سفر التكوين – الإصحاح ١٨
تأكيد وعد إسحاق
أولًا. يُرحِّب إبراهيم بزائرين مُهمِّين
أ ) الآيات (١-٥): يُقدِّم إبراهيم العزيمة للرَّبِّ واثنَين معه.
١وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ، ٢فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لِٱسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ، ٣وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلَا تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. ٤لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَٱغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَٱتَّكِئُوا تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ، ٥فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لِأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ». فَقَالُوا: «هَكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ».
- وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ: على ما يبدو، حدث هذا بعد وقت قصير من الأحداث المذكورة في تكوين ١٧. في تكوين ٢١:١٧، قال الله بأنَّ سارة ستُنجِب بعد سنة، وفي ذلك الوقت لم تكن حُبلى بعد؛ لذا هذا لا يمكن أن يكون قد استغرق أكثر من ثلاثة أشهر بعد الأحداث في تكوين ١٧.
- وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا: هنا أيضًا، جاء الرَّبُّ إلى إبراهيم بهيئةٍ إنسانيَّة. هذا تعبيرٌ آخَر عن يسوع في شكلٍ بشريّ قبل التَّجسُّد، هُنا بين ثلاثة رجال يزورون إبراهيم.
- يمكننا الافتراض أنَّ هذا كان الله، في شخص يسوع المسيح، الَّذي يظهر لإبراهيم قبل تجسُّده وولادته في بيتَ لحم. نفترض هذا لأنَّه يقول عن الله الآب: ٱللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلْآبِ هُوَ خَبَّرَ (يوحنَّا ١٨:١)، ولا أحد من الناس أبدًا رأى الله في شخص الآب (١ تيموثاوس ١٦:٦). لذلك، إذا ظهر الله لأحدٍ ما بهيئةٍ بشريَّة في العهد القديم (وأن لا أحد رأى الله الآب)، من المنطقيّ الإعتقاد أنَّ هذا الظهور هو للابن الأزليّ، الأقنوم الثاني من الثالوث، قبل تجسُّده في بيتَ لحم.
- بَلُّوطَاتِ مَمْرَا: كان هذا مكانًا مُهمًّا في حياة إبراهيم. انتقل إبراهيم إلى مَمْرَا عندما رجع إلى أرض الموعد من مصرَ وبنى مذبحًا هناك (تكوين ١٨:١٣)، وعلى ما يبدو استقرَّ هناك لبعض الوقت (تكوين ١٣:١٤). اشترى إبراهيم حقلًا ومغارةً في مَمْرَا، مُستخدِمًا إيَّاها لدفن سارة (تكوين١٧:٢٣-١٩). دُفِن إبراهيم نفسه هناك (تكوين ٩:٢٥)، وابنه إسحاق دُفِن هناك أيضًا (تكوين ٣٠:٤٩، ١٣:٥٠).
- فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَاقِفُونَ لَدَيْهِ: بالرغم من أنَّنا لا نعلَم ما إذا فهم إبراهيم على الفور طبيعة هؤلاء الزَّائرين، فقد كرَّم بالفعل قائد هؤلاء الثلاثة كرئيسٍ له (سَجَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ).
- بالرغم من أنَّ الرَّبَّ (في شخص يسوع المسيح) ظهر لإبراهيم مرَّتَين قبلًا (تكوين ٧:١٢، ١:١٧)، لا نعلَم ما إذا بدا يسوع كما هو في كلِّ مرَّة، أو إذا كان إبراهيم يعرف ببساطة مَن كانت هذه الشخصيَّة بواسطة حدَسٍ ما أو معرفةٍ روحيَّة.
- رَكَضَ لِٱسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ ٱلْخَيْمَةِ: بحسب تقواه وعادات تلك البيئة، قدَّم إبراهيم بحماسةٍ ضيافة في بيته لهؤلاء المسافرين.
ب) الآيات (٦-٨): يُحضِّر إبراهيم وسارة وليمةً للزَّائرين.
٦فَأَسْرَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى ٱلْخَيْمَةِ إِلَى سَارَةَ، وَقَالَ: «أَسْرِعِي بِثَلَاثِ كَيْلَاتٍ دَقِيقًا سَمِيذًا. ٱعْجِنِي وَٱصْنَعِي خُبْزَ مَلَّةٍ». ٧ثُمَّ رَكَضَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى ٱلْبَقَرِ وَأَخَذَ عِجْلًا رَخْصًا وَجَيِّدًا وَأَعْطَاهُ لِلْغُلَامِ فَأَسْرَعَ لِيَعْمَلَهُ. ٨ثُمَّ أَخَذَ زُبْدًا وَلَبَنًا، وَٱلْعِجْلَ ٱلَّذِي عَمِلَهُ، وَوَضَعَهَا قُدَّامَهُمْ. وَإِذْ كَانَ هُوَ وَاقِفًا لَدَيْهِمْ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ أَكَلُوا.
- ثُمَّ رَكَضَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى ٱلْبَقَرِ: يبدو أنَّ حفاوة إبراهيم تخطَّت آداب الضيافة التي كانت شائعة في أيَّامه. فهِم إبراهيم أنَّه يوجد شيءٌ ما مُميَّز حول الزوَّار الثلاثة.
- ثُمَّ رَكَضَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى ٱلْبَقَرِ: بالرغم من أنَّ إبراهيم وسارة سارعا إلى تحضير الطعام لزوَّارهما، استغرق إعداد وتقديم الأكل وقتًا لا بأس به. ممَّا يعني أنَّ إبراهيم وسارة هُما مَن قاما بهذا العمل، بدلًا من أن يأمرا العبيد بالقيام به نيابة عنهما.
ج) الآيات (٩-١٠): يُعيد الله تأكيد الوعد لإبراهيم.
٩وَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ سَارَةُ ٱمْرَأَتُكَ؟» فَقَالَ: «هَا هِيَ فِي ٱلْخَيْمَةِ». ١٠فَقَالَ: «إِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ ٱلْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱمْرَأَتِكَ ٱبْنٌ». وَكَانَتْ سَارَةُ سَامِعَةً فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَهُوَ وَرَاءَهُ.
- أَيْنَ سَارَةُ ٱمْرَأَتُكَ؟: دعوها باسمها الجديد، المعطَى لها قبل بضعة أسابيع فقط (تكوين ١٥:١٧-١٦).
- إِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ ٱلْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱمْرَأَتِكَ ٱبْنٌ: هذا الوعد بإعادة الإحياء (أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ ٱلْحَيَاةِ) أُعطيَ خصِّيصًا لإبراهيم. وسارة أيضًا أُحيِيَت بشكلٍ عجائبيّ، لكن هذا الوعد كان لإبراهيم.
- وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱمْرَأَتِكَ ٱبْنٌ: يبدو أن ألله كرَّر هذا الوعد بشكلٍ دراميّ في وقتٍ قصيرٍ نسبيًّا (سابقًا في تكوين ١٧:١٧-٢٢). كإبراهيم، نحن نحتاج لأن نسمع وعد الله مرارًا وتكرارًا. إنَّها طريقة يستخدمها الله لتشجيع وتطوير إيماننا: إِذًا ٱلْإِيمَانُ بِٱلْخَبَرِ، وَٱلْخَبَرُ بِكَلِمَةِ ٱللهِ (رومية ١٧:١٠).
د ) الآيات (١١-١٢): ردَّةُ فعل سارة تجاه وعد الله.
١١وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ شَيْخَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي ٱلْأَيَّامِ، وَقَدِ ٱنْقَطَعَ أَنْ يَكُونَ لِسَارَةَ عَادَةٌ كَٱلنِّسَاءِ. ١٢فَضَحِكَتْ سَارَةُ فِي بَاطِنِهَا قَائِلَةً: «أَبَعْدَ فَنَائِي يَكُونُ لِي تَنَعُّمٌ، وَسَيِّدِي قَدْ شَاخَ؟».
- وَقَدِ ٱنْقَطَعَ أَنْ يَكُونَ لِسَارَةَ عَادَةٌ كَٱلنِّسَاءِ: بكلِّ المعايير الظَّاهرة، كان هناك سببٌ وجيه لأن تضحك سارة على تحقيق الوعد الحرفيّ. فقد ٱنْقَطَعَ أَنْ يَكُونَ لهاَ عَادَةٌ كَٱلنِّسَاءِ، الأمر الذي يبدو أنَّه يعني حرفيًّا، ‘توقَّفت عادة النساء عند سارة.’ لقد توقَّفت عن الحيض ودخلت في سنِّ اليأس.
- حتَّى ولو أخذنا بعَين الاعتبار الأعمار الطويلة (عاش إبراهيم ليكون ١٧٥ وسارة ١٢٧)، فقد تجاوز كلاهما منتصف العمر بكثير. فالأمر يتطلَّب عجيبة إلهيَّة كي يتمكَّنا من إنجاب الأولاد حرفيَّا بوسائل طبيعيَّة.
- فَضَحِكَتْ سَارَةُ فِي بَاطِنِهَا: بشكلٍ هامٍّ، هذا ما أرادته سارة (وإبراهيم) في كلِّ حياتها – أن تُنجب طفلاً منهما. مع ذلك كان من الصعب بأن يُصدِّقا وعد الله عندما قال أنَّه سيُعطيهما إيَّاه.
- من الغريب أن نؤمن بوعد الله لوقتٍ طويلٍ جدًّا، جدًّا، ونتحمَّل الكثير من الإحباط على طول الطريق، حتَّى يوشك الوعد على الوصول، ومن ثمَّ نتعثَّر بالشكِّ. إنَّنا لَمُمتنِّين أنَّه أعظم من شكوكنا.
- أَبَعْدَ فَنَائِي يَكُونُ لِي تَنَعُّمٌ: ضحكت سارة في قلبها عند سماعها للوعد. لم تستطِع أن تؤمن أنَّ الله يُمكن أن يُعطيها حرفيًّا هذا الابن كنتيجةٍ لعلاقةٍ جنسيَّة طبيعيَّة.
- يُترجِم ليوبولد (Leupold) تكوين ١٢:١٨، ‘بعد فنائي، أيكون لي تنعُّمٌ جنسيٌّ وسيِّدي أيضًا قد شاخ؟’ يُلاحظ ليوبولد، ‘لم يرُق هذا الأمر لسارة كثيرًا.’
- من الممكن أن يكون إبراهيم وسارة، حتَّى بعد الوعود في تكوين ١٧، قد وجدا طريقةً ما لإفضاء صبغةٍ روحيَّة على وعد الله، ممَّا يجعله يبدو بشكلٍ مُغايرٍ لما قصده الله. هنا، وضَّح الله الأمر: سيكون لإبراهيم وسارة علاقاتٌ جنسيَّة طبيعيَّة وينجبان طفلًا.
هـ) الآيات (١٣-١٥): يردُّ الرَّبُّ على ضحِك سارة.
١٣فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ: «لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ قَائِلَةً: أَفَبِٱلْحَقِيقَةِ أَلِدُ وَأَنَا قَدْ شِخْتُ؟ ١٤هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى ٱلرَّبِّ شَيْءٌ؟ فِي ٱلْمِيعَادِ أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ ٱلْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ٱبْنٌ». ١٥فَأَنْكَرَتْ سَارَةُ قَائِلَةً: «لَمْ أَضْحَكْ». لِأَنَّهَا خَافَتْ. فَقَالَ: «لَا! بَلْ ضَحِكْتِ».
- لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ: سمع الله ضحِك سارة بالرغم من أنَّا ضحكت في باطنها. كان هناك شعورٌ بأنَّ ضَحِكَها لا يُمكن أن يُسمَع طبيعيًّا، لكنَّ الله سمعهُ رغمًا عن ذلك. لم يكن هناك من أيِّ شيءٍ خفيٍّ عن الرَّبِّ.
- يمكننا أن نعيش بشكلٍ مختلِف إذا تذكَّرنا أنَّ الله يسمع ويعرف كلَّ ما نُفكِّر فيه ونقوله.
- فِي ٱلْمِيعَادِ أَرْجِعُ إِلَيْكَ: عندما ضحكت سارة على وعد الله المعطى مرَّتَين، قد نفكِّر بأنَّ الله سيسحب الوعد بعيدًا. على العكس، تفاعل الله بتعامله مع خطيَّة عدم الإيمان، وليس بأخذه للوعد.
- إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ (٢ تيموثاوس ١٣:٢).
- هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى ٱلرَّبِّ شَيْءٌ؟: يُظهِر الله من خلال إبراهيم وسارة أن لا وجود لأيِّ أمرٍ مُستحيل بالنسبة إلى الرَّبِّ. حتَّى أنَّ الله يمكنه أن يتغلَّب على إيمان شعبه الضعيف.
- يَسْتَحِيلُ هي نفس الكلمة العبريَّة لـ عجيب في إشعياء ٦:٩: لِأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْنًا، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ ٱلسَّلَامِ. يسوع هو ‘عجيب’ بالنسبة إلينا، ولا يستحيل على الرَّبِّ أن يُعطينا عجبًا.
- فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ: بشكلٍ هامٍّ، تعامل الله مع إبراهيم بالنسبة إلى هذا الأمر وليس مع سارة نفسها، ذلك بسبب أنَّ إبراهيم كان رأس البيت. وعد الله بتحقيق الأمر، وفي الميعاد.
ثانيًا. يتدخَّل إبراهيم من أجل مدينتَي سدوم وعمورة
أ ) الآيات (١٦-١٩): يُقرِّر الله أن يُظهِر لإبراهيم مصير سدوم وعمورة.
١٦ثُمَّ قَامَ ٱلرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَتَطَلَّعُوا نَحْوَ سَدُومَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مَاشِيًا مَعَهُمْ لِيُشَيِّعَهُمْ. ١٧فَقَالَ ٱلرَّبُّ: «هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ، ١٨وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ؟ ١٩لِأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرًّا وَعَدْلًا، لِكَيْ يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ».
- وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مَاشِيًا مَعَهُمْ لِيُشَيِّعَهُمْ: في ذلك اليوم، كان من المعتاد لضيفٍ كريم أن يُرافِق ضيوفه في رحلتهم لفترةٍ من الوقت عند ارتحالهم.
- فَقَالَ ٱلرَّبُّ: سأل الله نفسه سؤالًا. لم يفعل ذلك لأنَّه لا يدري ماذا سيفعل أو أنَّه احتاج لتحليل فكره. سأل الله نفسه هذا السؤال لِيُظهِر فكره لنا، قرَّاء سفر التكوين.
- هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ: بسبب ما سيأتي به الله من إبراهيم (أُمَّة عظيمة وقويَّة) وبسبب أنَّ إبراهيم كان يحب أن يكون قائدًا عظيمًا (لكي يقود أولاده وبيته وراءه)، صمَّم الله أن يُظهِر لإبراهيم ما هو مُزمِعٌ أن يفعله قريبًا بسدوم وعمورة.
- إنَّ الأسباب المذكورة في هذا النص هي مُهمَّة. إنَّ قصد الله في إظهار ذلك لإبراهيم ليس فقط لمشاركته بمعلوماتٍ شيِّقة ومُنفِّرة، وليس ببساطة لإشباع رغبة إبراهيم. أراد الله أن يفعل شيئًا في حياة إبراهيم من خلال ما سيُعلنه له.
ب) الآيات (٢٠-٢١): يُخبِر الله إبراهيم أنَّه سيرى ما إذا كانت سدوم وعمورة أهلًا للدَّينونة.
٢٠وَقَالَ ٱلرَّبُّ: «إِنَّ صُرَاخَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ قَدْ كَثُرَ، وَخَطِيَّتُهُمْ قَدْ عَظُمَتْ جِدًّا. ٢١أَنْزِلُ وَأَرَى هَلْ فَعَلُوا بِٱلتَّمَامِ حَسَبَ صُرَاخِهَا ٱلْآتِي إِلَيَّ، وَإِلَا فَأَعْلَمُ».
- إِنَّ صُرَاخَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ قَدْ كَثُرَ: كان تعدِّي هاتَين المدينتَين كثيرًا، كانت خطيَّتهما شنيعة جدًا، ويمكننا الافتراض أنَّ هذا الصراخ أتى من مصادرَ عدَّة.
- الله وعدالته المقدَّسة صرخت ضدَّ سدوم وعمورة.
- الكائنات الملائكيَّة الناظرة صرخت ضدَّ سدوم وعمورة.
- الأضاحي الغفيرة للفساد صرخت ضدَّ سدوم وعمورة.
- الخليقة نفسها المتأثِّرة بتعدِّياتهما غير الطبيعيَّة صرخت ضدَّ سدوم وعمورة.
- أَنْزِلُ وَأَرَى: لأنَّ أحكام الرَّب حقٌّ وعادلةٌ (مزمور ٩:١٩؛ رؤيا ٧:١٦)، سوف يدين الله سدوم وعمورة بناءً على معرفةٍ مباشرة ودقيقة. لم يُقال لنا هذا لأنَّ الله لم يعلَم، بل لِيُظهِر لنا الطَّابع الشامل لمعرفة الله ونزاهته.
ج) الآيات (٢٢-٢٦): يسأل إبراهيم سؤالًا مُهمًّا: هل يُهلِك الله البار مع الشرِّير؟
٢٢وَٱنْصَرَفَ ٱلرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ ٱلرَّبِّ. ٢٣فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: «أَفَتُهْلِكُ ٱلْبَارَّ مَعَ ٱلْأَثِيمِ؟ ٢٤عَسَى أَنْ يَكُونَ خَمْسُونَ بَارًّا فِي ٱلْمَدِينَةِ. أَفَتُهْلِكُ ٱلْمَكَانَ وَلَا تَصْفَحُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْخَمْسِينَ بَارًّا ٱلَّذِينَ فِيهِ؟ ٢٥حَاشَا لَكَ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا ٱلْأَمْرِ، أَنْ تُمِيتَ ٱلْبَارَّ مَعَ ٱلْأَثِيمِ، فَيَكُونُ ٱلْبَارُّ كَٱلْأَثِيمِ. حَاشَا لَكَ! أَدَيَّانُ كُلِّ ٱلْأَرْضِ لَا يَصْنَعُ عَدْلًا؟» ٢٦فَقَالَ ٱلرَّبُّ: «إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فِي ٱلْمَدِينَةِ، فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ ٱلْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ».
- وَٱنْصَرَفَ ٱلرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ ٱلرَّبِّ: نرى أنَّ الرجُلَين كانا فعلًا الملاكَين اللَّذَين زارا سدوم في تكوين ١٩. كان الشخص الثالث في المجموعة بالفعل الرَّبَّ نفسه.
- فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ: فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إلى الرَّبِّ. إنَّ الشفاعة الفعَّالة هي بمثابة الاقتراب إلى الله كي نتمكَّن من الصلاة إلى قلبه.
- أَفَتُهْلِكُ ٱلْبَارَّ مَعَ ٱلْأَثِيمِ؟: في بحثه عن هذا السؤال، بناحيةٍ ما، ذكَّر إبراهيم الرَّبَّ بطبيعته ومبادئه (أَدَيَّانُ كُلِّ ٱلْأَرْضِ لَا يَصْنَعُ عَدْلًا). ظنَّ إبراهيم أنَّ الله، كديَّانٍ عادل، لا يمكن أن يُعاقِبَ البريء ولن يُعاقبه بنفس الطريقة التي يعاقب بها المذنِب.
- الصلاة الفعَّالة تتكلَّم عالِمةً مَن هو الله، وكيف يعمل الله في حالاتٍ مُحدَّدة. لا ترى الصلاة الفعَّالة نفسها كمُتفرِّجٍ لا يتفاعل مع ما يعمله الله، لكنَّها تتصرَّف وكأنَّه لا بدَّ إلَّا وأن تُذكِّر الله فيها.
- قد نجد اهتمام إبراهيم بشعب سدوم وعمورة لافتًا للنظر. ربَّما كان قد صلَّى للتوِّ، ‘أيُّها الرَّبُّ، خلِّص ابن أخي لوط من هناك أوَّلًا،’ لكنَّه آثر ألَّا يفعل ذلك. كان قلبُ إبراهيم مليئًا بالحزن والرأفة، حتَّى لأشرار سدوم وعمورة.
- إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فِي ٱلْمَدِينَةِ، فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ ٱلْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ: قال الله هذا لأنَّ إبراهيم سأل. عندما اقترب إبراهيم إلى الرَّبِّ وصلَّى بحسب طبيعة الله المعلَنة وإرادته، وافق الله. قال الرَّبُّ أنَّه سيصفح عن المدينة إذا كان فيها خمسون بارًّا.
د ) الآيات (٢٧-٣٣): يساوم إبراهيم مع الله من أجل سدوم وعمورة.
٢٧فَأَجَابَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: «إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ ٱلْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ. ٢٨رُبَّمَا نَقَصَ ٱلْخَمْسُونَ بَارًّا خَمْسَةً. أَتُهْلِكُ كُلَّ ٱلْمَدِينَةِ بِٱلْخَمْسَةِ؟» فَقَالَ: «لَا أُهْلِكُ إِنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ». ٢٩فَعَادَ يُكَلِّمُهُ أَيْضًا وَقَالَ: «عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ أَرْبَعُونَ». فَقَالَ: «لَا أَفْعَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْأَرْبَعِينَ». ٣٠فَقَالَ: «لَا يَسْخَطِ ٱلْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ ثَلَاثُونَ». فَقَالَ: «لَا أَفْعَلُ إِنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ ثَلَاثِينَ». ٣١فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ ٱلْمَوْلَى. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عِشْرُونَ». فَقَالَ: «لَا أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعِشْرِينَ». ٣٢فَقَالَ: «لَا يَسْخَطِ ٱلْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ هَذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ». فَقَالَ: «لَا أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَشْرَةِ». ٣٣وَذَهَبَ ٱلرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَانِهِ.
- رُبَّمَا نَقَصَ ٱلْخَمْسُونَ بَارًّا خَمْسَةً: في حواره الأوَّل مع الله، رسَّخ إبراهيم مبدأً – أنَّ الله لن يُهلِك البار مع الأثيم. مع ترسيخ هذا المبدأ، كان الأمر حينها مجرَّد مسألة أرقام. كم من الأبرار سيُبقي الله المدينة من أجلهم؟
- كانت شفاعة إبراهيم فعَّالة لأنَّها كانت مُحدَّدة. تكلَّم عن أعدادٍ مُحدَّدة مع الله، وليس فقط بعبارات شاملة وعامَّة. غالبًا ما تكون صلاتنا غير فعَّالة لأنَّنا لا نسأل الله فعليًّا أن يفعل أيَّ شيءٍ مُحدَّدٍ. بدلًا من ذلك، غالبًا ما نرمي رغباتنا إلى السماء.
- لَا يَسْخَطِ ٱلْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ: استمرَّ إبراهيم بشفاعته بتواضعٍ صَلْب. لم يكُن مُفتخِرًا أو مُتكبِّرًا أمام الرَّبِّ، ومع ذلك استمرَّ أن يسأل.
- عبَّر إبراهيم عن اتِّضاعهِ في أنَّه، ولا في أيِّ مكانٍ في صلاته، سأل لماذا أو طلب من الله أن يشرح نفسه وأفعاله.
- عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ: كان إبراهيم مُحاوِرًا مُتمرِّسًا ونجح أمام الله في أن يُخفِّض عدد الأبرار الَّذين يحتاج إليهم لكي لا تهلك المدينة. أوَّلًا بوحداتٍ من خمسة، ثمَّ بوحداتٍ من عشرة، إلى أن تثبَّت الرقم على عشرة.
- من المستحيل أن نُغفِل إصرار إبراهيم في الشفاعة. لم يتوقَّف إبراهيم عن السؤال عند الأربعين أو الخمسين ليقول ببساطة، ‘إنَّ الأمر الآن هو في يدَي الرَّبِّ’ أو ‘ما يُريدهُ الرَّبُّ سيفعله.’ يُظهِر لنا إبراهيم أنَّه في أوقاتٍ كثيرة يشعر الوسيط أو الشفيع بأنَّ المصير الأبديّ للرجال والنساء يعتمِد على صلاة الشفاعة.
- هذا هو نوع القلب الَّذي أرادَه الله من إبراهيم؛ قلبٌ يهتمُّ كثيرًا بِأُناسٍ خُلِقوا على صورة الله إلى درجة أنَّه يعمل جاهدًا بالنيابة عن المدينة التي استحقَّت الدينونة. هذا هو القلب الَّذي يحتاجه ذلك القائد العظيم لأمَّةٍ كبيرة وقويَّة.
- تذكَّر، كان هناك شعورٌ بأنَّ كلَّ هذا الحوار كان عبثًا، ذلك لأنَّ سدوم وعمورة قد دُمِّرتا. لم يكن هناك عشرة أبرارٍ في المدينة بل أربعةٌ فقط؛ وبالطبع عرف الله عدد الناس الأبرار الَّذين كانوا فعلًا في المدينتَين. بالرغم من ذلك، أظهر الله مصير هاتين المدينتَين لإبراهيم كي يستنبط منه قلب الشفيع المحبِّ؛ وهكذا حتَّى قبل مجيء يسوع، يُمكِن لإبراهيم أن يكون مُشَابِهًا صُورَةَ ٱبْنِهِ (رومية ٢٩:٨) الَّذي هو نفسه شفيعًا (عبرانيِّين ٢٥:٧).
- وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَانِهِ: نتساءل ما إذا كان على إبراهيم أن يتوقَّف عن التفاوض بسبب وجود أربعة أبرارٍ فقط في المدينة. هل كان الله سيحفظ المدينة من أجل الأربعة إذا طلب إبراهيم ذلك؟ ربَّما شعر إبراهيم أنَّ لوطًا لا بدَّ إلَّا وأن يكون قد جلب ستَّة أشخاصٍ من خارج عائلته الخاصَّة إلى الله خلال وجوده في سدوم.