِّ الأمم المحيطة بإسرائيل. وفي هذه الآية والآيات التالية لها، تكلَّم الله على فم بَلْعَام عن الأمم المجاورة لإسرائيل (موآب، وأدوم، وعماليق، والقينيين)، وعن مستقبلهم. لا بد أن بَالاَق، ملك الموآبيين، قد شعر بالحزن، وبالغضب الشديد في الوقت نفسه، عندما سمع نبيَّه المستأجَر ينطق بهذه الكلمات على مُوآبَ، ويلعنهم بدلًا من أن يلعن إسرائيل.
• إن مُخلِّص إسرائيل، أي كوكبهم وقضيبهم، سوف يقودهم للانتصار على كلِّ من مُوآب وأَدُوم. “في المستقبل البعيد، سيُهزَم كلا هذين الشعبين، وتؤخَذ أراضيهما، ويختفيان في النهاية، فلا يصيران بعد جماعتين عرقيتين مميَّزتين. كانت صِيَغة ’سحق الرأس‘ رمزًا لهزيمة الأعداء في الكتابات المصرية والأوغاريتية والعبرية.” كول (Cole)
• “هذا التنبؤ بهزيمة مُوآب التامة على يد ملك إسرائيلي قادم هو خاتمة مناسبة لنبوات بَلْعَام. فقد دُعي بَلْعَام حتى يتمكن بَالاَق، ملك موآب، من خلال اللعنة التي يصبها على إسرائيل، من هزيمة هذا الشعب. لكن بَلْعَام أعلن أن العكس هو الذي سيحدث، أي إن مُوآب ستهلك على يد ملك إسرائيلي آتٍ.” وينهام (Wenham)
ج) الآية (٢٠): نبوة بَلْعَام الخامسة: سقوط عماليق.
٢٠ثُمَّ رَأَى عَمَالِيقَ فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «عَمَالِيقُ أَوَّلُ الشُّعُوبِ، وَأَمَّا آخِرَتُهُ فَإِلَى الْهَلاَكِ».
١. ثُمَّ رَأَى عَمَالِيقَ: تحول انتباه بَلْعَام بعد ذلك إلى عماليق، وهم شعب رحالٌ كان معاديًا لإسرائيل في معظم الأحيان.
• عَمَالِيقُ أَوَّلُ الشُّعُوبِ: “الصفة ’أَوَّلُ‘ أو ’باكورة‘ بحسب الأصل العبري، أُطلِقت على عماليق إما: ١) لأنهم كانوا أول أمة اجتمعت معًا تحت لواء حكومة واحدة. وإما ٢) لأنهم كانوا الأقوى والأبرز بين تلك الأمم.” بوله (Poole)
٢. وَأَمَّا آخِرَتُهُ فَإِلَى الْهَلَاكِ: كان لشعب عَمَالِيق ذات يوم مكانة مرموقة، لكن الكوكب والقضيب، أي المسيا الذي تنبأ عنه بَلْعَام، سوف يغلبهم ويُخضِعهم.
د ) الآيات (٢١-٢٢): نبوة بَلْعَام السادسة: أسر الْقِينِيّ.
٢١ثُمَّ رَأَى الْقِينِيَّ فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «لِيَكُنْ مَسْكَنُكَ مَتِينًا، وَعُشُّكَ مَوْضُوعًا فِي صَخْرَةٍ. ٢٢لكِنْ يَكُونُ قَايِنُ لِلدَّمَارِ. حَتَّى مَتَى يَسْتَأْسِرُكَ أَشُّورُ؟».
١. ثُمَّ رَأَى الْقِينِيَّ: كانت قبيلة الْقِينِيّ الرَحّالة في نزاع مستمر مع إسرائيل (قضاة ٤: ١١؛ ١صموئيل ١٥: ٦؛ ٢٧: ١٠).
• “ما من سبب مؤكَّد وراء تعرُّض قبيلة الْقِينِيّ للهجوم هنا، باستثناء أنهم ربما رُبِطوا بالمديانيين الذين صاروا أعداءً لإسرائيل (سفر العدد ٣١).” ألين (Allen)
• لِيَكُنْ مَسْكَنُكَ مَتِينًا [“بَيتُكَ آمِنٌ” بحسب الترجمة العربية المبسطة]: “كان القينيون يضعون ثقتهم في الأمان الذي يوفره لهم موقعهم الجغرافي، إذ كانوا ساكنين على المرتفعات الصخرية في جنوب كنعان، أو في الربع الشمالي الشرقي من منطقة سيناء.” كول (Cole)
٢. لَكِنْ يَكُونُ قَايِنُ لِلدَّمَارِ: سيُخضَع القينيون وقَايِن، مدينتهم البارزة، تحت سلطة إسرائيل. فعلى عكس رغبة بَالاَق، سيرتفع شعب إسرائيل فوق جيرانهم.
هـ) الآيات (٢٣-٢٤): نبوة بَلْعَام السابعة: دينونات إله إسرائيل.
٢٣ثُمَّ نَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «آهِ! مَنْ يَعِيشُ حِينَ يَفْعَلُ ذلِكَ؟ ٢٤وَتَأْتِي سُفُنٌ مِنْ نَاحِيَةِ كِتِّيمَ وَتُخْضِعُ أَشُّورَ، وَتُخْضِعُ عَابِرَ، فَهُوَ أَيْضًا إِلَى الْهَلاَكِ».
١. مَنْ يَعِيشُ حِينَ يَفْعَلُ ذَلِكَ: تبدأ نبوة بَلْعَام السابعة والأخيرة بتذكيرٍ بأن قوة إسرائيل هذه، وإخضاعها لجيرانها، سيكون عمل الله. وبالتالي، لم يكن هذا لمجد إسرائيل، بل لمجد الله.
• إن تفاصيل النبوة السابعة مبهَمة، لكن توجُّهها العام واضح، حيث تشير إلى نصرة إسرائيل النهائية من خلال قوة كوكبهم، وقضيبهم، أي مخلِّصهم.
٢. وَتَأْتِي سُفُنٌ مِنْ نَاحِيَةِ كِتِّيمَ (قُبرُص): سيأتي جزءٌ من البلاء الموعود به على الأمم المجاورة لإسرائيل من بعيد، من سَواحِل كِتِّيمَ، وربما من أماكن أخرى أيضًا.
• كِتِّيمَ هي قُبرص بحسب ترجمات أخرى. “يبدو أن كتيم عُرِفت في الفترة المبكِّرة من تاريخ إسرائيل بأنها هي قُبرص. لكن بعد ذلك بوقتٍ، انطبق هذا الاسم على روما، حسبما جاء في مخطوطات قمران التي تقول: ’منذ القديم، قد أعلنتَ لنا عن الوقت الذي عيَّنتَه لاستعلان عمل يدك الشديد على كتيم،‘ وربما حسبما جاء أيضًا (كنبوة!) في سفر دانيال ١١: ٣٠.” ألن Allen)
و) الآية (٢٥): بَلْعَام وَبَالاَق ينطلقان.
٢٥ثُمَّ قَامَ بَلْعَامُ وَانْطَلَقَ وَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ. وَبَالاَقُ أَيْضًا ذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ.
١. ثُمَّ قَامَ بَلْعَامُ وَانْطَلَقَ: لا شك أن كليهما شعر بخيبة الأمل، وربما بالغضب أيضًا، لأنهما لم يتمكنا من إضعاف إسرائيل روحيًّا، وبالتالي لم تصر معرَّضة للهزيمة في الحرب. أراد بَالاَق أن يهزم إسرائيل، في حين أراد بَلْعَام أموال بَالاَق. لكن في النهاية، أراد كلٌّ منهما أن تُلعَن إسرائيل روحيًا. لكن الله لم يشأ ذلك.
• “لم يحصل بَالاَق على ما أراده، ولم يأخذ بَلْعَام أجرته. فقد ضحك الله عليهما، وانتزع اللقمة من أفواههما، بعدما كانا على وشك ابتلاعها.” تراب (Trapp)
• رأى ماير (Meyer) في شخصية بَلْعَام تحذيرًا بضرورة إدراك الفرق بين المسحة والاتحاد الحقيقي بالله؛ وبين الموهبة والنعمة الحقيقية؛ وبين الرؤية والإدراك الحقيقي. “فقد رأى بَلْعَام بحقٍّ، لكنه مع ذلك هلك هلاكًا بائسًا… وتمنَّى أن يموت موت الأبرار، لكن أدركه موت المرتدِّين والأشرار. ففي أحيان كثيرة، نقترب بشدة من أبواب الخلاص، ومع ذلك نهلك هلاكًا بائسًا دون أن ندخل منها!” ماير (Meyer)
٢. وَبَالَاقُ أَيْضًا ذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ: يستحق بَالَاق الثناء لأنه أدرك أين تَكمُن قوة إسرائيل. فهو لم يسع إلى هزيمة إسرائيل من خلال استراتيجية عسكرية، أو باستخدام أسلحة جديدة، لكنه كان يعلم أن الحرب روحية، وأنه إذا ربح شعب إسرائيل الحرب الروحية، سينتصرون حتمًا في الحرب العسكرية.
• علينا نحن أيضًا أن نتصرَّف بهذا الوعي نفسه. فإذا فعلنا ذلك، سنخصِّص مزيدًا من الوقت والاهتمام لبناء قوتنا الروحية، والتمتُّع بالحميمية مع يسوع. فعلينا ألا نسمح لبَالَاق بأن يكون أكثر إدراكًا منا للأمور الروحية.