سفر التكوين – الإصحاح ٨
يترك نوح وعائلته الفُلك
أولًا. الله يذكر نوح
أ ) الآية (١): يُركِّز الله انتباهه على نوح.
١ ثُمَّ ذَكَرَ ٱللهُ نُوحًا وَكُلَّ ٱلْوُحُوشِ وَكُلَّ ٱلْبَهَائِمِ ٱلَّتِي مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ. وَأَجَازَ ٱللهُ رِيحًا عَلَى ٱلْأَرْضِ فَهَدَأَتِ ٱلْمِيَاهُ.
- ثُمَّ ذَكَرَ ٱللهُ نُوحًا: نُسمِّي هذا تسجيمًا (صورةٌ عير حرفيَّة عن الله بكلماتٍ بشريَّة نفهمها). طبعًا، لم ينسَ الله نوحًا أبدًا، وهو الَّذي أمَّن استمراريَّته في كلِّ يومٍ في الفُلك. لكن في هذه اللَّحظة، يُدير الله انتباهه العمليّ مرَّةً أخرى نحو نوح. كان هذا حقًّا كما ولو أنَّ الله تذكَّر نوح مرَّةً أخرى.
- “أُغلِق على نوح في الفُلك لأيَّامٍ كثيرة، وفي الوقت المناسب ذكره الله، أي أنَّه عمليًّا فكَّر به وأتى لزيارته. عزيزي، لقد تمَّ استبعادك من العالم الآن لأيَّامٍ كثيرة، لكنَّ الله لم ينساك. ذكر الله نوحًا، وهو سيذكرك أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَأَجَازَ ٱللهُ رِيحًا عَلَى ٱلْأَرْضِ: عرف الله كيف تهدأ المياه. حتَّى مشكلة كبيرة مثل هذه لم تكن مشكلة كبيرة بالنسبة إلى الله. الله الذي خلق السماوات والأرض (تكوين ١:١) يمكنه أن يفعل كلَّ ذلك.
ب) الآيات (٢-٥): رجعت مياه الطوفان، واستقرَّ الفُلك على جبل أراراط.
٢ وَٱنْسَدَّتْ يَنَابِيعُ ٱلْغَمْرِ وَطَاقَاتُ ٱلسَّمَاءِ، فَٱمْتَنَعَ ٱلْمَطَرُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. ٣وَرَجَعَتِ ٱلْمِيَاهُ عَنِ ٱلْأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوَالِيًا. وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ ٱلْمِيَاهُ، ٤ وَٱسْتَقَرَّ ٱلْفُلْكُ فِي ٱلشَّهْرِ ٱلسَّابِعِ، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعَ عَشَرَ مِنَ ٱلشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ. ٥ وَكَانَتِ ٱلْمِيَاهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوَالِيًا إِلَى ٱلشَّهْرِ ٱلْعَاشِرِ. وَفِي ٱلْعَاشِرِ فِي أَوَّلِ ٱلشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ ٱلْجِبَالِ.
- وَٱنْسَدَّتْ يَنَابِيعُ ٱلْغَمْرِ وَطَاقَاتُ ٱلسَّمَاءِ، فَٱمْتَنَعَ ٱلْمَطَرُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: إنَّ المطر الَّذي بدأ في تكوين ١١:٧-١٢ توقَّف الآن. كان الله مُتحكِّمًا متى تبدأ الأمطار والمياه الأخرى، ومتى تتوقَّف.
- عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ: بطريقة تفكيرٍ مُعيَّنة، لم يكن جبل أراراط مكانًا جيِّدًا لِمغادرة الفُلك. أن يتركوا الفُلك على هذا الارتفاع الشَّاهق والتضاريس الجبليَّة كان يعني خروجًا صعبًا لكلِّ واحدٍ ولكلِّ شيءٍ في الفُلك. مع هذا، إذا كان قصد الله أن يضع الفُلك في مكان حيث يمكن حفظه لآلاف السنين، فهو اختار مكانًا ممتازًا له.
- ظَهَرَتْ رُؤُوسُ ٱلْجِبَالِ: هذه إشارة أخرى في السجلِّ الكتابيّ إلى أنَّ الطوفان كان عالميًّا. كان من المهمِّ جدًّا أن تتغطَّى رُؤُوسُ ٱلْجِبَالِ إلى حين، أمَّا الآن فقد ظَهَرَتْ مرَّةً أخرى كلَّما رَجَعَتِ ٱلْمِيَاهُ رُجُوعًا مُتَوَالِيًا.
ج) الآيات (٦-١٢): استُخدِمت الطيور لفحص حالة الأرض.
٦ وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طَاقَةَ ٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي كَانَ قَدْ عَمِلَهَا ٧ وَأَرْسَلَ ٱلْغُرَابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ ٱلْمِيَاهُ عَنِ ٱلْأَرْضِ. ٨ ثُمَّ أَرْسَلَ ٱلْحَمَامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ ٱلْمِيَاهُ عَنْ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ، ٩ فَلَمْ تَجِدِ ٱلْحَمَامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِهَا، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى ٱلْفُلْكِ لِأَنَّ مِيَاهًا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلْأَرْضِ. فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهَا وَأَدْخَلَهَا عِنْدَهُ إِلَى ٱلْفُلْكِ. ١٠ فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَادَ فَأَرْسَلَ ٱلْحَمَامَةَ مِنَ ٱلْفُلْكِ، ١١ فَأَتَتْ إِلَيْهِ ٱلْحَمَامَةُ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ، وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِي فَمِهَا. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ ٱلْمِيَاهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ ٱلْأَرْضِ. ١٢ فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَرْسَلَ ٱلْحَمَامَةَ فَلَمْ تَعُدْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا.
- مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا: حُسِب هذا من وقت ابتداء الأمطار وتدفُّق مصادر المياه الأخرى (تكوين ١١:٧-١٢).
- “قال الله لنوح متى يدخل الفلك، لكنَّه لم يخبره متى يخرج مرَّةً أخرى. قال الرَّبُّ لنوح متى يدخل، لأنَّه كان من الضروريّ أن يعرف ذلك؛ ولكنَّه لم يخبره متى يخرج، لأنَّه لم يكن ضروريًّا أن يعرف ذلك. يسمح الله لشعبه دائمًا بمعرفة ما هو عمليًّا لخيرهم.” سبيرجن (Spurgeon)
- أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طَاقَةَ ٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي كَانَ قَدْ عَمِلَهَا: يصِف تكوين ١٦:٦ الطاقة التي كانت يجب أن تُبنَى في القسم العلويّ للفُلك. صُنِعت الطاقة مع نوعٍ من الغطاء يسمح بفتحها وغلقها.
- “لأنَّه آمن بالله، لذلك أزال غطاء الفُلك وتطلَّع خارجًا، متوقِّعًا أن يرى ليس فقط رؤوس الجبال، ولكن أيضًا أرضًا ناشفة وخضراء مرَّةً أخرى. غالبًا ما يتَّجه الإيمان الحقيقيّ إلى النافذة. فإذا كان إيمانك يقودك مباشرة باتِّجاه الحائط، مُتوقِّعًا لا شيء، لا أعتقد أنَّه إيمانٌ أصليّ.” سبيرجن (Spurgeon)
- وَأَرْسَلَ ٱلْغُرَابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا: يبدو أنَّ الغراب لم يعُد إلى الفُلك. ربَّما كان هذا لأنَّ الغراب هو من فصيلة الطيور الجارحة، فيحُطَّ ويفترس الجثث الميِّتة الطَّافية على وجه المياه.
- فَلَمْ تَجِدِ ٱلْحَمَامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِهَا، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى ٱلْفُلْكِ: كونها طائرًا طاهرًا غير جارح، فلَن تحُطَّ الحمامة على الأرض حتَّى وجودِ أرضٍ صالحة لها. عندما رَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى ٱلْفُلْكِ، علِم نوح أنَّ المياه لم تتراجع كفايةً بعد كي تسمح له بمغادرة الفُلك.
- استنبط شارلز سبيرجن (Charles Spurgeon) نقطةً روحيَّة من فكرة فَلَمْ تَجِدِ ٱلْحَمَامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِهَا. شرحها بالقول أنَّه كالحمامة، لا يجد المؤمن مكان راحةٍ حقيقيّ في هذا العالَم. “يُقال إنَّ العالم يتقدَّم ويتطوَّر ويتحسَّن؛ لكن لا يمكننا اكتشاف هذا. فهناك الخطيَّة ذاتها والقذارة ذاتها وعدم الإيمان ذاته السَّائدة عالميًا، تلك الأمور عينها التي تذمَّر آباؤنا بسببها، ونحن مُجبرون أن نتذمَّر بسببها أيضًا؛ ونحن تعبون من هذا العالَم وتعبون من قرونٍ تفتخر بالتَّحضُّر. لا يوجد أيُّ شيء يمكن أن تستريح عليه بواطن أقدامنا.”
- فَأَتَتْ إِلَيْهِ ٱلْحَمَامَةُ … وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِي فَمِهَا: لم يعُد الغراب أبدًا، لكنَّ الحمامة رجعت ومعها دليلٌ أنَّ العصر الرهيب من الدينونة بواسطة الطوفان قد انتهى وبدأ الله بإحياء الحياة النباتيَّة على الأرض. منذ ذلك الحين، وٱلْحَمَامَة التي في فمها وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ هي علامةٌ للسلام والصلاح.
- “ربَّما رأيت صورة حمامة تحمل غصن زيتون في فمها، والتي، في المقام الأوَّل، لا يمكنها أن تقتلعه من الشجرة، وفي المقام الثَّاني، لا يمكنها حمله حتَّى ولو اقتلعته من الشجرة. كانت ورقة زيتونٍ، وهذا كلُّ شيء. لماذا لا يستطيع الناس الالتزام بكلمات الكتاب المقدَّس؟ إذا كان الكتاب المقدَّس يذكر ورقة، فإنَّهم يصنعونها غصنًا؛ وإذا كان الكتاب المقدَّس يقول إنَّه غصن، فإنَّهم يجعلونه ورقة.” سبيرجن (Spurgeon)
- ٱلْحَمَامَةَ، فَلَمْ تَعُدْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا: أثبت رحيل الحمامة أنَّ الأرض كانت صالحة للسكن مرَّةً أخرى.
د ) الآيات (١٣-١٩): نوح، عائلته، وكلّ الحيوانات يخرجون من الفُلك.
١٣ وَكَانَ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلْوَاحِدَةِ وَٱلسِّتِّ مِئَةٍ، فِي ٱلشَّهْرِ ٱلْأَوَّلِ فِي أَوَّلِ ٱلشَّهْرِ، أَنَّ ٱلْمِيَاهَ نَشِفَتْ عَنِ ٱلْأَرْضِ. فَكَشَفَ نُوحٌ ٱلْغِطَاءَ عَنِ ٱلْفُلْكِ وَنَظَرَ، فَإِذَا وَجْهُ ٱلْأَرْضِ قَدْ نَشِفَ. ١٤ وَفِي ٱلشَّهْرِ ٱلثَّانِي، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ وَٱلْعِشْرِينَ مِنَ ٱلشَّهْرِ، جَفَّتِ ٱلْأَرْضُ. ١٥ وَكَلَّمَ ٱللهُ نُوحًا قَائِلًا: ١٦ «ٱخْرُجْ مِنَ ٱلْفُلْكِ أَنْتَ وَٱمْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. ١٧ وَكُلَّ ٱلْحَيَوَانَاتِ ٱلَّتِي مَعَكَ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ: ٱلطُّيُورِ، وَٱلْبَهَائِمِ، وَكُلَّ ٱلدَّبَّابَاتِ ٱلَّتِي تَدِبُّ عَلَى ٱلْأَرْضِ، أَخْرِجْهَا مَعَكَ. وَلْتَتَوَالَدْ فِي ٱلْأَرْضِ وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ». ١٨ فَخَرَجَ نُوحٌ وَبَنُوهُ وَٱمْرَأَتُهُ وَنِسَاءُ بَنِيهِ مَعَهُ. ١٩ وَكُلُّ ٱلْحَيَوَانَاتِ، كُلُّ ٱلدَّبَّابَاتِ، وَكُلُّ ٱلطُّيُورِ، كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى ٱلْأَرْضِ، كَأَنْوَاعِهَا خَرَجَتْ مِنَ ٱلْفُلْكِ.
- وَكَانَ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلْوَاحِدَةِ وَٱلسِّتِّ مِئَةٍ: يقول تكوين ١١:٧-١٣ أنَّ نوح دخل إلى الفُلك في اليوم السَّابع عشر من الشهر الثاني في السنة الستِّمائة من عمره. كان هذا تقريبًا سنةً كاملة بعد هذا، وفي الشهر الثاني من عمر حياته الستِّمائة خرج نوح من الفُلك. يبدو أنَّه بَقِيَ في الفُلك سنةً تقويميَّة كاملة.
- أَخْرِجْهَا مَعَكَ: كما كان الفلك مُحمَّلًا بالحيوانات قبل الطوفان، فقد تمَّ تفريغه. لا نقرأ عن أيِةّ حيوانات ماتت في ذلك العام وهي في الفُلك.
- وَلْتَتَوَالَدْ فِي ٱلْأَرْضِ وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ: سوف تُعيد الكائنات الحيَّة من الفُلك ملءَ الأرض مرَّةً أخرى.
- “خرج نوح من الفلك – لم يعُد محصورًا ومُحدَّدًا بحدوده الضيِّقة، خرج إلى خارج، والعالَم كلّه أمامه ليختار طريق الذهاب. أليست هذه صورة الحريَّة التي للمؤمن الَّذي ’دُفِن مع المسيح‘، ويتمتَّع بامتلاك روح الله – روح الحريَّة؟” سبيرجن (Spurgeon)
ثانيًا. عهد الله مع نوح
أ ) الآية (٢٠): نوح يبني مذبحًا ويُقدِّم تقدمةً.
٢٠ وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ ٱلْبَهَائِمِ ٱلطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ ٱلطُّيُورِ ٱلطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ.
- وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ: كان أوَّل عمل قام به نوح بعد خروجه من الفُلك هو عبادة الله من خلال الذبيحة. دفعه امتنانه وإعجابه بعظمة الله إلى عبادة الله.
- وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ ٱلْبَهَائِمِ ٱلطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ ٱلطُّيُورِ ٱلطَّاهِرَةِ: كما هي طبيعة الذبيحة الحقيقيَّة، كان هذا قربانًا باهظ الثمن لله. مع سبعة فقط من كلِّ حيوان على الفلك، خاطر نوح، إلى حدِّ الانقراض، بتضحيته ببعض هذه الحيوانات. لكنَّ الذبيحة المكلِفة ترضي الله.
- “تقول الفطرة السَّليمة، ‘احتفظ بهم، لأنَّك ستحتاج إلى كلِّ واحدٍ منها.’ أمَّا النعمة فتقول، ‘اذبحهم وضحِّ بهم، لأنَّهم ينتمون إلى الله. أوفِ يهوه حقَّهُ.’” سبيرجن (Spurgeon)
- إنَّ الذبائح التي نحن مدعوُّون لتقديمها لله يجب أن تكلِّفنا شيئًا أيضًا. يجب أن نقدَّم أجسادنا ذبيحة حيَّة لله (رومية ١:١٢)، كما أنَّ إعطاء مواردنا هو ذبيحة (فيلبِّي١٨:٤)؛ ونعطي ذبيحة الحمد لله (عبرانيِّين١٥:١٣).
- إنَّ الذبائح المكلِفة تُرضي الله، ليس لأنَّ الله بطمَّاع ويريد أن يأخذ منَّا بقدر ما يشاء، لكن لأنَّ الله نفسه قدَّم الذبيحة التي كلَّفت ثمنًا غاليًا (فيلبِّي ٢:٥ وعبرانيِّين ٢٦:٩، ١٢:١٠). يريد الله منَّا ذبائح مُكلِفة لأنَّها تُظهِر أنَّنا نُشبه صورة يسوع، الَّذي كان مثالًا سامٍ في العطاء الغالي الثمن. كما كتب بولس في أفسس ٢:٥، يجب أن نكون مثل يسوع في هذا المجال: وَٱسْلُكُوا فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً لِلهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
- يا ليتنا نفتكر كداود، الَّذي قال أنَّه لن يُقدِّم قربانًا لله لا يُكلِّف شيئًا، وَلَا أُصْعِدُ لِلرَّبِّ إِلَهِي مُحْرَقَاتٍ مَجَّانِيَّةً (٢ صموئيل ٢٤:٢٤).
ب) الآيات (٢١-٢٢): وعد الله لنوح ولكلِّ البشريَّة.
٢١فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا. وَقَالَ ٱلرَّبُّ فِي قَلْبِهِ: «لَا أَعُودُ أَلْعَنُ ٱلْأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ ٱلْإِنْسَانِ، لِأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ ٱلْإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ. وَلَا أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ. ٢٢ مُدَّةَ كُلِّ أَيَّامِ ٱلْأَرْضِ: زَرْعٌ وَحَصَادٌ، وَبَرْدٌ وَحَرٌّ، وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ، وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ، لَا تَزَالُ».
- فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا: أرضت الرَّبَّ تقدمةُ نوح المكلِفة. كما ولو أنَّ الله اشتمَّ رائحة اللَّحم المشويّ الرَّائعة (في إشارة إلى أنَّ الله يحبُّ رائحة اللَّحم الَّذي يُشوى أو يُحرَق)، ومن ثمَّ قدَّم هذا الوعد الرائع لنوح والإنسان.
- بالطبع، إنَّ الكتاب المقدَّس هنا يتكلَّم مجازيًّا – مُستخدِمًا تعبيرًا بشريًّا لعملٍ أو موقفٍ إلهيّ. ما كان أكثر رضًا من رائحة الذبائح هو قلب نوح فيما كان يُقدِّم ذبيحته.
- لَا أَعُودُ أَلْعَنُ ٱلْأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ ٱلْإِنْسَانِ: وعد الله ألَّا يضرب الأرض مرَّةً أخرى بالدينونة بفيضانٍ بهذا الحجم، لتدمير كلَّ حيٍّ. عَمِل الله هذا التفاهم لِأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ ٱلْإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ. كان هذا وعدًا مليئًا بالرحمة.
- نرى مزيجًا غريبًا من الحقائق؛ أوَّلًا، لِأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ ٱلْإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ، والثَّاني، وعد الله أن لَا يعُودُ يلْعَنُ ٱلْأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ ٱلْإِنْسَانِ. يبدو أنَّ شرَّ الإنسان يجلب لعنة الله، ولا يُبعِدها. هذا الخليط الغريب مُعبَّرٌ عنه في مذبح نوح وتقدمته وفي رضا الله على الذبيحة (فَتَنَسَّمَ ٱلرَّبُّ رَائِحَةَ ٱلرِّضَا).
- “كانت الذبيحة نقطة تحوُّل. بدون ذبيحة تسعى الخطيَّة للانتقام، ويُرسِل الله طوفانًا مُدمِّرًا؛ لكنَّ الذبيحة المقدَّمة من قِبَل نوح كانت أُنموذجًا للذبيحة الآتية من الله في شخص ابنه الوحيد وفي التكفير الفعَّال المقدَّم فيها لخطيَّة الإنسان.” سبيرجن (Spurgeon)
- يمكننا القول أنَّه بعد الطوفان، تُمثِّل قصَّة نوح عدَّة أشياءٍ تتعلَّق بحياة المؤمن.
- أظهر نوح حريَّة المؤمن.
- أظهر نوح إيمان المؤمن (في الذبيحة).
- أظهر نوح قلب المؤمن (بالذبيحة).
- أظهر نوح عهد الرحمة للمؤمن (في ضوء الذبيحة).
- وَبَرْدٌ وَحَرٌّ، وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ: وعد الله بذلك بعد الطوفان، وكانت الأرض قد ثبَّتت الفصول. هذا يتحدَّث عن التغيُّرات المناخيَّة والبيئيَّة العميقة في الأرض منذ أن أُفرِغ غطاء أبخرة الماء التي كانت تغطي الأرض. أمَّا الآن، فسيكون هناك اختلافات موسميَّة وحراريَّة.
- “لأنَّه لا ينبغي أن يكون هناك المزيد من الطوفان العام، لذلك وجب ألَّا يكون هناك مزيد من الاضطراب الخطير في مسار الفصول ودرجة الحرارة المناسبة لها. وقت البذار والحصاد والبرد والحرارة والصيف والشتاء والنهار واللَّيل، جميعها يتبع بعضهم الآخَر في مسار تغييرهم غير المتقلِّب، طالما أنَّ حكم الثبات الحاليّ سيدوم.” سبيرجن (Spurgeon)
- كانت نتيجة هذا التَّغيير تسارُع قُصور أعمار البشر. لن يكون هناك رجلٌ عمره ٩٠٠ سنة بعد الطوفان. فالانقراض الجماعيّ للحيوانات المكتشَفة في السجلِّ الأحفوريّ (مثل الدينوصورات ومخلوقاتٍ شبيهة) ربَّما حصل مباشرة بعد الطوفان، عندما تغيَّرت الأرض بشكلٍ دراماتيكيّ وغرِقت في العصر الجليديّ.
- “لأمرٌ عجيبٌ كيف يُتمِّم الله بأمانة عهده مع الأرض! كم هو صادقٌ حِفظَهُ لذلك العهد مع كلِّ خاطئٍ مؤمن! نعم، ثق به، لأنَّ وعده سيبقى راسخًا إلى الأبد.” سبيرجن (Spurgeon)