سفر أيوب – الإصحاح ٤
الحديث الأول لأَلِيفَاز
يبدأ هذا الخطاب قسمًا طويلًا في سفر أيوب حيث أن أصدقاء أيوب ينصحونه ويرد عليهم. يتحدث أصدقاؤه في ثلاث جولات تقريبًا، وكل خطاب يتبعه رد من أيوب. في نهاية هذه الخطابات، يجيب الله أيوب وأصدقاءه ويحسم الأمر.
أولًا. التعليقات الافتتاحية لأَلِيفَاز
أ ) الآيات (١-٦): إليفاز يُذّكر أيوب بالنصيحة التي كان يقدمها ليشدد عزيمة الضعفاء.
١فَأجَابَ أَلِيفَازُ التَّيمَانِيُّ وَقَالَ: ٢«إِنِ امْتَحَنَ أَحَدٌ كَلِمَةً مَعَكَ، فَهَلْ تَسْتَاءُ؟ وَلكِنْ مَنْ يَسْتَطِيعُ الامْتِنَاعَ عَنِ الْكَلاَمِ؟ ٣هَا أَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَ كَثِيرِينَ، وَشَدَّدْتَ أَيَادِيَ مُرْتَخِيَةً. ٤ قَدْ أَقَامَ كَلاَمُكَ الْعَاثِرَ، وَثَبَّتَّ الرُّكَبَ الْمُرْتَعِشَةَ! ٥وَالآنَ إِذْ جَاءَ عَلَيْكَ ضَجِرْتَ، إِذْ مَسَّكَ ارْتَعْتَ. ٦أَلَيْسَتْ تَقْوَاكَ هِيَ مُعْتَمَدَكَ، وَرَجَاؤُكَ كَمَالَ طُرُقِكَ؟
١. فَأجَابَ أَلِيفَازُ التَّيمَانِيُّ: كان أليفاز من مدينة تِيْمَان، وهي مدينة أدومية كانت تعرف بأنها مركز الحكمة (إرميا ٤٩: ٧).
٢. إِنِ امْتَحَنَ أَحَدٌ كَلِمَةً مَعَكَ، فَهَلْ تَسْتَاءُ؟: مع هذه البداية اللبقة، بدأ أليفاز خطابه. يمكننا أن نقول إنه قد حصل على الحق في التحدث إلى أيوب، لأنه أظهر نموذجًا رائعًا للصداقة، بجلوسه صامتاً مع أيوب طوال أسبوع كامل مُظهرًا تعاطفه وأخُوَّته مع الرجل المنكوب (أيوب ٢: ١١-١٣).
٣. وَلكِنْ مَنْ يَسْتَطِيعُ الامْتِنَاعَ عَنِ الْكَلاَمِ؟: شعر أليفاز بأنه مضطر للكلام؛ فحُبُه واهتمامه بأيوب حفزه بقوة على مساعدة صديقه المتألم. ومع ذلك، سنجد لاحقًا أن نصيحة أليفاز، وبقية مستشاري أيوب، كانت خاطئة (أيوب ٤٢: ٧-٨).
٤. هَا أَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَ كَثِيرِينَ… وَالآنَ إِذْ جَاءَ عَلَيْكَ ضَجِرْتَ: بدأ أليفاز في مواجهة أيوب بالمشكلة التي اعتقد أنها السبب وراء معاناته. تطلب هذا قدرًا كبيرًا من الشجاعة من جانب أليفاز. كان أول من تكلم، وتحدث إلى رجل يتمتع بسمعة يُحسد عليها في التقوى والآن يعاني من كارثة رهيبة.
• لكنه أشار إلى هذا التناقض الظاهر في رثاء أيوب المسجل في الإصحاح السابق: هذا الرجل الذي علّم وعزّى الكثيرين في وقت حاجتهم يبدو الآن أنه يائس في وقت حاجته.
• “هناك بالفعل تلميح إلى أن أيوب غير قادر على أن يطبق على نفسه ما وعظ به الآخرين.” أندرسن (Andersen)
• “هذا مُثِيرٌ للغيظ. لكن أليفاز أثنى على أيوب، ولكنه الآن يحطم كل شيء، ويرسم خطًا أسود فوق كل ما قاله سابقًا (أي يمحوه تمامًا). فعندما يمدح المرء شخصًا ثم يقول: وَلكِنْ مَنْ… فهذا جرحًا وليس مديحًا… إنه يرش الأسود على الأبيض، وهكذا فهو يسحق اسم الرجل الجيد، وهذا افتراء بدرجة عالية.” تراب (Trapp)
٥. أَلَيْسَتْ تَقْوَاكَ هِيَ مُعْتَمَدَكَ: وكأنه يقول: “يا أيوب، ألا يُظهر يأسك أنك فقدت مُعْتَمَدَكَ (ثقتك أو إيمانك) في تَقْوَاكَ وفقدت رَجَاءكَ في كَمَالَ طُرُقِكَ؟”
• “يُعرف الرجال جيدًا في الشدائد، والآن يظهر ما هو المعدن الذي صنعوا منه. وها أنت الآن تتخلص من تقواك ومعتمدك ورجاءك في الله.” تراب (Trapp)
• يبدأ هذا القسم بمحاولة أليفاز (والآخرون) إقناع أيوب بأن مشاكله قد أتت عليه بسبب خطايا ارتكبها، ويجب عليه أن يعترف ويتوب عن خطيته ليسترد حياته.
• بدأ أليفاز بناءً على أساس شكوى أيوب كما هو مسجل في أيوب ٣. وقد علل ذلك بأن أيوب لن يشتكي بهذه الطريقة إلا إذا كان مذنبًا بطريقة ما. أن ضميره المذنب هو أصل معاناته. وكما اتضح، كان هذا افتراضًا خاطئًا. كانت شكوى أيوب مجرد صرخة شخص متألم وليس لأنه قد فهم بوعي أو بغير وعي أنه يستحق هذه الكارثة بسبب خطيته.
ب) الآيات (٧-١١): إليفاز يشرح ما يعتقد أنه مصدر متاعب أيوب.
٧اُذْكُرْ: مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ؟ ٨كَمَا قَدْ رَأَيْتَ: أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا، وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا. ٩بِنَسَمَةِ اللهِ يَبِيدُونَ، وَبِرِيحِ أَنْفِهِ يَفْنَوْنَ. ١٠زَمْجَرَةُ الأَسَدِ وَصَوْتُ الزَّئِيرِ وَأَنْيَابُ الأَشْبَالِ تَكَسَّرَتْ. ١١اَللَّيْثُ هَالِكٌ لِعَدَمِ الْفَرِيسَةِ، وَأَشْبَالُ اللَّبْوَةِ تَبَدَّدَتْ.
١. مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ: يدخل إليفاز هنا في صُلب حجّته. فيقول بكل جسارة أن أيوب كان مذنبًا بسبب خطية ارتكبها، لأن البَرِيء لا يعاني كما عانى هو (مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ)، والرجل المستقيم لا يُباد كما حدث معه (وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ).
• في هذا السياق، تعني كلمة أَبِيدَ أن يتخلى الله عن الشخص. في وقت لاحق في إسرائيل، غالبًا ما تعني الإعدام.
٢. أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا، وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا: يتكلم إليفاز بطريقة مقنعة من واقع تجربته الخاصة (كَمَا قَدْ رَأَيْتَ). كان أيوب يحصد الشقاء (شَقَاوَةً)، لأنه بكل تأكيد حرث الخطية (إِثْمًا) وزرع بذور الشقاء (شَقَاوَةً).
• إن مشورة أليفاز مليئة بالحس الفطري ومتجذرة في مشاهداته اليومية وتجربته الخاصة. ويمكننا القول إنها صحيحة في الغالب ويمكن أن ينظر إليها بشكل عام على أنها صحيحة. ومع ذلك، نحن نعلم أيضًا أن أليفاز كان مخطئًا في حكمه على أيوب هنا، وأن مشورته كانت خاطئة (تذكر تقييم الله لأليفاز ومستشاري أيوب في أيوب ٤٢: ٧).
• يؤمن الكثير من الناس اليوم بمشورة أليفاز وبأنها قانون روحي مطلق بدلًا من أن تكون قاعدة عامة. ويدعم بعضهم الأمر باستخدام غلاطية ٦: ٧ ’لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا.‘ ولكن، من المهم أن نفهم سياق ما قاله بولس، الذي كان تشجيعًا وحضًا للمؤمنين على العطاء لدعم الخدام. ولكن تطبيق مبدأ غلاطية ٦: ٧ يتجاوز دعم المعلمين والخدام ماديًا، إذ له تطبيق عام في الحياة. فما نحصل عليه في الحياة هو في كثير من الأحيان ما نضعه فيها. ولكن، لم يكن بولس يروج لبعض قوانين الكارما الروحية (العمل ونتائجه) التي تتضمن أننا سنحصل على الخير عندما نفعل أشياء جيدة أو سنحصل على الشر عندما نفعل أشياء سيئة. إذا كان هناك مثل هذا القانون الروحي المطلق، فمن المؤكد أنه سيجلب اللعنة علينا جميعًا. ولكن ربط بولس ببساطة مبدأ الزرع والحصاد بالطريقة التي ندير بها مواردنا أمام الرب. استخدم نفس الصورة في ١ كورنثوس ٩: ١١ و٢ كورنثوس ٩: ٦-١٠.
• لقد بنى أيوب وأصدقاؤه حياتهم كلها على الاعتقاد بأن الله يساعد الخير ويعيق الشر. وفي الواقع يمكن أن ينظر إلى الله على أنه صالح أخلاقيًا في تعاملاته مع شؤون البشر. “ولهذا كان يجب أن يستنتج الأصدقاء من معاناة أيوب أنه أخطأ. وأن يستنتج أيوب البار أن الله ظالم.” أندرسن (Andersen)
٣. بِنَسَمَةِ اللهِ يَبِيدُونَ: قال إليفاز ضمنيًا وبوضوح أن سبب آلام أيوب هو عقاب من الله، وأن نسمة غضبه اشتعلت على أيوب (وَبِرِيحِ أَنْفِهِ يَفْنَوْنَ).
• وتعني فكرة بِرِيحِ أَنْفِهِ يَفْنَوْنَ أنها كافية لتدمير أعداء الله. “إنه لا يضع نفسه في ألم كبير لمعاقبتهم. لكنه ينفخهم بعيدًا مثل أكوام الغبار.” تراب (Trapp)
٤. وَأَنْيَابُ الأَشْبَالِ تَكَسَّرَتْ: رسم أليفاز صورة لمدى قوة غضب الله، أنه قوي بما يكفي لتواضع وهزيمة حتى الأَشْبَال القوية. الفكرة هي أن غضب الله كسر أيوب تمامًا.
ثانيًا. وحي من جهة ضَعف الإنسان
أ ) الآيات (١٢-١٦): روحٌ يظهر لإليفاز في الليل.
١٢«ثُمَّ إِلَيَّ تَسَلَّلَتْ كَلِمَةٌ، فَقَبِلَتْ أُذُنِي مِنْهَا رِكْزًا. ١٣فِي الْهَوَاجِسِ مِنْ رُؤَى اللَّيْلِ، عِنْدَ وُقُوعِ سَبَاتٍ عَلَى النَّاسِ، ١٤أَصَابَنِي رُعْبٌ وَرَعْدَةٌ، فَرَجَفَتْ كُلَّ عِظَامِي. ١٥فَمَرَّتْ رُوحٌ عَلَى وَجْهِي، اقْشَعَرَّ شَعْرُ جَسَدِي. ١٦وَقَفَتْ وَلكِنِّي لَمْ أَعْرِفْ مَنْظَرَهَا، شِبْهٌ قُدَّامَ عَيْنَيَّ. سَمِعْتُ صَوْتًا مُنْخَفِضًا:
١. ثُمَّ إِلَيَّ تَسَلَّلَتْ كَلِمَةٌ: ادعى إليفاز أنه تلقى هذه الرسالة في المنام، عِنْدَ وُقُوعِ سَبَاتٍ عَلَى النَّاسِ، وأن رُوحٌ مَرَّتْ عَلَى وَجْهِه وهو نائم.
• “عزز إليفاز سلطة كلماته مستعينًا بما هو خارق للطبيعة – تجربة غريبة يقْشَعَرُّ منها شَعْرُ البدن حصل خلالها على وحي إلهي.” سميك (Smick)
٢. فَمَرَّتْ رُوحٌ عَلَى وَجْهِي: جاءت الكلمات في القسم التالي إلى أليفاز من هذه الروح الغريبة والغامضة.
• “سواء جاءت من السماء أو الجحيم، فنحن لا نعرف، لأنها كانت تكشف الجرح وتُثيره، دون أن تُقدم العلاج.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (١٧-٢١): كلام الروح.
١٧أَالإِنْسَانُ أَبَرُّ مِنَ اللهِ؟ أَمِ الرَّجُلُ أَطْهَرُ مِنْ خَالِقِهِ؟ ١٨هُوَذَا عَبِيدُهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ، وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً، ١٩فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ، الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ، وَيُسْحَقُونَ مِثْلَ الْعُثِّ؟ ٢٠بَيْنَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ يُحَطَّمُونَ. بِدُونِ مُنْتَبِهٍ إِلَيْهِمْ إِلَى الأَبَدِ يَبِيدُونَ. ٢١أَمَا انْتُزِعَتْ مِنْهُمْ طُنُبُهُمْ؟ يَمُوتُونَ بِلاَ حِكْمَةٍ.
١. أَالإِنْسَانُ أَبَرُّ مِنَ اللهِ؟: لفت أليفاز الانتباه إلى الخطية الشائعة للإنسان. الفكرة واضحة: “يا أيوب، كلنا نخطئ. ليس هناك عار كبير في الاعتراف بأنك أخطأت وأن هذا هو السبب في الكارثة التي حلت عليك.”
٢. وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ: أدلى أليفاز بهذا التعليق المثير للاهتمام للإشارة إلى ضعف الإنسان الروحي والأخلاقي. وأشار إلى أنه حتى الملائكة قد وقعوا في الخطأ، لذلك لا ينبغي أن يفاجأ أحد أن الإنسان – بما في ذلك أيوب – قد وقع أيضًا في الخطأ.
• اقترب هذا البيان من الحقيقة أكثر مما يمكن أن يعرف أليفاز. كان أحد هؤلاء الملائكة المتهمين بالحماقة – الشيطان نفسه – وهو السبب الحقيقي لمصيبة أيوب. كما قاد الشيطان عددًا كبيرًا من الكائنات الملائكية إلى التمرد على الله (رؤيا ١٢: ٤، ١٢: ٩). ويقول الكتاب المقدس أيضًا أن القديسين سيدينون الملائكة الساقطة في الدهر الآتي (كورنثوس الأولى ٦: ٣). كان أليفاز محقًا في هذه النقطة: وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً.
• “كل هذا جميل جدًا، لكنه قصير النظر جدًا. لم يكن لدى أليفاز أي معرفة بتلك المجامع السرية في السماء، وكان يرتكب خطأ في محاولة ضغط كل الأشياء في بوصلة فلسفته.” مورغان (Morgan)
• “يبدو المتحدث فاقدًا للوعي تمامًا لأنه كان يقول أي شيء يمكنه أن يحرك سكّينا في رجل معذب. إنه محمول جدًا على أمواج بلاغته الخاصة، ومستغرق جدًا في ربط كامل عناصر العمل الفني معًا، لدرجة أنه ينسى الأحزان التي جاء ليعزيها.” ماكلارين (Maclaren)