رؤيا يوحنا – الإصحاح ١٨
سقوط بابل الماديَّة
أولًا. إعلان سقوط بابل
أ ) مقدمة: هل هذه هي بابل نفسها المذكورة في الأصحاح ١٧؟
- يرى اللاهوتيون الأمر بطريقة مختلفة. فيشير البعض إلى تعبيرين للإشارة إلى بابل، تعبير ديني وآخر مادي. بينما يراهما البعض وجهين لعملة واحدة، إذ ستتم إدانتهما في الوقت نفسه.
- تتشابه بابل المذكورة في الأصحاح ١٧ مع تلك المذكورة في الأصحاح ١٨ بطرقٍ عدة. فكلاهما تحت حكم ضد المسيح، وتحكمهما الملكات. وكلاهما مليئتان بالتجديف، وكارهتان للقديسين، وسافكتان لدمائهم. وقد ارتبط اسمهما بملوكٍ زُناة، وكلاهما أيضًا تحت الدينونة والزوال.
- ورغم هذا، هناك بعض الاختلافات الهامة:
- بابل الغامضة (رؤيا يوحنا ١٧)
- الرمز: المرأة الزانية.
- ارتبطت بروما (اليابسة).
- المرأة، الزانية، الأم.
- مدانة بالرجاسات الدينية.
- دمرتها قوة سياسية كانت داعمة لها في السابق.
- بابل الماديَّة (رؤيا يوحنا ١٨)
- الرمز: المدينة العظيمة.
- ارتبطت بمدينة ميناء (الساحل).
- مأوى، مدينة عظيمة، سوق تجارية.
- يسودها الطمع والانغماس بالذات.
- دمرتها ضربة إلهية مفاجئة.
- بابل الغامضة (رؤيا يوحنا ١٧)
- من الأفضل باعتقادي أن نراهما كشيئين متشابكين ومختلفتين في الوقت نفسه. فستتم إدانة بابل المتدينة المذكورة في رؤيا يوحنا ١٧ في منتصف فترة السبع سنوات الضيقة. بينما ستتم إدانة بابل الماديَّة في نهاية هذه الفترة.
- لا يجب أن تفاجئنا هذه المساحة في النبوءة. تأمل بما يقوله العهد القديم عن المجيء الأول للمسيح.
- تنبأ ميخا بأنَّ المسيح سيأتي من بيت لحم (سفر ميخا ٢:٥).
- تنبأ هوشع بأنَّ المسيح سيأتي من مصر (سفر هوشع ١:١١).
- تنبأ ملاخي بأنَّ المسيح سيأتي إلى الهيكل (سفر ملاخي ١:٣).
- تنبأ زكريا بأنَّ المسيح سيأتي إلى صهيون (سفر زكريا ٩:٩).
- تنبأ إشعياء بأنَّ المسيح سيأتي إلى الجليل (سفر إشعياء ١:٩-٢).
- أيٌّ من هذه صحيح؟ جميعها صحيحة. فليس من الغريب أبدًا القول، “بابل تسقط،” ونعني ذلك بطريقتين (بابل المتدينة وبابل الماديَّة) وبزمنين مختلفين (منتصف الضيقة العظيمة ونهايتها).
- لا يجب أن تفاجئنا هذه المساحة في النبوءة. تأمل بما يقوله العهد القديم عن المجيء الأول للمسيح.
- يشبه هذا المقطع أسلوب النبوءات في العهد القديم والمتعلقة بهلاك المدن الشريرة. فبابل (سفر إشعياء ١٣-١٤، ٢١، وسفر إرميا ٥٠-٥١)، وصور (سفر حزقيال ٢٦-٢٨) مثالان على ذلك.
- “كرر يوحنا هنا سرد ما سبق وأعلنته النبوات عن هذا الدمار.” موريس (L. Morris)
ب) هل بابل المذكورة في رؤيا يوحنا ١٨ مدينة حقيقية أم رمزية؟
- اعتقد البعض بأنها بابل مستقبلية أعيد بناؤها على ضفاف نهر الفرات في الشرق الأوسط. وهذه المنطقة عبارة عن صحراء مقفرة في العراق اليوم.
- قبل سنواتٍ عدة، أعلن صدام حسين عن رغبته بإعادة بناء مدينة بابل الخربة بكل مجدها. وقد فشل في ذلك، ولكن من الممكن تخيل بابل المعاد بناءها كمركز اقتصادي عالمي، خصوصًا مع الثروة النفطية للشرق الأوسط. لكن لم يقم صدام حسين أو أي زعيم آخر إلى حد الآن بتحقيق حلم إعادة بناء بابل.
- على الأغلب أنَّ بابل الماديَّة رمزية، كحال بابل المتدينة. “تكلم الرب عندما كان هنا على الأرض عن الكره العميق الذي يكنه ’العالم‘ له ولخاصته (إنجيل يوحنا ١٨:١٥، ١٩). فما هذا العالم إلا مزيج من الدين، والحكومة، والتجارة؟ وبتعبير آخر، تمثِّل بابل بجميع اجزائها ما قصده المسيح بقوله ’العالم.‘” بارنهاوس (Barnhouse)
- “بتصويره لدمار مدينة (رمزية)، يصف يوحنا دينونة الله على نظام الشر الشيطاني العظيم الذي دمّر تاريخ الأرض.” جونسون (Johnson)
- يشير السياق في الأصحاح ١٨ إلى أنَّ بابل هنا تُرى بشخصيتها السياسية والاقتصادية، لا بجانبها الديني.” والفورد (Walvoord)
ج ) الآيات (١-٣): إعلان الملاك البهي.
١ثُمَّ بَعْدَ هذَا رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ، لَهُ سُلْطَانٌ عَظِيمٌ. وَاسْتَنَارَتِ الأَرْضُ مِنْ بَهَائِهِ. ٢وَصَرَخَ بِشِدَّةٍ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بَابِلُ الْعَظِيمَةُ! وَصَارَتْ مَسْكَنًا لِشَيَاطِينَ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ رُوحٍ نَجِسٍ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ طَائِرٍ نَجِسٍ وَمَمْقُوتٍ، ٣لأَنَّهُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِنَاهَا قَدْ شَرِبَ جَمِيعُ الأُمَمِ، وَمُلُوكُ الأَرْضِ زَنَوْا مَعَهَا، وَتُجَّارُ الأَرْضِ اسْتَغْنَوْا مِنْ وَفْرَةِ نَعِيمِهَا».
- وَاسْتَنَارَتِ مِنْ بَهَائِهِ: هذا الملاك النازل من السماء يشع بالبهاء لكونه آتيا من محضر الرب. “أتى هذا الملاك حديثًا من محضر الرب، ويشع بمروره حزامًا عريضًا من النور على الأرض المظلمة.” سويت (Swete)
- “سواء كان هذا الملاك هو المسيح نفسه، أم ملاكًا مخلوقًا فليس الأمر ذات أهمية. ينطبق الوصف على المسيح، وقد ينطبق على الملائكة المخلوقة أيضًا.” بوله (Poole)
- “يشير التعبير ’آخَرَ‘ (باليونانية آلون allon) إلى كون هذا الملاك شبيهًا بالملاك المذكور في ١:١٧.” والفورد (Walvoord)
- سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بَابِلُ الْعَظِيمَةُ: يعلن الملاك أنَّ بابل قد سَقَطَتْ! سَقَطَتْ، ويكرر هذه العبارة كما في “لحن جنائزي مهيب للهالكين.” روبرتسون (Robertson)
- وَصَارَتْ مَسْكَنًا لِشَيَاطِينَ: يا له من مصيرٍ محزنٍ لمدينة ذات تاريخٍ عظيم. فهذه “صورة نبوية لدمارٍ حتمي، فقد أصبحت الإنجازات البشرية الضخمة مرتعًا شيطانيًا لمخلوقاتٍ نجسة كريهة.” مونس (Mounce)
- وَفْرَةِ نَعِيمِهَا: لم تكن خطيئة بابل الوحيدة هي عبادة الأوثان (المشار إليها بكلمة زنا)، بل أيضًا الكبرياء، والطمع، وثروتها التي تحتفظ بها بأنانية.
د ) الآية (٤-٥): دعوة شعب الله إلى الانفصال عن بابل.
٤ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: «اخْرُجُوا مِنْهَا يَا شَعْبِي لِئَلاَّ تَشْتَرِكُوا فِي خَطَايَاهَا، وَلِئَلاَّ تَأْخُذُوا مِنْ ضَرَبَاتِهَا. ٥لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحِقَتِ السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا.
- اخْرُجُوا مِنْهَا يَا شَعْبِي لِئَلاَّ تَشْتَرِكُوا فِي خَطَايَاهَا: لا يمكن تخيل أن يكون ابناء الله جزءًا من بابل المتدينة (رغم تسلل بعض العناصر). ولكن يجب توخي الحذر من بابل الماديَّة، بإغراءاتها الماديّة فهي تشكل تهديدًا مستمرًا.
- وَلِئَلاَّ تَأْخُذُوا مِنْ ضَرَبَاتِهَا: يستهدف التحذير القديسين الذين يجدون أنفسهم في وضعٍ مشابه لوضع لوط عندما كان مقيمًا في مدينة سدوم (سفر التكوين ١٩). فهؤلاء هم شعب الله في مكانٍ لا يجب أن يكونوا فيه، مكانٍ على حافة الدمار.
- اخْرُجُوا مِنْهَا: إنَّ الدعوة للخروج من بابل والدنيوية التي تمثلها هي فكرة رئيسية دائمة التكرار في الأسفار المقدسة.
- “انْصَرِفُوا، انْصَرِفُوا وَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَلا تَمَسُّوا نَجِسًا. اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِ بَابِلَ، وَطَهِّرُوا أَنْفُسَكُمْ يَا حَامِلِي آنِيَةِ الرَّبِّ.” (سفر إشعياء ١١:٥٢)
- “اُهْرُبُوا مِنْ وَسْطِ بَابِلَ، وَكُونُوا مِثْلَ كَرَارِيِزَ أَمَامَ الْغَنَمِ.” (سفر إرميا ٨:٥٠)
- “اُخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهَا يَا شَعْبِي، وَلْيُنَجِّ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنْ حُمُوِّ غَضَبِ الرَّبِّ.” (سفر إرميا ٤٥:٥١)
- “لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟” (رسالة كورنثوس الثانية ١٤:٦)
- “وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا.” (رسالة أفسس ١١:٥)
- لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحِقَتِ السَّمَاءَ: تراكمت خطايا بابل الماديَّة حتى صارت بعلو برج – برج بابل.
- وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا: هذا هو مصير العالم المادي، أما بالنسبة للمؤمنين، فيقول الله: وَلاَ أَذْكُرُ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ (رسالة العبرانيين ١٢:٨).
هـ) الآيات (٦-٨): دعوة إلى الذين سيدينون بابل.
٦جَازُوهَا كَمَا هِيَ أَيْضًا جَازَتْكُمْ، وَضَاعِفُوا لَهَا ضِعْفًا نَظِيرَ أَعْمَالِهَا. فِي الْكَأْسِ الَّتِي مَزَجَتْ فِيهَا امْزُجُوا لَهَا ضِعْفًا. ٧بِقَدْرِ مَا مَجَّدَتْ نَفْسَهَا وَتَنَعَّمَتْ، بِقَدْرِ ذلِكَ أَعْطُوهَا عَذَابًا وَحُزْنًا. لأَنَّهَا تَقُولُ فِي قَلْبِهَا: أَنَا جَالِسَةٌ مَلِكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرَى حَزَنًا. ٨مِنْ أَجْلِ ذلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَتَأْتِي ضَرَبَاتُهَا: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحْتَرِقُ بِالنَّارِ، لأَنَّ الرَّبَّ الإِلهَ الَّذِي يَدِينُهَا قَوِيٌّ.
- جَازُوهَا كَمَا هِيَ أَيْضًا جَازَتْكُمْ: إنَّ الكلمة اليونانية القديمة ’جَازُوهَا‘ (apodidomi) تعني حرفيًا ’يسدد دينًا‘ أو ’يعيد ما هو مستحق.‘ سيعطي الله بابل ما تستحقه تمامًا.
- وَضَاعِفُوا لَهَا ضِعْفًا نَظِيرَ أَعْمَالِهَا… امزُجُوا لَهَا ضِعْفًا: كان التعويض بالضعف إلزاميًا في حالات السرقة وفقًا للعهد القديم (سفر الخروج ٣:٢٢-٩). وربما تكون هذه هي الطريقة التي جمعت بها بابل ثروتها، أي بواسطة الطرق الملتوية.
- وَضَاعِفُوا لَهَا ضِعْفًا نَظِيرَ أَعْمَالِهَا: يحمل هذا المقطع في ثناياه ثلاث خطايا. أولًا، الانغماس بالملذات (تَنَعَّمَتْ). ثانيًا، الكبرياء (مَجَّدَتْ نَفْسَهَا… جَالِسَةٌ مَلِكَةً). ثالثًا، تجنب المعاناة (لَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرَى حَزَنًا). فهذه جميعها سمات الحياة الدنيوية المادية.
- مِنْ أَجْلِ ذلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَتَأْتِي ضَرَبَاتُهَا: يأتي دمار بابل الماديَّة فجأةً، ويكون تامًا (وَتَحْتَرِقُ بِالنَّارِ).
ثانيًا. رثاء بابل الماديَّة
أ ) الآيات (٩-١٠): رثاء الملوك.
٩وَسَيَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَيْهَا مُلُوكُ الأَرْضِ، الَّذِينَ زَنَوْا وَتَنَعَّمُوا مَعَهَا، حِينَمَا يَنْظُرُونَ دُخَانَ حَرِيقِهَا، ١٠وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ لأَجْلِ خَوْفِ عَذَابِهَا، قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ بَابِلُ! الْمَدِينَةُ الْقَوِيَّةُ! لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ.
- وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ لأَجْلِ خَوْفِ عَذَابِهَا: حرارة دُخَانَ حَرِيقِهَا قوية لدرجة جعلت هؤلاء الملوك يقفون بعيدًا (وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ). يرى البعض في هذا مؤشرًا على استخدام الأسلحة النووية عند توجيه ضربات الدينونة لهذه المراكز التجارية.
- “هناك شك بأنَّ يشير ما سبق إلى الدمار الحرفي لمدينة روما عن طريق الحريق، مع الأخذ بعين الاعتبار الغموض الذي يلف هذه النبوءة.” الفورد (Alford)
- وَيْلٌ! وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ بَابِلُ! الْمَدِينَةُ الْقَوِيَّةُ!: “يصور وبحسٍ فكاهي قاتم هؤلاء واقفين بعيدًا وبمسافة كافية عن الحريق، معزين أنفسهم برثاءٍ فارغ.” سويت (Swete)
ب) الآيات (١١-١٧أ): رثاء التجار.
١١وَيَبْكِي تُجَّارُ الأَرْضِ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهَا، لأَنَّ بَضَائِعَهُمْ لاَ يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ فِي مَا بَعْدُ، ١٢بَضَائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَجَرِ الْكَرِيمِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْبَزِّ وَالأُرْجُوانِ وَالْحَرِيرِ وَالْقِرْمِزِ، وَكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ، وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنَ الْعَاجِ، وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنْ أَثْمَنِ الْخَشَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْمَرْمَرِ، ١٣وَقِرْفَةً وَبَخُورًا وَطِيبًا وَلُبَانًا وَخَمْرًا وَزَيْتًا وَسَمِيذًا وَحِنْطَةً وَبَهَائِمَ وَغَنَمًا وَخَيْلًا، وَمَرْكَبَاتٍ، وَأَجْسَادًا، وَنُفُوسَ النَّاسِ. ١٤وَذَهَبَ عَنْكِ جَنَى شَهْوَةِ نَفْسِكِ، وَذَهَبَ عَنْكِ كُلُّ مَا هُوَ مُشْحِمٌ وَبَهِيٌّ، وَلَنْ تَجِدِيهِ فِي مَا بَعْدُ. ١٥تُجَّارُ هذِهِ الأَشْيَاءِ الَّذِينَ اسْتَغْنَوْا مِنْهَا، سَيَقِفُونَ مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَجْلِ خَوْفِ عَذَابِهَا، يَبْكُونَ وَيَنُوحُونَ، ١٦وَيَقُولُونَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُتَسَرْبِلَةُ بِبَزّ وَأُرْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وَالْمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤْلُؤٍ! ١٧لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَرِبَ غِنىً مِثْلُ هذَا…
- بَضَائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: لا تحتاج هذه القائمة الطويلة إلى كثيرٍ من التوضيح، إلا للإشارة إلى أنَّ هذه جميعها سلع كماليَّة، وليست أساسية. فمن الواضح أنَّ الرثاء سببه المصلحة الشخصية: لأَنَّ بَضَائِعَهُمْ لاَ يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ فِي مَا بَعْدُ.
- “محور هذه الصورة المركبة هو التخلي الكامل عن ثروة هذا العالم، والتجاهل الكامل لله الذي هو مصدر هذه الثروة.” والفورد (Walvoord)
- وَأَجْسَادًا، وَنُفُوسَ النَّاسِ: تأتي أرباح بابل الماديَّة من استغلالها القاسي للآخرين. فقد باعوا أجساد ونفوس الناس. ولهذه الفكرة تطبيقات عدة بما يشابه ممارسة الإتجار بالبشر المنتشرة بكثرة اليوم، والدعارة، والإباحية.
- وَلَنْ تَجِدِيهِ فِي مَا بَعْدُ: فالذين عاشوا من أجل ملذات بابل الماديَّة سيتعذبون أكثر بالغياب الأبدي لهذه الملذات: وَلَنْ تَجِدِيهِ فِي مَا بَعْدُ. ففي النهاية، سيكون الجحيم مكانًا للرغبات غير المحققة.
ج ) الآيات (١٧ب-١٩): رثاء الربابنة.
١٧… وَكُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الْجَمَاعَةِ فِي السُّفُنِ، وَالْمَلاَحُونَ وَجَمِيعُ عُمَّالِ الْبَحْرِ، وَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، ١٨وَصَرَخُوا إِذْ نَظَرُوا دُخَانَ حَرِيقِهَا، قَائِلِينَ: أَيَّةُ مَدِينَةٍ مِثْلُ الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ؟ ١٩وَأَلْقَوْا تُرَابًا عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَصَرَخُوا بَاكِينَ وَنَائِحِينَ قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، الَّتِي فِيهَا اسْتَغْنَى جَمِيعُ الَّذِينَ لَهُمْ سُفُنٌ فِي الْبَحْرِ مِنْ نَفَائِسِهَا! لأَنَّهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَرِبَتْ!
- وَيْلٌ! وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، الَّتِي فِيهَا اسْتَغْنَى جَمِيعُ الَّذِينَ لَهُمْ سُفُنٌ فِي الْبَحْرِ مِنْ نَفَائِسِهَا: ومرةً أخرى، لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التوضيح، إلا للإشارة إلى أنَّ حزنهم على سقوط بابل الماديَّة دافعه الأنانية.
د ) الآية (٢٠): نداء إلى السماوات وشعب الله: افرحوا!
٢٠اِفْرَحِي لَهَا أَيَّتُهَا السَّمَاءُ وَالرُّسُلُ الْقِدِّيسُونَ وَالأَنْبِيَاءُ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَانَهَا دَيْنُونَتَكُمْ.
- اِفْرَحِي لَهَا: هل يجب أن يفرح شعب الله عند حلول الدينونة؟ نعم، ولكننا لا نفرح بالدمار الكامن في الدينونة. بل نفرح بالحكم العادل الذي تجلبه دينونة الله.
ثالثًا. الخاتمة: قرع ناقوس موت بابل الماديَّة
أ ) الآية (٢١): ملاك يُظهر سقوط بابل بشكلٍ حي.
٢١وَرَفَعَ مَلاَكٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظِيمَةٍ، وَرَمَاهُ فِي الْبَحْرِ قَائِلًا: هكَذَا بِدَفْعٍ سَتُرْمَى بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ فِي مَا بَعْدُ.
- وَرَفَعَ مَلاَكٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظِيمَةٍ، وَرَمَاهُ فِي الْبَحْرِ: يذكرنا هذا بالتعليمات التي أعطاها النبي إرميا إلى سرايا حيث أوصاه أن يربط حجرًا حول السِفر ويطرحه إلى وسط الفرات. هكَذَا تَغْرَقُ بَابِلُ وَلاَ تَقُومُ، مِنَ الشَّرِّ الَّذِي أَنَا جَالِبُهُ عَلَيْهَا وَيَعْيَوْنَ (سفر إرميا ٦١:٥١-٦٤).
- ويذكرنا هذا أيضًا بما قاله يسوع في إنجيل متى ٦:١٨ “وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ.” وينطبق هذا على بابل في رؤيا يوحنا ١٨، لأنها قادت آخرين إلى الخطية. فمن السيئ أن تخطأ بحق نفسك، ولكن الأشد سوءًا هو أن تقود آخرين إلى الخطية.
- سَتُرْمَى بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ فِي مَا بَعْدُ: سيسقط نظام هذا العالم يومًا ما، كما يغرق حجر عظيم في قاع البحر.
- هل سيؤذينا هذا السقوط؟ سنتأذى بقدر ما كانت نفوسنا منخرطة ومنغمسة في دنيوية ومادية بابل الماديَّة.
ب) الآيات (٢٢-٢٣): بابل تُترك خَرِبة وعاجزة.
٢٢وَصَوْتُ الضَّارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ وَالْمُغَنِّينَ وَالْمُزَمِّرِينَ وَالنَّافِخِينَ بِالْبُوقِ، لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ. وَكُلُّ صَانِعٍ صِنَاعَةً لَنْ يُوجَدَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ. وَصَوْتُ رَحىً لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ. ٢٣وَنُورُ سِرَاجٍ لَنْ يُضِيءَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ. وَصَوْتُ عَرِيسٍ وَعَرُوسٍ لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ. لأَنَّ تُجَّارَكِ كَانُوا عُظَمَاءَ الأَرْضِ. إِذْ بِسِحْرِكِ ضَلَّتْ جَمِيعُ الأُمَمِ.
- لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ… لَنْ يُوجَدَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ… لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ… لَنْ يُضِيءَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ: يصف يوحنا بلغة تصويرية وشعرية، نهاية الصناعة والتجارة في بابل.
- إِذْ بِسِحْرِكِ ضَلَّتْ جَمِيعُ الأُمَمِ: إنَّ الكلمة اليونانية للسحر هي pharmakia، والتي تعني ’تحضير العقاقير.‘ فإغواء بابل الماديَّة شبيه بإدمان المخدرات الذي تروجه الإعلانات المضللة.
ج ) الآيات (٢٤): السبب الرئيسي لدينونة بابل الماديَّة: أنها قتلت الأنبياء والقديسين.
٢٤وَفِيهَا وُجِدَ دَمُ أَنْبِيَاءَ وَقِدِّيسِينَ، وَجَمِيعِ مَنْ قُتِلَ عَلَى الأَرْضِ.
- دَمُ أَنْبِيَاءَ وَقِدِّيسِينَ، وَجَمِيعِ مَنْ قُتِلَ عَلَى الأَرْضِ: يدل حجم هذا الاتهام على أنَّ هذه المدينة العظيمة ترمز إلى نظام العالم ككل. فلا توجد مدينة واحدة حقيقية مسؤولة عن جَمِيعِ مَنْ قُتِلَ عَلَى الأَرْضِ.
- وَفِيهَا وُجِدَ دَمُ أَنْبِيَاءَ وَقِدِّيسِينَ: يعتبر الله اضطهاد شعبه إهانة شخصية لذاته. فمن يعتدي على شعب الله، فكأنه يعتدي على الله نفسه.