سفر أيوب – الإصحاح ٣٨
الله يتكلم
أولًا. الله يتحدث إلى أيوب
أ ) الآية (١): الرب يتحدث إلى أيوب من العاصفة.
١فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَة وَقَالَ:
١. فَأَجَابَ الرَّبُّ: خلال الإصحاحات الــ ٣٥ السابقة (اعتبارًا من أيوب ٢)، كان الله غائبًا بشكل مباشر عن الساحة. لا نقرأ شيئًا عن دور الله المباشر في تعزية أيوب أو التحدث إليه أو دعمه في خضم أزمته. خلال ذلك الوقت، تألم أيوب مرارًا وتكرارًا من أجل سماع كلمة من الله.
• رأى أليهو العاصفة القادمة وتحدث عن حضور الله في مثل هذه الظاهرة القوية (أيوب ٣٦: ٢٢-٣٧: ٢٤). لكننا الآن نسمع الله نفسه يتكلم مع أيوب.
• سوف يحسم الله هذا النزاع بالفعل، لكنه سيفعل ذلك بطريقته. لقد أراد أيوب أن يحسم الله الموقف بإثبات صحة كلام أيوب وأن يشرح سبب كل آلامه؛ أما أصدقاء أيوب فقد أرادوا أن يُثبت الله أنهم على صواب وأن يعترف أيوب بخطئه. لكن الله لم يرض بأي من هذه التوقعات. وبشكل ملحوظ، من الواضح أن الله لم يُجب على أسئلة أيوب.
• “على الأقل، ومن النظرة الأولى، لا يبدو أن الله قد تكلم عن القضية المركزية المتمثلة في سبب معاناة أيوب رغم كل محاولاته البشرية للحفاظ على علاقة جيدة به. يبدو أن الرب لم يقل شيئًا عن هذا.” أندرسن (Andersen)
٢. فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ: ومن الجدير بالذكر أن الله لم يرُد على أصدقاء أيوب بشكل فوري أو مباشر؛ لا الأصدقاء الأكبر سنًا (أَلِيفَاز أو بِلْدَد أو صُوفَر)، ولا الصديق الشاب (أَلِيهُو). ولكنه رد على أيوب بشكل فوري ومباشر (أَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ).
• ربما كان هذا لأن أيوب هو المتهم خطئًا، ومع أنه كان مخطئًا في أمور، إلا أنه كان أكثر صوابًا من أي من أصدقائه.
• وربما كان هذا لأن أيوب كان الوحيد من المجموعة الذي صرخ بحرارة إلى الله وصلى خلال المحنة. فقط أيوب هو الذي تحدث إلى الله؛ والآن الرب سيتكلم فقط مع أيوب.
٣. فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَة: لقد رأى أَلِيهُو عاصفة تقترب ووصفها كمثال لقوة الله (أيوب ٣٦: ٢٦-٣٧: ٢٤). وعندما وصف انتهاء العاصفة، فقد تكلم على الأرجح قبل زوال العاصفة بالفعل؛ والآن في نفس هذه العاصفة، يتحدث الله إلى أيوب.
• “ومما لا شك فيه أنه يشير إلى العاصفة التي يبدو أن أَلِيهُو يراها تقترب (أيوب ٣٧: ١٥-٢٤). والمقال يشير إلى شيء معروف أو قد تم التلميح به بالفعل للقارئ.” بولينجر (Bullinger)
• بشكل متكرر ترتبط العاصفة بالحضور الإلهي. إنه يتحدث إلينا عن طبيعة الله القوية التي لا يمكن السيطرة عليها. أنه مثل إعصار لا يمكن اعتراضه أو السيطرة عليه.
أخذ الله إيليا إلى السماء بعاصفة (٢ ملوك ٢: ١-١١).
تميز حضور الله دائمًا فِي الزَّوْبَعَةِ (العاصفة) (مزمور ٧٧: ١٨، ناحوم ١: ٣).
مجيء الله كَزَوْبَعَةٍ (كعاصفة) (إشعياء ٦٦: ١٥، إرميا ٤: ١٣ و٢٣: ١٩).
ظهر الله لحزقيال بِرِيحٍ عَاصِفَةٍ (حزقيال ١: ٤).
• “بدأت متاعب أيوب عندما قتلت رِيحٌ شَدِيدَةٌ أولاده (أيوب ١: ١٩). كان الرب في تلك العاصفة، والآن فهو يتكلم مِنَ الْعَاصِفَة.” أندرسن (Andersen)
ب) الآيات (٢-٣): الله يدعو أيوب للمساءلة.
٢«مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ ٣اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي.
١. مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ: قد نتساءل بحق لمن سأل الله هذا السؤال. ربما كان موجهًا بشكل أساسي إلى أليهو، الذي كان المتحدث السابق، والذي قُوطع كلامه من الرب، والذي ادعى أنه يتكلم باسم الله (أيوب ٣٦: ١-٤).
• “لقد تم تفسير هذا بشكل مختلف على أنه ينطبق على أيوب أو على أَلِيهُو. أنا شخصيًا أعتقد أن الإشارة كانت إلى أَلِيهُو.” مورغان (Morgan)
• ومع ذلك، يمكننا القول بحق أن جميع الشخصيات في هذه الدراما قد أَظْلَمَتِ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ. تكلم كل واحد منهم – أيوب وأَلِيفَاز وبِلْدَد وصُوفَر وأَلِيهُو – دون معرفة دقيقة بما يعرفه القارئ من الإصحاحات ١ و ٢.
• لا ينبغي علينا أن نعتقد أن الله يتوقع منهم أن يعرفوا ما لا يمكنهم معرفته. بل، كان يتوقع منهم أن يُقدِّروا أن هناك جوانب للأمر معروفة لله، ولكنها مخفية للإنسان، وهذه الجوانب منطقية لما بدا أنه لا معنى له.
٢. اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل: كان أيوب قد اشتكى من قبل من أن الله كان يحاربه في معركة شرسة (أيوب ١٦: ٧-١٤ هو أحد الأمثلة). وقد نقول أن أيوب، دون أن يعرف، كان يحارب ضد الشيطان حقًا. والآن فهو يتصارع مع الله بالفعل، والله يتحداه بالقول اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل.
• “عندما يتصرف الإنسان كإنسان، يمكن لله أن يتحدث معه، ويمكن للإنسان أن يتحدث مع الله. وهذا إعلان للكرامة.” مورغان (Morgan)
٣. فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي: أصر أيوب على أن يأتيه الله بإجابات. قلب الله الأمر وأخبر أيوب أنه قبل أن يُجيب على أسئلته، عليه هو أن يُجيب على بعض الأسئلة أمام الله.
• كانت الأسئلة التي طرحها الله على أيوب ببساطة غير قابلة للإجابة إذ كان المقصود منها أن تُظهر لأيوب أنه ليس بمكانة تخوله لطلب إجابات من الله. ولكن، إذا نظرنا إلى ظهور الله لأيوب على أنه توبيخ فقط فهذا خطأ فادح. النقطة الرئيسية هي أن الله قد ظهر الآن لأيوب. لقد كان عذاب أيوب الأكبر هو شعوره أن الله قد تخلى عنه، ولكنه الآن عرف أنه لم يتم التخلي عنه. وكأي إعلان حقيقي عن الله، كان هناك الكثير من العناصر التي من شأنها أن تجعل أيوب يشعر أنه صغير أمام عظمة الله؛ ولكن لم تستطع كل هذه أن تسلب التعزية الهائلة التي شعر بها أيوب لمجرد شعوره ثانية أنه في محضر الله.
• “تعلم أيوب من خلال ظهور الله (التجلي الإلهي) أنه لم يتخل عنه. واتضح لأيوب تدريجيًا أن بإمكانه مواجهة معاناته دون أن يعرف سببها، طالما أنه متأكد من أن الله كان صديقه.” سميك (Smick)
• قد نتخيل ابتسامة صغيرة على وجه أيوب خلال هذا الاستجواب، وبنفس الوقت جعله الاستجواب يتواضع ويطلب التوبة. وكأنه طفل يتوق إلى والده الذي ابتعد عنه طويلًا ويبتسم عند عودته، وحتى أثناء تهذيبه – يبتسم الطفل لأن والده معه مرة أخرى.
• “دعونا نعترف بأن أقوال الرب (يهوه) في نهاية سفر أيوب لم تُقدم في الأساس شيئًا جديدًا أو مُفاجئًا. وليس هذا ما يجعلها مميزة. فما الذي يميزها؟ ما يميز هذه الإصحاحات ميزة واحدة فقط، وهي الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن الرب نفسه، وليس أي شخص آخر، نطق بهذه الأقوال.” ماسون (Mason)
• “أن يتكلم الله مع أيوب، كان كافيًا بالنسبة له. كل ما يحتاج إلى معرفته هو أن كل شيء لا يزال على ما يرام بينه وبين الله… لدرجة أن موضوع الحوار لم يعد مهمًا. فأي موضوع يجعل المحادثة مرضيّة بين الأصدقاء. الشركة معًا هي المتعة.” أندرسن (Andersen)
ثانيًا. يسأل الله أيوب عما لا يعرفه
أ ) الآيات (٤-٧): هل تعرف أسرار خلق العالم؟
٤أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ. ٥مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا؟ ٦عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا؟ أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا، ٧عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟
١. أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ: القصد من هذا السؤال واضح. لم يكن أيوب موجودًا في أي مكان حِينَ أُسِّسْت الأَرْض. فالله عَرِيق في قوته وحكمته وجبروته ولا يمكن أبدًا اعتبار أيوب على نفس مستوى الله.
• يقول الله بشكل أساسي، “يا أيوب، إذا كنت تستطيع الإجابة على هذه الأشياء، فأنت مؤهل لاستجوابي. وإن لم تستطع الإجابة على هذه الأشياء، فأنت لست بمكانة تخولك لطلب إجابات مني.”
• “كان أيوب ببساطة غارقًا في الأسرار والمفارقات التي لم يكن لديه إجابات لها؛ ولكن في خضم كل ذلك، لقد فهم ما هو أفضل من أن يقال له، وهو أن الله يعرف ما يفعله في كونه.” سميك (Smick)
• ذكرت هذه الأسئلة أيوب أيضًا بأن هناك أشياء كثيرة لم يكن يعرفها. “هل هذه الأزمة، التي كانت نفسه تتخبط بها وتقاومها بشدة، أهي البقعة السوداء الوحيدة في الكون تشع في كل مكان وجليه له؟ أم أنه محاط من جميع الجهات بسحابة لا تستطيع عينه اختراقها؟” برادلي (Bradley)
• يذكرنا هذا البيان أيضًا بأن الله قد وضع أُسُّسْ الأَرْضَ. إنه خالق السموات والأرض تمامًا كما يسجلها سفر التكوين (تكوين ١).
٢. مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا… عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا: لم يكن أيوب حاضرًا عند خلق العالم، لذلك لم يكن لديه فهم لقِيَاسات الأرض أو قَوَاعِدهَا. فالأرض بالفعل لها قِيَاسات وقَوَاعِد؛ لكن أيوب لا يعرفها.
• “ما الذي يمكن أن يقدمه أيوب ليشرح لماذا جعل الله الأرض بهذا الطول والعرض، وليس أكثر، إن كان بإمكانه أن يفعل ذلك بسهولة؟ فكم بالحري يستطيع أيوب أن يفعل إزاء أسرار الله ودينونته التي لا تُستقصى؟” تراب (Trapp)
٣. عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ: يُخبرنا هذا أن الكائنات الملائكية (التي تُسمى هنا كَوَاكِبُ الصُّبْحِ وبَنِو اللهِ) شهدت في الواقع خلق الأرض؛ وابتهجت بمجد الله وقدرته وحكمته في الخليقة.
• “هتفت ابتهاجًا. ابتهجت وباركت الله على أعماله؛ حيث يُلمح إلى أنها لم تُقدم لله مشورة أو تساعده بأي شكل من الأشكال في أعماله، ولم تكره أو تعترض على أي من أعماله، كما تجرّأ أيوب أن يفعل مع أعمال عنايته الإلهية، والتي ليست أدنى من أعمال الخليقة.” بوله (Poole)
• بما أن الله قال وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ، يمكننا أن نستنتج من هذا أن لوسيفر الكروب الممسوح المُظلل سقط من مكانته السامية في وقت ما بعد أن خلق الله الأرض.
ب) الآيات (٨-١١): هل تعرف حدود البحر؟
٨«وَمَنْ حَجَزَ الْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ انْدَفَقَ فَخَرَجَ مِنَ الرَّحِمِ. ٩إِذْ جَعَلْتُ السَّحَابَ لِبَاسَهُ، وَالضَّبَابَ قِمَاطَهُ، ١٠وَجَزَمْتُ عَلَيْهِ حَدِّي، وَأَقَمْتُ لَهُ مَغَالِيقَ وَمَصَارِيعَ، ١١وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟
١. وَمَنْ حَجَزَ الْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ حِينَ انْدَفَقَ: ربما تكون هذه إشارة إلى عمل الله في اليوم الثاني من الخليقة (تكوين ١: ٦-٨)، عندما فصل الله المياه وفصل اليابسة عن البحر. لم يكن أيوب موجودًا عندما فعل الله هذا، وبالتالي لم يكن يتصوَّر كيف تم ذلك.
• “في العالم السَّامي القديم، كانت السيطرة على البحر الصاخب رمزًا فريدًا للقوة والسلطة الإلهية.” سميك (Smick)
٢. وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ: لم يفهم أيوب كيف وضع الله حدود البحر. وكان يعلم أن مثل هذه الحدود موجودة، لكنه لم يستطع شرح كيف أو لماذا تم وضعها بالضبط.
ج) الآيات (١٢-١٨): هل تفهم طبيعة الأرض؟
١٢«هَلْ فِي أَيَّامِكَ أَمَرْتَ الصُّبْحَ؟ هَلْ عَرَّفْتَ الْفَجْرَ مَوْضِعَهُ ١٣لِيُمْسِكَ بِأَكْنَافِ الأَرْضِ، فَيُنْفَضَ الأَشْرَارُ مِنْهَا؟ ١٤تَتَحَوَّلُ كَطِينِ الْخَاتِمِ، وَتَقِفُ كَأَنَّهَا لاَبِسَةٌ. ١٥وَيُمْنَعُ عَنِ الأَشْرَارِ نُورُهُمْ، وَتَنْكَسِرُ الذِّرَاعُ الْمُرْتَفِعَةُ. ١٦«هَلِ انْتَهَيْتَ إِلَى يَنَابِيعِ الْبَحْرِ، أَوْ فِي مَقْصُورَةِ الْغَمْرِ تَمَشَّيْتَ؟ ١٧هَلِ انْكَشَفَتْ لَكَ أَبْوَابُ الْمَوْتِ، أَوْ عَايَنْتَ أَبْوَابَ ظِلِّ الْمَوْتِ؟ ١٨هَلْ أَدْرَكْتَ عَرْضَ الأَرْضِ؟ أَخْبِرْ إِنْ عَرَفْتَهُ كُلَّهُ.
١. هَلْ فِي أَيَّامِكَ أَمَرْتَ الصُّبْحَ: كان هذا سؤالًا رائعًا من الله. “يا أيوب، هل جعلت الصباح يأتي ولو مرة واحدة طوال أيام حياتك؟ هل في وسعك القيام بشيء كهذا؟
٢. هَلِ انْتَهَيْتَ إِلَى يَنَابِيعِ الْبَحْرِ: ربما لم يكن أيوب يعرف حتى أن هناك يَنَابِيعِ الْبَحْرِ، ناهيك عن الوصول إليها. من المؤكد أنه لم يكن يعرف أشياء خفية أخرى، مثل أَبْوَاب الْمَوْتِ أو عَرْض الأَرْضِ.
د ) الآيات (١٩-٢٤): هل تفهم طبيعة النور والظلمة والسماء؟
١٩«أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَيْثُ يَسْكُنُ النُّورُ؟ وَالظُّلْمَةُ أَيْنَ مَقَامُهَا، ٢٠حَتَّى تَأْخُذَهَا إِلَى تُخُومِهَا وَتَعْرِفَ سُبُلَ بَيْتِهَا؟ ٢١تَعْلَمُ، لأَنَّكَ حِينَئِذٍ كُنْتَ قَدْ وُلِدْتَ، وَعَدَدُ أَيَّامِكَ كَثِيرٌ! ٢٢«أَدَخَلْتَ إِلَى خَزَائِنِ الثَّلْجِ، أَمْ أَبْصَرْتَ مَخَازِنَ الْبَرَدِ، ٢٣الَّتِي أَبْقَيْتَهَا لِوَقْتِ الضَّرِّ، لِيَوْمِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ؟ ٢٤فِي أَيِّ طَرِيق يَتَوَزَّعُ النُّورُ، وَتَتَفَرَّقُ الشَّرْقِيَّةُ عَلَى الأَرْضِ؟
١. أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَيْثُ يَسْكُنُ النُّورُ: وكأن الله يسأل: “يا أيوب، هل تعرف من أين يأتي النور؟ هل تعرف طبيعته ومصدره؟”
• “يتم هنا تجسيد وربط النور والظلمة كأنها كائنات غامضة تسكن بعيدًا عن متناول الإنسان. وهي بحاجة إلى دليل لمساعدتها في العثور على الطريق إلى سكناها. الله يستطيع أن يفعل هذا، لكن أيوب لا يستطيع.” أندرسن (Andersen)
٢. تَعْلَمُ، لأَنَّكَ حِينَئِذٍ كُنْتَ قَدْ وُلِدْتَ، وَعَدَدُ أَيَّامِكَ كَثِيرٌ: ربما كان أيوب كبيرًا في السن وحكيمًا ويعرف هذه الأشياء بالفعل. فإذا كان هذا هو الحال، فقد دعاه الله أن يُعَبِّر عن رأيه في أي وقت.
٣. أَمْ أَبْصَرْتَ مَخَازِنَ الْبَرَدِ، الَّتِي أَبْقَيْتَهَا لِوَقْتِ الضَّرِّ، لِيَوْمِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ: في عدة مناسبات مثيرة في السجل الكتابي، استخدم الله وسوف يستخدم البرد كقنابل وصواريخ من السماء ضد أولئك المعادين له ولشعبه.
• الْبَرَدِ غالبًا ما يكون أداة دينونة ضد أعداء الله: في مصر (خروج ٩: ٢٤)، والكنعانيين (يشوع ١٠: ١١)، وإسرائيل المرتدة (إشعياء ٢٨: ٢)، وجُوجٍ ومَاجُوجَ (حزقيال ٣٨: ٢٢)، والأرض المتمردة في الضيقة العظيمة (رؤيا ١٦: ٢٠-٢١).
• ” من المفترض هنا أن الله قد خزنها في خزائنه (يفكر الرب في الثلج بالطريقة التي يفكر بها الإنسان في تخزين الذهب!).” أندرسن (Andersen)
هـ) الآيات (٢٥-٣٠): هل تفهم طبيعة المطر وآثاره؟
٢٥مَنْ فَرَّعَ قَنَوَاتٍ لِلْهَطْلِ، وَطَرِيقًا لِلصَّوَاعِقِ، ٢٦لِيَمْطُرَ عَلَى أَرْضٍ حَيْثُ لاَ إِنْسَانَ، عَلَى قَفْرٍ لاَ أَحَدَ فِيهِ، ٢٧لِيُرْوِيَ الْبَلْقَعَ وَالْخَلاَءَ وَيُنْبِتَ مَخْرَجَ الْعُشْبِ؟ ٢٨«هَلْ لِلْمَطَرِ أَبٌ؟ وَمَنْ وَلَدَ مَآجِلَ الطَّلِّ؟ ٢٩مِنْ بَطْنِ مَنْ خَرَجَ الْجَمَدُ؟ صَقِيعُ السَّمَاءِ، مَنْ وَلَدَهُ؟ ٣٠كَحَجَرٍ صَارَتِ الْمِيَاهُ. اخْتَبَأَتْ. وَتَلَكَّدَ وَجْهُ الْغَمْرِ.
١. مَنْ فَرَّعَ قَنَوَاتٍ لِلْهَطْلِ: في القسم السابق، تحدث الله عن حكمته في تدبير واستخدام الثلج والبرد. وهنا، تحدث عن قدرته على هندسة أنظمة صرف المياه وكيف يشق قنوات للمياه (فَرَّعَ قَنَوَاتٍ لِلْهَطْلِ).
٢. هَلْ لِلْمَطَرِ أَبٌ؟ وَمَنْ وَلَدَ مَآجِلَ الطَّلِّ؟: في أيوب ٣٦: ٢٢-٣٧: ٢٤ استخدم أَلِيهُو دورة المياه (كما فعل مع العاصفة) كمثال على عظمة الله. وهنا، نسب الله الفضل لنفسه لأنه كان يعرف كيف صممت هذه الأشياء وكيف تُحفظ، وسأل أيوب عما إذا كانت لديه معرفة مماثلة.
• أظهر الله لأيوب أن الإنسان غير قادر على التسبب في هطول الأمطار. أخذ تشارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) هذه الفكرة وشبه المطر بنعمة الله. “إذا تم استدعاء مجلسي البرلمان للاجتماع معًا، والملكة أن تجلس على عرشها السامي، وكان عليه بالإجماع تمرير قانون يأمر بسقوط المطر، فالجالس في السماء يضحك، الرب سيهزأ بهم، لأن مفتاح المطر بيد الرب (يهوه) وليس سواه. وهكذا بالضبط هي نعمة الله. أنت وأنا لا نستطيع أن نأمر بها. إن وجود أكثر البشر قداسة في وسطنا لن يجلب النعمة في حد ذاتها. إن أكثر الوعظ جدية، والعقيدة الأكثر كتابية، والطاعة الأكثر إخلاصًا للفرائض والطقوس، لن تجعلنا بالضرورة ننال النعمة. بل الله هو من يُعطيها؛ فهو صاحب سيادة مطلقة، ونحن نعتمد عليه بالكامل.” سبيرجن (Spurgeon)
و ) الآيات (٣١-٣٣): هل تعرف طبيعة الكواكب؟
٣١«هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا، أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟ ٣٢أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟ ٣٣هَلْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ، أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى الأَرْضِ؟
١. هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا: لم يتحدَّ الله أيوب فقط بسبب عدم معرفته؛ لكنه كشف أيضًا عن افتقار أيوب إلى القوة والعظمة مقارنة بالله. من الواضح أن أيوب لم يكن قادرًا على إدارة أو تغيير أو السيطرة على أي من النجوم أو الكواكب في السماء، لكن الله يستطيع.
• بهذه الأمثلة السامية والمروعة تمت الاشارة إلى ما لم يعرفه أيوب، وعلينا أن نتذكر أن قصد الله هنا لم يكن إهانة أيوب. ولكن، يبدو أن الله كان هنا يُظهر بمرح أنه كُلي المعرفة والإنسان ليس كذلك.
• أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا: “يُفهم هذا عمومًا على أنه علامات الأبراج.” كلارك (Clarke)
• “أيًا كان المقصود بها، فإن النقطة واضحة: إنها مربوطة ومقيدة من قِبَل الله، وهو الذي يقودها في أرجاء السماء كما يشاء، الأمر الذي لا يمكن لأي إنسان أن يفعله.” أندرسن (Andersen)
٢. هَلْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ: مثل الكثيرين في العالم القديم، ربما كان أيوب يفهم الترتيب والأنماط الموجودة في السماء المرصعة بالنجوم، لكنه لا يستطيع حتى البدء في تفسير القوى الطبيعية التي تحكم هذا الترتيب (سُنَنَ السَّمَاوَاتِ).
ز ) الآيات (٣٤-٣٨): هل تعرف طبيعة الغيوم والطقس والعقل البشري؟
٣٤أَتَرْفَعُ صَوْتَكَ إِلَى السُّحُبِ فَيُغَطِّيَكَ فَيْضُ الْمِيَاهِ؟ ٣٥أَتُرْسِلُ الْبُرُوقَ فَتَذْهَبَ وَتَقُولَ لَكَ: هَا نَحْنُ؟ ٣٦مَنْ وَضَعَ فِي الطَّخَاءِ حِكْمَةً، أَوْ مَنْ أَظْهَرَ فِي الشُّهُبِ فِطْنَةً؟ ٣٧مَنْ يُحْصِي الْغُيُومَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ يَسْكُبُ أَزْقَاقَ السَّمَاوَاتِ، ٣٨إِذْ يَنْسَبِكُ التُّرَابُ سَبْكًا وَيَتَلاَصَقُ الْمَدَرُ؟
١. أَتَرْفَعُ صَوْتَكَ إِلَى السُّحُبِ: لم يكن أيوب بلا حول ولا قوة حيال السماء المرصعة بالنجوم والأبراج فقط، بل كان أيضًا بلا حول أو قوة حيال السُّحُبِ والْبُرُوقَ. كان بلا حول ولا قوة حيال أية ظاهرة طبيعية، مهما كانت بعيدة أو قريبة منه.
٢. مَنْ وَضَعَ فِي الطَّخَاءِ حِكْمَةً، أَوْ مَنْ أَظْهَرَ فِي الشُّهُبِ فِطْنَةً: عرف أيوب أن الإنسان لديه ذكاء وحِكْمَةً، وأن هذا الذكاء لا بد أن يكون قد أُعطيَ من قبل مصمم ذكي. ومثل كل البشر، لم تكن قدرة أيوب الفكرية نتاج صدفة عشوائية أو عمليات غامضة. بل تم تصميم قدراته الفكرية من قبل مصمم عظيم.
• من المثير حقًا الاشارة إلى أن العلم الحديث قد أحرز تقدمًا مذهلًا في الإجابة على بعض الأسئلة التي طرحها الله على أيوب.
يفهم العلم الحديث الكثير عن قياسات الأرض (أيوب ٣٨: ٥).
يفهم العلم الحديث الكثير عن قوى الجاذبية التي تُبقي الأرض معلقة (أيوب ٣٨: ٦).
يعرف العلم الحديث الكثير عن أنظمة الأحوال الجوية والأنظمة المائية للأرض (أيوب ٣٨: ٨-١١ ، ٣٨: ١٦ ، ٣٨: ٢٥-٣٠).
يعرف العلم الحديث الكثير عن طبيعة الضوء (أيوب ٣٨: ١٩-٢٠).
• هذه المعرفة المتزايدة هي شيء رائع ومجيد، ويجب الإشادة بالبحث العلمي. إنه تحقيق رائع لقدراتنا ككائنات مخلوقة على صورة الله يمكنها البحث وفهم العالم الطبيعي بشكل أفضل. بالفعل، مَجْدُ اللهِ إِخْفَاءُ الأَمْرِ، وَمَجْدُ الْمُلُوكِ فَحْصُ الأَمْرِ (أمثال ٢٥: ٢).
• ولكن مع كل هذه المعرفة المتزايدة – بقدر ما هي رائعة وعظيمة – فإن البشرية في الحقيقة، لم تقترب حتى من الإجابة على هذه الأسئلة التي طرحها الله على أيوب. لقد ملأنا تفاصيل صغيرة حول الحواف، ولكن لا تزال هناك فجوة شاسعة بين معرفة وحكمة الإنسان ومعرفة وحكمة الله.
• يمكننا القول أن نهج الله تجاه أيوب في هذا القسم يُقوض الكثير من التفكير الحديث. إن فكر التنوير (المنبثق في القرن الثامن عشر) قد حرر الإنسان من الكثير من الخرافات، لكنه أيضًا يسمو بعقل الإنسان (حكمة) كمقياس للحقيقة. ويمكننا ملاحظة أن الله دمر بشكل كبير هذه الثقة الزائدة في الحكمة البشرية من خلال هذا العرض لأيوب. وهذا يجعلنا نطرح السؤال التالي: “ما الذي يعرفه الإنسان، بكل عقله وحكمته، عن عالمه؟” الإنسان لا يعرف الكثير، ولذلك يجب أن يسعى وراء المعرفة بتواضع ويثق في الله، الذي يعرف كل شيء.
ح) الآيات (٣٩-٤١): هل تفهم وتسيطر على مملكة الحيوان؟
٣٩«أَتَصْطَادُ لِلَّبْوَةِ فَرِيسَةً، أَمْ تُشْبعُ نَفْسَ الأَشْبَالِ، ٤٠حِينَ تَجْرَمِزُّ فِي عَرِيسِهَا وَتَجْلِسُ فِي عِيصِهَا لِلْكُمُونِ؟ ٤١مَنْ يُهَيِّئُ لِلْغُرَابِ صَيْدَهُ، إِذْ تَنْعَبُ فِرَاخُهُ إِلَى اللهِ، وَتَتَرَدَّدُ لِعَدَمِ الْقُوتِ؟
١. أَتَصْطَادُ لِلَّبْوَةِ فَرِيسَةً: في حديثه إلى أيوب، انتقل الله من الامتداد البعيد للكواكب، نزولًا إلى السحاب، وصولًا إلى العقل البشري، ووصل هنا إلى غريزة حيوانية بسيطة مثل هل يمكنك أن تهيئ طعامًا للأسود (أَتَصْطَادُ لِلَّبْوَةِ فَرِيسَةً)؟ وأيوب بالطبع لا يستطيع حتى القيام بهذا؛ لذلك، كان من الغرور بالنسبة له أن يطلب إجابات من الله بالطريقة التي فعلها.
٢. مَنْ يُهَيِّئُ لِلْغُرَابِ صَيْدَهُ: الله يُدبر الطعام للطيور (متى ٦: ٢٦). وسيكون من المستحيل على أيوب أو أي إنسان آخر أن يفعل ذلك. وهنا يُذكِّر الله أيوب بالمسافة بينه وبين أيوب.
• “كانت اختيارات الرب عشوائية إلى حد ما، وكأنه يقول: ’هذه مجرد عينات قليلة من مخلوقاتي، الكبيرة والصغيرة، المجنحة والأرضية، البرية والمروضة – ولكنها جميعها تحت رعايتي وسيادتي.‘” سميك (Smick)