١ صموئيل ٢٥
داود ونابال وأبيجايل
أولًا. غضب داود على نابال
أ ) الآية (١): موت صموئيل النبي، قاضي إسرائيل.
١وَمَاتَ صَمُوئِيلُ، فَٱجْتَمَعَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَنَدَبُوهُ وَدَفَنُوهُ فِي بَيْتِهِ فِي ٱلرَّامَةِ. وَقَامَ دَاوُدُ وَنَزَلَ إِلَى بَرِّيَّةِ فَارَانَ.
١. وَمَاتَ صَمُوئِيلُ: والآن يموت صموئيل، هذا الرجل العظيم المكرس للرب والذي خدمه منذ حداثته. فرغم مدى تقواه، إلا أن هذا لم ينقذه من الموت، لأنه كان ما يزال من نسل آدم. لكن عمل الله في إسرائيل لم ينتهِ بموت صموئيل. فعمل الله لا يعتمد على رجل واحد فقط.
إن كان مكتوبًا ’وَمَاتَ صَمُوئِيلُ،‘ فإنه مكتوب أيضًا ’وَقَامَ دَاوُدُ.‘ قد يبدأ عمل الله برجل، لكنه لا ينتهي برجل واحد. فالله يواصل عمله ويحفظه كما يشاء.
٢. فَٱجْتَمَعَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَنَدَبُوهُ: بدا أن صموئيل لم يكن موضع تقدير كبير في إسرائيل أثناء حياته (١ صموئيل ٨: ١-٧)، لكنه على الأقل أُكرم في موته.
سيستمر الإرث الذي تركه صموئيل بطريقة رائعة. إذ تشير ١ أخبار ٩: ٢٢ إلى أنه نظّم اللاويين في خدمة الهيكل، وهو عمل أكمله داود وسليمان. وتقول ١ أخبار ٢٦: ٢٧-٢٨ إن صموئيل بدأ بجمع ثروات لبناء الهيكل الذي سيبنيه سليمان. وتذكر
٢ أخبار ٣٥: ١٨ أن صموئيل تذكّر الفصح وحفظ إسرائيل في خلاص الله العظيم. وتحيي مزمور ٩٩: ٦ وإرميا ١٥: ١ ذكرى صموئيل كرجل شفاعة عظيم. وتدرج عبرانيين ١١: ٣٣ اسمه بين أبطال الإيمان.
ب) الآيات (٢-٣): داود، ونابال وزوجته أبيجايل، وطبيعته الأخلاقية.
٢وَكَانَ رَجُلٌ فِي مَعُونٍ، وَأَمْلَاكُهُ فِي ٱلْكَرْمَلِ، وَكَانَ ٱلرَّجُلُ عَظِيمًا جِدًّا وَلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ ٱلْغَنَمِ وَأَلْفٌ مِنَ ٱلْمَعْزِ، وَكَانَ يَجُزُّ غَنَمَهُ فِي ٱلْكَرْمَلِ. ٣وَٱسْمُ ٱلرَّجُلِ نَابَالُ وَٱسْمُ ٱمْرَأَتِهِ أَبِيجَايِلُ. وَكَانَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَيِّدَةَ ٱلْفَهْمِ وَجَمِيلَةَ ٱلصُّورَةِ، وَأَمَّا ٱلرَّجُلُ فَكَانَ قَاسِيًا وَرَدِيءَ ٱلْأَعْمَالِ، وَهُوَ كَالِبِيٌّ.
١. وَكَانَ ٱلرَّجُلُ عَظِيمًا (غنيًّا) جِدًّا: كان أول شيء نتعلّمه عن هذا الرجل هو مكان إقامته (مَعُونٍ، وَأَمْلَاكُهُ (وعمله) فِي ٱلْكَرْمَلِ). وكان غنيًّا جدًّا (لَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ ٱلْغَنَمِ وَأَلْفٌ مِنَ ٱلْمَعْزِ).
هنالك أربعة أنواع من الغنى: غنىً في ما تملكه، وغنى في ما تفعله، وغنى في ما تعرفه، وغنى في ما أنت عليه، أي معدنك الأخلاقي. كان نابال غنيًّا جدًّا، لكن في ما كان يملكه فقط. وهذا أدنى نوع من الغنى,
٢. وَكَانَ يَجُزُّ غَنَمَهُ فِي ٱلْكَرْمَلِ: كان هذا ’وقت حصاد‘ بالنسبة لمربّي الأغنام. ولهذا كان وقت ضيافة سخية تجاه الآخرين.
“كان يُحتفل بجز الأغنام تقليديًّا بإقامة ولائم يكفي فيها الطعام ويَفْضُل.” بولدوين (Baldwin)
٣. وَٱسْمُ ٱلرَّجُلِ نَابَالُ: هذه إشارة أخرى إلى طبيعته الأدبية، لأن معنى ’نابال‘ هو أحمق. وفي إسرائيل القديمة، كانت تُربط الأسماء بمعدن الشخص الأخلاقي. ولا نعرف إن كان هذا الاسم أُعطي له أم أنه اكتسبه، لكن من المؤكد أنه ارتقى إلى مستواه!
قد تكون الإشارة إلى انتسابه إلى بيت كالب وصفًا سيئًا لنابال لأن كلمة كالب تعني ’كلب.‘ وليس انتساب شخص إلى بيت كلب مديحًا له. “بما أن كلمة ’كالب‘ تعني ’كلب،‘ فإن الترجمة السبعينية فهمتها على أنها تدل على رجل يتمتع بميول الكلاب أو بطبيعتهم: ’كان كلبيًّا في طِباعه.‘ وتدل اللغتان السريانية والعربية على نفس المعنى.” كلارك (Clarke)
٤. وَٱسْمُ ٱمْرَأَتِهِ أَبِيجَايِلُ. وَكَانَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَيِّدَةَ ٱلْفَهْمِ وَجَمِيلَةَ ٱلصُّورَةِ: كانت زوجة نابال حكيمة وحسنة المظهر ’جَمِيلَةَ ٱلصُّورَةِ،‘ بالمقابلة مع نابال. ويمتدح الكتاب المقدس أبيجايل كثيرًا عندما يصفها هكذا، حيث لم توصف بهذا الوصف العبري إلا امرأتان، وهما راحيل (تكوين ٢٩: ١٧) وأستير (أستير ٢: ٧).
كيف لامرأة كهذه أن تتوافق مع رجل مثل نابال أو ترتبط به؟ نحن نفهم أنه في ذلك العصر كانت الزيجات مرتّبة. لكن توجد كثيرات مثل أبيجايل اليوم في الوضع نفسه، لا بسبب زيجات مرتّبة، بل لأنهن اخترن ذلك. “من اللافت للنظر أن نساء كثيرات مثل أبيجايل يتزوجن من رجال مثل نابال. وتصبح نساء تقيّات، ورقيقات، ورفيعات الفكر، ونبيلات في مُثُلهنّ مقيّدات في اتحاد لا ينفصم مع رجال لا يمكن أن يكون لديهن ألفة معهم، حتى ولو لم يكن لديهن اشمئزاز لا يمكن قهره.” ماير (Meyer)
“هل يمكنني أن أقول لكِ بمحبة، لكن بحزم، إنه إذا أصابك مثل هذا الظرف، لا داعي أن تلجئي إلى قانون البلد للخروج من هذه الورطة. ربما عرف الله أنك احتجتِ إلى محنة نارية ليوصلك إلى مكان التواضع ويجعلك شهادة لشريك حياتك. ويقول الكتاب المقدس إنه يتوجب عليك أن تبقي كما أنت. وربما تأتيك فرصة يومًا ما، كما أتت لأبيجايل. لكن حتى يحين ذلك الوقت، عليك أن تثبّتي نعمة الله وقوته في قلبك، لتقويك وتحفظك طاهرة.” ريدباث (Redpath)
ج) الآيات (٤-٩): داود يطالب تعويضًا عن خدمته الثمينة لنابال.
٤فَسَمِعَ دَاوُدُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَنَّ نَابَالَ يَجُزُّ غَنَمَهُ. ٥فَأَرْسَلَ دَاوُدُ عَشْرَةَ غِلْمَانٍ، وَقَالَ دَاوُدُ لِلْغِلْمَانِ: «ٱصْعَدُوا إِلَى ٱلْكَرْمَلِ وَٱدْخُلُوا إِلَى نَابَالَ وَٱسْأَلُوا بِٱسْمِي عَنْ سَلَامَتِهِ، ٦وَقُولُوا هَكَذَا: حَيِيتَ وَأَنْتَ سَالِمٌ، وَبَيْتُكَ سَالِمٌ، وَكُلُّ مَالِكَ سَالِمٌ. ٧وَٱلْآنَ قَدْ سَمِعْتُ أَنَّ عِنْدَكَ جَزَّازِينَ. حِينَ كَانَ رُعَاتُكَ مَعَنَا، لَمْ نُؤْذِهِمْ وَلَمْ يُفْقَدْ لَهُمْ شَيْءٌ كُلَّ ٱلْأَيَّامِ ٱلَّتِي كَانُوا فِيهَا فِي ٱلْكَرْمَلِ. ٨اِسْأَلْ غِلْمَانَكَ فَيُخْبِرُوكَ. فَلْيَجِدِ ٱلْغِلْمَانُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ لِأَنَّنَا قَدْ جِئْنَا فِي يَوْمٍ طَيِّبٍ، فَأَعْطِ مَا وَجَدَتْهُ يَدُكَ لِعَبِيدِكَ وَلِٱبْنِكَ دَاوُدَ». ٩فَجَاءَ ٱلْغِلْمَانُ وَكَلَّمُوا نَابَالَ حَسَبَ كُلِّ هَذَا ٱلْكَلَامِ بِٱسْمِ دَاوُدَ وَكَفُّوا.
١. فَأَعْطِ مَا وَجَدَتْهُ يَدُكَ لِعَبِيدِكَ وَلِٱبْنِكَ دَاوُدَ: قدّم داود هذا الطلب لأنه أدّى خدمة ثمينة لنابال، وهي حماية قطعانه من غارات الفلسطيين الشائعة. ربما يبدو هذا لنا في عصرنا الحديث أن داود كان يفرض ’أتاوة حماية‘ أو ’حماية بلطجة أو ابتزاز،‘ لكن الوضع لم يكن كذلك على الإطلاق. إذ كان يؤدي خدمة جديرة لنابال، وكان يتوقع تعويضًا عنها.
٢. أَنَّ نَابَالَ يَجُزُّ غَنَمَهُ: يعني هذا أن داود انتظر الوقت الملائم ليطلب التعويض عن خدماته. لقد حمى داود رعاة نابال وقطعانه فترة طويلة، لكنه لم يتوقع الحصول على تعويض إلى أن يجمع نابال ماله من ’حصاد‘ جز الأغنام.
٣. فَأَرْسَلَ دَاوُدُ عَشْرَةَ غِلْمَانٍ: يعني هذا أن داود قدّم طلبه بأدب. فقد قدّمه من خلال رسل لئلا يحس نابال بالترهيب والخوف. وقدّمه مع تحيّات دافئة لطيفة (حَيِيتَ وَأَنْتَ سَالِمٌ) لئلا يدفع نابال بدافع من الترهيب.
٤. كَانَ رُعَاتُكَ مَعَنَا، لَمْ نُؤْذِهِمْ وَلَمْ يُفْقَدْ لَهُمْ شَيْءٌ … اِسْأَلْ غِلْمَانَكَ فَيُخْبِرُوكَ: يبيّن هذا أن داود قدّم الطلب بأدب وعناية وصبر معطيًا نابال إيصالًا مفصّلًا للخدمات التي تلقاها.
٥. قَدْ جِئْنَا فِي يَوْمٍ طَيِّبٍ (يوم احتفال): ذكّر داود نابال بأدب بتقاليد الكرم المحيطة بالحصاد ووقت جزّ الغنم.
٦. فَأَعْطِ مَا وَجَدَتْهُ يَدُكَ لِعَبِيدِكَ وَلِٱبْنِكَ دَاوُدَ: لم يطالب داود بدفعة محددة القيمة أو أجرة معيّنة من نابال. فترك المسألة لكرم نابال، ثم انتظر رسل داود رد نابال.
د ) الآيات (١٠-١٢): رد نابال على طلب داود.
فَأَجَابَ نَابَالُ عَبِيدَ دَاوُدَ وَقَالَ: «مَنْ هُوَ دَاوُدُ؟ وَمَنْ هُوَ ٱبْنُ يَسَّى؟ قَدْ كَثُرَ ٱلْيَوْمَ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ يَقْحَصُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَمَامِ سَيِّدِهِ. ١١أَآخُذُ خُبْزِي وَمَائِي وَذَبِيحِيَ ٱلَّذِي ذَبَحْتُ لِجَازِّيَّ وَأُعْطِيهِ لِقَوْمٍ لَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُمْ؟». ١٢فَتَحَوَّلَ غِلْمَانُ دَاوُدَ إِلَى طَرِيقِهِمْ وَرَجَعُوا وَجَاءُوا وَأَخْبَرُوهُ حَسَبَ كُلِّ هَذَا ٱلْكَلَامِ.
١. مَنْ هُوَ دَاوُدُ؟ وَمَنْ هُوَ ٱبْنُ يَسَّى: من غير الممكن أن نابال لم يكن يعرف من هو داود، لأنه كان مشهورًا في جميع أنحاء إسرائيل (١ صموئيل ١٨: ٥-٧). فقد قال هذا كإهانة مباشرة لداود، عالمًا هويته، لكن رافضًا الاعتراف به. وفي تعبيرنا الحديث، قال نابال: “من يظن نفسه؟”
٢. قَدْ كَثُرَ ٱلْيَوْمَ ٱلْعَبِيدُ ٱلَّذِينَ يَقْحَصُونَ (ينفصلون) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَمَامِ سَيِّدِهِ: عمّق نابال إهانته لداود قائلًا إنه كان مجرد عبد متمرد هرب من سيده. وكان هذا خطأ تمامًا، لأن داود كان باستمرار يتصرف بحكمة عند هجوم شاول عليه.
٣. أَآخُذُ خُبْزِي وَمَائِي وَذَبِيحِيَ ٱلَّذِي ذَبَحْتُ لِجَازِّيَّ وَأُعْطِيهِ لِقَوْمٍ لَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُمْ: يُظهر هذا بخل نابال. كان ينظر إلى كل شيء على أنه له، بدلًا من أن يكون للرب. فالكرم الحقيقي أو الكتابي لا يقول: ’هذا لي، ولن أشاركه معك،‘ بل يقول: “كل ما عندي هو للرب، ويمكنك أن تأخذ بعضًا منه أيضًا.”
هـ) الآية (١٣): رد فعل داود على استجابة داود المهينة.
١٣فَقَالَ دَاوُدُ لِرِجَالِهِ: «لِيَتَقَلَّدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ سَيْفَهُ». فَتَقَلَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ، وَتَقَلَّدَ دَاوُدُ أَيْضًا سَيْفَهُ. وَصَعِدَ وَرَاءَ دَاوُدَ نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ، وَمَكَثَ مِئَتَانِ مَعَ ٱلْأَمْتِعَةِ.
١. فَقَالَ دَاوُدُ لِرِجَالِهِ: “لِيَتَقَلَّدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ سَيْفَهُ”: تلقّى داود استجابة نابال بالطريقة التي قصدها نابال، أي بإهانة كبيرة. لكن نابال لم يكن يتعامل مع رجل ضعيف لا حساب له. إذ كان داود جنديًّا ومحاربًا عظيمًا. وفي تعبيرنا الحديث، قال داود لرجاله: “عبئوا بنادقكم بالذخيرة، أو في أفلام الغرب: ’امتطوا أحصنتكم، يا شباب.‘ فكان داود مستعدًا للقتال.
لم تكن هذه لحظة سامية لداود. فهو لم يستجب بالطريقة التي أرادها الله له عند تلقّي الإهانات أو حتى عند الهجوم. فالله يريدنا أن نحتمل الإهانات بمحبة ولطف، فنرد على الشر بالخير. هذه أرض مرتفعة ينبغي أن نسير عليها، لكنها وصية يسوع: “مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلْأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلْآخَرَ أَيْضًا” (متى ٥: ٣٨-٣٩).
لم يُظهر داود لنابال نفس اللطف وطول الأناة اللذين أظهرهما لشاول. ففي الإصحاح السابق فقط، عفا داود عن شاول الذي لم يُهِنه فحسب، بل هاجمه وحاول قتله أيضًا. استطاع داود أن يكون لطيفًا وطويل البال مع شاول، لكن يبدو أن هذا كان أكثر صعوبة مع شخص رأى أنه مساوٍ لها أو ’دونه.‘ وغالبًا ما لا يكون المقياس الحقيقي للمعدن الأخلاقي في كيفية تعاملنا مع رؤسائنا، بل بكيفية التعامل مع نظرائنا أو الذين هم ’تحت‘ بطريقة ما أو أخرى.
٢. وَصَعِدَ وَرَاءَ دَاوُدَ نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ: لم يأتِ داود إلى نابال لمجرد إدلاء بتصريح، بل جاء ليمحوه عن الأرض. ولهذا تسلّح ورجاله بالسيوف، وترك مئتي رجل لحراسة الأمتعة وللتعزيزات.
ثانيًا. أبيجايل تتوسط بين داود ونابال.
أ ) الآيات (١٤-١٧): تسمع أبيجايل كيفية استجابة نابال لداود.
١٤فَأَخْبَرَ أَبِيجَايِلَ ٱمْرَأَةَ نَابَالَ غُلَامٌا مِنَ ٱلْغِلْمَانِ قَائِلًا: «هُوَذَا دَاوُدُ أَرْسَلَ رُسُلًا مِنَ ٱلْبَرِّيَّةِ لِيُبَارِكُوا سَيِّدَنَا فَثَارَ عَلَيْهِمْ. ١٥وَٱلرِّجَالُ مُحْسِنُونَ إِلَيْنَا جِدًّا، فَلَمْ نُؤْذَ وَلَا فُقِدَ مِنَّا شَيْءٌ كُلَّ أَيَّامِ تَرَدُّدِنَا مَعَهُمْ وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقْلِ. ١٦كَانُوا سُورًا لَنَا لَيْلًا وَنَهَارًا كُلَّ ٱلْأَيَّامِ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا مَعَهُمْ نَرْعَى ٱلْغَنَمَ. ١٧وَٱلْآنَ ٱعْلَمِي وَٱنْظُرِي مَاذَا تَعْمَلِينَ، لِأَنَّ ٱلشَّرَّ قَدْ أُعِدَّ عَلَى سَيِّدِنَا وَعَلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ ٱبْنُ لَئِيمٍ لَا يُمْكِنُ ٱلْكَلَامُ مَعَهُ.
١. فَثَارَ عَلَيْهِمْ (شتمهم): ذهب أحد العبيد الذين شهدوا استجابة نابال لرجال داود إلى أبيجايل ليخبرها كيف أن زوجها ’ثَارَ عَلَيْهِمْ،‘ أي شتمهم، وبالتبعية، شتم داود. ويعني تعبير ’فَثَارَ عَلَيْهِمْ‘ أنه ’عاملهم بلغة الازدراء.‘
٢. وَٱلرِّجَالُ مُحْسِنُونَ إِلَيْنَا جِدًّا: أخبر عبيد نابال زوجته عن الخدمة الثمينة التي قدمها رجال داود، فعرفت أن داود ورجاله يستحقون تعويضًا.
٣. وَٱلْآنَ ٱعْلَمِي وَٱنْظُرِي مَاذَا تَعْمَلِينَ، لِأَنَّ ٱلشَّرَّ قَدْ أُعِدَّ: قرأ عبيد نابال الكتابة على الحائط. عرفوا أن داود ورجاله لن يبلعوا هذه الإهانة (وهي في الواقع بمثابة سرقة). فطلبوا من أبيجايل، من أجلهم ومن أجل كل بيتها، أن تفعل شيئًا تجاه الأمر (وَٱلْآنَ ٱعْلَمِي وَٱنْظُرِي مَاذَا تَعْمَلِينَ).
٤. وَهُوَ ٱبْنُ لَئِيمٍ لَا يُمْكِنُ ٱلْكَلَامُ مَعَهُ: يفسّر لنا هذا لماذا لم يلجأ العبيد إلى نابال نفسه. لم يكن سفر الأمثال قد كُتِب بعد، لكن عرفوا الحق المتضمَّن في أمثال ١٧: ١٢: “لِيُصَادِفِ ٱلْإِنْسَانَ دُبَّةٌ ثَكُولٌ وَلَا جَاهِلٌ فِي حَمَاقَتِهِ.” ولهذا وجهوا إليها نداء حياة أو موت.
ب) الآيات (١٨-٢٠): أبيجايل تعد هدية لداود ورجاله.
١٨فَبَادَرَتْ أَبِيجَايِلُ وَأَخَذَتْ مِئَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ، وَزِقَّيْ خَمْرٍ، وَخَمْسَةَ خِرْفَانٍ مُهَيَّأَةً، وَخَمْسَ كَيْلَاتٍ مِنَ ٱلْفَرِيكِ، وَمِئَتَيْ عُنْقُودٍ مِنَ ٱلزَّبِيبِ، وَمِئَتَيْ قُرْصٍ مِنَ ٱلتِّينِ، وَوَضَعَتْهَا عَلَى ٱلْحَمِيرِ. ١٩وَقَالَتْ لِغِلْمَانِهَا: «ٱعْبُرُوا قُدَّامِي. هَأَنَذَا جَائِيَةٌ وَرَاءَكُمْ». وَلَمْ تُخْبِرْ رَجُلَهَا نَابَالَ. ٢٠وَفِيمَا هِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى ٱلْحِمَارِ وَنَازِلَةٌ فِي سُتْرَةِ ٱلْجَبَلِ، إِذَا بِدَاوُدَ وَرِجَالِهِ مُنْحَدِرُونَ لِٱسْتِقْبَالِهَا، فَصَادَفَتْهُمْ.
١. فَبَادَرَتْ (أسرعت) أَبِيجَايِلُ: بما أن أبيجايل جيدة الفهم (١ صموئيل ٢٥: ٣)، عرفت أن الوقت جوهري في أهميته، وأن عليها أن تفعل شيئًا بسرعة.
٢. مِئَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ، وَزِقَّيْ خَمْرٍ، وَخَمْسَةَ خِرْفَانٍ مُهَيَّأَةً… وَمِئَتَيْ عُنْقُودٍ مِنَ ٱلزَّبِيبِ: فعلت أبيجايل ما كان على زوجها أن يفعله، لكنه رفض ذلك.
تبيّن قدرة أبيجايل على جمع هذه الكمية الكبيرة من الطعام بهذه السرعة مدى ثراء نابال. فإن كان هذا القدر من الطعام في متناول اليد، فإن هذا يجعل رد نابال غير اللطيف على داود أسوأ.
ج) الآيات (٢١-٢٢): ينذر داود بذبح نابال وكل أهل بيته.
٢١وَقَالَ دَاوُدُ: «إِنَّمَا بَاطِلًا حَفِظْتُ كُلَّ مَا لِهَذَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، فَلَمْ يُفْقَدْ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ شَيْءٌ، فَكَافَأَنِي شَرًّا بَدَلَ خَيْرٍ. ٢٢هَكَذَا يَصْنَعُ ٱللهُ لِأَعْدَاءِ دَاوُدَ وَهَكَذَا يَزِيدُ، إِنْ أَبْقَيْتُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ إِلَى ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ بَائِلًا بِحَائِطٍ.”
١. فَكَافَأَنِي شَرًّا بَدَلَ خَيْرٍ: كان داود مصيبًا في كلامه، لكن لم يكن سليمًا في قلبه. كانت الحقائق والمعطيات واضحة، لكن قلبه لم يكن سليمًا.
٢. إِنْ أَبْقَيْتُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ إِلَى ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ بَائِلًا بِحَائِطٍ (ذكرًا): أوضح هذا نيّة داود. إذ خطّط لذبح نابال وكل الذكور في أهل بيته. كان هذا رد الفعل المتوقع حتى عند عبيد نابال (الآية ١٧)، لكن الله دعا داود إلى أن يتجاوز ما يتوقعه العالم.
د ) الآيات (٢٣-٣١): مناشدة أبيجايل لداود.
٢٣وَلَمَّا رَأَتْ أَبِيجَايِلُ دَاوُدَ أَسْرَعَتْ وَنَزَلَتْ عَنِ ٱلْحِمَارِ، وَسَقَطَتْ أَمَامَ دَاوُدَ عَلَى وَجْهِهَا وَسَجَدَتْ إِلَى ٱلْأَرْضِ، ٢٤وَسَقَطَتْ عَلَى رِجْلَيْهِ وَقَالَتْ: «عَلَيَّ أَنَا يَا سَيِّدِي هَذَا ٱلذَّنْبُ، وَدَعْ أَمَتَكَ تَتَكَلَّمُ فِي أُذُنَيْكَ وَٱسْمَعْ كَلَامَ أَمَتِكَ. ٢٥لَا يَضَعَنَّ سَيِّدِي قَلْبَهُ عَلَى ٱلرَّجُلِ ٱللَّئِيمِ هَذَا، عَلَى نَابَالَ، لِأَنَّ كَٱسْمِهِ هَكَذَا هُوَ. نَابَالُ ٱسْمُهُ وَٱلْحَمَاقَةُ عِنْدَهُ. وَأَنَا أَمَتَكَ لَمْ أَرَ غِلْمَانَ سَيِّدِي ٱلَّذِينَ أَرْسَلْتَهُمْ. ٢٦وَٱلْآنَ يَا سَيِّدِي، حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ، وَحَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ، إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ مَنَعَكَ عَنْ إِتْيَانِ ٱلدِّمَاءِ وَٱنْتِقَامِ يَدِكَ لِنَفْسِكَ. وَٱلْآنَ فَلْيَكُنْ كَنَابَالَ أَعْدَاؤُكَ وَٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ ٱلشَّرَّ لِسَيِّدِي. ٢٧وَٱلْآنَ هَذِهِ ٱلْبَرَكَةُ ٱلَّتِي أَتَتْ بِهَا جَارِيَتُكَ إِلَى سَيِّدِي فَلْتُعْطَ لِلْغِلْمَانِ ٱلسَّائِرِينَ وَرَاءَ سَيِّدِي. ٢٨وَٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ أَمَتِكَ لِأَنَّ ٱلرَّبَّ يَصْنَعُ لِسَيِّدِي بَيْتًا أَمِينًا، لِأَنَّ سَيِّدِي يُحَارِبُ حُرُوبَ ٱلرَّبِّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيكَ شَرٌّ كُلَّ أَيَّامِكَ. ٢٩وَقَدْ قَامَ رَجُلٌ لِيُطَارِدَكَ وَيَطْلُبَ نَفْسَكَ، وَلَكِنْ نَفْسُ سَيِّدِي لِتَكُنْ مَحْزُومَةً فِي حُزْمَةِ ٱلْحَيَاةِ مَعَ ٱلرَّبِّ إِلَهِكَ. وَأَمَّا نَفْسُ أَعْدَائِكَ فَلْيَرْمِ بِهَا كَمَا مِنْ وَسَطِ كَفَّةِ ٱلْمِقْلَاعِ. ٣٠وَيَكُونُ عِنْدَمَا يَصْنَعُ ٱلرَّبُّ لِسَيِّدِي حَسَبَ كُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنَ ٱلْخَيْرِ مِنْ أَجْلِكَ، وَيُقِيمُكَ رَئِيسًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، ٣١أَنَّهُ لَا تَكُونُ لَكَ هَذِهِ مَصْدَمَةً وَمَعْثَرَةَ قَلْبٍ لِسَيِّدِي، أَنَّكَ قَدْ سَفَكْتَ دَمًا عَفْوًا، أَوْ أَنَّ سَيِّدِي قَدِ ٱنْتَقَمَ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا أَحْسَنَ ٱلرَّبُّ إِلَى سَيِّدِي فَٱذْكُرْ أَمَتَكَ.
١. وَلَمَّا رَأَتْ أَبِيجَايِلُ دَاوُدَ: بسبب التضاريس الجبلية (نَازِلَةٌ فِي سُتْرَةِ ٱلْجَبَلِ – الآية ٢٠)، كان بإمكانها أن تبقى مخفية عن داود إلى أن يلتقيا وجهًا لوجه. ويبدو أنها رأت داود لأول مرة في حياتها. وعندما رأته، تواضعت أمامه على رأس مجموعة من الهدايا والمؤن.
في حالة غضب داود واهتياجه، جعل شيء غير متوقع داود وكل أصحابه يتوقفون فورًا – موكب عظيم من الهدايا والمؤن تتقدمه امرأة جميلة تسجد أمام داود. ولا بد أن هذا أعطى داود انطباعًا مذهلًا.
٢. أَسْرَعَتْ وَنَزَلَتْ عَنِ ٱلْحِمَارِ، وَسَقَطَتْ أَمَامَ دَاوُدَ عَلَى وَجْهِهَا وَسَجَدَتْ إِلَى ٱلْأَرْضِ: قدّمت أبيجايل مناشدتها في أقصى درجات التواضع. لم تأتِ إليه كسيدة متفوّقة (كما يمكن أن تفعل أية سيدة جميلة غنية متميزة)، أو حتى كشخص مساوٍ له. إذ جاءت بصفتها أَمَته المتواضعة.
٣. في هذه المناشدة، فعلت أبيجايل أشياء كثيرة على نحو صحيح تمامًا.
عندما سمعت أبيجايل بالأزمة لأول مرة، شرعت فورًا في العمل (فَبَادَرَتْ أَبِيجَايِلُ – الآية ١٨) عرفت أن هذا كان وضعًا طارئًا مُلِحًّا، فكان عليها أن تتصرف على عجل.
في أول كلماتها إلى داود، وجهت اللوم إلى نفسها (عَلَيَّ أَنَا يَا سَيِّدِي هَذَا ٱلذَّنْبُ). لم تقل هذا لأنها اعتقدت أنها هي المذنبة حقًّا. بل أخذت اللوم لأن داود سيعاقبها بطريقة مختلفة عن تلك التي يمكن بها أن يعاقب زوجها نابال.
طلبت أبيجايل الإذن بالكلام بدلًا من تولّي أمر المحادثة (دَعْ أَمَتَكَ تَتَكَلَّمُ فِي أُذُنَيْكَ وَٱسْمَعْ كَلَامَ أَمَتِكَ).
اقترحت أبيجايل بسلالة الحصيلة الإيجابية لداود في مناشدتها (إِنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ مَنَعَكَ عَنْ إِتْيَانِ ٱلدِّمَاءِ وَٱنْتِقَامِ يَدِكَ لِنَفْسِكَ). وقد صاغت الأمر بطريقة وجّهت داود نحو الحصيلة المقترحة.
جلبت أبيجايل هدية (وَٱلْآنَ هَذِهِ ٱلْبَرَكَةُ ٱلَّتِي أَتَتْ بِهَا جَارِيَتُكَ)، لكنها كانت حكيمة بما تكفي للقول إنها للغلمان الذين يتبعون داود، لا إلى داود نفسه. ولو قالت إنها له، لأوحت بأن كل ما يهمه داود هو المال، وأن كرامته المهدورة يمكن أن تُشترى بمال.
طلبت أبيجايل بوضوح وبشكل مباشر الغفران (وَٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ أَمَتِكَ).
رغم غضب داود واهتياجه الحاليين – وهذه خطية واضحة – تكلمت أبيجايل عن معدن داود الأخلاقي بتعابير سامية، ورأت أن حالته الحالية التي لم تصفها انحراف عن مساره العادي (سَيِّدِي يُحَارِبُ حُرُوبَ ٱلرَّبِّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيكَ شَرٌّ كُلَّ أَيَّامِكَ).
ذكّرت أبيجايل داود بوعد الله لحياته (لِأَنَّ ٱلرَّبَّ يَصْنَعُ لِسَيِّدِي بَيْتًا أَمِينًا). ووجّهت داود إلى ما وراء الظروف المتفاقمة الحالية إلى وعد أكبر من الله.
طلبت أبيجايل من داود ألا يفعل شيئًا سيندم عليه دائمًا عندما يتحقق وعد الله له في نهاية الأمر (أَنَّهُ لَا تَكُونُ لَكَ هَذِهِ مَصْدَمَةً وَمَعْثَرَةَ قَلْبٍ لِسَيِّدِي، أَنَّكَ قَدْ سَفَكْتَ دَمًا عَفْوًا). ولعل هذا هو أفضل شيء قالته. إذ طلبت منه أن يضع في اعتباره حصيلة مساره الحالي وكيف أنها ستكون سيئة للغاية. وطلبت منه أن يدع الرب يسوّي المسألة بدلًا من أن ينتقم لنفسه.
٤. فعلت أبيجايل بعض الأشياء الخطأ في مناشدتها لداود.
فعلت كل هذا من دون مشورة زوجها أو موافقته: (وَلَمْ تُخْبِرْ رَجُلَهَا نَابَالَ – الآية ١٩).
انتقدت زوجها صراحة وبقسوة أمام داود: (ٱلرَّجُلِ ٱللَّئِيمِ هَذَا، عَلَى نَابَالَ، لِأَنَّ كَٱسْمِهِ هَكَذَا هُوَ. نَابَالُ ٱسْمُهُ وَٱلْحَمَاقَةُ عِنْدَهُ). ولا ينبغي للزوجة أن تتحدث عن زوجها هكذا، ولا للزوج أن يتحدث عن زوجته هكذا.
اقترحت على داود أن يقتل نابال المذنب: (وَٱلْآنَ فَلْيَكُنْ كَنَابَالَ أَعْدَاؤُكَ وَٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ ٱلشَّرَّ لِسَيِّدِي)، لكن أن يعفو عن بقية أهل البيت لأنهم أبرياء (أَنَّكَ قَدْ سَفَكْتَ دَمًا عَفْوًا).
جعلت نفسها تحت تصرفه في المستقبل، ربما بطريقة غير لائقة: (وَإِذَا أَحْسَنَ ٱلرَّبُّ إِلَى سَيِّدِي فَٱذْكُرْ أَمَتَكَ).
لم تكن خاضعة بشكل ملحوظ لزوجها، ولم تتكلم عنه باحترام. رغم أنه لا يوجد تفسير لهذا في الكتاب المقدس، ربما كان هذا مبررًا لأن المسألة كانت مسألة موت أو حياة. ولو لم تفعل أبيجايل هذا، لمات نابال وعشرات الرجال الأبرياء. لكن الهدف من هذا النص هو إظهار خضوع أبيجايل لداود لا لنابال.
٥. وَلَكِنْ نَفْسُ سَيِّدِي لِتَكُنْ مَحْزُومَةً فِي حُزْمَةِ ٱلْحَيَاةِ مَعَ ٱلرَّبِّ إِلَهِكَ. وَأَمَّا نَفْسُ أَعْدَائِكَ فَلْيَرْمِ بِهَا كَمَا مِنْ وَسَطِ كَفَّةِ ٱلْمِقْلَاعِ: لعل هذه أقوى نقطة في مناشدتها. قالت: “أنت مثل حزمة يمسك بها الرب بقوة وأمان لنفسه. وأعداؤك هم مثل حجارة يقذف بها الرب.” ويدعو هذا داود إلى التصرف كرجل قريب من الرب.
أخذ داود ٤٠٠ رجل ليفعل شيئًا يمكن أن يفعله الله بسهولة قذف حجر من مقلاع. ويفترض أن يذكّر هذا داود بالوقت الذي اتكل فيه على الرب من أجل الانتصار. وعندما قذف حجرًا من مقلاعه، قتل جليات. فحوّلت أبيجال انتباهه عن نابال ليركز على الرب.
كانت مناشدة أبيجايل لداود مجيدة جدًّا لأنها رفعته بدلًا من أن تحبطه. كان من الواضح أن داود كان على خطأ، فأرادت أبيجايل أن تهديه إلى الصواب. لكنها لم تفعل هذا بكونها سلبية، أو بتوكيد مدى خطئه وغضبه وغباوته، رغم أن هذا كان صحيحًا. وبدلًا من ذلك، أكدت دعوة داود ومصيره المجيدين، والكرامة العامة لحياته، وطلبت منه ببساطة أن يضع في اعتباره إن كان مساره الحالي في العمل متوافقًا مع هذا المصير وهذه الكرامة.
أبيجايل نموذج رائع ’للخضوع الناطق بعذوبة.‘ لدى مؤمنات كثيرات فكرة ’الخضوع الصامت.‘ فهن يقلن: “أنا أعرف أن زوجي على خطأ، لكني لن أخبره. إذ يعني الخضوع أن أخرس.” وهذا خطأ، وينبغي لهن أن يتطلعن إلى مثال أبيجايل. ولدى مؤمنات كثيرات فكرة “الخضوع الناطق بشكل حاد”. إذ يقلن: “أنا أعرف أن زوجي على خطأ، وأن الله عيّنني لأخبره بذلك. وسأخبره بقسوة!” وهذا خطأ، وينبغي لهن أن يتطلعن إلى مثال أبيجايل التي تعطينا النموذج الصحيح والخضوع الناطق بعذوبة، لا باحتداد.
لم يكن خضوع أبيجايل مميَّزًا، لكن خضوعها لداود كان مميّزًا حقًّا. وكان خضوع داود للرب متميّزًا بنفس الدرجة، حيث تخلّى عن القتال، واتكل على الرب في التكفُّل بأمر نابال.
هـ) الآيات (٣٢-٣٥): داود يشكر الله على مناشدة أبيجايل له، ويقبل نصيحتها.
٣٢فَقَالَ دَاوُدُ لِأَبِيجَايِلَ: «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي أَرْسَلَكِ هَذَا ٱلْيَوْمَ لِٱسْتِقْبَالِي، ٣٣وَمُبَارَكٌ عَقْلُكِ، وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ، لِأَنَّكِ مَنَعْتِنِي ٱلْيَوْمَ مِنْ إِتْيَانِ ٱلدِّمَاءِ وَٱنْتِقَامِ يَدِي لِنَفْسِي. ٣٤وَلَكِنْ حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي مَنَعَنِي عَنْ أَذِيَّتِكِ، إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُبَادِرِي وَتَأْتِي لِٱسْتِقْبَالِي، لَمَا أُبْقِيَ لِنَابَالَ إِلَى ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ بَائِلٌ بِحَائِطٍ». ٣٥فَأَخَذَ دَاوُدُ مِنْ يَدِهَا مَا أَتَتْ بِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهَا: “ٱصْعَدِي بِسَلَامٍ إِلَى بَيْتِكِ. اُنْظُرِي. قَدْ سَمِعْتُ لِصَوْتِكِ وَرَفَعْتُ وَجْهَكِ.”
١. مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: كان داود على مسار آثم، فمنعته أبيجايل من خلال مناشدتها الجسور السريعة الحكيمة من الخطية. وقد عرف أن الله تكلم إليه من خلالها (ٱلرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي أَرْسَلَكِ هَذَا ٱلْيَوْمَ).
تلقّى داود درسًا جيدًا، وهو أن جَرْح شعورنا لا يبرر عصياننا أبدًا. فعندما يخطئ إلينا آخرون، ربما نحس بأننا مبررون في أن نخطئ إليهم، لكن جَرْح شعورنا لا يبرر أية خطية نرتكبها.
٢. لِأَنَّكِ مَنَعْتِنِي ٱلْيَوْمَ مِنْ إِتْيَانِ ٱلدِّمَاءِ وَٱنْتِقَامِ يَدِي لِنَفْسِي: أمكن لداود أن يشكر الله أيضًا لأن أبيجايل ذكّرته بمصيره – أن يملك على إسرائيل بالبر والاستقامة. فلو قتل داود نابال وأهل بيته، لكانت هذه علامة سوداء في حياته بين الإسرائيليين، وسيتساءلون إن كان بإمكانهم أن يثقوا به حقًّا. وقد يختم هذا هلاكه أمام شاول. إذ سيعطيه داود لأول مرة سببًا مشروعًا لمطاردته كمجرم.
٣. وَمُبَارَكٌ عَقْلُكِ (مشورتك)، وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ: كان داود رجلًا بما يكفي وحكيمًا بما يكفي لقبول مشورة من امرأة. عرف أن القضية لا تتعلق بنوع جنس مقدّم المشورة (كون أبيجايل امرأة)، لكن الله استخدمها في ذلك الزمان والمكان. وأحسن داود صنعًا بقبول مشورتها وامتداحها على جسارتها في تقديمها له.
٤. فَأَخَذَ دَاوُدُ مِنْ يَدِهَا: من المهم أن نتذكر أن أبيجايل لم تأتِ إلى داود خالية الوفاض. إذ كان أحد أسباب فاعلية مناشدتها له هي أنها دفعت له ما كان مستحقًّا له. وعندما قبل ذلك من يدها، أقر بأن نابال دفع الفاتورة، ولم يعد هنالك شيء مستحق له.
هنا عرف داود بركة الحفظ من ارتكاب الخطية. إنها بركة أن تُغفر لنا خطايانا، لكنها بركة أعظم أن نُحفَظ من الخطية.
ثالثًا. نابال يموت، وداود يتزوج من أبيجايل.
أ ) الآيات (٣٦-٣٨): الله يميت نابال.
٣٦فَجَاءَتْ أَبِيجَايِلُ إِلَى نَابَالَ وَإِذَا وَلِيمَةٌ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ كَوَلِيمَةِ مَلِكٍ. وَكَانَ نَابَالُ قَدْ طَابَ قَلْبُهُ وَكَانَ سَكْرَانَ جِدًّا، فَلَمْ تُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ إِلَى ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ. ٣٧وَفِي ٱلصَّبَاحِ عِنْدَ خُرُوجِ ٱلْخَمْرِ مِنْ نَابَالَ أَخْبَرَتْهُ ٱمْرَأَتُهُ بِهَذَا ٱلْكَلَامِ، فَمَاتَ قَلْبُهُ دَاخِلَهُ وَصَارَ كَحَجَرٍ. ٣٨وَبَعْدَ نَحْوِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ضَرَبَ ٱلرَّبُّ نَابَالَ فَمَاتَ.
١. وَإِذَا وَلِيمَةٌ عِنْدَهُ: عاش نابال على مستوى اسمه، فكان أحمق. كانت حياته في خطر وشيك. وقد عرفت زوجته ذلك، كما عرف ذلك عبيده. لكنه هو لم يعرف ذلك، فراح يأكل ويسكر كما لو أن كل شيء كان على ما يرام. ولم يكن يهمه أي شيء في العالم.
وفي هذا الصدد، يشكل نابال صورة للخاطئ الذي يواصل رفض الله من دون اعتبار لدينونة الله القادمة. ومن المؤكد أن داود كان سيقتل نابال. ومن المؤكد أن الله سيدين الخاطئ الذي يستمر في خطيته ويرفضه.
٢. كَوَلِيمَةِ مَلِكٍ: كان كل ما على نابال أن يفعله هو أن يدعو داود إلى هذا الاحتفال العظيم، وعندئذٍ كانت ستُنقذ حياته. لكن جشع نابال وحماقته أدَّيا به إلى الخراب.
٣. فَمَاتَ قَلْبُهُ دَاخِلَهُ وَصَارَ كَحَجَرٍ… ضَرَبَ ٱلرَّبُّ نَابَالَ فَمَاتَ: أنقذ عمل أبيجايل نابال من داود، وأنقذ داود من نفسه. لكن لم يستطع هذا أن ينقذه من دينونة الله، ولم يكن بعيدًا عن متناول الرب. وعندما حان الوقت، تكفَّل الله بأمره.
أظهر داود في هذه الآية امتنانه لمناشدة أبيجايل التي منعته من أن ينتقم بيده. ويبرهن هذا أن داود لم يكن محتاجًا إلى أن ينتقم بنفسه. فالله قادر تمامًا على فعل هذا.
لعل نابال كان في ذهن يسوع عندما علّم عن المثل الغني الغبي (لوقا ١٢: ١٥-٢١). يصف هذا المثل رجلًا يموت ولديه كل شيء، ولا شيء على الإطلاق.
“كان يضطجع طوال الوقت كلوح على فراشه، من دون أن يتوب أو أن يثق بالله. ودانه ضميره، وذهب إلى مكان بلا ضجيج. وليكن هذا تحذيرًا للسكارى.” تراب (Trapp)
ب) الآيات (٣٩-٤٤): داود يتزوج من أبيجايل.
٣٩فَلَمَّا سَمِعَ دَاوُدُ أَنَّ نَابَالَ قَدْ مَاتَ قَالَ: «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي ٱنْتَقَمَ نَقْمَةَ تَعْيِيرِي مِنْ يَدِ نَابَالَ، وَأَمْسَكَ عَبْدَهُ عَنِ ٱلشَّرِّ، وَرَدَّ ٱلرَّبُّ شَرَّ نَابَالَ عَلَى رَأْسِهِ». وَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَتَكَلَّمَ مَعَ أَبِيجَايِلَ لِيَتَّخِذَهَا لَهُ ٱمْرَأَةً. ٤٠فَجَاءَ عَبِيدُ دَاوُدَ إِلَى أَبِيجَايِلَ إِلَى ٱلْكَرْمَلِ وَكَلَّمُوهَا قَائِلِينَ: «إِنَّ دَاوُدَ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكِ لِكَيْ نَتَّخِذَكِ لَهُ ٱمْرَأَةً». ٤١فَقَامَتْ وَسَجَدَتْ عَلَى وَجْهِهَا إِلَى ٱلْأَرْضِ وَقَالَتْ: «هُوَذَا أَمَتُكَ جَارِيَةٌ لِغَسْلِ أَرْجُلِ عَبِيدِ سَيِّدِي». ٤٢ثُمَّ بَادَرَتْ وَقَامَتْ أَبِيجَايِلُ وَرَكِبَتِ ٱلْحِمَارَ مَعَ خَمْسِ فَتَيَاتٍ لَهَا ذَاهِبَاتٍ وَرَاءَهَا، وَسَارَتْ وَرَاءَ رُسُلِ دَاوُدَ وَصَارَتْ لَهُ ٱمْرَأَةً. ٤٣ثُمَّ أَخَذَ دَاوُدُ أَخِينُوعَمَ مِنْ يَزْرَعِيلَ فَكَانَتَا لَهُ كِلْتَاهُمَا ٱمْرَأَتَيْنِ. ٤٤فَأَعْطَى شَاوُلُ مِيكَالَ ٱبْنَتَهُ ٱمْرَأَةَ دَاوُدَ لِفَلْطِي بْنِ لَايِشَ ٱلَّذِي مِنْ جَلِّيمَ.
١. وَرَدَّ ٱلرَّبُّ شَرَّ نَابَالَ عَلَى رَأْسِهِ: عرف داود أن موت نابال كان دينونة من الرب. وقد أظهر الله هذا لداود عندما قرر أن يترك الانتقام لله بدلًا من أن ينتقم بنفسه.
٢. وَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَتَكَلَّمَ مَعَ أَبِيجَايِلَ لِيَتَّخِذَهَا لَهُ ٱمْرَأَةً: طلبت أبيجايل في الآية ٣١ من داود أن يتذكرها. (وَإِذَا أَحْسَنَ ٱلرَّبُّ إِلَى سَيِّدِي فَٱذْكُرْ أَمَتَكَ). ومن المؤكد أنه تذكّرها واتخذها زوجة له.
هل كان هذا غير لائق؟ ألم يكن داود متزوجًا بالفعل من ميكال، ابنة شاول؟ (١ صموئيل ١٨: ٢٧). ويشرح كاتب صموئيل الأول أنه في ذلك الوقت، لم يكن داود متزوجًا من ميكال، لأن شاول أعطاها لرجل آخر نكاية في داود. (وسيستردها داود في ٢ صموئيل ٣: ١٣-١٦). فلم تكن أبيجايل زوجة داود الثانية، بل ’زوجته الأولى الثانية.‘
٣. ثُمَّ أَخَذَ دَاوُدُ أَخِينُوعَمَ مِنْ يَزْرَعِيلَ فَكَانَتَا لَهُ كِلْتَاهُمَا ٱمْرَأَتَيْنِ: رغم أن أبيجايل كانت الزواج الثاني لداود، إلا أنه تزوّج من أخينوعم. وسيضيف زوجات كثيرات أخريات.
هل كان هذا غير لائق؟ لم يكن هذا خطية بشكل مباشر، لأن الله لم يأمر ضد الزواج الثاني. لكن هذا تَعارضَ مع نموذج الله وخطته للوحدانية في علاقة الزواج. كان داود رجلًا ذا رغبات قوية. وعبّر داود عن هذا جزئيًا في اتخاذها زوجات كثيرات. لكن داود لم يتبع خطة الله في الزواج، ولهذا لم تكن حياته العائلية مباركة أو هادئة. إذ جلبت المتاعب العائلية أعظم المحن في حياته.