سفر أيوب – الإصحاح ١٧
أيوب يواجه الله وأصدقائه
أولًا. يوجه أيوب شكوى نحو الأرض ونحو السماء
أ ) الآيات (١-٢): روح أيوب المكسورة.
١«رُوحِي تَلِفَتْ. أَيَّامِي انْطَفَأَتْ. إِنَّمَا الْقُبُورُ لِي. ٢«لَوْلاَ الْمُخَاتِلُونَ عِنْدِي، وَعَيْنِي تَبِيتُ عَلَى مُشَاجَرَاتِهِمْ.
١. رُوحِي تَلِفَتْ. أَيَّامِي انْطَفَأَتْ: واصل أيوب نفس إحساسه بالهزيمة والانكسار كما وُصف في الإصحاح السابق.
٢. لَوْلاَ الْمُخَاتِلُونَ عِنْدِي: كان نقص التعاطف والمساعدة من أصدقاء أيوب – الذين بدأوا كمتألمين متعاطفين (كما في أيوب ٢: ١١-١٣) ولكنهم أصبحوا مستهزئين (الْمُخَاتِلُونَ) عندما لم يتجاوب أيوب مع نصيحتهم كما ظنوا أنه ينبغي أن يفعل – جانبًا مؤلمًا من أزمته بشكل خاص.
ب) الآيات (٣-٥): يتوسل أيوب إلى السماء لتثبيته ودعمه.
٣كُنْ ضَامِنِي عِنْدَ نَفْسِكَ. مَنْ هُوَ الَّذِي يُصَفِّقُ يَدِي؟ ٤لأَنَّكَ مَنَعْتَ قَلْبَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ، لأَجْلِ ذلِكَ لاَ تَرْفَعُهُمُ. ٥الَّذِي يُسَلِّمُ الأَصْحَابَ لِلسَّلْبِ، تَتْلَفُ عُيُونُ بَنِيهِ.
١. مَنْ هُوَ الَّذِي يُصَفِّقُ يَدِي: شعر أيوب – وهو محق، وفقًا لظروفه – أن السموات كانت ضده. وهنا، توسل أن يعقد اتفاقية سلام بينه وبين السماء.
• ترجمت النسخة العالمية الجديدة (NIV) الآية في أيوب ١٧: ٣ بطريقة مفيدة جدًا: “أعطني، يا الله، التعهد الذي تطلبه. من غيرك سيكون ضامني؟” والفكرة هي أن أيوب صرخ إلى الله وقال: “يجب أن تُرسي الحق يا الله. فهذا يفوق قدرتي لأفعله.” وهذا له مغزى خاص في ضوء الفكرة الرئيسية لأصدقاء أيوب، التي أكدت أن مسؤولية التوبة تقع على عاتق أيوب وأنه المسؤول عن تصحيح أموره مع الله.
• وعلى نطاق ضيق، أدرك أيوب نغمة الخلاص الكاملة في العهد الجديد: لقد صنع الله الكفارة والمصالحة؛ وليس علينا أن نفعل ذلك بأنفسنا.
٢. لأَنَّكَ مَنَعْتَ قَلْبَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ: لقد فهم أيوب أنه إذا أراد الله أن يتعامل مع أصدقائه، فهو قادر تمامًا على القيام بذلك. وفي النهاية، حتى أن الطريقة غير المتعاطفة لأصدقائه كانت جانبًا من جوانب أزمة أيوب التي سمح الله بها.
٣. لأَجْلِ ذلِكَ لاَ تَرْفَعُهُمُ: في الوقت نفسه، كان أصدقاء أيوب مسؤولين عن قلة فهمهم (الْفِطْنَةِ). فحجب الله الْفِطْنَةِ عنهم كان دليلًا على استيائه منهم.
٤. الَّذِي يُسَلِّمُ الأَصْحَابَ لِلسَّلْبِ، تَتْلَفُ عُيُونُ بَنِيهِ: بدا أن أيوب هنا يبرر كلماته القاسية تجاه أصدقائه. فهو يدرك أنه سيكون انعكاسًا سيئًا على شخصيته إن كان ببساطة يتملق لهم.
• “الآية ٥ هي مَثَل. ذكّر أيوب أصدقائه بالعواقب الوخيمة للافتراء.” سميك (Smick)
ثانيًا. بصيص خافت ومشرق في حالة أيوب اليائسة
أ ) الآيات (٦-٩): يشرح أيوب حالته الحالية والقرار النهائي الذي يثق به.
٦أَوْقَفَنِي مَثَلاً لِلشُّعُوبِ، وَصِرْتُ لِلْبَصْقِ فِي الْوَجْهِ. ٧كَلَّتْ عَيْنِي مِنَ الْحُزْنِ، وَأَعْضَائِي كُلُّهَا كَالظِّلِّ. ٨يَتَعَجَّبُ الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ هذَا، وَالْبَرِئُ يَنْتَهِضُ عَلَى الْفَاجِرِ. ٩أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَسْتَمْسِكُ بِطَرِيقِهِ، وَالطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ يَزْدَادُ قُوَّةً.
١. أَوْقَفَنِي مَثَلاً لِلشُّعُوبِ، وَصِرْتُ لِلْبَصْقِ فِي الْوَجْهِ: تحدث أيوب هنا بقوة شعرية عن ذله، وشدة اتضاع جسده ومحدوديته. إنه يذكرنا بالمبدأ العالمي لذل وضعف جسد الإنسان.
• كان ذل أيوب كاملًا لدرجة أنه استطاع أن يقول: “يَتَعَجَّبُ الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ هذَا.” وجد المشاهدون صعوبة في تصديق أن هذا الرجل الصالح قد أصيب بألم شديد.
• ذُلنا أمر لا مفر منه. فهشاشة جسدنا وطبيعتنا الساقطة يجتمعان معًا لجعل ذل الإنسان أمرًا مؤكدًا، وهو قد يأتي بأشكال عدة. قد يأتي ذلنا من خلال خطايانا، أو من خلال ضعفاتنا، أو من خلال ظروف خارجة عن إرادتنا، أو بسبب ما يضعه الآخرون علينا.
• لكن نشكر الله، فإن ذُل البشرية له نموذج وتعاطف في حياة يسوع. لقد نزل من مجد السماء آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ (فيلبي ٢: ٥-٨) ليعطي معنى وكرامة لذل الإنسان.
• نحن ممتنون أيضًا لأن الذل هو بمثابة بوابة للنعمة. والمبدأ صحيح: يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً. (أمثال ٣: ٣٤، يعقوب ٤: ٦، ١ بطرس ٥: ٥).
٢. أَوْقَفَنِي مَثَلاً لِلشُّعُوبِ: رغم أن أيوب أدرك ذُله، إلا أنه أعلن أيضًا سيادة الله. لم يجد سبب أزمته في مصير مجهول أو حتى في قسوة إنسان. لقد فهم أنه ولو كان بالفعل مَثَلاً لِلشُّعُوبِ ورجلًا صِارَ لِلْبَصْقِ فِي الْوَجْهِ، فهذا لأن الله جَعَلَهُ (أَوْقَفَه) كذلك.
• لم يتفق أيوب وأصدقاؤه على الكثير، لكنهم اتفقوا على هذا. واختلفوا حول أسباب معاناة أيوب، لكنهم اتفقوا أن يد الله كانت المسيطرة والعظيمة وراء ذلك.
• إن فهم هذا يمكن أن يساعدنا – رغم أنه من الصعب على أيوب وعلينا في ظروف مماثلة – على فهم أن لله خطة جيدة ومُحِبَّة، حتى عندما يسمح بِذُلُّنا.
• أصبح أيوب بالفعل مَثَلاً لِلشُّعُوبِ. “أصبحت آلامي ومصائبي موضوعًا في الأحاديث العامة. أصبح فقري وآلامي يُضرب بهما المثل. فأمثال مثل: مسكين كأيوب، ومتألم كأيوب، ما زالت تُستخدم اليوم.” كلارك (Clarke)
٣. أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَسْتَمْسِكُ بِطَرِيقِهِ، وَالطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ يَزْدَادُ قُوَّةً: في هذا القسم، أضاف أيوب نقطة أخيرة مؤكدة، معلنًا انتصار البار (الصِّدِّيقُ). حتى في أزمته، كان لديه ومضات من الإيمان أضاءت ليل بؤسه.
• يأتي هذا الانتصار في القدرة على الصبر، حيث يَسْتَمْسِكُ الصِّدِّيقُ بِطَرِيقِهِ. سيختبر أيوب هذا الانتصار بينما كان يصبر خلال أزمته القاسية والطويلة.
• يأتي هذا الانتصار بالتدرج، لأن الطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ يَزْدَادُ قُوَّةً. لم يتحسن وضع أيوب في لحظة. كانت هناك ومضات من الإلهام والوضوح، لكن الله على العموم أخرجه من الأزمة بعد اختبار مطول.
• “يتنبأ أيوب في العديد من هذه الآيات، عن الاسترداد الكامل في المستقبل، وعن الخير الذي على المجتمع الديني أن يستمده من تاريخ ثرائه الأصلي، فبعد الفقر والبلاء، يأتي الاسترداد النهائي للصحة والسلام والازدهار.” كلارك (Clarke)
• أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَسْتَمْسِكُ بِطَرِيقِهِ: قدم ف.ب. ماير(F.B. Meyer) عدة أسباب لماذا كان الأمر كذلك.
“عليك أن تتمسك بطريقك لأن يسوع يمسك بك بيده القوية. هو راعيك؛ لقد هزم كل أعدائك، ولن تهلك أبدًا.”
“عليك أن تتمسك بطريقك لأن الآب يريد من خلالك أن يُمجد ابنه؛ هناك يجب ألا يكون فجوات في تاجه حيث ينبغي أن تكون الجواهر.”
“عليك أن تتمسك بطريقك لأن الروح القدس يريد أن يجعلك مسكنه وبيته؛ وهو فيك كالربيع الدائم للحياة المقدسة.”
ب) الآيات (١٠-١٦): شعور أيوب باليأس.
١٠«وَلكِنِ ارْجِعُوا كُلُّكُمْ وَتَعَالَوْا، فَلاَ أَجِدُ فِيكُمْ حَكِيمًا. ١١أَيَّامِي قَدْ عَبَرَتْ. مَقَاصِدِي، إِرْثُ قَلْبِي، قَدِ انْتَزَعَتْ. ١٢يَجْعَلُونَ اللَّيْلَ نَهَارًا، نُورًا قَرِيبًا لِلظُّلْمَةِ. ١٣إِذَا رَجَوْتُ الْهَاوِيَةَ بَيْتًا لِي، وَفِي الظَّلاَمِ مَهَّدْتُ فِرَاشِي، ١٤وَقُلْتُ لِلْقَبْرِ: أَنْتَ أَبِي، وَلِلدُّودِ: أَنْتَ أُمِّي وَأُخْتِي، ١٥فَأَيْنَ إِذًا آمَالِي؟ آمَالِي، مَنْ يُعَايِنُهَا؟ ١٦تَهْبِطُ إِلَى مَغَالِيقِ الْهَاوِيَةِ إِذْ تَرْتَاحُ مَعًا فِي التُّرَابِ».
١. فَلاَ أَجِدُ فِيكُمْ حَكِيمًا: ألقى أيوب هنا خطاب التحدي على أصدقائه مرة أخرى، وأهانهم كما أهانوه.
٢. أَيَّامِي قَدْ عَبَرَتْ. مَقَاصِدِي… قَدِ انْتَزَعَتْ: قَبِل أيوب الآن أن سنواته الجيدة وسنوات قوته صارت وراءه، فهو لا يتوقع الموت السريع الذي كان يتوق إليه، لكنه يتوقع الآن أن يفقد القوة والقدرة تدريجيًا حتى يهلك ببساطة.
٣. يَجْعَلُونَ اللَّيْلَ نَهَارًا، نُورًا قَرِيبًا لِلظُّلْمَةِ: فكر أيوب في اقتراب موته وشعر بالراحة فيه. سيُحوّل الموت اللَّيْلَ نَهَارًا. وسيكون فَسادُ القبر قريبًا منه كأنه أحد أفراد العائلة.
• “قال المشيرون أن الليل سيتحول إلى نهار إن اعترف أيوب بخطيته أمام الله (راجع أيوب ١١: ١٧). في أيوب ١٧: ١٢-١٦ قدم أيوب محاكاة ساخرة لنصيحتهم. كان الأمر أشبه بالذهاب إلى القبر مع فكرة أن كل ما عليك فعله هو التعامل مع القبر وكأنه بيت حيث الدفء والأحباء، وسيصبح هكذا فعلًا.” سميك (Smick)
• “انظر كيف يتحدث عن الفساد والديدان، كما لو كانوا من عائلته ومن أقرب أقربائه. هكذا يتغزّل بهم، كي يكونوا على استعداد لاستقباله. مظهرًا مدى استعداده للموت.” تراب (Trapp)
٤. فَأَيْنَ إِذًا آمَالِي: في الوقت نفسه، لم تكن هذه الراحة جيدة لأيوب. لقد أدرك أن ثقته في القبر كانت ثقة هشة وضعيفة. فهو لا يستطيع أن يكون واثقًا من أن الآمال ستتبعه إلى الْهَاوِيَةَ وتمنحه الراحة.
• لذلك يختتم أيوب هذا الخطاب برجاء متضارب. يتمنى الموت، ولكنه ليس مقتنعًا أو واثقًا من هذا الرجاء. ما كان حقًا يريده هو قرار من الله، ولكن يبدو أنه فقد رجاءه في ذلك.
• “على الأغلب تضايف أيوب نفسه، رغم ثقته القوية في بعض الأحيان، من الشكوك والمخاوف بشأن الموضوع، لدرجة أن أقواله وتجربته غالبًا ما تبدو متناقضة. والأمر ربما لا يكون خلاف ذلك. فالنور الحقيقي لم يأتِ بعد: ويسوع وحده أَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ.” كلارك (Clarke)