سفر التكوين – الإصحاح ١٤

يُنقِذ أبرام لوط ويلتقي بمَلكي صادَق

أولًا. يُنقِذ أبرام لوط من اتِّحاد الملوك

أ ) الآيات (١-١٠): ثورة الملوك الخمسة.

1. وَكَدَرْلَعَوْمَرَ والملوك الَّذين معه صَنَعُوا حَرْبًا: كان الناس الَّذين عاشوا في كنعان في أيَّام أبرام مثل كلِّ البشر بشكلٍ عام. كان هناك الكثير من بينهم مهتمُّون بالفتوحات والسيطرة. فاتِّحادُ الملوك الَّذين ثاروا على كَدَرْلَعَوْمَرَ أرادوا التَّحرُّر من هيمنته.
   • وثَّق عالِم الآثار نيلسون جلوك (Nelson Glueck) الخراب الَّذي خلَّفه هؤلاء الملوك: “وجدت أنَّ كلَّ قريةٍ في طريقهم تعرَّضت للنهب وتُركِت في حالة خراب، ودُمِّر الريف. تمَّ القضاء على السكَّان أو اقتيادهم إلى الأسر. وبعد مئات السِّنين، كانت المنطقة بأكملها أشبه بمقبرة مهجورة، بشعة وفوضويَّة، بكلِّ معالِمها مُحطَّمة ومنثورة على الأرض” مُقتبَس من موريس (Morris)
2. وَعُمْقُ ٱلسِّدِّيمِ كَانَ فِيهِ آبَارُ حُمَرٍ كَثِيرَةٌ: كان هناك آبَارُ حُمَرٍ مخيفة في المنطقة، والبعض سقط فيها. إنَّ اللُّغة العبريَّة هنا مثالٌ جيِّد عن كيف أنَّ اللُّغة تستخدم التكرار لإظهار التوكيد.
   • “الطريقة العبريَّة لقول آبَارُ حُمَرٍ كَثِيرَةٌ: آبَارٌ، آبَارٌ من الحُمَرِ. يؤكِّد التكرارُ الوفرةَ والكثرةَ، إلخ” ليوبولد (Leupold)

ب) الآيات (١١-١٢): يأخذ الملوك الأربعة لوطًا وكلَّ ممتلكاته.

1. وَأَخَذُوا لُوطًا: بما أنَّ لوط كان ٱبْنَ أَخِي أَبْرَامَ، ورَّط الملوك الأربعة أبرام. كان أبرام رجلًا شريفًا ووصيًّا على عائلته، لذلك سيُحارب من أجل حياة ابن أخيه وسلامته.
2. وَأَمْلَاكَهُ: بما أنَّ لوط كان يعيش بين أُناسٍ أشرار في سدوم، فلا عجَبَ أنُّه أُخِذ أيضًا في الأسْر.
   • “أُولئك المؤمنون الَّذين يُشبهون هذا العالَم يجب أن يتوقَّعوا أن يتألَّموا بسببه.” سبيرجن (Spurgeon)

ج) الآيات (١٣-١٤): يسمع أبرام عن أسر لوط ويُنظِّم جيشًا.

1. أَبْرَامَ ٱلْعِبْرَانِيَّ: هذا أوَّل استخدامٍ للكلمة عِبْرَانِيّ في الكتاب المقدَّس. قد تكون إشارة ربَّما إلى حقيقة أنَّ أبرام جاء من مكانٍ أبعد من نهر الفرات، وعبرهُ ليأتي إلى كنعان.
   • “تأتي كلمة عبرانيّ من الجذرُ الَّذي يعني عبر. تتُرجِم النسخة السبعينيَّة هذه الكلمة العابر.” بارنهاوس (Barnhouse)
2. جَرَّ غِلْمَانَهُ ٱلْمُتَمَرِّنِينَ، وِلْدَانَ بَيْتِهِ، ثَلَاثَ مِئَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ: يُشير هذا إلى الغنى الكبير لأبرام. أيُّ رجلٍ بإمكانه أن يجمع ٣١٨ غلامًا قادرين على المحاربة لا بدَّ إلَّا وأن يكون كثير الغنى.
3. غِلْمَانَهُ ٱلْمُتَمَرِّنِينَ: كان أبرام رجلًا يسلُكُ في الإيمان، لكنَّه أيضًا كان رجلاً حكيمًا. احتفظ أبرام بجيشهِ الخاص، ويبدو أنَّه أبقاهم مدرَّبين وجاهزين للدِّفاع عن مصالحه.
4. وَتَبِعَهُمْ إِلَى دَانَ: سعى أبرام وراء اتِّحاد الملوك الأربعة لمسافةٍ طويلة نحو الشمال. فمدينة دان ليست ببعيدة عن الحدود الشماليَّة لإسرائيل.
   • اكتُشِفت أبواب مدينة دان من أيَّام أبرام من قِبَل علماء الآثار ويُمكِن رؤيتها في الحديقة الوطنيَّة الإسرائيليَّة في دان.

د ) الآيات (١٥-١٧): جيش أبرام ينتصر على الملوك الأربعة

1. وَٱنْقَسَمَ عَلَيْهِمْ لَيْلًا هُوَ وَعَبِيدُهُ: كان لأبرام حكمةٌ عسكريَّة. فباستخدامهِ حنكة الهجوم تحت جناح الظلام بجيشه المقسوم إلى مجموعتَين، نجح في تخليص لوط واسترجاع كلِّ المنهوب (كُلَّ ٱلْأَمْلَاكِ) المأخوذ من قِبَل اتِّحاد الملوك الأربعة.
2. وَٱسْتَرْجَعَ لُوطًا أَخَاهُ أَيْضًا وَأَمْلَاكَهُ: للأسف، عاد لوط إلى سدوم إلى حيث كان من قبل. رفضَ هذا الإنذار من الله وفقَدَ في النهاية كلَّ شيء عندما أُدِينَت سدوم وعمورة (تكوين ٢٤:١٩-٢٥).
   • يُمكننا أن نرى قصَّةً في تدوين إنقاذ أبرام للوط. كنَّا أُولئك المغمورين بالخطيَّة والعار، أُنقِذنا بواسطة أحدٍ ما ترك جانبًا سلامته الشخصيَّة وفرحه. ذهب مُخلِّصنا الألزق من الأخ، قريبنا، بعيدًا مُتحمِّلًا الشقاء والعناء، وبشجاعته وجرأته تغلَّب على عدوٍّ جبَّار وضعنا في الأسر، واسترجع كلَّ ما نهبه العدو.

ثانيًا. أبرام وملكي صادِق

أ ) الآيات (١٨-٢٠): يلتقي أبرام بملكي صادِق.

1. وَمَلْكِي صَادِقُ: لا نمتلِكُ أيّ أدنى فكرة من أين أتى مَلْكِي صَادِق، كيف أصبح في كنعان، كيف أصبح عابدًا وكاهنًا لله العليّ وكيف تعرَّف عليه أبرام. نعرف فقط أنَّه كان هناك.
2. وَمَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ: يعني اسمُ مَلْكِي صَادِق ملك البرِّ. كان مَلِكُ شَالِيمَ، وشاليم كانت في الأصل أورشليم، وكان ملكي صادِق كَاهِنًا لِلهِ ٱلْعَلِيِّ. كان عابدًا وكاهنًا للإله الحقيقيّ وحاكِمًا على أورشليم حتَّى في تلك الأيَّام القديمة.
   • إحدى الأمور التي تجعل من ملكي صادِق شخصًا فريدًا هو أنَّه ملكٌ وكاهن في آنٍ معًا. يُشير التَّاريخ إلى خطورة المزج بين السلطتَين الدينيَّة والمدنيَّة. منع الله ملوك إسرائيل من أن يكونوا كهنةً أو الكهنة بأن يكونوا ملوكًا. في ٢ أخبار الأيَّام ١٦:٢٦-٢٣، حاول الملك عزِّيا أن يعمل عمل الكاهن، فضربه الله بالبرص. كان ملكي صادِق استثنائيًّا.
   • كان ملكي صادِق كَاهِنًا لِلهِ ٱلْعَلِيِّ. تعني كلمة ‘الـ أليون’ ‘الله الأسمى أو الأعلى،’  كأن نقول ‘كائنٌ سامي.’  كان ملكي صادِق مثالًا لعابد الله الحقيقيّ، حتَّى أنَّه كاهنٌ لله العليّ لكنَّه لا يمتُّ بصلةٍ إلى أبرام أو إلى أيِّ شخصٍ آخَر ينتمي إلى العهد الَّذي مع الله.
3. أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا: خدم ملكي صادِق أبرام بخبزٍ وخمر. ربَّما خدمه بصورةٍ شبيهة بذبيحة الفداء، إذ أنَّ الخبز والخمر اللَّذَيَن للفصح ولمائدة الرَّبِّ كلاهما يُشيران إلى هذه الذبيحة، ربَّنا يسوع المسيح.
4. وَكَانَ كَاهِنًا لِلهِ ٱلْعَلِيِّ: قام ملكي صادِق، بصفته كاهنًا، بأمرين اثنَين: لقد بارك أبرام وبارك الله أيضًا. أظهر ملكي صادِق بأنَّ الكاهن يجب أن يتواصل مع الله والإنسان وله خدمته الكهنوتيَّة تجاه الله والإنسان.
   • على الرغم من أنَّ ملكي صادِق يبدو وكأنَّه شخصيَّة غامضة، إنَّه في الحقيقة رجلٌ مُهمٌّ في العهد القديم. يقول مزمور ٤:١١٠ أنَّ كهنوت المسيَّا هو على رتبة ملكي صادِق، وليس على رتبة هارون التي تختلِف عنها. يُوضِّح سفر العبرانيِّين ٥-٧ بأنَّ هذه فكرةٌ مُهمَّة.
   • يصِف سفر العبرانيِّين ٣:٧ ملكي صادِق كـ بِلَا أَبٍ، بِلَا أُمٍّ، بِلَا نَسَبٍ. لَا بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ حَيَاةٍ، بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِٱبْنِ ٱللهِ. هَذَا يَبْقَى كَاهِنًا إِلَى ٱلْأَبَدِ. بسبب هذا المقطع، يعتقد البعض أنَّ ملكي صادِق كان فعلًا ظهورًا ليسوع المسيح قبل ولادته في بيت لحم.
   • اقترح آخرون أنَّه كان سام ابن نوح أو أيوب أو ملاكًا؛ أو حتَّى زائرًا غريبًا من الفضاء الخارجيّ، ‘آدم غير السَّاقط’ من كوكبٍ آخَر، أُرسِل لمعاينة تطوُّر عمل الله في فداء الجنس البشريِّ السَّاقط. هذه الاقتراحات غريبة وليس لها أيُّ أساسٍ كتابيّ.
   • “لا يمكن القول أنَّ السؤال قد تمَّت الإجابة عنه بالكامل … وإلَّا، فإنَّ هويَّة ملكي صادِق كانت محطَّ إجماعٍ من قِبَل باحثي الكتاب المقدَّس منذ زمنٍ طويل” موريس (Morris). يُمكننا القول بثقة أنَّه إذا لم يكُن ملكي صادِق ظهورًا ليسوع المسيح نفسه، على الأقلِّ هو نموذجٌ فريد عن صورة المسيح يسوع.
5. فَأَعْطَاهُ عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: قدَّم أبرام عُشورَه لله وفعل ذلك من خلال إعطائهِ لملكي صادِق عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. يُشير هذا إلى عُشرِ مقتنياته وليس مدخوله.
   • كان الأمر كما لو أنَّ أبرام وملكي صادِق كانا يعملان ليرَيا مَن يستطيع أن يُبارك الآخر أكثر. بارك ملكي صادِق أبرام من مصادره، وبارك أبرام ملكي صادِق من مصادره. هذا موقف عظيم لنا في مجتمع المؤمنين، موقف البركة أو العطاء المتبادل.

ب) الآيات (٢١-٢٤): يرفض أبرام المقتنيات المنهوبة من الحرب.

1. وَأَمَّا ٱلْأَمْلَاكَ فَخُذْهَا لِنَفْسِكَ: كما بدا مُناسِبًا، أراد ملك سدوم أن يُكافئ أبرام لأجل كلِّ ما فعله لاسترجاع ما أخذه اتِّحادُ الملوك الأربعة، وقدَّم لأبرام قدرًا هائلًا من المقتنيات المنهوبة.
2. لَا آخُذَنَّ شيئًا: مع ذلك، لم يأخذ أبرام أيًّا من المنهوب أو الغنيمة المأخوذة من استرداد سدوم وعمورة. كان ذلك بسبب تعهُّدٍ قدَّمه إلى ٱلْإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ – عبارة استخدمها بعد استماعهِ إلى ملكي صادِق يستخدم هذا التَّوصيف لله (تكوين ١٩:١٤). فالعبارة رَفَعْتُ يَدِي إِلَى ٱلرَّبِّ تدلُّ على تعهُّد أبرام.
3. فَلَا تَقُولُ: أَنَا أَغْنَيْتُ أَبْرَامَ: رفض أبرام أن يأخذ أيَّ قسمٍ من الغنيمة لأنَّه لن يسمح لنفسه أن يقول أيُّ إنسانٍ أنَّه أغنى أبرام. كان أبرام مُصمِّمًا على اعتبار أنَّ الفضل في نجاحه وغناه إنَّما يعود إلى الله وإلى الله وحدَهُ.
   • إذا تحقَّق النجاح عندما نتَّبِع مقاييس النجاح البشريَّة، باستخدام الحكمة والأساليب البشريَّة، كيف يمكننا أن نقول حقًّا أنَّ الله أعطى النجاح؟ من الأفضل بكثير أن نتَّبِع حكمة الله، لذلك عندما يأتي النجاح يتمجَّد الله، وهكذا يكون ظاهرًا للجميع أنَّ هذا هو عمله.
4. فَهُمْ يَأْخُذُونَ نَصِيبَهُمْ: مع ذلك، وفي نفس الوقت، لم يفرض أبرام مبادئه على حلفائه الأموريِّين (تكوين ١٣:١٤). كان يحقُّ لهم الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من الغنائم وفقًا لعادات تلك الأيَّام.