سفر أيوب – الإصحاح ٣
أيوب يلعن يوم مَولِدِه
أولًا. يتمنى أيوب لو أنه لم يولد أبدًا.
أ ) الآيات (١-٢): سيلعن أيوب يوم مَولِدِه، ولكن ليس إلهه.
١بَعْدَ هذَا فَتَحَ أَيُّوبُ فَاهُ وَسَبَّ يَوْمَهُ، ٢وَأَخَذَ أَيُّوبُ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ:
١. بَعْدَ هذَا: كان هذا بعد كل الكارثة، وكل الآلام الشخصية، وبعد كل مظاهر الشفقة من أصدقاء أيوب. الآن، سيبدأ أيوب بالحديث عن وضعه.
٢. سَبَّ يَوْمَهُ (أي يَوْمَ مَولِدِهِ): كان الشيطان واثقًا تمامًا من قدرته على دفع أيوب ليجدف (يلعن) على الله (أيوب ١١:١ و٥:٢). وفي وسط ألمه العظيم، سَبَّ يَوْمَه (أي لعن يوم مولده) – لكنه لم يفكر حتى في أن يلعن الله.
• كان تفكير أيوب شائعًا إلى حد ما بين القدماء. وصف المؤرخ هيرودوت شعبًا قديمًا كان يحزن على المواليد الجدد (من أجل المعاناة التي سيتحملونها في حياتهم الجديدة) ويبتهج بالموت (كخلاص نهائي من معاناة الحياة).
• يبدأ هذا الإصحاح بالمعركة التي كانت تدور في عقل أيوب وروحه. لن يخسر أكثر أو يعاني أكثر مما عاناه بالفعل (رغم أن ألمه الجسدي سوف يستمر). ولكن يمكننا القول الآن أن المعركة ستدخل إلى ساحة مختلفة تمامًا. إنها ساحة عقل أيوب وروحه. كيف سيختار التفكير في معاناته؟ كيف سيختار التفكير فيما يعتقده الآخرون عن معاناته؟ كيف سيختار أن يفكر في الله وسط هذا كله؟ هذه هي الأسئلة التي تشغل ما تبقى من السفر، والتي سرعان ما يفكر فيها أي متألم. فالخسارة الكارثية بحد ذاتها ليست إلا نقطة دخول إلى المعركة المؤلمة في العقل والروح.
• “أحد الجوانب الأكثر قتامة في هذه القصة هو أن أيوب لا يترنح أبدًا على حافة الجنون، بل يواجه محنته بأكملها بعيون مفتوحة على مصراعيها.” ماسون (Mason)
ب) الآيات (٣-١٠): أيوب يلعن اليوم الذي وُلِد فيه.
٣«لَيْتَهُ هَلَكَ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ، وَاللَّيْلُ الَّذِي قَالَ: قَدْ حُبِلَ بِرَجُل. ٤لِيَكُنْ ذلِكَ الْيَوْمُ ظَلاَمًا. لاَ يَعْتَنِ بِهِ اللهُ مِنْ فَوْقُ، وَلاَ يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ. ٥لِيَمْلِكْهُ الظَّلاَمُ وَظِلُّ الْمَوْتِ. لِيَحُلَّ عَلَيْهِ سَحَابٌ. لِتَرْعَبْهُ كَاسِفَاتُ ظُلُمَاتُ النَّهَارِ. ٦أَمَّا ذلِكَ اللَّيْلُ فَلْيُمْسِكْهُ الدُّجَى، وَلاَ يَفْرَحْ بَيْنَ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَلاَ يَدْخُلَنَّ فِي عَدَدِ الشُّهُورِ. ٧هُوَذَا ذلِكَ اللَّيْلُ لِيَكُنْ عَاقِرًا، لاَ يُسْمَعْ فِيهِ هُتَافٌ. ٨لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ الْمُسْتَعِدُّونَ لإِيقَاظِ التِّنِّينِ. ٩لِتُظْلِمْ نُجُومُ عِشَائِهِ. لِيَنْتَظِرِ النُّورَ وَلاَ يَكُنْ، وَلاَ يَرَ هُدُبَ الصُّبْحِ، ١٠لأَنَّهُ لَمْ يُغْلِقْ أَبْوَابَ بَطْنِ أُمِّي، وَلَمْ يَسْتُرِ الشَّقَاوَةَ عَنْ عَيْنَيَّ.
١. لَيْتَهُ هَلَكَ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ: هنا، وبأسلوب شعري عبري رائع، لعن أيوب يوم ولادته. ولكن، وإن لم يكن ذلك كافيًا، فإنه يعود إلى الوراء ويلعن ليلة بدء تصوره في البطن. فشكوى أيوب هي أنه سيكون من الأفضل لو لم يولد أبدًا على أن يتحمل بلواه الحالية.
• وهذا يبدأ قسمًا يشبه إلى حد ما حوارًا يدور بين أيوب وأصدقائه. حيث يجيب المتحدث في بعض الأحيان خلال هذا الحوار على ما قاله المتحدث السابق. وأحيانًا لا يفعلون ذلك. تكون الخطب في بعض الأحيان عاطفية أكثر من كونها منطقية. فعندما كان أيوب يتكلم، كان يتحدث غالبًا إلى الله. وفي حين يتحدث أصدقاؤه كثيرًا عن الله، ولكنهم لا يتحدثون إليه أبدًا.
• بدءا من أيوب ٣:٣، فإن أسلوب الحديث (والكتابة) هو أسلوب شعري. هذا يعني أننا يجب أن نسمح بالصور البلاغية والمبالغة في المشاعر لدى أولئك الذين يتحدثون. “لذلك عندما يدعو أيوب الله عدوه، يجب على القارئ أن يتذكر أن هذه كلمات عاطفة شعرية تستخدم كمجاز كما يثبت السياق الكلي.” سميك (Smick)
٢. لِيَكُنْ ذلِكَ الْيَوْمُ ظَلاَمًا: أيوب هنا يحتقر يوم ولادته ويتمنى أن يُمحى هذا اليوم من تقويم التاريخ. أيوب لا يلعن الله هنا أو في أي مكان آخر في سفر أيوب. لكنه كان يدلي هنا بأقوى تصريحاته ضد الله وخاصة ضد حكمة الله وخطته.
• “كما قال الله في تكوين ٣:١ «لِيَكُنْ نُورٌ»، هكذا قال أيوب، مستخدمًا نفس المصطلحات في أيوب ٤:٣، ’لِيَكُنْ ذلِكَ الْيَوْمُ ظَلاَمًا.‘ كل هذا خواء منطقي، لكنه شِعْر، وكان يهدف إلى التنفيس الكامل عن مشاعره.” سميك (Smick)
• يمكننا القول إنه لعن يومه، ولكن ليس إلهه، كما أراده الشيطان أن يفعل. “أعطى الحرية المطلقة لحزنه، وبدأ يزأر ويغضب لأبعد الحدود. ولو لم يعقه الروح، لكان بالتأكيد قد وقع في التجديف واليأس، وهذا تمامًا ما أراده الشيطان.” تراب (Trapp)
٣. لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ: من دون تأييد لممارسات السحرة القدامى، فإن أيوب يدعو لاَعِنُو الْيَوْمِ أن يلعنوا أيضًا يوم ولادته.
• “يستدعي أيوب العرافون القدامى كي يلعنوا يوم ولادته. ولا أعتقد أن أيوب شخصيًا يؤمن بقوتهم الداخلية، ولم يكن مرتبطًا بهم. لكنه ببساطة يعبر عن نفسه بوضوح.” لوسون (Lawson)
٤. الْمُسْتَعِدُّونَ لإِيقَاظِ التِّنِّينِ: هذا هو أول ذكر لهذا المخلوق الغريب في الكتاب المقدس، لكن التِّنِّينِ (لَوِيَاثَان) مذكور بشكل بارز في خطاب طويل يبدأ من أيوب ١:٤١. اعتبر التِّنِّينِ (لَوِيَاثَانَ) عادة وحشًا بحريًا أسطوريًا يرعب البحارة والصيادين.
•. في السياق الحالي لأيوب، قد تكون الفكرة هي أنه كما يلعن البحارة والصيادون التِّنِّين المهدد لهم بكل قوتهم، كذلك يتمنى أيوب أن يُلعن يوم ولادته أيضًا. “ليس لأن أيوب كان يبرر هذه الممارسة، ولكنها فقط رغبة متهورة وعاطفية، أن أولئك الذين يسكبون الكثير من اللعنات دون استحقاق، سينالون لعنتهم المستحقة على هذا اليوم.” بوله (Poole)
• “استخدمت الأساطير الحالية مصطلح التِّنِّين (لَوِيَاثَانَ) لوحش الفوضى الذي عاش في البحر، والبحر نفسه كان إلهًا صاخبًا يمكن إثارته. لكن بالنسبة لأيوب، المُؤْمن بإلهٍ واحد، هذه كانت مجرد صور حية.” سميك (Smick)
• “لا يمكن أن يكون هناك شك في أن التِّنِّين (لَوِيَاثَانَ) هو تنين الفوضى في الأساطير القديمة.” أندرسن (Andersen)
• يعني اسم التِّنِّين (لَوِيَاثَانَ) ’الملتوي‘ ويستخدم أيضًا في نصوص أخرى مثيرة للاهتمام في الكتاب المقدس.
يشير مزمور ٧٤: ١٢-١٤ إلى التِّنِّين كثعبان بحري، وأن الله كسر رأس التِّنِّين منذ زمن بعيد، ربما عند الخليقة.
يشير مزمور ١٠٤: ٢٦ أيضًا إلى التِّنِّين كمخلوق بحري.
يتحدث إشعياء ٢٧: ١ عن هزيمة التِّنِّين المستقبلية، ويربطه أيضًا بثعبان ملتوٍ يعيش في البحر.
يتحدث إشعياء ٥١: ٩ ومزمور ٨٩: ٨-١٠ أيضًا عن ثعبان مرتبط بالبحر هزمه الله كدليل على قوته العظيمة، ويُعرف هذا الثعبان باسم رَهَب، أي المتكبر.
يشير سفر أيوب ٢٦: ١٢-١٣ أيضًا إلى هزيمة الله الخارقة للثعبان الهارب والمرتبط بالبحر.
• تشير الأساطير العبرية القديمة إلى أن الثعبان الشرير كان في البحر البدائي مقاومًا الخليقة، وأن الله قتله وأعاد النظام إلى العالم (تكوين ١: ١-٢).
• غالبًا ما يتم تمثيل الشيطان على أنه تنين أو ثعبان (تكوين ٣؛ رؤيا ١٢ و١٣)، ويعتبر البحر مكانًا خطيرًا أو مهددًا بالنسبة لليهود (إشعياء ٥٧: ٢٠، مرقس ٤: ٣٩، رؤيا ٢١: ١). لذلك، قد يكون التِّنِّين مظهرًا آخر للشيطان يشبه الثعبان، الذي هو ’رَهَب‘ الأصلي (أي المتكبر).
• تجنب المعلق البروتوستانتي جون تراب (John Trapp) مناقشة موضوع التِّنِّين بأكمله. “فإن كان عليَّ أن أوضح المعنى للقارئ، بالاستعانة بآراء العديد من المفسرين، فلن أتعبه فحسب، ولكني سأخاطر أيضًا بفعل ما فعله الكاهن في أوغسبرغ الذي قال في نهاية محاضرته الأخيرة: أنه وأيوب كانا سعيدين جدًا بالتخلص من بعضهما البعض. وبحسب فهمه القليل أو المعدوم للمغزى وراء سفر أيوب، بدا له أن أيوب تعذب أكثر بكثير من تصريحاته [تفسيره] من عذابه بسبب قروحه.”
ثانيًا. أيوب يتمنى الموت ليتخلص من بؤسه الحالي
أ ) الآيات (١١-١٩): لِمَ لَمْ أولد ميتًا؟
١١لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ الرَّحِمِ؟ عِنْدَمَا خَرَجْتُ مِنَ الْبَطْنِ، لِمَ لَمْ أُسْلِمِ الرُّوحَ؟ ١٢لِمَاذَا أَعَانَتْنِي الرُّكَبُ، وَلِمَ الثُّدِيُّ حَتَّى أَرْضَعَ؟ ١٣لأَنِّي قَدْ كُنْتُ الآنَ مُضْطَجِعًا سَاكِنًا. حِينَئِذٍ كُنْتُ نِمْتُ مُسْتَرِيحًا ١٤مَعَ مُلُوكٍ وَمُشِيرِي الأَرْضِ، الَّذِينَ بَنَوْا أَهْرَامًا لأَنْفُسِهِمْ، ١٥أَوْ مَعَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ ذَهَبٌ، الْمَالِئِينَ بُيُوتَهُمْ فِضَّةً، ١٦أَوْ كَسِقْطٍ مَطْمُورٍ فَلَمْ أَكُنْ، كَأَجِنَّةٍ لَمْ يَرَوْا نُورًا. ١٧هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغْبِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون. ١٨الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا، لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ. ١٩الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ.
١. لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ الرَّحِمِ؟: واصل أيوب شكواه من مكان بؤسه. وباستخدام المبالغة الشعرية، يصف أيوب قوة ألمه الحالي وشعوره بأنه سيكون أفضل بكثير لو لم يحيا أبدًا ليواجه مثل هذه الكارثة.
• يبدو الأمر كما لو أن أيوب قال في هذه المرحلة، “لقد طلبت أن يُمحى يوم ولادتي، وهذا لم يحدث ولا يمكن أن يحدث. فلماذا لم أولد ميتًا في رحم أمي؟”
• من السهل – ولكن من الخطأ جدًا – الاعتقاد بأن أيوب كان خاطئًا لأنه كان عاطفيًا جدًا. ولكن الكتاب المقدس لا يقدم لنا نهجًا قاسيًا وثابتًا لمشاكل الحياة. “لا يمكن التأكيد بقوة على أن المشاعر المذهلة التي تم التعبير عنها في هذا الخطاب لا تعني أن أيوب قد تصدع تحت الضغط. لا يوجد أي تلميح إلى أن الشيطان قد أوضح وجهة نظره أخيرًا. اختبار الرب ليس لمعرفة ما إذا كان أيوب سيجلس دون حراك مثل قطعة من الخشب.” أندرسن (Andersen)
٢. لأَنِّي قَدْ كُنْتُ الآنَ مُضْطَجِعًا سَاكِنًا. حِينَئِذٍ كُنْتُ نِمْتُ مُسْتَرِيحًا: كان أيوب مخطئًا في فهمه للحياة الآخرة، وربما كان يؤمن بشيء مشابه للعقيدة الحديثة لرقاد النفس، التي تقول أن الموتى يرقدون في القبر في حالة الانتظار حتى تتم قيامتهم في اليوم الأخير.
• إن فكرة رقاد النفس خاطئة بسبب ما كتبه بولس بوضوح في ٢ كورنثوس ٥: ٦-٨ ’فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.‘ لقد فهم بولس أنه إن لم يكن حيًا على هذه الأرض، فسيكون في محضر الله وليس في حالة انتظار مستلقٍ في قبر. فهم بولس أيضًا أنه إذا مات، فسيكون ذلك ربحًا فوريًا (فيلبي ١: ٢١)، وهو ما يعارض أيضًا فكرة نوم الروح.
• يمكننا أن نفسر عدم معرفة أيوب بالحياة ما بعد الموت من خلال فهمنا مبدأ تيموثاوس الثانية ١: ١٠ ’وَإِنَّمَا أُظْهِرَتِ الآنَ بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ.‘ لقد كان مفهوم الخلود ضبابيًا في العهد القديم، ولكنه أكثر وضوحا في العهد الجديد. على سبيل المثال، يمكننا أن نقول إن المسيح كان يعرف تمامًا ما كان يتحدث عنه عندما وصف النَّارِ الأَبَدِيَّةِ والدينونة (كما في متى ٢٥: ٤١-٤٦). لذلك نحن نعتمد على العهد الجديد لفهمنا للحياة بعد الموت، أكثر بكثير من العهد القديم.
• نحن نفهم أيضًا أن هذا لا ينتقص بأي شكل من الأشكال من حقيقة الكتاب المقدس وسفر أيوب. ما هو صحيح أن أيوب قال هذا بالفعل وصدّقه بالفعل. فالحق الموجود في تصريحه يجب تقييمه وفقًا لبقية الكتاب المقدس.
• وفي وقت لاحق، تحدى الله أيوب وصحح تأكيداته المتغطرسة فيما يتعلق بالحياة الآخرة، مذكرًا أيوب بأنه في الواقع لم يكن يعرف كيف تبدو الحياة بعد الموت (أيوب ٣٨: ٢ و٣٨: ١٧).
٣. هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغْبِ (فَهُنَاكَ يَتَوَقَّفُ المُجْرِمُونَ عَنْ إثْمِهِمْ): كان أيوب مخطئًا أيضًا في هذه النظرة للحياة بعد الموت. كان لديه الشعور كما الكثير من الناس – أن العالم الآتي سيكون بطريقة ما مكانًا أفضل للجميع. وفي الواقع، الْمُنَافِقُون لا يكُفّون عن إثمهم في العالم الآتي؛ ومشكلتهم تزداد فقط. وهناك لا يرتاح الأَسْرَى، وربما يكون الصوت الوحيد الذي يسمعونه هو صَوْتَ الْمُسَخِّرِ.
• “إنه يعني أن الأشرار يعيشون في حالة من الاضطراب العاطفي التي تنتهي بسعادة في الموت. نحن بالفعل على مقربة من التفكير المرير بأنّ كونك جيدًا أو سيئًا لا يحدث فرقًا في النهاية.” أندرسن (Andersen)
• هذا الخداع منتشر بشكل ملحوظ. أحد الأمثلة البارزة يتكلم عن قتلة كولومبين سيئي السمعة، إريك هاريس وديلان كليبولد، الذين تركوا وراءهم وثيقة مسجلة بالفيديو توضح دوافعهم. في الجزء الأخير من الشريط، الذي تم تصويره صبيحة يوم تنفيذ حكم الاعدام، يرتدي هاريس وكليبولد ملابسهما ويقولان إنهما مستعدان “ليوم القيامة الصغير.” ثم يقول كليبولد، الذي كان يبدو متوترًا، كلمات وداع لوالديه. واختتم قائلًا: “لم أحب الحياة كثيرًا. ولكن تأكدوا أنني ذاهب إلى مكان أفضل من هنا.” بشكل لا يصدق، اعتقد هؤلاء الشباب أنهم ذاهبون إلى مكان أفضل.
• لكننا نفهم أن أيوب لم يكن يهدف إلى اليقين اللاهوتي أو أن يفسر الحياة الآخرة. لكنه كان يسكب عذاب روحه. “أيوب لا يتدخل هنا في حالتهم الأبدية بعد الموت، أو حكم الله ودينونته على الأشرار، الذي سيتحدث عنه فيما بعد. لكنه يتحدث فقط عن تحررهم من المشاكل الدنيوية، وهي المسألة الوحيدة لشكواه وحديثه الحالي.” بوله (Poole)
ب) الآيات (٢٠-٢٦): أيوب يرثي حاله: لماذا أستمر في العيش؟
٢٠«لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ، وَحَيَاةٌ لِمُرِّي النَّفْسِ؟ ٢١الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ وَلَيْسَ هُوَ، وَيَحْفُرُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكُنُوزِ، ٢٢الْمَسْرُورِينَ إِلَى أَنْ يَبْتَهِجُوا، الْفَرِحِينَ عِنْدَمَا يَجِدُونَ قَبْرًا! ٢٣لِرَجُل قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ، وَقَدْ سَيَّجَ اللهُ حَوْلَهُ. ٢٤لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي، وَمِثْلَ الْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي، ٢٥لأَنِّي ارْتِعَابًا ارْتَعَبْتُ فَأَتَانِي، وَالَّذِي فَزِعْتُ مِنْهُ جَاءَ عَلَيَّ. ٢٦لَمْ أَطْمَئِنَّ وَلَمْ أَسْكُنْ وَلَمْ أَسْتَرِحْ، وَقَدْ جَاءَ الزُّجْرُ».
١. لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ: تساءل أيوب لماذا سمح الله لمن هم في بؤس مثل بؤسه أن يستمروا في الحياة، ولماذا أعطيت حَيَاة لأولئك الذين كانوا مُرِّي النَّفْسِ. إنه توسع شعري مؤثر للفكرة التي تم التعبير عنها في المقطع السابق، وتكهن بأن الموت كان أفضل من بؤسه الحالي.
• كان أيوب من بين أولئك الذين يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ وَلَيْسَ هُوَ (الذين يَرْغَبُونَ بِالمَوْتِ وَلَا يَأتِي). ومع ذلك، لم يقدم على الانتحار أو حتى يفكر بجدية فيه. ومرة أخرى نرى هنا انسكاب صادق لنفس متألمة.
• “ولكن من الملاحظ أن أيوب لم يضع يده العنيفة على نفسه، ولم يفعل أي شيء لتسريع أو تدبير موته. فعلى الرغم من كل مآسيه وشكاواه، كان قانعًا بأن يصبر إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بَدَلِي (أيوب١٤:١٤).” بوله (Poole)
٢. (لِمَ يُعْطَى نُورٌ) لِرَجُل قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ، وَقَدْ سَيَّجَ اللهُ حَوْلَهُ: لم تأت مشكلة أيوب لأنه فقد إيمانه بالله. لكنه شعر وخاف أن الله قد فقد إيمانه به. ويسأل، “لماذا أستمر في العيش (لِمَ يُعْطَى نُورٌ) إن كنت لا أستطيع رؤية الطريق وقد حاصرني الله في هذا المكان؟”
• كان اهتمامه من البداية إلى النهاية هو الله. ليس ثروته أو صحته، ولكن علاقته بالله. ولأنه اعتقد أنه خسر علاقته بالله شعر بهذا العذاب.” أندرسن (Andersen)
• “لا يئن وينوح أبدًا لأن الرب قد أخذ أولاده وعبيده وجماله وممتلكاته… لكن، ما يستكثره أيوب هو أنه يشعر بفقدان ممتلكاته الروحية… ما يتحسر عليه حقًا هو فقدان سلامه مع الله – فقدان الشركة غير المنقطعة مع خالقه، وفقدان أي شعور بصداقة الرب وموافقته.” ماسون (Mason)
• “عندما غزا الشيطان حياة أيوب وتسبب في ضرر عظيم، بنى الله سياجًا آخر حول حياة أيوب. لكن منع هذا السياج أيوب من الهروب من محاكماته. وهو الآن محبوس فيه. وبدلًا من جدار الحماية لإبعاد الشيطان، يوجد الآن جدار من الضيق ليبقي أيوب محبوسًا فيه.” لوسون (Lawson)
• “تبدو الكلمات أكثر مرارة، لأن هناك صدى ساخر لما قاله الشيطان في أيوب ١: ١٠. رأى الشيطان سياج الله كحماية. رآه أيوب كقيد. وشعر بأنه محاصر.” أندرسن (Andersen)
• لا يرى الرجل هنا أي سبب للمشكلة التي هو فيها؛ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ. لكن، كانت هناك في الواقع إجابة رائعة على سؤال أيوب، إن كان بإمكانه رؤيتها فقط بعين الإيمان.
سمح الله لأيوب أن يستمر في الحياة لتعليم للكائنات الملائكية درسًا.
سمح الله لأيوب أن يستمر في الحياة ليعلمه اعتمادًا خاصًا على الله.
سمح الله لأيوب أن يستمر في الحياة ليعلمه ألا ينظر إلى حكمة الإنسان كثيرًا.
سمح الله لأيوب أن يستمر في الحياة لتبرئته أمام البشر الآخرين.
سمح الله لأيوب بالاستمرار في الحياة ليجعله درسًا ومثالًا لكل العصور.
سمح الله لأيوب أن يستمر في الحياة ليعطيه أكثر من أي وقت مضى.
٣. لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي، وَمِثْلَ الْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي: نشعر هنا بعاطفة أيوب الرائعة في كلامه. لم يكن مهتمًا بالحفاظ على موقف ثابت وحازم في مواجهة المشاكل. فمثل هذه الحياة المسيحية الخالية من المشاعر لا تقدم لنا أبدًا مثالًا كتابيًا.
٤. الَّذِي فَزِعْتُ مِنْهُ جَاءَ عَلَيَّ: يذكرنا أيوب أنه قبل أن تأتي هذه الكارثة إلى حياته، لم يكن يعيش حياة سعيدة الحظ خالية من الهموم. كان قلقًا من أن المتاعب قد تأتي له أو لعائلته، لذلك اتخذ الاحتياطات أمام الله لمنعها (أيوب ١: ٥).
• “حيث يمكن أن يقال له، هل كان مناسبًا لك، بعد أن كنت سعيدًا جدًا، أن تتحمل الآن كل هذه المعاناة وتخسر هذا وذاك؟ حقًا قال أيوب، لم أكن سعيدًا تمامًا كما تعتقد. لأنني (بالنظر إلى مدى تقلب وتغير الأشياء من حولنا) كنت أخشى دائمًا أن أعيش أكثر من ازدهاري. وهذا ما حدث فعلًا.” تراب (Trapp)
• “بينما كنت في حالة ازدهار، اعتقدت أن الشدائد قد تأتي، وكان لدي خوف منها. كنت أخشى فقدان عائلتي وممتلكاتي. وكلاهما حدث. لم أترفع: كنت أعرف أن ما أمتلكه هو من العناية الإلهية، وأن من أُعطى قد أخذ. لم يتم تجريدي من كل ما لدي كعقاب على ثقتي بنفسي.” كلارك (Clarke)
٥. لَمْ أَطْمَئِنَّ وَلَمْ أَسْكُنْ وَلَمْ أَسْتَرِحْ، وَقَدْ جَاءَ الزُّجْرُ (وَأنَا لَسْتُ مُطمَئِنًّا أوْ صَافِيًا أوْ مُرتَاحًا، وَلَسْتُ إلَّا فِي اضْطِرَابٍ): مع هذه الضربات الأربع الأخيرة، أنهى أيوب خطابه الأول. من خلال كل ذلك، يظهر لنا أنه حتى رجل الإيمان العظيم يمكن أن يقع في اكتئاب ويأس كبيرين.
• يصف واعظ إنجلترا العظيم، تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon)، مثل هذا الوضع في حياته الخاصة: “كنت مستلقيًا على أريكتي خلال الأسبوع الماضي، وكانت معنوياتي منخفضة للغاية لدرجة أنني كنت أبكي على مدار الساعة مثل طفل، ومع ذلك لم أكن أعرف ما الذي أبكي من أجله – لكن شيئًا طفيفًا للغاية سيجعلني أبكي الآن – حين اخبرني صديق لطيف عن امرأة عجوز تعيش بالجوار، كانت تعاني من ألم شديد للغاية، ومع ذلك كانت مليئة بالفرح والابتهاج. شعرت بالأسى الشديد لسماع تلك القصة، وشعرت بالخجل الشديد من نفسي، لدرجة أنني لم أكن أعرف ماذا أفعل. تساءلت لماذا عليّ أن أكون في مثل هذه الحالة؛ في حين أن هذه المرأة المسكينة، التي كانت مصابة بسرطان رهيب وتعاني كثيرًا، “تفرح فرحًا لا يوصف، ومليئًا بالمجد.” (تشارلز سبيرجن، كتابه بعنوان: ثقل المسيحي وابتهاجه).
• “أين ستجد في العالم رثاءً وحزنًا ويأسًا وحدادًا غير منضبط وغير منقطع أكثر من هذا؟” برادلي (Bradley). لكن، “مثل هذا التدفق هو شيء صحي للنفس أكثر بكثير من العيش في ظلام الصمت والاكتئاب.” مورغان (Morgan)