رؤيا يوحنا – الإصحاح ٢
رسائل يسوع المسيح إلى الكنائس السبع
تتشابه هذه الرسائل التي أرسلت إلى السبع الكنائس في أجزائها. فكل من هذه الرسائل:
- تخاطب أعضاء كنيسة معينة.
- فيها تقديم أو وصف ليسوع المسيح.
- فيها تشخيص لحالة الكنيسة.
- فيها حكم أو قرار من يسوع على حالة الكنيسة.
- فيها أمر من يسوع إلى الكنيسة.
- فيها وعظ وتوبيخ لجميع المؤمنين.
- فيها وعد بالمكافأة.
ويمكننا نحن كذلك أن نشخص حالة كل واحدة من هذه الكنائس السبع وأن نشخص حال مسيرتنا نحن مع يسوع من خلال تحليلنا وفهمنا لما قاله يسوع لكل كنيسة في كل جزء.
أولًا. رسالة يسوع إلى الكنيسة في أفسس
أ ) الآية (١أ): شخصية مدينة أفسس.
١اُكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ أَفَسُسَ…
- إِلَى مَلاَكِ: كما سبق وذكرنا في شرحنا للآية في رؤيا ٢٠:١، فقد يكون هذا الملاك هو راعي كنيسة أفسس، أو “ملاكًا” يحرس كنيسة أفسس. لكن بشكل ما وبغض النظر عن المعنى، فنحن نعلم أن الملاك يمثل هذه الكنيسة؛ لكن الأهم هو أن المقصود بالرسالة ليس ممثل الكنيسة فقط بل الكنيسة بأكملها.
- “أنا أعتبر أن كل ما يقال لهذا الملاك هو للكنيسة كلها؛ وأن الوصف لا يصف حالته الخاصة بل حال عامة المؤمنين الذين يرعاهم.” كلارك (Clarke)
- أَفَسُسَ: كانت هذه المدينة معروفة في ذلك الزمان، وكانت كنيستها معروفة كذلك. فقد خدم بولس في أفسس مدة ثلاث سنوات (أعمال الرسل ١:١٩، أعمال الرسل ١٠، أعمال الرسل ٣١:٢٠). كما أن أكيلا وبرسكيلا خدما مع أبولوس هناك (أعمال الرسل ٢٤:١٨-٢٨). وتيموثاوس رفيق بولس المقرب كان يعمل في أفسس (تيموثاوس الأولى ٣:١). ووفقًا لما وصلنا في كتب موثوقة لتاريخ الكنيسة فإن الرسول يوحنا خدم هناك أيضًا.
- “كانت كنيسة أفسس مكانًا متميزًا وفيها وعظ وتعليم عظيم.” روبرتسون (Robertson)
- أَفَسُسَ: كانت هذه المدينة العظيمة تتميز أيضًا بكونها مركزًا دينيًا وثقافيًا واقتصاديًا للمنطقة. فقد كان في أفسس معبد ديانا آلهة الخصوبة التي كان يحتفى بها بممارسات جنسية علنية لا أخلاقية. وكان يُعتبر هذا الهيكل الهائل المخصص لديانا في أفسس من عجائب الدنيا السبع القديمة، إذ كان ينتصب على ١٢٧ عمودًا طول كل منها ٦٠ قدمًا تزينه منحوتات رائعة.
- “كان معبد أرتميس أيضًا بمثابة وزارة المالية أو بنك ذلك الزمان حيث كان التجار والملوك وحتى المدن يحتفظون بودائعهم المالية في أمان تحت حماية الآلهة.” – لونجينكر (Longenecker) في تفسيره لسفر أعمال الرسل.
- “كانت أفسس معقلًا للشيطان تمارس فيها مختلف أنواع الشرور والخرافات الشيطانية. وكانت الكتب التي تحوي طلاسم الشعوذة وغيرها من الممارسات الشريرة متوفرة في تلك المدينة.” – غايبلين (Gaebelein) في تفسيره لسفر أعمال الرسل.
ب) الآية (١ب): يسوع يصف نفسه لكنيسة أفسس.
١… هذَا يَقُولُهُ الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، الْمَاشِي فِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ.
- هذَا يَقُولُهُ الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، الْمَاشِي فِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ: هذه الصور مأخوذة من رؤيا يوحنا الأصحاح الأول، وهي تؤكد سلطان يسوع في الكنيسة (الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ) وحضوره الحقيقي في الكنيسة (الْمَاشِي فِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ). فهذه المقدمة تؤكد على مركزية يسوع في الكنيسة وأهمية إدراكنا لهذه الحقيقة.
- الْمُمْسِكُ: هذه ترجمة للكلمة اليونانية القديمة kratein، وتفيد تأكيد حدوث الفعل. أي أن هذه الكنائس تنتمي ليسوع وهو الْمُمْسِكُ بها ويحفظها. فالكنائس إذًا تنتمي ليسوع، وليس لقادة هذه الكنائس أو لأعضائها.
ج ) الآيات (٢-٣): ما يعرفه يسوع عن مؤمني أفسس.
٢أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ، وَقَدْ جَرَّبْتَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلًا، فَوَجَدْتَهُمْ كَاذِبِينَ. ٣وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ.
- أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ: نظر يسوع إلى كنيسته، وكان يعرف حالها الذي لم يكن خفيًا عليه. فقد يكون هناك خطية أو فساد ما بين أعضاء الكنيسة لكن هذا لن يخفى على يسوع. ولا بد أنه يمكنه أن يقول الشيء نفسه لنا اليوم، كأعضاء وكجمع: أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَم.
- “هناك مؤمنون لا يعملون أبدًا، ولا ينجزون شيئًا لعمل المسيح. لكن إن أردت أن تعمل للمسيح فعليك أن تعمل بكل قوتك.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ: كان يسوع يعلم صدق نوايا هذه الكنيسة. فقد جدّوا وجاهدوا وتحملوا لأجل الرب ولأجل عمله. وكلمة “وَصَبْرَكَ” كلمة يونانية قديمة تعني الصمود والثبات، مما يخبرنا أن الكنيسة في أفسس كانت ثابتة راسخة.
- وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ: كانت الكنيسة في أفسس حريصة على نقاء العقيدة. فقد حذر بولس أهل أفسس في سفر أعمال الرسل ٢٩:٢٠-٣١ قائلًا: “لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ. لِذلِكَ اسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ.” وبناء على الثناء الذي سمعناه للتو من يسوع لنا أن نعلم أن أهل أفسس تعاملوا مع تحذير بولس بجدية.
- وكنيسة اليوم، مثل كنيسة أفسس، عليها أن تفحص وتمتحن أولئك الذين يزعمون إِنَّهُمْ رُسُلٌ أو خدام الله، لأن المخادعين لا بد سيمدحون أنفسهم. فكلما ازداد الشر، كلما احتاج خداعًا أكثر لتغطيته.
- “كان هذا أمرًا مشرفًا يدل على صلابة وعمق إيمانهم القائم على الحق: وكنت أتمنى لو يقال هذا عن بعض كنائس يومنا هذا، ففي هذه الأيام يمكن لشخص ذكي أن يعظ الكنيسة بأسوأ أكاذيب الجحيم، وسوف يصدقها البعض.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ: استمرت كنيسة أفسس في خطها هذا دون كلل أو ملل (وَلَمْ تَكِلَّ)، وبإصرار مقدس علينا أن نقتدي به. ففي مظهرها الخارجي كانت هذه كنيسة راسخة تعمل بجد، وتحفظ الكلمة، ولديها خدمة إرسالية.
د ) الآية (٤): مآخذ يسوع على الكنيسة في أفسس.
٤لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ: أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى.
- لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ: يستخدم يسوع هنا كلمة تدعونا للتوقف والتأمل: ’لكِنْ‘ – وكأنه يقول: “لكن رغم كل ذلك.” فبعد أن ذكر يسوع كل الأمور الإيجابية في كنيسة أفسس، كان لا زال لديه بعض المآخذ عليهم (لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ).
- تعني كلمة ’لكِنْ‘ هنا أن كل الأمور الجيدة الأخرى في كنيسة أفسس لا تلغي الأمر السيء الذي سيذكره يسوع.
- أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى: رغم كل الأمور الجيدة في كنيسة أفسس، فهناك مشكلة كبيرة. فالكنيسة تركت – ولم تفقد – محبتها التي كانت لها في البداية. فقد كانت لديهم محبة ليست لديهم الآن. “وهذا ’الترك‘ مؤكد ومحزن.” روبرتسون (Robertson)
- من المهم جدًا لنا أن نميز بين تَرك الشيء وخسارته. فيمكن أن تخسر شيئًا ما عن طريق حادث أو صدفة ما، لكن ترك الشيء هو عمل متعمد. كذلك، فنحن حين نخسر أو نفقد شيئًا ما فهذا يعني أنه لا يمكننا العثور عليه؛ لكنك حين تترك شيئًا فأنت تعرف مكانه.
- رغم أن كنيسة أفسس تركت محبتها الأولى لكن ظاهريًا كان كل شيء يبدو على ما يرام. فلو حضرت اجتماعًا للكنيسة في أفسس لربما كنت ستقول “هذه كنيسة حيّة. فهم يعملون بجد ومتمسكون بالحقّ.” وقد تشعر أيضًا بشعور سلبي دون أن تتمكن من تحديد سببه. أما يسوع فلم يكن من الصعب عليه رؤية المشكلة الحقيقية رغم أن كل شيء كان يبدو رائعًا ظاهريًا.
- كانت المشكلة خطيرة. فدون محبة، كل شيء باطل. ولا عجب أن يسوع قال لهم: لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ. “لا حاجة لوجود الكنيسة إن غابت عنها المحبة أو إن بردت المحبة فيها. فإن غابت المحبة غاب كل شيء.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى: ما هي المحبة التي تركتها كنيسة أفسس؟ نحن كمؤمنين مطالبين أن نحب الله وأن نحب بعضنا بعضًا. فهل ترك هؤلاء محبتهم لله أم محبتهم لبعضهم؟ ربما كلا الأمرين، فهما متلازمان. فلا يمكنك أن تقول أنك تحب الله وأنت لا تحب عائلته، ولا يمكنك أن تحب عائلته إن لم تحبه هو أولًا.
- كانت كنيسة أفسس كنيسة عاملة، لكن الانشغال بعمل الله أحيانًا قد يحجب أو يعطل علاقة الحب معه. إذ يمكن أن نضع عمل المسيح وخدمته قبل المسيح نفسه، ويمكننا أن ننسى المسيح في الهيكل كما فعل والدا يسوع (لوقا ٤٥:٢-٤٦).
- كانت كنيسة أفسس كنيسة نقية مستقيمة من ناحية العقيدة، لكن التركيز على صُلب العقيدة قد يجعل الكنيسة أحيانًا باردة، متشككة، غير منفتحة على الآخرين وعلى التنوع. “حين تموت المحبة، تصبح العقيدة أو التعليم جثة وتقليدًا بلا قوة. فحين يغيب نور محبة المسيح يصبح الالتصاق بالعقيدة تعصبًا أعمى.” سبيرجن (Spurgeon)
- مَحَبَّتَكَ الأُولَى: من الواضح أن هناك تغيرًا في علاقتهم بيسوع المسيح، إذ ليسوا كما كانوا قبلًا. ونحن طبعًا لا نتوقع أن يكون لنا ذات الحماس الذي كان لنا في بداية حياتنا الروحية، لكن هذا الحماس الأولي يجب أن يتحول إلى عمق ونضج يجعل مَحَبَّتَكَ الأُولَى أكثر قوة.
- بعد مضي فترة على الزواج لا يعود لعلاقة الزوجين ذات الحماس الذي كان لهما في بداية علاقتهما، وهذا متوقع ومقبول لو تحول هذا الحماس في العلاقة إلى نضج وعمق في المحبة أفضل من المحبة الأُولَى.
- ليس هناك خطأ في ذلك الحماس الأول وفي رغبتنا بأن يستمر هذا الحماس أو أن نستعيده. “ماذا كنا نفعل لأجل المسيح في بداية إيماننا وماذا نفعل الآن؟ فحين نستذكر ما كنا نفعل ونحن في بداية إيماننا، تبدو هذه الأمور وكأنها قصصًا خيالية من ماض بعيد.” سبيرجن (Spurgeon)
هـ) الآيات (٥-٦): ماذا يريد يسوع من كنيسة أفسس أن تفعل.
٥فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى، وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ. ٦وَلكِنْ عِنْدَكَ هذَا: أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّتِي أُبْغِضُهَا أَنَا أَيْضًا.
- فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ: الخطوة الأولى لإصلاح حال الكنيسة في أفسس هو أن يتذكروا من أين سقطوا. وهذا يعني أن يتذكروا ما كان لهم من محبة للرب وللآخرين.
- عندما كان الابن الضال في حضيرة الخنازير كانت الخطوة الأولى في طريق عودته هي تذكره لكيف كانت حياته في منزل والده (لوقا ١٧:١٥-١٩). وهذه هي دائمًا الخطوة الأولى في استعادة علاقتنا مع الرب.
- وَتُبْ: هذه ليست وصية للشعور بالندم أو بأي شيء آخر. ولكن الله يريدك أن تغير مسارك. فهذا “نداء عاجل لأجل تغيير فوري في الموقف والسلوك قبل فوات الأوان.” روبرتسون (Robertson)
- وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى: أي أن عليهم العودة إلى الأساسيات، أي إلى ما كانوا يفعلون عندما ابتدأت علاقتهم بيسوع. فهذه الأمور علينا ألا نتجاهلها أبدًا.
- ما هي الأَعْمَالَ الأُولَى؟
- تذكر كيف كنت تقضي وقتًا في كلمته؟
- تذكر كيف كنت تصلي؟
- تذكر أوقات شركتك مع المؤمنين الآخرين؟
- تذكر حماسك في التحدث إلى الآخرين عن يسوع؟
- يمكننا أن نقول أن الشيطان بارع في إبعادنا وإشغالنا عن هذه الأَعْمَالَ الأُولَى. فالمؤمنون عادة يهتمون بالالتحاق بكل برنامج أو أسلوب جديد مقترح للنمو الروحي والثبات. وقِصر فترات تركيزنا يجعلنا نشعر بالملل ونبتعد بسهولة عما تكمن فيه المتعة الحقيقية، حتى أننا أحيانًا سنسعى وراء كل شيء جديد ما عدا تلك الأَعْمَالَ الأُولَى.
- ما هي الأَعْمَالَ الأُولَى؟
- وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا: يقدم يسوع هنا تحذيرًا شديد اللهجة. فإن إِنْ لَمْ تَتُبْ فسوف يُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا. وحين تزول هذه المنارة ستستمر الكنيسة بالوجود كنظام اجتماعي، لكن ليس ككنيسة حقيقية ليسوع المسيح. أي أنها ستكون كنيسة «إِيخَابُودَ»، التي فارقها المجد (صموئيل الأول ٢١:٤).
- يبدو أنه، على الأقل على المدى القصير، استجابت كنيسة أفسس لهذا التحذير. ففي أوائل القرن الثاني (أي ليس طويلًا بعد ما كتبه يوحنا هنا)، امتدح اغناطيوس محبة كنيسة أفسس وثبات عقيدتهم قائلًا “أنتم يا شعب أقدس كنيسة في أفسس المعروفة والتي نفاخر بها في جميع أنحاء العالم… أنتم الذين امتلأتم بالروح القدس ولستم تفعلون شيئًا بحسب الجسد، بل كل شيء بالروح. أنتم كاملون في المسيح يسوع.” (رسالة أغناطيوس إلى أهل أفسس، الفصل ٨. موسوعة آباء ما قبل نيقية، المجلد ١، صفحة ٥٢)
- يبدو مما كتبه اغناطيوس أن كنيسة أفسس عادوا إلى محبتهم الأولى دون مساومة على جوهر عقيدتهم. وهذا توازن نجح أهل أفسس في تحقيقه رغم صعوبته، على الأقل لبعض الوقت.
- وَلكِنْ عِنْدَكَ هذَا: أَنَّكَ تُبْغِضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّتِي أُبْغِضُهَا أَنَا أَيْضًا: ويبدو هنا أن يسوع يقدم بعض المديح لكنيسة أفسس لكيلا يصيبهم الفشل مما قيل للتو. فهو يمتدحهم هنا لسبب رفضهم أَعْمَالَ النُّقُولاَوِيِّينَ الذين أدان يوحنا تعاليمهم وعقيدتهم مرة أخرى في سفر الرؤيا ١٥:٢ حين تحدث عن الزنى والانحرافات الأخلاقية.
- وصف لنا إيريناوس في أواخر القرن الثاني ما كان يعرفه عن النقولاَويِين: “هؤلاء أتباع نيقولاوس الذي كان أحد الشمامسة السبعة الذين رسمهم الرسل أولًا. وهؤلاء عاشوا حياة إباحية غير منضبطة، وأشير إليهم بوضوح في سفر رؤيا يوحنا ولتعليمهم الذي كان لا يرى مانعًا من ممارسة الزنا وأكل ما ذُبح للأوثان.” (ضد الهرطقات، الجزء ٧، الفصل ٢٦، موسوعة آباء ما قبل نيقية، المجلد ١، صفحة ٣٥٢)
- كذلك في أوائل القرن الثالث ربط هيبوليتوس، وهو تلميذ إيريناوس، بين النقولاَويِين والغنوصيين قائلًا: “هناك تنوع في الآراء بين الغنوصيين… لكن نيقولاوس كان سببًا في انتشار هؤلاء الأشرار. فقد ابتعد هذا عن العقيدة الصحيحة وتطرف في عدم الالتزام بأي ضوابط في الحياة والطعام.” (دحض كل البدع، الجزء ٧، الفصل ٢٤؛ المجلد ٥، صفحة ١١٥)
- أشار آخرون إلى المقاطع التي تشكل اسم النقولاَويِين Nicolaitans والتي تعني حرفيًا “قهر الآخرين.” وبناءً على هذا، أشار البعض إلى مزاعم بشأن سُلطة هؤلاء الرسل وخلقهم لطبقات داخل الكنيسة تفصل بين “رجال الدين” وبين “عامة الشعب.” وقد يكون هذا صحيحًا إذ أن هذا يوافق ما نعرفه عن مبادئ النقولاَويِين التي تتهاون مع الفجور وتخلق نظامًا طبقيًا خفيًا.
- ككل المخادعين أو الأنبياء الكذبة الذين ظهروا في جسد المسيح، زعم النقولاَويِون أنهم “لا يهدمون المسيحية، لكنهم يقدمون نسخة محسنة ومحدثة منها.” باركلي (Barclay)
- الَّتِي أُبْغِضُهَا أَنَا أَيْضًا: وهذه كلمات قوية بالنظر إلى أن قائلها هو مخلصنا الفياض بالمحبة. بالحب. ومهما كانت أفعال النقولاَويِين أو عقائدهم، فنحن هنا نتعلم شيئًا مما يقوله الرب يسوع عنهم. فنحن نعلم أن إله المحبة يكره الخطية، ويريد من شعبه أن يكرهها أيضًا.
و ) الآية (٧أ): توبيخ وتحذير عام لكل السامعين.
٧مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ…
- مَنْ لَهُ أُذُنٌ: وهذا يشمل جميع من سيسمعون. فهذه الرسالة لم تكتب فقط إلى الكنيسة في أفسس زمن الرسول يوحنا، لكنها لنا أيضًا نحن المؤمنين عبر كل الأزمان.
- فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ: فكل واحدة من هذه الرسائل السبعة تنطبق على جميع الكنائس، وعلينا أن نسمع ما يقوله الروح لكل الكنائس وليس لكنيسة واحدة فقط. فكل واحدة من هذه الرسائل تريد أن تخاطبك أنت أيضًا إن كان لديك أُذُنٌ لتسمع مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ.
- “ليس لدينا هنا سبعة أسفار، بل سبع رسائل في سفر واحد يمكن لكل كنيسة أن تجد فيها شيئًا يخصها بحسب الزمان الذي تعيشه” بوله (Poole)
- “تغص الكنائس في كل العالم بخطاة قدامى قد غلظت قلوبهم وتجاوزتهم كل العظات المتكررة التي سبق وسمعوها لتصيب الأشخاص الذين يجلسون خلفهم.” بيتشر (W. Beecher)
ز ) الآية (٧ب): الوعد بالمكافأة.
٧… مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ الله.
- مَنْ يَغْلِبُ: لقد جعل يسوع هذا الوعد لكل مَنْ يَغْلِبُ – لكن ما الذي يغلبه هذا الغالب؟ يذهب تفكيرنا غالبًا إلى الخطية والحرب الروحية عندما نسمع كلمة الغلبة، لكن يبدو أن يسوع هنا يتحدث عن التغلب على برودة القلب وضعف المحبة التي يدل عليها فقدانهم لمحبتهم الأولى.
- فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ: الوعد لهؤلاء الغالبين هو بالعودة إلى جنة عدن واستعادة الحياة الأبدية. وكان هذا هو المعنى المفهوم من فكرة الوصول لجنة عدن، وهذا لم يكن بالشيء القليل بالنسبة لكنيسة تحف بها المخاطر بعد أن فارقها يسوع. كما أن العبارة هنا تشير إلى التحرر من آثار اللعنة في حياتنا من خلال الحياة في محبة المخلص يسوع.
- الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ الله: كانت كلمة ’فِرْدَوْسِ‘ تعني أصلًا’الحديقة الغنّاء.‘ ولكنها أصبحت تعني ’مكان سكنى الله.‘ فحيث الله، هناك فِرْدَوْسِ!
ثانيًا. رسالة يسوع إلى الكنيسة في سميرنا
أ ) الآية (٨أ): مميزات مدينة سميرنا.
٨وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ سِمِيرْنَا…
- سِمِيرْنَا: كانت سميرنا مدينة كبيرة جميلة عامرة. فقد كانت مركزًا للعِلم والثقافة، وتفتخر بمكانتها كمدينة. “كانت سميرنا مدينة جميلة رائعة، وكان يطلق عليها لقب ’مجد آسيا.‘” باركلي (Barclay)
- سِمِيرْنَا: كانت سميرنا مدينة غنية. “كانت سميرنا مدينة تجارية رائعة تقع في نهاية طريق التجارة لحوض وادي نهر هيرموس، وكانت كل منتجات وتجارة ذلك الوادي تمر عبر أسواقها وتصدّر عبر مينائها. وكانت مشهورة بتجارة النبيذ. فكانت سميرنا مثل أفسس، مدينة غنية ومركزًا للتجارة.” باركلي (Barclay)
- سِمِيرْنَا: نعلم من التاريخ أيضًا أن سميرنا كانت مدينة تحفل بعبادة الأوثان وتعبد الإمبراطور الروماني. ففي أحد الشوارع الشهيرة في سميرنا الذي كان يسمى “الشارع الذهبي” كانت هناك معابد مهيبة للآلهة سايبيل وأبولو وأسكليبيوس وأفروديت ومعبد كبير للإله زيوس، لكن عبادة تلك الآلهة الوثنية كانت تتلاشى تدريجيًا وتتحول بدلًا إلى عبادة الإمبراطور الروماني.
- شيدت مدينة سِمِيرْنَا في عام ١٩٦ قبل الميلاد المعبد الأول للإله Dea Roma أو آلهة روما، والتي كانت بمثابة الرمز الروحي للإمبراطورية الرومانية. وبالتحول إلى عبادة “آلهة” روما، لم يعد من الصعب بعدها التحول لعبادة أباطرة روما الذين ماتوا، ومن ثم التحول لعبادة الأحياء منهم، مما أدى فيما بعد إلى المطالبة بهذه العبادة كدليل على الولاء السياسي والفخر بالمواطنة.
- في عام ٢٣ قبل الميلاد اختيرت مدينة سميرنا من بين ١١ مدينة أخرى لبناء أول معبد لعبادة الإمبراطور تيبيريوس قيصر، لتصبح رائدة المدن في بدعة عبادة الإمبراطور الرومانية.
- كان الإمبراطور الروماني دوميتيان (٨١-٩٦ قبل الميلاد) أول من طالب شعب الإمبراطورية الرومانية بعبادته باستخدام لقب “الرب” كدليل على الولاء السياسي. وبحسب ما وصلنا في تاريخ الكنيسة كان نفي الرسول يوحنا إلى جزيرة بطمس حيث تلقى هذه الرؤيا في أيام حكم دوميتيان.
- “ظهرت عبادة الإمبراطور بداية كتعبير عفوي عن الامتنان لدولة روما؛ لكنها أضحت مع نهاية القرن الأول في أيام دوميتيان أمرًا إجباريًا. إذ كان على المواطن الروماني في كل سنة أن يقدم البخور على مذبح الإمبراطور القيصر؛ يمنح بعدها شهادة تؤكد قيامه بواجبه الديني هذا.” باركلي (Barclay)
- “كل ما كان على المسيحيين فعله هو حرق قرص البخور هذا وأن يقولوا “القيصر هو الرب” ليأخذوا تلك الشهادة، ليمكنهم بعدها أن يعبدوا ما يريدون. ولكن المسيحيون لم يفعلوا هذا أبدًا. إذ لم يقبلوا بإطلاق لقب الرب يسوع على إنسان، ولم يقبلوا بمثل هذا الإعلان أو التهاون.” باركلي (Barclay)
ب) الآية (٨ب): يسوع يصف نفسه لكنيسة سميرنا.
٨… هذَا يَقُولُهُ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَعَاشَ.
- الأَوَّلُ وَالآخِرُ: اختار يسوع استخدام هذا اللقب في ظهوره الأول ليوحنا (رؤيا يوحنا ١١:١ و ١٧:١) للإشارة إلى طبيعته الأبدية. فألقاب “الأَوَّلُ وَالآخِرُ” ألقاب لا يمكن أن تخص إلا الله بحسب سفر إشعياء ٤:٤١، ٦:٤٤، ١٢:٤٨.
- الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَعَاشَ: اختار يسوع استخدام هذا اللقب في ظهوره الأول ليوحنا (رؤيا يوحنا ١٨:١) ليذكر المؤمنين في سميرنا بأنهم يخدمون الرب الذي قام من بين الأموات وانتصر على الموت. فالموت لم يقف في وجه يسوع، ولا يمكنه أن يقف في وجه شعبه كذلك.
- الإشارة إلى الموت وانتصار القيامة يتكرر عبر هذا السفر. فاسم سميرنا ذاته مصدره كلمة المرّ، وهو عطر أو طيب ذو رائحة جميلة كان يستخدم في تحنيط الجثث.
ج ) الآية (٩): ما يعرفه يسوع عن المؤمنين في كنيسة سميرنا.
٩أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ وَضَيْقَتَكَ وَفَقْرَكَ مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ. وَتَجْدِيفَ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُودًا، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ.
- أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ: كان يسوع يعرف أعمال الكنيسة في أفسس أيضًا (رؤيا يوحنا ٢:٢). فبالنسبة لكنيسة سميرنا، عرف يسوع أَعْمَالَهم وَضَيْقَتَهم وَفَقْرَهم. وهو يشير لهذا من ناحية أنه يرى حالهم واختبره شخصيًا كذلك.
- وَفَقْرَكَ: فبحسب ما وردنا في التاريخ كانت سميرنا مدينة مزدهرة، لكن المؤمنين فيها كانوا فقراء. “الكلمة الأصلية المستخدمة هنا تشير حقيقة إلى الفقر المدقع.” والفورد (Walvoord)
- كان مؤمنو سميرنا في فقر شديد بسبب اضطهادهم بسبب إيمانهم وتعرضهم للحرمان أو الطرد من أعمالهم. “وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوَالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالًا أَفْضَلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَبَاقِيًا” (عبرانيين ٣٤:١٠). فقد كان هذا النوع من الاضطهاد المادي أحد أهم أسباب فقر المؤمنين في سميرنا. ولا زال هذا النوع من اضطهاد المؤمنين شائعًا حتى اليوم.
- وَتَجْدِيفَ: كان يسوع يعرف حجم الإساءة والاضطهاد الذي يتعرض له هؤلاء المؤمنين على أيدي “المتدينين” الذي يقولون إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُودًا.
- تاريخيًا، نعلم أنه كان هناك وجود لمجتمع يهودي عدائي في سميرنا، لكن هذا النص يقول لنا أن اليهودي الحقيقي هو من يؤمن بالله ويؤمن بيسوع المسيح (فيلبي ٣:٣). فقد يكون هؤلاء يهودًا بحسب النسب لكنهم ليسوا “يهودًا” بالمفهوم الروحي أمام الله.
- أَعْرِفُ: في وسط هذا النوع من الآلام من السهل الاعتقاد بأن الله قد نسي أمرنا، لكن يسوع يعرف كل أحوالنا.
د ) الآية (٩): تشخيص يسوع للكنيسة في سميرنا.
٩… مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ.
- مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ: كل المؤشرات الخارجية كانت تشير إلى أن المؤمنين في سميرنا كانوا فقراء معدمين، لكن رغم هذه الظروف يقول يسوع أنهم أغنياء. “يا لجمال كنيسة سميرنا، فهي الأفقر لكنها الأنقى بين الكنائس السبع.” تراب (Trapp)
- غَنِيٌّ: كان هذا تشخيص يسوع، وإن كان يسوع يعتبرهم أغنياء، فهم أغنياء فعلًا. فتشخيصنا لأنفسنا لا يقترب في الأهمية من تشخيص الله لنا.
- في المقابل، كان مؤمنو كنيسة لاودكية يعتقدون أنهم كانوا أغنياء، لكنهم كانوا في الحقيقية فقراء (رؤيا يوحنا ١٧:٣). فكنيسة لاودكية كانت كنيسة غنية، لكنها كانت فقيرة روحيًا. أما سميرنا فكانت كنيسة فقيرة، لكنها كانت غنية روحيًا.
- وَفَقْرَكَ مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ: هذا التناقض بين الفقر المادي والغنى الروحي لمؤمني سميرنا يذكرنا بأن الروحانيات لا علاقة لها بالغنى المادي، وأن الفقر كذلك لا علاقة له بالحالة الروحية.
- يعلمنا الكتاب أن الغِنى المادي قد يكون عقبة أمام دخولنا لملكوت الله قد لا يتغلب عليها البعض (مرقس ٢٣:١٠-٢٥). وبالطبع ليس هناك حرج في امتلاك المال، لكن المشكلة هي في سيطرة محبة المال علينا.
- في كثير من الأحيان يكون الاهتمام بالثروة المادية على حساب الثروة الروحية الحقيقية. وهناك قصة عن البابوية في عصر النهضة، حين سار رجل مع البابا متعجبًا من روعة وغنى الفاتيكان. فقال البابا: “لم يعد بإمكاننا أن نقول ما قاله بطرس للرجل الأعرج: ليْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ” فأجاب الرجل قائلًا: “ولا يمكنك أن تقول: قُمْ وَامْشِ.”
- غَنِيٌّ: كانت كنيسة سميرنا غنية في قيادتها أيضًا. فأحد رعاة تلك الكنيسة كان يدعى بوليكاربوس، وكان هذا أحد تلاميذ الرسول يوحنا وخدم في سميرنا حتى عام ١٥٥ حيث مات شهيدًا بسبب إيمانه.
هـ) الآية (١٠): ما يريده يسوع من مؤمني سميرنا.
١٠لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضًا مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ.
- لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ: عانى المؤمنون في سميرنا من الاضطهاد وكانوا خائفين. ونحن أحيانًا نميل للاعتقاد بأن المؤمنين الذين يتحملون الاضطهاد لهم طبيعة خارقة، ولا نفهم حجم الخوف الذي يعانون منه. لكنهم كانوا سيواجهون الاضطهاد قريبًا (عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ)، فأرادهم يسوع أن يكونوا مستعدين للصمود في وجه هذه الأمور.
- هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضًا مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ: يصف يسوع هنا طبيعة الاضطهاد الذي سيواجه مؤمنو سميرنا، إذ يبدو أنه كان سيتم سجنهم لمدة زمنية محددة (وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ).
- يخبرهم يسوع إن الاضطهاد القادم هو من إِبْلِيسُ. لكنه معروف ومحدد من قبل الله. ولا بد أن إِبْلِيسُ يود سجنهم لفترة أطول، لكن الله حدد هذه التجربة بعشرة أيام.
- كان التعرض للسجن تجربة مؤلمة للغاية. ففي ذلك الزمان لم يكن السجن إداة لإعادة تأهيل أي شخص ونادرًا ما كان يستخدم للعقاب. ففي العادة كان الشخص يلقى في السجن بانتظار المحاكمة والإعدام.
- “كان تحول شخص ما إلى المسيحية يجعله خارجًا عن القانون. وفي سميرنا كان انضمام الشخص إلى الكنيسة يعني المخاطرة بحياته. فالكنيسة في سميرنا كانت مكانًا للأبطال.” باركلي (Barclay)
- هذا الضيق لا يشير إلى الضيق الذي يتعرض له كل البشر. فبعض المؤمنين يعتقدون أنهم يحملون صليبهم إن أصابهم الصداع. أما الضيق المذكور هنا فهو ضيق ما كان ليصيبهم لو لم يكونوا مؤمنين.” هافنر (Havner)
- وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ: لطالما ناقش مفسرو سفر الرؤيا مغزى فترة هذه الأيام العشرة.
- يعتقد البعض أن يسوع كان يشير إلى عشر سنوات من الاضطهاد. “بما أن الأيام في هذا السفر يشار لها عادة بالأيام النبوية، ويشير كل منها إلى عام واحد، فهي قد تشير إلى عشر سنوات من الاضطهاد؛ وهي بالضبط مدة الاضطهاد الذي عانت منه بشدة جميع الكنائس في آسيا في عهد دقلديانوس.” كلارك (Clarke)
- يعتقد آخرون أن يسوع كان يشير إلى الاضطهاد الذي سيكون خلال حكم عشرة من أباطرة الرومان. “الأول وقت حكم نيرون، ٥٤م؛ والثاني تحت حكم دومتيانوس، ٨١م؛ والثالث تحت حكم تراجان، ٩٨م؛ والرابع تحت حكم ادريان، ١١٧م، والخامس تحت حكم سيبتيموس سيفيروس، ١٩٣م، والسادس تحت حكم ماكسيمين، ٢٣٥م؛ والسابع تحت حكم ديكيوس، ٢٤٩م، والثامن تحت حكم فاليريان، ٢٥٤م؛ والتاسع تحت حكم أورليانوس، ٢٧٠م، والعاشر تحت حكم دقلديانوس، ٢٨٤م.” وايت (White) مقتبس في والفورد (Walvoord).
- وهناك البعض الآخر الذي يفسرون هذه بطريقة غريبة: “يرى آخرون أن عشرة أيام تعني مائتان وأربعون ساعة، وهو عدد السنوات من سنة ٨٥م، حين بدأ الاضطهاد الثاني (زمن حياة يوحنا)، إلى سنة ٣٢٥م، حين توقف الاضطهاد.” بوله (Poole)
- يقول آخرون أن عشرة أيام مجرد أسلوب في التعبير: “العشرة أيام لا ينبغي أن تؤخذ حرفيًا؛ إذ كان هذا أسلوب اليونانيين في الإشارة لفترة قصيرة.” باركلي (Barclay)
- وبأي حال، فليس هناك أي سبب مقنع للاعتقاد بأن المقصود ليس إلا عَشَرَةَ أَيَّامٍ حرفية من الاضطهاد الشديد، مع التركيز على فكرة أنه سيكون لفترة زمنية محدودة.
- لِكَيْ تُجَرَّبُوا: إذا كان هذا الهجوم والضيق مصدره إبليس، فلماذا لا يمكن للمؤمنين في سميرنا انتهار إبليس ليتوقف هذا الضيق؟ لأن الله كان له قصد من معاناتهم هذه وسمح بها. فالله يستخدم الضيق لينقينا (بطرس الأولى ٦:١-٧) وليجعلنا مثل يسوع (رومية ١٧:٨) وليجعلنا شهودًا حقيقيين له. فعبر العصور كانت دماء الشهود هي البذرة التي أنشأت الكنائس.
- “لم يحضر المؤمنون في سميرنا أي دروس في “كيفية كسب الأصدقاء والتأثير على الناس.” ولم يمكنهم أن يشهدوا عن كيف جعلهم الاضطهاد في حال أفضل فيما بعد. وكذلك لم يكن هناك أي وعد بالخلاص من كل هذا الفقر والاضطهاد. بل في الواقع، لم يكن أسوأ ما في الأمر قد أصابهم بعد.” هافنر (Havner)
- في هذه الحالة التحديد سمح الله لهم بهذا الضيق لِكَيْ يُجَرَّبُوا، بهدف الثبات. فمن خلال معاناة وضيق المؤمنين أظهر الله للجميع الغِنى الحقيقي لكنيسة سميرنا، بما في ذلك هم أنفسهم، رغم أنه كان يعلم بغناهم الروحي.
- لقد جُرب مؤمنو سميرنا، لكنهم اجتازوا التجربة. وبخلاف الكنائس الست الأخرى، لم تتم الإشارة إلى أي شيء سلبي، ولا تزال هذه الكنيسة من بين الكنائس السبعة حيّة إلى اليوم بعد قرون من الاضطهاد الروماني والإسلامي.
- لِكَيْ تُجَرَّبُوا: يريد الله أن يمتحننا أيضًا. وقد لا تتاح لنا ذات فرصة المعاناة التي عاشها المؤمنون في سميرنا، لكن يمكن أن يكون لنا ذات إيمانهم وتصميمهم. فقد لا نُهدد أبدًا بخطر الموت لأجل المسيح، لكن يمكننا جميعًا أن نعيش كما عاش هؤلاء الشهداء. ولكن للأسف، يهرب المؤمنون من الاضطهاد من خلال التكيف مع العالم لدرجة يصعب معها تمييز إيمانهم. لكن لم يكن هذا حال مؤمني سميرنا الذي جُربوا واجتازوا التجربة.
- كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ: ما قاله يسوع لهذه الكنيسة مهم جدًا، لكن ما لم يقله مهم أيضًا. إذ لم يوبخ يسوع مؤمني كنيسة سميرنا ولو بكلمة واحدة، بل قدم لهم وعدًا بإكليل الحياة، وشجعهم على أن يكونوا أمينين إلى الموت.
- هناك كلمتان مختلفتان لوصف التاج أو الإكليل في اللغة اليونانية القديمة. إحداهما تشير للتاج الملوكي الذي يضعه الملك والأخرى stephanos المستخدمة هنا والتي تشير إلى إكليل النصر الذي يمنح للرياضيين الفائزين. وهنا يوجه يسوع نظره إلى مؤمني سميرنا ويقول لهم: “لقد فزتم، وأنتم تستحقون الإكليل.”
- كان هذا الإكليل يوضع أيضًا في حفلات الزواج وفي المناسبات الخاصة. فالصورة هنا تشير أيضًا إلى يسوع وعروسه الكنيسة، وأكاليلهما.
- كان للوعد بإكليل مغزى خاص لمؤمني سميرنا.
- فقد كان لمدينة سميرنا “تاج” من المباني الجميلة شيدت في الجزء العلوي من جبل باغوس.
- وفي سميرنا كان عبدة الآلهة الوثنيون يضعون أكاليل.
- وفي ثقافة المدينة كان المواطنون الصالحون والرياضيون الفائزون ينالون الأكاليل.
- وعَد الرب يسوع هنا بإكليل من نوع خاص هو إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ. فالفائز الرياضي كان يتلقى إكليلًا من أوراق الشجر التي تذبل وتموت، أما أبطال يسوع فسينالون إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ (أي إكليل يدوم إلى الأبد).
- “هذه أكاليل دون هموم أو خصام أو حسد، ودون نهاية. فتيجان الملوك تثقلها الهموم والمصاعب، أما هذه التيجان فستصحبها الأفراح التي لن تنتهي.” تراب (Trapp)
و ) الآية (١١أ): توبيخ وتحذير عام لكل من يسمعون.
١١مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ…
- مَنْ لَهُ أُذُنٌ: على الرغم من أن الرُّوحُ لديه ما يقوله لنا من خلال حال كل واحدة من الكنائس، فهذه الرسالة إلى المؤمنين في سميرنا قد لا تنطبق على الأقل على المؤمنين في الغرب. فنحن حتى الآن لسنا نواجه أي نوع من الاضطهاد الذي عانى منه المؤمنون في سميرنا. وما حدث لبوليكاربوس على سبيل المثال يقدم لنا صورة مدهشة عن اضطهاد وشجاعة المؤمنين الأوائل.
- بعد عام من عودة بوليكاربوس من روما تعرض مؤمنو سميرنا لاضطهاد كبير. وحث أعضاء الكنيسة بوليكاربوس على مغادرة المدينة إلى أن تهدأ الأمور. واعتقادًا منه أن خطة الله له هو الاستمرار بضع سنوات أخرى، غادر المدينة واختبأ في مزرعة يملكها أصدقاء مؤمنون. وفي أحد الأيام في المزرعة بينما كان يصلي في غرفته شاهد بوليكاربوس في رؤيا وسادته تحترق، فأدرك ما يخبره الله به وقال لأصحابه بهدوء: “يبدو أنه سيحكم عليّ بالموت حرقًا.”
- في تلك الأثناء كان رئيس الشرطة قد أصدر مذكرة لاعتقاله، فقبضوا على أحد خَدمه وعذبوه حتى أخبرهم بمكان وجود سيده. وعند المساء جاء رئيس الشرطة وجنوده إلى المزرعة، وحين وجده الجنود شعروا بالحرج لأنهم جاءوا لاعتقال ذلك الرجل المسنّ الضعيف. فأركبوه على حمار وعادوه به إلى مدينة سميرنا.
- وفي طريق عودتهم إلى المدينة حاول رئيس الشرطة وضباط آخرون أن يقنعوا بوليكاربوس بتقديم قرص البخور أمام تمثال قيصر وأن يقول “القيصر هو الرب.” وكان هذا كل ما كان عليه فعله لينجو من العقاب. وناشدوه أن يفعل هذا لينجو من العقاب الرهيب الذي ينتظره. كان بوليكاربوس صامتًا في البداية، ثم رد عليهم بحزم وهدوء: كلا. فغضب رئيس الشرطة واغتاظ من هذا الرجل العجوز حتى أنه دفعه خارج عربته ليسقط على الأرض الوعرة. ونهض بوليكاربوس ماسحًا جروحه، وأكمل الطريق ماشيًا نحو ساحة استشهاده.
- كانت استعراضات المصارعة الدموية قد بدأت بالفعل في الحلبة، وتجمعت الحشود المتعطشة لرؤية دماء المؤمنين وهم يُعذبون ويقتلون. كان من بين هؤلاء مؤمن اسمه كوينتيس أعلن أنه من أتباع يسوع وأعلن بجرأة استعداده للاستشهاد، لكنه حين رأى الحيوانات المفترسة بانتظاره في الساحة خارت عزيمته ووافق على حرق البخور للإله قيصر. أما شاب آخر اسمه جيرمانيكوس فلم يتراجع وخرج ليواجه الأسود وليموت موتًا مؤلمًا لأجل ربه وسيده يسوع. وكان هناك عشرة مؤمنين آخرين قدموا حياتهم ذلك اليوم لكن الغوغاء المتعطشين لرؤية الدماء لم يكتفوا بهذا، فأخذوا يهتفون: “الموت للملحدين الذين لا يعبدون آلهتنا!” فبالنسبة لهم كان المسيحيون ملحدين لأنهم لم يعترفوا بآلهة روما واليونان. وثم أخذت الحشود تهتف “أخرجوا لنا بوليكاربوس!”
- وبينما جر بوليكاربوس جسده المنهك إلى الساحة سمع هو والمؤمنون الآخرون صوتًا من السماء يقول: “تشدد يا بوليكاربوس وكن ذلك الرجل الذي أريدك أن تكون.” وأثناء وقوفه أمام الحاكم، كانت هناك محاولة أخرى لحمله على إنكار يسوع، فطلب منه الحاكم أن يهتف مع الحشود قائلًا “الموت للملحدين!” فنظر بوليكاربوس إلى الغوغاء المتعطشين للدماء ولوح بيده وقال: “الموت للملحدين!”، ثم قال له الحاكم: “أعلن ولائك لقيصر وإنكارك للمسيح وسأطلقك حرًا!”، فقال بوليكاربوس: خدمت يسوع ٨٦ عامًا؛ فكيف أتجرأ الآن على إهانة ملكي؟” فاستسلم الحاكم وأعلن للجماهير جريمة المتهم: “لقد اعترف بوليكاربوس بأنه مسيحي.”
- هتفت الحشود: “أطلقوا الأسود!” لكن الأسود كانت قد أخذت بعيدًا، فطالبت الحشود بأن يتم حرق بوليكاربوس. وعندها تذكر هذا العجوز حلم الوسادة المحترقة، فتشجع، وقال لجلاديه: “لا بأس، فلست أخشى نارًا تحرق برهة ثم تنطفئ. ماذا تنتظرون؟ ابدأوا التنفيذ!”
- فوضعوا كومة كبيرة من الخشب وأقاموا عمودًا في وسطها، وبينما كانوا يربطون بوليكاربوس إليه، صلى قائلًا: “أشكرك لأنك رأيتني مستحقًا لهذا اليوم وهذه الساعة لكي أكون في عداد من استشهدوا لأجلك وتجرعوا كأس مسيحك.” وبعد أن صلى وقدم الشكر لله أشعلوا النار في الخشب وارتفعت اللُهب إلى السماء، لكنها لم تلمس جسد بوليكاربوس إذ جعل الله فاصلًا بينه وبين النار. وإذ رأى الجلاد أن جسده لا يحترق، طعن الجلاد الغاضب جسد الرجل العجوز بحربة طويلة، فبدأت الدم يتدفق من جسده حتى بدا وكأنه يخمد النيران. وحين حدث هذا قال شهود إنهم رأوا حمامة تطير من الدخان صاعدة إلى السماء. وفي نفس اللحظة قال إيرانيوس وهو أحد شيوخ الكنيسة إنه سمع صوت الله يقول له: “مات بوليكاربوس.” فقد دعا الله عبده إلى بيته الأبدي.
- مع كل ذلك، فإن الشهادة لأجل المسيح ليست شيئًا من الماضي بعد، إذ لا زال المؤمنون في جميع أنحاء العالم يواجهون الاضطهاد، خاصة في آسيا وشرق أوروبا وفي العالم الإسلامي. ويقدِر البعض أن عدد المسيحيين الذي اضهدوا وماتوا بسبب إيمانهم في القرن العشرين أكبر من عدد الذين عانوا من ذات الشيء في القرون السابقة مجتمعة.
- يسرد مقال إخباري نُشر في شهر أيار من عام ١٩٩٤ ما يلي: أدى استشهاد قس في وسط الهند بطريقة وحشية إلى تحول مئات إلى المسيحية. فقد قُتل هذا الهندوسي الذي غيّر اسمه إلى بول جيمس على يد حشد من المتطرفين أثناء حديثه في أحد الساحات قبل خدمة الكنيسة في ٢٠ فبراير في مقاطعة فولاباني. وقال شهود عيان أن جيمس كان يصرخ: “يا يسوع اغفر لهم!” بينما قام المهاجمون بقطع يديه وساقيه، ومن ثم قطعوا جسده من وسطه. ثم قام المهاجمون أيضًا بقطع رأس جيمس، هذا المؤمن المفوه الذي قام بزرع ٢٧ كنيسة. وقد لفتت جريمة القتل هذه انتباه وسائل الإعلام إلى المنطقة التي تشوبها التوترات بين الهندوس والمسلمين. ويذكر أنه تم القبض على بعض من اعتدوا على جيمس، لكن ليس جميعهم. وصرح ك. أناند بول (K. Anand Paul)، رئيس خدمة “الإنجيل للملايين” إن كراهية وعنف المهاجمين جعل العديد من الهنود يرغبون في هذه المحبة التي تمتع بها الضحية. وأضاف بول الذي تعرض هو نفسه للضرب سبع مرات وتم خطفه مرة من قبل جماعات دينية متطرف: “إن بشارة الإنجيل تنتشر بسبب هذا الاضطهاد، ونحن نجازف بحياتنا لأجل الإنجيل، وعلى الآخرين أن يصلوّا من أجلنا.” (التقرير الوطني والدولي حول الدين، ٢ أيار ١٩٩٤).
ز ) الآية (١١ب): الوعد بالمكافأة.
١١… مَنْ يَغْلِبُ فَلاَ يُؤْذِيهِ الْمَوْتُ الثَّانِي.
- مَنْ يَغْلِبُ: وهذا وعد للغالبين الذين يتغلبون على وينتصرون على خطر الاضطهاد الذي يحيط بهم.
- يمكننا أن نقول بأننا منتصرون بناء على انتصار وغلبة يسوع، الغالب الأعظم. فقد قال يسوع: “في الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَم” (يوحنا ٣٣:١٦).
- فَلاَ يُؤْذِيهِ الْمَوْتُ الثَّانِي: هؤلاء الغالبون في يسوع لن يؤذيهم الْمَوْتُ الثَّانِي. فهذا الْمَوْتُ الثَّانِي هو الجحيم أو بحيرة النار (رؤيا يوحنا ١٤:٢٠ و ٨:٢١). فحتى وإن هاجمهم الشيطان وهدد حياتهم، فوعد يسوع لهؤلاء الغالبين هو هذا الانتصار على الموت الذي لهم.
- “كان الموت الثاني تعبير يستخدمه معلمو اليهود للإشارة إلى فناء الأشرار التام.” باركلي (Barclay)
- “الجميع يموتون، لكن لم يفنَ الجميع بهذا بالموت… آه، كم محزن أن نفنى بهذا الموت الأبدي.” تراب (Trapp)
ثالثًا. رسالة يسوع إلى الكنيسة في برغامُس
أ ) الآية (١٢أ): طبيعة مدينة بَرْغَامُسَ.
١٢وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَرْغَامُسَ…
- بَرْغَامُسَ: كانت بَرْغَامُسَ العاصمة السياسية لمقاطعة آسيا الصغرى الرومانية. وفي وقت كتابة رسالة يوحنا كانت بَرْغَامُسَ عاصمة المنطقة منذ أكثر من ثلاثمائة عام، وكانت المدينة بؤرة للثقافة والتعليم وتضم واحدة من أكبر مكتبات العالم في ذلك الزمان، إذ كانت تضم أكثر من ٢٠٠ ألف مجلد.
- بَرْغَامُسَ: كانت المدينة دينية للغاية أيضًا، إذ كان فيها معابد للآلهة اليونانية والرومانية ديونيسوس، أثينا، ديميتر، وزيوس. كما كان فيها أيضًا ثلاثة معابد مخصصة لعبادة الإمبراطور الروماني.
- قبل ذلك الوقت بنحو ٥٠ عامًا فازت سميرنا بشرف بناء أول معبد لتيبيريوس، ثم فازت مدينة برغامُس بحق بناء أول معبد لعبادة قيصر أوغسطس في مقاطعة آسيا.
- بَرْغَامُسَ: كانت المدينة تعرف أيضًا كمركز عبادة الإله أسكلبيوس، وهو إله الشفاء والمعرفة الذي كان يرمز له برسم الثعبان، وكان هناك مدرسة للطب في معبده في برغامُس. وبسبب المعبد الشهير لإله الشفاء كان المرضى من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية يتوافدون إلى برغامُس طلبًا للشفاء.
- “كان يسمح بقضاء الليل في المعبد المظلم، الذي كان فيه أيضًا ثعابين مروضة غير سامة. وأثناء الليل كان يمكن لأحد هذه الثعابين أن تلامس أجساد المرضى، وكان هذا يعتبر لمسة من الإله نفسه لجلب الصحة والشفاء.” باركلي (Barclay)
ب) الآية (١٢ب): يسوع يصف نفسه للكنيسة في برغامُس.
١٢… هذَا يَقُولُهُ الَّذِي لَهُ السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ.
- الَّذِي لَهُ السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ: في رؤيا يوحنا ١٦:١ ذكر يوحنا السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ الخارج من فم يسوع، والآن يبرز يسوع هذا السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ للمؤمنين في برغامُس.
- وصف السيف الوارد في سفر الرؤيا ١٨:١ يجعلنا نربطه بفم يسوع. وكأننا نفهم أن يسوع سيواجه هذه الكنيسة بكلمته وستشعر الكنيسة بالنصل الحاد لهذه الكلمة.
- السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ: يذكرنا هذا أيضًا بالآية في رسالة العبرانيين ١٢:٤ “أَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ.” فيسوع سيستخدم هذا السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ ليفصل بين المؤمنين في برغامُس.
ج ) الآية (١٣): ما يعلمه يسوع عن الكنيسة في برغامُس.
١٣أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ، وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي، وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي حَتَّى فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا كَانَ أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ الَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ حَيْثُ الشَّيْطَانُ يَسْكُنُ.
- أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ: قال يسوع هذه العبارة لكل كنيسة، وهي تنطبق على كل واحد منا أيضًا. فهو يعرف أعمالنا، حتى لو لم يكن هناك ما يستحق أن يُعرف.
- وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ: كانت مدينة برغامُس بشكل أو بآخر معقلًا لعمل الشيطان.
- تختلف الآراء حول سبب كون برغامُس معقلًا لسلطان وعمل الشيطان. يرى البعض أن هذا يرجع إلى كون برغامُس بؤرة للعبادة الوثنية، وبالأخص عبادة الإله المخلص الشافي أسقليبيوس (Asclepios Soter). ويرى البعض أن هذا بسبب وجود مذبح ضخم فيها يشبه العرش مكرسٌ للإله الروماني زيوس. ويعتقد البعض الآخر أن السبب في ذلك هو أن برغامُس كان مركزًا للكهنوت البابلي القديم، رغم صعوبة إثبات هذا بشكل قاطع. وهناك آخرون يرون أن سبب هذا الوصف هو كون برغامُس المركز السياسي للحكم الروماني التي يطالب الشعب بالعبادة.
- وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي: وعلى الرغم من وجودهم في هذه المدينة الصعبة، إلا أن مؤمني برغامُس تمسّكوا بإيمانهم بيسوع (وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي، وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي).
- لَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي: يمتدح يسوع هنا مؤمني برغامس لأنهم لم ينكروا إِيمَانِي (إيمان يسوع)، إذ من المهم دائمًا أن نتأكد أن الإيمان الذي نتمسك به هو إيمان يسوع المسيح.
- أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ الَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ: من بين كل مؤمني برغامس نال أنتيباس لقبًا رفيعًا (شَهِيدِي الأَمِينُ). وهو ذات الوصف الذي وصف به يسوع أيضًا في سفر الرؤيا ٥:١. فقد تبع أَنْتِيبَاسُ يسوع بأمانة، وتمثل بيسوع.
- أَنْتِيبَاسُ هو أحد أبطال الكتاب المقدس المجهولين. فالتاريخ لا يخبرنا شيئًا عنه إلا ما ذكر في هذه الآية: “ليس هناك أي ذكر في تاريخ الكنيسة للشهيد أنتيباس، الذي لم يحظِ أيضًا بانتباه العالم؛ لكن المسيح يرى ويلاحظ أولئك الأصاغر الذين ينتمون إليه، رغم أن العالم لا يلاحظهم.” بوله (Poole)
- عاش أَنْتِيبَاسُ حيث كان كُرْسِيُّ الشَّيْطَانِ، لكنه وقف صامدًا أمام الهجومات والشرور التي حوله، فكانت حياته تجسيدًا لاسمه الذي يعني “ضد الجميع.”
- كلمة شَهِيدِي مستمدة من الكلمة اليونانية القديمة Martus وهي كلمة تحمل الكثير من المعاني. ففي اللغة اليونانية التقليدية لا تعني هذه الكلمة “الاستشهاد” كما نفهمه نحن، لكنها تعني الشهادة، فالشهيد هو من يجزم بصحة شيء ما. ولم يبدأ استخدام الكلمة بمعنى الاستشهاد أو الموت في سبيل شيء ما إلا في زمن العهد الجديد.” باركلي (Barclay)
د ) الآيات (١٤-١٥): مآخذ يسوع على المؤمنين في برغامُس.
١٤وَلكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّ عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ، الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ بَالاَقَ أَنْ يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا. ١٥هكَذَا عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضًا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِتَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّذِي أُبْغِضُهُ.
- وَلكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: استحق المؤمنون في برغامُس الإشادة لتمسكهم باسم يسوع وبإيمانهم. وفي الوقت نفسه، بيئتهم الصعبة لم تمنحهم عذرًا لبعض الأمور التي لامهم يسوع لأجلها.
- أَنَّ عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ: كان بلعام نموذجًا للمعلمين الفاسدين أو الكذبة. فبحسب ما ورد في أصحاحات سفر العدد ٢٢-٢٤ و ٣١، جمع بلعام بين الخطايا الأخلاقية وعبادة الأوثان في سبيل إرضاء بالاق ملك موآب لأنه لم يمكنه أن يلعن إسرائيل بشكل مباشر.
- حين قدم بلعام المشورة لبالاق، أشار عليه بأن يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وهذه المعثرة ترتبط بعبادة الأوثان (أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ) وترتبط بالفجور الجنسي (وَيَزْنُوا). وإن كان في كنيسة برغامُس من هم مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ، فهذا يعني ميل هؤلاء نحو الوثنية والأمور اللاأخلاقية.
- تميزت ثقافة الإمبراطورية الرومانية القديمة بانتشار الفجور الجنسي وقبوله اجتماعيًا، وكان الشخص الذي يعيش بمعايير الطهارة الكتابية يعتبر شخصًا غريبًا. ونقتبس هنا عن رجل الدولة الروماني شيشرون الذي استشهد به باركلي: “إن كان هناك من يعتقد أنه لا ينبغي السماح للشباب بحب العديد من النساء، فهذا شخص متشدد. ومع أني لا أستطيع إنكار المبدأ الذي يقف عليه، لكن هذا لا يتناقض فقط مع الحرية التي يسمح بها عصرنا، لكنه يتناقض أيضًا مع عادات أسلافنا. فمتى توقفنا عن هذه الممارسات، وما الخطأ فيها، ومتى كانت محرّمة؟ متى وجد أي شخص خطأ فيه؟ متى كان ما نقبله الآن غير مقبول؟” لهذا، كانت محاولة تفادي الفجور الجنسي في تلك الثقافة بمثابة السباحة ضد التيار.
- هكَذَا عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضًا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِتَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ: في سفر الرؤيا ٦:٢ امتدح يسوع مؤمني أفسس لابتعادهم عن أفعال النقولاوِيِينَ. وكان هناك قومٌ يتبع ويتمسك بِتَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ من مؤمني برغامُس.
- ما هو تَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ؟ الكلمة في أصلها اللاتيني تشير إلى السلطة والتفوق والانفصالية الهرمية، والاسم في ذاته يعني حرفيًا “قهر الناس.” ووفقًا للتفاسير القديمة كان القدامى النقولاوِيِينَ أيضًا يسمحون بالفجور الأخلاقي.
- هكَذَا عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضًا: لم يكن التوبيخ فقط بخصوص من يتمسكون بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ ومن يتمسكون بِتَعْلِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ. لكن التوبيخ يتناول أيضًا أولئك من سمحوا لهم بالاستمرار (عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضًا… عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْمًا).
- كان مؤمنو برغامُس مثل مؤمني كورنثوس الذي كتب بولس لهم في رسالته الأولى ١:٥-٩. فقد كانوا متسامحين ومتقبلين مع التعاليم المضلة والانحلال الأخلاقي، فكان على يسوع أن يوبخهم. فالشيطان لم يحقق الكثير من خلال اضطهاد المؤمنين لأن كثيرين مثل أنتيباس تمسكوا بإيمانهم. لهذا حاول الشيطان تحقيق أهدافه باستخدام الخداع. فخطته ابتدأت بالعنف، ومن ثم التحالف مع المؤمنين.
- الظروف الصعبة لا تبرر التهاون في المبادئ. ومن السهل على أي كنيسة في مثل هذه الظروف الصعبة أن تبرر تهاونها بحجة الاحتياج إلى مساعدة كل شخص، لكن الكنيسة قطعًا لا تحتاج إلى هذا النوع من المساعدة.
هـ) الآية (١٦): ما يريده يسوع من الكنيسة في برغامُس.
١٦فَتُبْ وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعًا وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي.
- فَتُبْ: تبرز هنا كلمة التوبة. فهناك خمس من الكنائس السبع أُمرت بالتوبة. والتوبة أمر يخص كل المؤمنين، وليس من آمنوا بيسوع للتو.
- وَإِّلاَّ فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعًا وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِي: إن لم يتب مؤمنو برغامُس فسيضطرون لمواجهة يسوع الذي بيده السيف ذو الحدين. فالدينونة ستبدأ من بيت الله (بطرس الأولى ١٧:٤).
- بِسَيْفِ فَمِي: سيواجه يسوع مؤمني برغامس باستخدام كلمته.
و ) الآية (١٧أ): توبيخ لجميع من يسمعون.
١٧مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ…
- مَنْ لَهُ أُذُنٌ: لا تزال الكنيسة إلى اليوم تواجه خطر التعاليم المضلة والانحرافات اللاأخلاقية. ولا تزال الكنيسة أيضًا تواجه خطر السماح بهذه الأمور بالتسرب إلى الكنيسة، كما حدث مع المؤمنين في برغامُس.
ز ) الآية (١٧ب): الوعد بالمكافأة.
١٧… مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَنِّ الْمُخْفَى، وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى الْحَصَاةِ اسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذِي يَأْخُذُ.
- مَنْ يَغْلِبُ: من يغلب روح التعايش مع التعاليم المضلة والانحلال سوف ينال الْمَنِّ الْمُخْفَى. وهو تدبير الله الكامل، الخبز الحقيقي النازل من السماء (يوحنا ٤١:٦).
- وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ: في ذلك الزمان كانت الـحَصَاةً البَيْضَاءَ تشير لأمور كثيرة قد يكون منها استخدامها كدعوة لحضور مأدبة أو احتفال، أو كعلامة على الصداقة، أو كإشارة أن شيئًا ما قد أحصي، أو كدليل على البراءة بعد المحاكمة. وقد يكون المقصود هنا أي واحدة من تلك المعاني، لكننا نفهم أن المقصود هنا على الأقل هو التأكيد على ضمان البركة.
- كتب آدم كلارك (Adam Clarke) قائلًا: “قد يرى البعض أن هناك إشارة في النص إلى الغالبين في المنافسات الرياضية، الذين لم يكن يحتفى بهم بشكل كبير في المدينة التي ينتمون إليها فقط، بل كان يقدم لهم حجر أبيض منقوش عليه اسمهم للتعريف بهم وللتمتع بامتيازات معينة على حساب الدولة طوال حياتهم… وهذه كانت تسمى tesserae بين الرومان ولها عدة أنواع. ” ويقدم لنا كلارك أمثلة على أنواع مختلفة منها، مثل Tesserae conviviales التي كانت بمثابة بطاقة دخول لحضور الاحتفالات أو المآدب الرسمية؛ لكن أبرز هذه كانت hospitales Tesserae التي كانت تمنح كإشارة على الصداقة والتحالف وتصاحبها نقوش تشهد على عقد الصداقة التي بين الطرفين.”
- عَلَى الْحَصَاةِ اسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذِي يَأْخُذُ: ما معنى هذا الاسم الجديد الذي لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ الذي وعد به الَّذِي يَأْخُذُ؟ هل هو اسم الله أم اسم المؤمن؟ على الأغلب هذا اسم المؤمن والاسم ربما أكثر أهمية من الحجر ذاته.
- من أهم الأفكار التي نفهمهما من هذا الاسم السري الجديد أنه يعبر لنا عن العلاقة الحميمة التي لنا مع الله. فحين يكون طرفان في علاقة حميمة يبدآن باستخدام أسماء أو ألقاب محببة للطرف الآخر، وهو ربما المقصود هنا.
- الفكرة الأخرى التي تقترن بهذا الاسم الجديد هو التأكيد الذي لنا بشأن مصيرنا الأبدي. فاسمك ينتظرك هناك، وكأن هناك مكانًا قد حجز لك في السماء.
رابعًا. رسالة يسوع إلى كنيسة ثياتيرا
أ ) الآية (١٨أ): مزايا مدينة ثَيَاتِيرَا.
١٨وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي ثَيَاتِيرَا…
- ثَيَاتِيرَا: كانت هذه أصغر المدن السبع وأقلها أهمية من التي خاطبها يسوع في سفر الرؤيا الأصحاحات ٢ و٣. وليس لدينا أي تأريخ عن معاناة المسيحيين في ثَيَاتِيرَا من اضطهاد سياسي أو ديني كبير.
- “لم يعطِ الشيخ بليني مدينة ثياتيرا وزنًا حين قال: “ثياتيرا وغيرها من المدن غير المهمة.” باركلي (Barclay)
- ثَيَاتِيرَا: ومع ذلك كانت هذه المدينة مركزًا للتجارة. وكان فيها العديد التنظيمات التجارية النشطة التي كان لكل منها إله خاص به من آلهة اليونان والرومان.
- يذكر لنا سفر أعمال الرسل ١٤:١٦-١٥ ليديا التي كانت بائعة للأرجوان في مدينة ثياتيرا. “كانت ثياتيرا تشتهر بصناعة الصبغ الأرجواني، وهناك العديد من الإشارات في أدبيات تلك الفترة إلى التنظيمات المختصة بتجارة وصناعة القماش هناك.” والفورد (Walvoord)
- “تشير النقوش التي عثر عليها في المنطقة إلى أن ثياتيرا كانت فيها تنظيمات تجارية أكثر من أي مدينة أخرى في حجمها في آسيا.” باركلي (Barclay)
ب) الآية (١٨ب): يسوع يصف نفسه للكنيسة في ثياتيرا.
١٨… هذَا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الَّذِي لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَرِجْلاَهُ مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ.
- هذَا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ: يصف يسوع نفسه أولًا بلقب يؤكد ألوهيته. وفي المنطق اليهودي، أن توصف بابن الشيء فهذا يعني أن لك طبيعة ذلك الشيء. فمثلًا كان لبني الساحرة في سفرإشعياء ٣:٥٧ طبيعة الساحرة، وكان لأبناء الرعد (مرقس ١٧:٣) طبيعة الرعد. لذلك، ابْنُ اللهِ له الطبيعة الإلهية، أي طبيعة اللهِ.
- الَّذِي لَهُ عَيْنَانِ كَلَهِيبِ نَارٍ: اختار يسوع هذا الوصف لذاته من التقديم الذي ورد في سفر الرؤيا ١٤:١ للتأكيد على فكرة عينيه اللتين تنظران بنظرة الدينونة.
- وَرِجْلاَهُ مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ: اختار يسوع استخدام هذا الوصف لنفسه من سفر الرؤيا ١٥:١ للتأكيد على “نقائه” لأن النُّحَاسِ ينقى ويصفى بالنار. يشير النحاس هنا أيضًا إلى صلابته لأن النُّحَاسِ كان أقوى معدن معروف في ذلك الزمان، فالقدمين اللتين مِثْلُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ تشيران إلى القوة والثبات.
ج ) الآية (١٩): ما يعرفه يسوع عن مؤمني ثياتيرا.
١٩أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّ أَعْمَالَكَ الأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ الأُولَى.
- أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ: كانت ثياتيرا المدينة الأقل أهمية بين المدن السبع التي خاطبها يسوع، لكن يسوع لم يغفلها، وكباقي الكنائس خاطبها قائلًا: “أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ.”
- وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ: من نواح كثيرة كانت الكنيسة في ثياتيرا كنيسة نموذجية تتسم بأربع صفات أساسية. فقد كان لديهم محبة لله وللآخرين، وكانوا يخدمون، وكان لهم إيمان وصبر يستحقان الإشارة لهما.
- وَأَنَّ أَعْمَالَكَ الأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ الأُولَى: وهذا إشادة ثانية بالكنيسة في ثياتيرا التي لم يكن لديها أعمال فحسب، بل كانت أعمالهم تتزايد أَكْثَرُ – فقد كانوا ينمون في المحبة والخدمة والإيمان والصبر.
د ) الآيات (٢٠-٢١): مآخذ يسوع على كنيسة ثياتيرا.
٢٠لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّكَ تُسَيِّبُ الْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ، حَتَّى تُعَلِّمَ وَتُغْوِيَ عَبِيدِي أَنْ يَزْنُوا وَيَأْكُلُوا مَا ذُبحَ لِلأَوْثَانِ. ٢١وَأَعْطَيْتُهَا زَمَانًا لِكَيْ تَتُوبَ عَنْ زِنَاهَا وَلَمْ تَتُبْ.
- لكِنْ: على الرغم من كل الأمور الإيجابية التي رآها يسوع في كنيسة ثياتيرا، كانت هناك مشاكل حقيقية بما يكفي لأن يستخدم يسوع كلمة “لكن“، أي أنه “رغم كل ما قيل، عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ.”
- أَنَّكَ تُسَيِّبُ الْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ: كانت هذه المرأة التي يسميها يسوع إِيزَابَلَ مركز الفساد في كنيسة ثياتيرا. وقد لا يكون هذا هو اسمها الحقيقي، لكنه لقب يشير بوضوح إلى من نصبت نفسها نبيّة داخل الكنيسة على نمط إيزابل في العهد القديم (سفر ملوك الأول ١٦-٢١ وملوك الثاني ٣٠:٩-٣٧).
- اسم إِيزَابَلَ له ارتباطات وإيحاءات قوية. فإن نادينا شخصًا ما باسم يهوذا أو هتلر، فهناك إشارة قوية في استخدام اسم كهذا. “وهكذا الأمر هنا في استخدام اسم إِيزَابَلَ التي كانت واحدة من أكثر الشخصيات شرًّا في العهد القديم وهي التي حاولت الجمع بين عبادة إسرائيل وعبادة البعل.” والفورد (Walvoord)
- تتضمن بعض المخطوطات اليونانية القديمة عبارة الْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ في صيغة تعني: امرأتك إيزابل أو زوجتك إيزابل. وبناءً على ذلك يعتقد البعض (مثل دين آلفورد) أن إيزابل كانت زوجة راعي الكنيسة، أو أن يسوع قصد أن يقول أن إيزابل هذه كانت “امرأة” الراعي بمعنى رمزي.
- الَّتِي تَقُولُ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ: لم تكن إيزابل هذه التي في كنيسة ثياتيرا نَبِيَّة حقيقية، لكنها ادعت النبوة. ولكن يبدو أن مؤمني الكنيسة كانوا يعتبرونها أو يعاملونها كنبية، وهذا سبب هذا التحذير من يسوع هنا.
- تنبأ يسوع بحدوث هذا في إنجيل متى ١١:٢٤ “وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ.” وهذه الكلمات قيلت أولًا في إشارة لآخر الأيام، لكن كان هناك دائمًا في الكنيسة من يسمون أنفسهم أنبياء وهم ليسوا كذلك.
- حَتَّى تُعَلِّمَ وَتُغْوِيَ عَبِيدِي أَنْ يَزْنُوا وَيَأْكُلُوا مَا ذُبحَ لِلأَوْثَانِ: يذكر يسوع هنا بالتحديد خطية هذه المرأة إيزابيل التي كان لها تأثير غير أخلاقي وغير روحي على الآخرين يقودهم إلى الخطية. أي أن إيزابل كانت تقود الآخرين إلى الفجور وعبادة الأوثان.
- من المحتمل أن يكون الزنى وأكل ما ذبح للأوثان مرتبطًا بحضور المناسبات والاحتفالات الاجتماعية العائدة للتنظيمات التجارية المنتشرة في ثياتيرا. ولربما تمت دعوة أحد المؤمنين لأحد هذه الاحتفالات في معبد أبولو، وشجعت إيزابل هذا الشخص على الذهاب، وربما حتى باستخدام كلمة “نبوية”، وعندما ذهب الرجل سقط في خطية الفجور والزنى.
- كانت حضور هذه المناسبات والاحتفالات أمرًا مغريًا جدًا. “إذ كان لا يمكن لأي تاجر أن يأمل في ازدهار تجارته ما لم يكن عضوًا في هذه التنظيمات التجارية.” باركلي (Barclay). ومع ذلك كان يتوقع من المؤمنين أن يصمدوا في مواجهة إغراءات كهذه. وقد كتب لنا أحد المؤمنين الأوائل المسمى ترتليان عن المؤمنين الذين كان يقوم رزقهم على مهن ترتبط بالعبادات الوثنية. فالرسام قد يطلب لإداء عمل في معابد وثنية، أو قد يطلب من نحات صنع تمثال لإله ما. وكان هؤلاء يبررون هذا بقولهم: “هذا عملي ومصدر دخلي الذي أعيش منه.” وعندها يجيب ترتليان قائلًا: “وهل يجب أن تعيش؟”
- عَبِيدِي: وهذه الكلمة ترينا خطورة خطية إيزابل التي أضلت عبيد يسوع الذين ينتمون إليه هو. فقد قال يسوع: “وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْر.” (مرقس ٤٢:٩).
- وفي مكان لاحق من هذه الرسالة يكشف الرب يسوع الارتباط بين أعمال إيزابل والتعاليم المضلة: هذَا التَّعْلِيمُ… أَعْمَاقَ الشَّيْطَانِ، كَمَا يَقُولُونَ (رؤيا يوحنا ٢٤:٢). إذ يبدو أن إيزابل هذه قادت آخرين في كنيسة ثياتيرا إلى أعماق الشيطان.
- في أيام العهد الجديد كانت ديانات عديدة غير مسيحية (مثل الأوهيت وبعض الغنوصيون) تقول أنها تعرف “أمور الشيطان الخفية أو العميقة.” وكتب ترتليان قائلًا إنك لو سألت أحد الغنوصيين عن خفايا أسرارهم الكونية لعقد حاجبه وقال: “هذه أمور عميقة.” وقد تكون هذه عميقة فعلًا، لكن عمقها يأخذنا إلى هوة خطيرة.
- كيف يمكن للمؤمنين أن يسقطوا في حبائل أعماق الشيطان؟ ربما كان منطقهم المخادع يقول إنه لكي تتمكن من مواجهة الشيطان، عليك أن تدخل معقله وتعلم أعماقه لكي تتغلب عليه. وللأسف هناك من يستخدم مثل هذا المنطق اليوم في حروب روحية مضلِلة.
- وَأَعْطَيْتُهَا زَمَانًا لِكَيْ تَتُوبَ… وَلَمْ تَتُبْ: كان المأخذ الأكبر ليسوع على إيزابل هو أنها لَمْ تَتُبْ. إذ يبدو انها رفضت عمل الروح القدس في قلبها الذي يدعوها إلى التوبة.
- وفي هذه الكلمات نرى رحمة ودينونة إلهنا في آن واحد. فعبارة زَمَانًا لِكَيْ تَتُوبَ تظهر لنا رحمة الله. فالله يمنحنا وقتًا للتوبة، وعلينا أن نتعامل مع الآخرين بنفس الطريقة. وعبارة وَلَمْ تَتُبْ ترينا دينونة الله. فالله يمنحنا وقتًا للتوبة لكنه ليس وقتًا غير محدود. فهناك وقت يقول فيه الله: لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ (سفر التكوين ٣:٦). وهذا يعني أنه عندما يمنحنا الله فرصة للتوبة علينا أن نستغلها.
- “المثل القائل أن الغفران يأتي مع طول الزمن قد لا يكون دائمًا صحيحًا.” تراب (Trapp)
- أَنَّكَ تُسَيِّبُ: ترينا هذه العبارة خطية كنيسة ثياتيرا. فمظهرهم الخارجي كان يبدو ككنيسة نموذجية فيها الأعمال والمحبة والخدمة والإيمان والصبر. ولكن كان هناك فساد كبير ينخرها من الداخل، وخطية الكنيسة كانت أنها سمحت بتغلغل هذا الفساد.
- ليس من الضروري أن يتبع إيزابل جمع كبير، فبعض الخميرة تخمر العجين كله، وبعض النجاسة والزنى سيفسد الكنيسة بأكملها، لا سيما إن أثر هؤلاء على غيرهم كما أثرت إيزابل عليهم.
هـ ) الآيات (٢٢-٢٥): ما يريد يسوع من كنيسة ثياتيرا أن تفعل.
٢٢هَا أَنَا أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ، وَالَّذِينَ يَزْنُونَ مَعَهَا فِي ضِيقَةٍ عَظِيمَةٍ، إِنْ كَانُوا لاَ يَتُوبُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ. ٢٣وَأَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بِالْمَوْتِ. فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ الْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ، وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ. ٢٤وَلكِنَّنِي أَقُولُ لَكُمْ وَلِلْبَاقِينَ فِي ثِيَاتِيرَا، كُلِّ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ هذَا التَّعْلِيمُ، وَالَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا أَعْمَاقَ الشَّيْطَانِ، كَمَا يَقُولُونَ: إِنِّي لاَ أُلْقِي عَلَيْكُمْ ثِقْلًا آخَرَ، ٢٥وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى أَنْ أَجِيءَ.
- هَا أَنَا أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ: قبل أن يخبر يسوع مؤمني ثياتيرا بما عليهم فعله، أخبرهم أولًا بما سيفعله هو. فيسوع سيعاقب إيزابل هذه بأن يجعلها مريضة طريحة الفراش (هَا أَنَا أُلْقِيهَا فِي فِرَاشٍ)، هي وَالَّذِينَ يَزْنُونَ مَعَهَا.
- الإشارة إلى الزنا هنا أمر مهم، إذ فيه إشارة إلى الزنا الجسدي والزنا الروحي. فحين عبد المؤمنون آلهة أخرى خانوا ربهم الذي خلصهم.
- يبدو أن استخدام تشبيه فِرَاش المرض هنا يوافق السياق، إذ كان هؤلاء مذنبين بالزنا الجسدي والروحي. ويبدو الأمر كما لو أن يسوع يقول: “إن كنت تحب الفراش النجس فسأجعلك طريحًا فيه.”
- ماذا تعني كلمة فِرَاش المرض هنا؟ قد تكون ببساطة إشارة إلى الآلام أو قد يكون مرضًا حقيقيًا سمح الله به كتأديب لإيزابل وأتباعها. فنحن نعلم من بعض أجزاء من الكتاب المقدس مثل كورنثوس الأولى ٣٠:١١ أن الله يمكن أن يستخدم المرض كوسيلة لتأديب شعبه حين يقعون في الخطية.
- الكلمة اليونانية المستخدمة هنا لكلمة فِرَاش تعني أيضًا “أريكة أو كنبة الاحتفالات؛ وبهذه الحال قد يكون المعنى المقصود، هو: “سأضربها وهي تجلس في هذه الاحتفالات المحرّمة.” باركلي (Barclay)
- إِنْ كَانُوا لاَ يَتُوبُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ: يكشف لنا يسوع الغرض من هذا التأديب. فأولًا كان هذا لكي يَتُوبُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ. فهم لم يسمعوا له قبلًا، لهذا اضطر أن يتحدث إليهم من خلال فِرَاش المرض. ثانيًا، كان الهدف من هذا هو تقديم مثال في القداسة للكنائس الأخرى: فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ الْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ.
- الْكُلَى وَالْقُلُوبِ: في ثقافة اليهود كان القلب يشير إلى مركز الفكر وكانت الكلى تشير لمركز العواطف. وبهذا يقول يسوع: “أنا أعرف كل فكرك ومشاعرك.”
- وَأَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بِالْمَوْتِ: “الجميع يموتون، لكن لم يفنَ الجميع بهذا بالموت… آه، كم محزن أن نفنى بهذا الموت الأبدي.” تراب (Trapp)
- وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى أَنْ أَجِيءَ: كان هناك العديد من المؤمنين الحقيقيين الثابتين في ثياتيرا. ولهؤلاء يقول يسوع: “تَمَسَّكُوا،” أي أن عليهم ألا يتوقفوا عما هو صالح، وأن لا ينشغلوا أو يفشلوا عمّا يريدهم يسوع أن يكونوا أو يفعلوا.
- يخبرهم يسوع أيضًا بأن يصمدوا إِلَى أَنْ أَجِيءَ. وهذا ما علينا أن نفعل، فعندها فقط ستنتهي المعركة.
و ) الآيات (٢٦-٢٨): الوعد بالمكافأة.
٢٦وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الأُمَمِ، ٢٧فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي، ٢٨وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ.
- وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ: حتى بوجود التأثير غير الأخلاقي والوثني من إيزابل، سيمكن للمؤمنين أن يغلبوا ويستمروا حتى النهاية. لهذا علينا ألّا نشعر بالإحباط من انتشار الفجور وعبادة الأوثان من حولنا، حتى بين المؤمنين، فعمل الله سوف يستمر من خلال أبنائه الغالبين.
- فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الأُمَمِ: وعد يسوع شعبه أن يحكموا معه. ونرى هنا وعدًا خاصًا لأولئك الذين يتغلبون على الفجور وعبادة الأوثان بأن يمنحهم حصة في سلطان ملكوته.
- فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ: هذا الاقتباس من مزمور ٢ يتحدث عن سلطان المسيح حين يحكم الأرض. إذ في ذلك اليوم سيسود البر وأولئك الذين يرفضون يسوع سيكسرون كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ حين تضرب بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. ويسوع يشير إلى هذا هنا ليقدم الرجاء للمؤمنين في ثياتيرا الذين أنهكهم انتشار الفجور والوثنية من حولهم، ويذكرهم بأنهم سيكونون من الغالبين.
- “كلمة ’يَرْعَاهُمْ‘ تشير إلى أن هذا الحكم لن يكون للدينونة فقط ولكن للرحمة والتوجيه أيضًا.” والفورد (Walvoord)
- وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ: يقدم لهم يسوع مكافأة هي أعظم من الملكوت إذ يقدم لهم ذاته، لأنه هو كَوْكَبَ الصُّبْحِ (رؤيا يوحنا ١٦:٢٢).
ز ) الآية (٢٩): توبيخ وتحذير عام لكل من يسمعون.
٢٩مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ.
- مَنْ لَهُ أُذُنٌ: هذه رسالة موجهة إلى الجميع. أولئك الذين على شاكلة إيزابِل، من يقودون آخرين إلى الخطية، وتشمل من يتبعون تعاليم إيزابل ويحذون حذو آخرين في فعل الخطية. وتشمل أيضًا أولئك الذين يسمحون لإيزابل بأن تمارس شرورها. وتشمل أخيرًا المؤمنين الذين عليهم أن يصمدوا.