سفر أيوب – الإصحاح ٩
رَدّ أيوب على بِلْدَد
أولًا. يُعرب أيوب عن شعوره بالإحباط من سلطان الله وعظمته
أ ) الآيات (١-١٣): يثني أيوب على حكمة الله وقوته، حتى لو تجاوزت حكمته وقوته فهمه المحدود.
١فَأَجَابَ أَيُّوبُ وَقَالَ: ٢«صَحِيحٌ. قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَا، فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟ ٣إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ، لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ. ٤هُوَ حَكِيمُ الْقَلْبِ وَشَدِيدُ الْقُوَّةِ. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ ٥الْمُزَحْزِحُ الْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَمُ، الَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِهِ. ٦الْمُزَعْزِعُ الأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا، فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا. ٧الآمِرُ الشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ، وَيَخْتِمُ عَلَى النُّجُومِ. ٨الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ، وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ. ٩صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ. ١٠فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ، وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ. ١١«هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ، وَيَجْتَازُ فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ. ١٢إِذَا خَطَفَ فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ ١٣اللهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ. يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ.
١. صَحِيحٌ. قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَا: يبدو رد أيوب على بِلْدَد أكثر لطفًا من الكلمات القاسية التي قالها بِلْدَد لأيوب في الإصحاح السابق. بدأ الحديث بالموافقة على فرضية بِلْدَد العامة: أن الله يكافئ الأبرار ويقوِّم (أو يدين) الخطاة.
٢. فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟: رد أيوب على بِلْدَد بكل حكمة. من الواضح أن أيوب عانى أكثر من المعتاد. ومع ذلك، لا يمكن لأحد بحق أن يتهمه بأنه أخطأ أكثر من المعتاد. إن لم يكن أيوب بارًا عِنْدَ اللهِ، فكيف يمكن لأي إِنْسَان أن يكون؟
• من المهم بالنسبة لنا أن نفهم أن الكتاب المقدس يتحدث عن بر الإنسان بمعنيين.
يمكن أن يكون الإنسان بارًا بالمعنى النسبي، حيث يمكن اعتباره بارًا بين البشر كما اعتُبر كل من نوح (تكوين ٧: ١) وأيوب (أيوب ١: ١) هكذا.
يمكن للإنسان أن يكون بارًا بالمعنى الشرعي (القانوني)، أعلن الله أنه شخص بار من خلال الإيمان (رومية ٥: ١٩).
• يتعلق سؤال أيوب هنا بالجانب الأول من البر، رغم أنه ذو صلة أيضًا بالجانب الآخر منه. أراد أيوب في المقام الأول أن يعرف، “إن لم أكن بارًا بما فيه الكفاية للهروب من دينونة الله، فمن يستطيع أن يكون؟”
• ولكن بالمعنى النهائي، فإن سؤال أيوب هو السؤال الأكثر أهمية في العالم. كيف يمكن للإنسان أن يجد استحسان الله؟ كيف يمكن اعتبار الإنسان بارًا وغير مذنب أمام الله؟
٣. إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ، لاَ يُجِيبُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ: فهم أيوب أن الإنسان لا يستطيع أن يجادل الله أو يطلب منه إجابات. من المحزن أن هذه الخطية ستصبح الخطية الأساسية لأيوب في القصة، الخطية التي تاب عنها في أيوب ٤٢: ١-٦.
• “أتت كلمة ُيحاج هنا كمصطلح تقني لإقامة دعوى قضائية.” أندرسن (Andersen)
٤. صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ: أشاد أيوب بقدرة الله العظيمة، الذي خلق العالمين ووضع الشمس والنجوم في السماء. ومع ذلك، لم تكن قوة الله تعزية لأيوب؛ بل جعلته يشعر أن الله كان أبعد من أي وقت مضى.
• مَخَادِعِ الْجَنُوبِ: “الأجزاء النائية الخفية والسرية في الجنوب. سميت بذلك، لأن النجوم الموجودة تحت القطب الجنوبي مخفية عنا، وهي مُغلّفة وساكنة كما في مخدع.” تراب (Trapp)
• “لاحظ ج. شياباريلي (G. Schiaparelli) إن العديد من النجوم التي كانت مرئية في الأفق الجنوبي في فلسطين لم تعد مرئية هناك بسبب الحركة المدارية للأرض.” سميك (Smick)
٥. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟: وافق أيوب على الفرضية الأساسية لبِلْدَد، أن المرء لا يُبارَك أبدًا بتقسية نفسه ضد الله. لكن أيوب لم يعتقد أن هذا المبدأ ينطبق عليه في هذه الحالة، لأنه عرف في قلبه أنه لم يُصَلِّبْ نَفْسَهُ ضِد الله.
٦. فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ، وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ: فكر أيوب في أعمال الله العظيمة في الكون، وكيف أظهرت جلال الله وقوته. لكن هذا الفهم لعظمة الله وقدرته لم يعزِ أيوب، بل جَعَلته يشعر أن الله كان أكبر من أن يُلاحظ (هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ فلاَ أَرَاهُ) أو يهتم ويساعد أيوب (اللهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ).
• كان الأمر كما لو أن أيوب صرخ، “لماذا يصعب معرفة الله؟” لم يعتقد أصدقاؤه أنه من الصعب معرفة الله. كانت المشكلة بسيطة بالنسبة لهم. لقد أخطأ أيوب بطريقة سيئة وغير عادية، لذلك حلت عليه كل هذه الكوارث. ولكن أيوب، الذي لم يكن يعرف حقيقة الأمر أو ما كان يجري (كما نراها في أيوب ١-٢)، كان يعرف قلبه ونزاهته على الأقل، وكان يعرف أن معرفة الله ليست بهذه البساطة.
٧. يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ: وكما وضح ماسون (Mason)، يوجد أفكار كثيرة مرتبطة بيسوع في هذا النص.
• نقرأ عن الله: الْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ؛ يسوع يمشي على الماء أيضًا.
• نقرأ عن الله: صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا؛ خُلقت نجمة لغرض الإعلان عن ميلاد يسوع المسيح.
• نقرأ عن الله: فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ، وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدّ؛ وجال يسوع أيضًا يصنع عَظَائِمَ.
• نقرأ عن الله: هُوَذَا يَمُرُّ عَلَيَّ وَلاَ أَرَاهُ؛ ويمكن ليسوع أن يجتاز في وسط جمهور غاضب ويختفي ببساطة (يوحنا ٨ :٥٩).
• نقرأ عن الله: وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؛ وهذا ما حدث مع يسوع أثناء خدمته الأرضية، إذ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ! (مرقس ٣٤:١٢).
• نقرأ عن الله: لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ؛ فلا ينبغي أن نتفاجأ من أن يسوع عبَّر عن غضبه أحيانًا.
• نقرأ عن الله: يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ؛ والأرواح النجسة خَرَّتْ حينما نظرت إلى يسوع (مرقس ١١:٣).
“يا لها من مفارقة رائعة في رؤية أيوب يشرع في وصف الله الخالد وغير المرئي، وخلال ذلك يرسم صورة دقيقة بشكل مذهل ليسوع الأرضي!” ماسون (Mason)
“في الإصحاح نفسه حيث يبدو أن أيوب كان يتوسل إلى يسوع أن يأتي إلى المحاكمة (أيوب ٩: ٣٢-٣٣)، فقد توقع أيضًا مجيء يسوع بقوة ودقة.” ماسون (Mason)
ب) الآيات (١٤-٢٠): يتساءل أيوب كيف يُجيب إله عظيم كهذا.
١٤كَمْ بِالأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ وَأَخْتَارُ كَلاَمِي مَعَهُ؟ ١٥لأَنِّي وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أُجَاوِبُ، بَلْ أَسْتَرْحِمُ دَيَّانِي. ١٦لَوْ دَعَوْتُ فَاسْتَجَابَ لِي، لَمَا آمَنْتُ بِأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتِي. ١٧ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ، وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ. ١٨لاَ يَدَعُنِي آخُذُ نَفَسِي، وَلكِنْ يُشْبِعُنِي مَرَائِرَ. ١٩إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ، يَقُولُ: هأَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ ٢٠إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي، وَإِنْ كُنْتُ كَامِلاً يَسْتَذْنِبُنِي.
١. كَمْ بِالأَقَلِّ أَنَا أُجَاوِبُهُ: مشكلة أيوب واضحة. لقد فهم أن الله بار وقوي. ما لا يستطيع فهمه هو كيف سيستخدم الله هذا البر أو القوة لمساعدته. بدا الله بعيدًا وغير شخصي لأيوب كما يبدو للكثير من الذين يعانون.
٢. ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ، وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ: شعر أيوب أن قوة الله كانت ضده وليست معه. بهذا المعنى، لم يكن من المفيد لأيوب أن يفكر في قوة الله الهائلة، لأن تلك القوة بدت وكأنها ضده.
• “عندما يقول أيوب أنه بلا ذنب، فهو لا يدعي أنه بلا خطية. إنه لا يتبنى الكمال الأخلاقي. إنها مجرد براءة نسبية. فهو لا يعتقد أنه فعل أي شيء ليستحق هذا النوع من المعاملة.” لوسون (Lawson)
• “رأى أيوب قوة الله كما لو كانت غير أخلاقية، حرية سيادية، قوة لا يمكن السيطرة عليها تعمل بشكل غامض لفعل ما يشاء حتى لا يتمكن أحد من إيقافه ليسأل: ماذا تفعل؟” سميك (Smick)
٣. إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي: إن أعلن أيوب بره، فلن يكون ذلك صحيحًا. إن أعلن أيوب بره، فالكلمات نفسها ستكون دليلًا كافيًا على الكبرياء والغطرسة لإدانته. إن أعلن أيوب بره، فسيقول إن الله مخطئ بشأن الإنسان.
• “قبل سنوات، كان هناك رجل عجوز في ويلتشير، ووفقًا لبيانه الخاص، يبلغ من العمر مائة وثلاث سنوات، لم يهمل أبدًا كنيسته الرعوية، وقد أنجب أحد عشر طفلًا، ولم يحصل على مساعدة من الرعية، وكان يتوقع في النهاية، أنه يجب أن يعود إلى منزله عند الله، لأنه ’بحسب علمه، لم يرتكب أي خطأ في حياته.‘ فقال له أحدهم: ’ولكن هل تعلم أنك إنسان خاطئ؟‘ فأجابه: ’أعلم أنني لست كذلك.‘ ’ولكن الله يقول أنك كذلك.‘ ماذا برأيك، كان رد هذا الرجل العجوز؟ قال الرجل العجوز: ’قد يقول الله ما يحلو له، لكنني أعلم أنني لست كذلك.‘ وكما ترى، ناقض الله نفسه، أليست هذه خطية كبيرة لأي شخص أن يرتكبها؟” سبيرجن (Spurgeon)
• تقول الآية في أيوب ٩ : ٢٠ أنه إذا برر الرجل نفسه، فإن فمه سيدينه. تقول رسالة رومية ٨: ٣٣-٣٤ أنه إذا برر الله إنسانًا، فلا أحد يستطيع أن يدينه.
٤. إِنْ تَبَرَّرْتُ… وَإِنْ كُنْتُ كَامِلًا يَسْتَذْنِبُنِي: أعطى أيوب صوتًا بليغًا لسخطه. شعر كما لو أنه لا يوجد شيء يمكنه فعله لإرضاء الله أو أن يحظى باستحسانه مرة أخرى.
• “في الواقع، الاتهام الوحيد الذي سيستمع إليه سيكون اتهامًا من الله نفسه. ولكن إذا دخل الله في الدعوى القضائية، فإن أيوب قلق من أنه لن يتمكن من تنفيذ دفاعه بانتصار.” أندرسن (Andersen)
ثانيًا. يتوق أيوب أن يكون هناك وسيط بين بينه وبين الله
أ ) الآيات (٢١-٢٤): يشرح أيوب عدم قدرته على الدفاع عن نفسه أمام الله.
٢١«كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي. رَذَلْتُ حَيَاتِي. ٢٢هِيَ وَاحِدَةٌ. لِذلِكَ قُلْتُ: إِنَّ الْكَامِلَ وَالشِّرِّيرَ هُوَ يُفْنِيهِمَا. ٢٣إِذَا قَتَلَ السَّوْطُ بَغْتَةً، يَسْتَهْزِئُ بِتَجْرِبَةِ الأَبْرِيَاءِ. ٢٤الأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ الشِّرِّيرِ. يُغَشِّي وُجُوهَ قُضَاتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَإِذًا مَنْ؟
١. كَامِلٌ أَنَا. لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي: عبر أيوب عن مشاعره المُعَذَّبة. اعتقد حقًا أنه كان بلا لوم (كَامِل)، ولكن في الوقت نفسه، اعترف بأنه لا يعرف نفسه جيدًا (لاَ أُبَالِي بِنَفْسِي) بما يكفي ليكون ضميره مرتاحًا تمامًا.
٢. يَسْتَهْزِئُ بِتَجْرِبَةِ الأَبْرِيَاءِ: شعر أيوب أن الله لم يكن بعيدًا وصامتًا فحسب، بل كان يتسلى على حساب المتألمين الأتقياء مثل أيوب.
• “كما يُذهل المرء من صراخ، أو يحزن من تأوه، هكذا هذه الأقوال الحادة لأيوب تدهشنا في البداية، ثم توقظ فينا الشفقة … أنتجت المعاناة الجسدية ضغطًا على عقل أيوب، وسعى إلى الراحة من خلال التعبير عن ألمه. مثل سجين في قلعة قديمة قاتمة، ينحت على الجدران صورًا لليأس المدقع الذي يطارده. تتفاقم آلامه بسبب الجهود العبثية للتخفيف منها: فهو يُدمي يده بالمطرقة الخشنة والمسمار الذي ينقش بهما أحزانه. مثل هذا التعذيب تذوَّقه الكثير منا.” سبيرجن (Spurgeon)
• يجب أن نتذكر أن كل ما نعرفه عن وضع أيوب من الإصحاحات ١ و٢ لم يكن معروفًا لأيوب في هذا الوقت. فهو يصف العالم كما يبدو له. هكذا كانت نظرة أيوب عن الله: “إنه يهمل الأبرياء، ويبدو أنه لا يستجيب لصلواتهم، ويتركهم يعانون في هلاكهم مع الآخرين، كما لو كان يُسر بفنائهم أيضًا.” بوله (Poole)
• تتعلق الأزمة الروحية الناشئة عند أيوب بسوء فهمه لله. كتب توزر (Tozer)، “أهم شيء عنك هو ما يتبادر إلى ذهنك عندما تفكر في الله.” أصبح تصور أيوب عن الله – وهو أمر مفهوم تمامًا – ملتويًا بخبرته وخياله. “كان خيال أيوب هذا أسوأ من اللامبالاة الأخلاقية. حتى أنه سخر من يأس الأبرياء ومنع إقامة العدل.” سميك (Smick)
٣. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَإِذًا مَنْ؟: كان منطق أيوب قاسٍ. لقد فهم أنه وصل لهذه الحالة بسبب الله.
• كتب كلارك (Clarke) تعليقًا على الكلمات ’الأَرْضُ مُسَلَّمَةٌ لِيَدِ الشِّرِّيرِ‘ وقال: “أليس من الواضح أن أسوأ الناس يمتلكون معظم خيرات هذا العالم، وأن الصالحين نادرًا ما يكونون في السلطة أو الثراء؟ كان هذا هو الحال في زمن أيوب. هذا هو الحال ولا يزال. لذلك فإن الرخاء والشدائد في هذه الحياة ليسا علامتين على استحسان الله أو رفضه.”
ب) الآيات (٢٥-٣١): شعر أيوب بإحساس قوي بالإدانة.
٢٥أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ، تَفِرُّ وَلاَ تَرَى خَيْرًا. ٢٦تَمُرُّ مَعَ سُفُنِ الْبَرْدِيِّ. كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى قَنَصِهِ. ٢٧إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي، أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَتَبَلَّجُ، ٢٨أَخَافُ مِنْ كُلِّ أَوْجَاعِي عَالِمًا أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي. ٢٩أَنَا مُسْتَذْنَبٌ، فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثًا؟ ٣٠وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ، وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالإِشْنَانِ، ٣١فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي.
١. أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ: شعر أيوب أن حياته كانت خارجة عن السيطرة تمامًا. تحرك الزمن بسرعة هائلة وانقض عليه كما ينقض النسر على فريسته (كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى قَنَصِهِ).
• شعر أيوب أن حياته تمر بسرعة كبيرة لدرجة أن أيامه ستنتهي وأن الله سيترك هذه المسألة برمتها دون حل.
• “وقتك سَرِيعُ الزّوَال: فافتديه. يقال عن أغناطيوس، أنه كان يقول كلما دقت الساعة: ها هي ساعة أخرى تمر وسأحاسَب عليها.” تراب (Trapp)
٢. عَالِمًا أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي: شعر أيوب أن الله قد جربه وأدانه، وأنه لن ينفعه حتى أن يُطهر نفسه أمام الله. وإذا فعل ذلك، فإنه يعتقد أن الله سَيَغْمِسُهُ فِي النَّقْعِ مرة أخرى.
• ” تجربة أيوب أخبرته أنه في بعض الأحيان يسحق الله الأبرياء دون سبب على الإطلاق. ونحن الذين لنا امياز رؤية الدراما من المنظور الإلهي نعرف أن أيوب كان بريئًا وأن الله كان لديه سبب لا شأن له بأيوب، سبب لا يمكن الكشف عنها لأيوب في الوقت الحالي.” سميك (Smick)
٣. وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ: رأى سبيرجن (Spurgeon) أن الغسل بِماءِ الثَّلْج هو وصف للأشياء الباطلة التي يفعلها الخطاة لتبرير وتطهير أنفسهم من خطاياهم.
• من الصعب الحصول على مياه الثلج، وبالتالي تعتبر أكثر قيمة.
• تشتهر مياه الثلج بالنقاء وبالتالي يعتقد أنها أكثر قدرة على التطهير.
• تنزل مياه الثلج من السماء وليس من الأرض ولذلك يعتقد أنها “روحية” أكثر.
يشير كل من ماءِ الثَّلْجِ والإشْنَانِ (الصابون) للجهد الكبير الذي يبذله الإنسان ليصبح نقيًا. يمكن للمرء أن يستخدم أنقى المياه وأقوى الصابون، لكن لا يزال من المستحيل تطهير خطيته بنفسه.
٤. فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي: كلما فكر أيوب في عظمة الله، زاد شعوره بالغرق في حفرة الفساد.
• قد يَغْمِسُ الله الإنسان فِي النَّقْعِ (الحفرة) ليرى خطاياه الحقيقية بعدة طرق مختلفة.
قد يُحضر ذكرى الخطايا القديمة إلى الذاكرة.
قد يسمح للمرء أن يُجرَّب كثيرًا وبالتالي يعرف ضعفه.
قد يكشف للمرء مدى عدم كمال جميع أعماله.
قد يجعل المرء يفهم الطابع الروحي للناموس.
قد يُظهر الله قداسته العظيمة للإنسان.
• “عندما يقنع الرب، الروح القدس، رجلًا بالخطية، فلن تكون كلمات أيوب قوية بما فيه الكفاية: ’تَكْرَهَنِي ثِيَابِي.‘ ربما تكون قد كرهت ثيابك في بعض الأحيان لأنها كانت متسخة لدرجة أنك كنت تخجل من رؤية نفسك فيها. ولكن، يجب أن تكون أنت متسخًا بالفعل عندما تبدو ثيابك نفسها وكأنها تخجل من التعلق بك. هذا ما يشعر به الخاطئ المقتنع – أنه كريه لدرجة أن ثيابه ذاتها تبدو وكأنها تخجل منه، كما لو كانت تفضل أن تكون على ظهر أي شخص آخر على أن تكون على ظهر خاطئ قذر مثله.” سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (٣٢-٣٥): يتوق أيوب إلى مُصَالِح ليأزره.
٣٢لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. ٣٣لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا. ٣٤لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ. ٣٥إِذًا أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ، لأَنِّي لَسْتُ هكَذَا عِنْدَ نَفْسِي.
١. لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ: شعر أيوب هنا بشدة بالمسافة بينه وبين الله. لقد شعر بمعاملة الله الظالمة، لكنه شعر أنه لا توجد طريقة لمعالجة المشكلة. لم يستطع الله أن يواجه ظروف أيوب غير المبررة، لذلك يئس أيوب من العثور على إجابة مرضية لمشكلته.
٢. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا: فهم أيوب المسافة بينه وبين الله، وكان يتوق إلى شخص ما لسد الفجوة بينه وبين الله.
• احتاج أيوب إلى شخص ما ليفهم الاختلافات بينه وبين الله. فنظام معتقداته السابقة، وتجربته الشخصية، ومشورة أصدقائه لم يساعده على التصالح مع الله. وإدراكًا لهذه الحاجة، صرخ أيوب طالبًا مُصَالِحًا بينه وبين الله. “كان أيوب يصرخ هنا من أجل شخص يمكنه الوقوف بشكل رسمي بين الله وبين نفسه، وبالتالي ابتدع طريقة اللقاء، وإمكانية الاتصال.” مورغان (Morgan)
• كانت هذه الصرخة شيئًا جيدًا. أظهرت أن أيوب يبحث خارج نفسه عن إجابات. ولكن، “كان الحزن هو الذي جلب أيوب إلى هذا المكان، والحزن هو الشيء الوحيد الذي يجلب الشخص لهذا المكان. الفرح لا يفعل، ولا الرخاء، لكن الحزن يفعل ذلك.” شامبرز (Chambers)
• لدينا وعد عظيم بمُصَالِح (وسيط) لم يعرفه أيوب بعد: لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ (١ تيموثاوس ٢: ٥). ما كان يتوق إليه أيوب قد تحقق في يسوع. إنه يفي بجميع مؤهلات الوسيط، شخص ما يقف بين طرفي النزاع:
يجب أن يكون الوسيط مقبولًا من قبل الطرفين.
يجب السماح للوسيط بتسوية القضية بالكامل.
يجب أن يكون الوسيط شخصًا قادرًا على التواصل مع كل من الطرفين.
يجب أن يكون لدى الوسيط الرغبة لرؤية تسوية سعيدة.
• بدأ أيوب هذا الإصحاح بلغة المحكمة القانونية (إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَاجَّهُ، أيوب ٩: ٣)، وهنا ينتهي بصورة مُصَالِح لإنهاء نزاع. لن تأتي نهاية نزاع أيوب إلا في وقت لاحق، ولكن نهاية نزاعنا مع الله متاحة الآن في يسوع المسيح. “وما هو رائع أكثر وأكثر، أن كلا الطرفين سيكسبان في هذه الدعوى. هل سمعت عن مثل هذه الدعوى القضائية من قبل؟ هذا لا يحدث أبدًا في محاكم البشر.” سبيرجن (Spurgeon)
• لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ: “تدل كلمة عصا (shebet)، على أنها ليست فقط قضيب، ولكنها أيضًا صولجان أو عصا مَلَكية، قد يشير أيوب هنا إلى الله الجالس في جلاله على كرسي الدينونة. وقد روعه هذا المنظر المليء بالرعب لدرجة أنه لم يكن قادرًا على الكلام.” كلارك (Clarke)
٣. إِذًا أَتَكَلَّمُ وَلاَ أَخَافُهُ، لأَنِّي لَسْتُ هكَذَا عِنْدَ نَفْسِي: ولأنه كان يفتقر إلى مُصَالِح، شعر أيوب أنه لا يستطيع التحدث مع الله.
• “أنا لست بعيدًا عن رعبه، وبالتالي لا يمكنني ولا أملك الشجاعة للدفاع عن قضيتي معه بجرأة. ولهذا ليس لدي ما أفعله سوى التخفيف عن نفسي من خلال تجديد شكواي.” بوله (Poole)