سفر التكوين – الإصحاح ٤٤
يمتحِن يوسُف إخوته
أولًا. يُرسلهم يوسُف في طريقهم
أ ) الآيات (١-٣): يضع يوسُف الفضَّة في عِدَالهم مرَّةً أُخرى.
١ثُمَّ أَمَرَ ٱلَّذِي عَلَى بَيْتِهِ قَائِلًا: «ٱمْلَأْ عِدَالَ ٱلرِّجَالِ طَعَامًا حَسَبَ مَا يُطِيقُونَ حِمْلَهُ، وَضَعْ فِضَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي فَمِ عِدْلِهِ. ٢وَطَاسِي، طَاسَ ٱلْفِضَّةِ، تَضَعُ فِي فَمِ عِدْلِ ٱلصَّغِيرِ، وَثَمَنَ قَمْحِهِ». فَفَعَلَ بِحَسَبِ كَلَامِ يُوسُفَ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ. ٣فَلَمَّا أَضَاءَ ٱلصُّبْحُ ٱنْصَرَفَ ٱلرِّجَالُ هُمْ وَحَمِيرُهُمْ.
- فَلَمَّا أَضَاءَ ٱلصُّبْحُ ٱنْصَرَفَ ٱلرِّجَالُ هُمْ وَحَمِيرُهُمْ: ترك الإخوة مصرَ بمعنويَّاتٍ مُرتفِعة. فقد عُومِلوا حسنًا ومُلِئت عِدالهم بالقمح وأُخرِج شمعون من السجن. يبدو وكأنَّ خوف يعقوب لم يكُن في مكانه.
- وَطَاسِي، طَاسَ ٱلْفِضَّةِ، تَضَعُ فِي فَمِ عِدْلِ ٱلصَّغِيرِ، وَثَمَنَ قَمْحِهِ: وكما حصل معهم من قَبْل، وُضِعت فضَّةُ كلِّ واحدٍ في فَمِ عِدلِهِ. لكن الآن أمر يوسُف أن توضَع طاسَه الفضِّيَّة وتُخبَّأ في عِدلِ بنيامين. وفي الصباح ٱنْصَرَفَ ٱلرِّجَالُ مُبتدئين رحلةَ العودة إلى كنعان.
ب) الآيات (٤-٥): يواجِه وكيل يوسُف الإخوة في طريق عودتهم إلى كنعان.
٤وَلَمَّا كَانُوا قَدْ خَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْتَعِدُوا، قَالَ يُوسُفُ لِلَّذِي عَلَى بَيْتِهِ: «قُمِ ٱسْعَ وَرَاءَ ٱلرِّجَالِ، وَمَتَى أَدْرَكْتَهُمْ فَقُلْ لَهُمْ: لِمَاذَا جَازَيْتُمْ شَرًّا عِوَضًا عَنْ خَيْرٍ؟ ٥أَلَيْسَ هَذَا هُوَ ٱلَّذِي يَشْرَبُ سَيِّدِي فِيهِ؟ وَهُوَ يَتَفَاءَلُ بِهِ. أَسَأْتُمْ فِي مَا صَنَعْتُمْ».
- لِمَاذَا جَازَيْتُمْ شَرًّا عِوَضًا عَنْ خَيْرٍ؟: وقع الإخوة في فخِّ يوسُف. يعتقد البعض خطأً بأنَّ يوسُف فعل هذا لمجرَّد استخدام موقعهِ في السلطة لتعذيب إخوته انتقامًا لقسوتهم تجاهه. مع ذلك، لِعِلمنا بشخصيَّة يوسُف، لم تكُن هذه هي الحال. فبإرشاد يدِ الله، امتحن يوسُف قلوب إخوته وأتى بهم إلى توبةٍ كاملة.
- وَهُوَ يَتَفَاءَلُ بِهِ: نحن نعلَم من مصادر أُخرى أنَّ القدماء استخدموا طاساتٍ أو كؤوسٍ مُقدَّسة كأدواتٍ للكِهانة والعِرافة. من المحتمَل (لكن من غير الممكِن) أنَّ يوسُف قام بفعل نفس الشيء، ذلك لغيابِ أيِّ إعلانٍ مُحدَّد من الله بشأن مُمارسة العرافة أو عدَمها. إنَّ الرسالة التي أراد توصيلها إلى إخوته هي أنَّ هذه الكأس كانت مُميَّزة، لذلك كانت سرقتها جُرمًا.
ج) الآيات (٦-١٠): يدَّعي الإخوة أنَّهم أبرياءٌ من السرِقة.
٦فَأَدْرَكَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ هَذَا ٱلْكَلَامَ. ٧فَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ سَيِّدِي مِثْلَ هَذَا ٱلْكَلَامِ؟ حَاشَا لِعَبِيدِكَ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ هَذَا ٱلْأَمْرِ! هُوَذَا ٱلْفِضَّةُ ٱلَّتِي وَجَدْنَا فِي أَفْوَاهِ عِدَالِنَا رَدَدْنَاهَا إِلَيْكَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ. فَكَيْفَ نَسْرِقُ مِنْ بَيْتِ سَيِّدِكَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا؟ ٩ٱلَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِكَ يَمُوتُ، وَنَحْنُ أَيْضًا نَكُونُ عَبِيدًا لِسَيِّدِي». ١٠فَقَالَ: «نَعَمِ، ٱلْآنَ بِحَسَبِ كَلَامِكُمْ هَكَذَا يَكُونُ. ٱلَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ يَكُونُ لِي عَبْدًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَكُونُونَ أَبْرِيَاءَ».
- حَاشَا لِعَبِيدِكَ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ هَذَا ٱلْأَمْرِ: أعلن الإخوة بثقةٍ أنَّ الكأس ليس في حوزَتهم. يُشير هذا إلى وجودِ ثقةٍ صحِّيَّة بينهم. لَو لم يثقوا ببعضهم الآخَر، لَبَدأ الشكُّ فيهم يتساءل عمَّن منهم سرق الكأس.
- ٱلَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِكَ يَمُوتُ، وَنَحْنُ أَيْضًا نَكُونُ عَبِيدًا لِسَيِّدِي: كان لدى الاخوةِ درجةٌ عاليةٌ من الثقة بالنِّسبة إلى عدَم وجود الكأس معهم (فقد وثقوا ببعضهم الآخَر بشكلٍ كبير) حتَّى أنَّهم أعلنوا أنَّ السارق يجب أن يُقتَل والآخَرين يصيرون عبيدًا.
- نَعَمِ، ٱلْآنَ بِحَسَبِ كَلَامِكُمْ هَكَذَا يَكُونُ. ٱلَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ يَكُونُ لِي عَبْدًا: لم يُكرِّر وكيل يوسُف (الآية ٤) عرضَهم بِحُكم الموت، ذلك بسبب عدم رغبته في إراقة الدِّماء. وكلَّما أمطنا اللِّثام عن أجزاء هذه القصَّة، كلَّما رأينا استخدام الله لِعدَّة مواقف ومن بينها اقتراح الإخوة باستعباد الجهَّة المذنِبة.
د ) الآيات (١١-١٣): وُجِدت الكأس في عِدلِ بنيامين.
١١فَٱسْتَعْجَلُوا وَأَنْزَلُوا كُلُّ وَاحِدٍ عِدْلَهُ إِلَى ٱلْأَرْضِ، وَفَتَحُوا كُلُّ وَاحِدٍ عِدْلَهُ. ١٢فَفَتَّشَ مُبْتَدِئًا مِنَ ٱلْكَبِيرِ حَتَّى ٱنْتَهَى إِلَى ٱلصَّغِيرِ، فَوُجِدَ ٱلطَّاسُ فِي عِدْلِ بَنْيَامِينَ. ١٣فَمَزَّقُوا ثِيَابَهُمْ وَحَمَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِمَارِهِ وَرَجَعُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ.
- فَٱسْتَعْجَلُوا وَأَنْزَلُوا كُلُّ وَاحِدٍ عِدْلَهُ إِلَى ٱلْأَرْضِ: قاموا بفعل ذلك بسرعةٍ بسبب يقينهم بأنَّهم أبرياء. كانوا مُتأكِّدين لِدَرجة أنَّهم تعهَّدوا فيما إذا وُجِدَ الطَّاس معهم فالمذنِب سيبقى في مصرَ كَعَبدٍ.
- فَوُجِدَ ٱلطَّاسُ فِي عِدْلِ بَنْيَامِينَ: لقد وُجِد الدَّليلُ المزروع. وبحسب قَسَمهم، يجب أن يتخلَّصوا الآن من الابن المفضَّل الآخَر. لَو كَرِهوا بنيامين بمقدار كراهيَّتهم لِيوسُف، فسيكونون سُعداء بذلك.
- فَمَزَّقُوا ثِيَابَهُمْ: كان هذا تعبيرًا شديدًا عن الرعب، كَمَن مات أحدٌ ما. لم يكونوا سُعداء لِفكرة التَّخلُّص من بنيامين؛ لقد تملَّكهم الرعب. فجميعهم مَزَّقُوا ثِيَابَهُمْ وجميعهم رَجَعُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ.
- أظهرت ردَّة فعل الإخوة أنَّ هذا الأمر هو أسوأُ كوابيسهم. وُجِدت الكأسُ في عِدلِ ابنِ أبيهم المفضَّل الَّذي كان أكثر ما يُقلَقُ بشأنه. والآن، سيُحكَمُ على بنيامين بحياة العبوديَّة في مصرَ، إذا لم نقُل الموت.
- كان هذا تغييرًا دراماتيكيًّا في الإخوة. قبلًا، لم يكترث الإخوة لابنِ أبيهم المفضَّل. الآن، مُجرَّد التَّفكير في أذيَّة الوالِد أو الابن جعلهم يشعرون بالسوء كَأن تُوفيَ أحدهم.
- وَحَمَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِمَارِهِ وَرَجَعُوا: عندما أُخِذَ يوسُف إلى العبوديَّة، سمح له الإخوة بالذهاب ولم يُحرِّكوا ساكنًا. أمَّا الآن، فكانوا مُستعدِّين لِيَقفوا بجانب بنيامين في مواجهته للعبوديَّة أو الموت. أظهر هذا الأمر تغييرًا مُهمًّا في قلوبهم ومواقفهم تجاه أخي يوسُف.
هـ) الآيات (١٤-١٥): رَجِع الإخوة مُتصاغرين إلى مسؤولٍ مصريٍّ غاضِب (يوسُف).
١٤فَدَخَلَ يَهُوذَا وَإِخْوَتُهُ إِلَى بَيْتِ يُوسُفَ وَهُوَ بَعْدُ هُنَاكَ، وَوَقَعُوا أَمَامَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ. ١٥فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: «مَا هَذَا ٱلْفِعْلُ ٱلَّذِي فَعَلْتُمْ؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَجُلًا مِثْلِي يَتَفَاءَلُ؟».
- وَوَقَعُوا أَمَامَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ: رجعوا إلى المسؤول المصريّ باتِّضاع. لقد ظُلِموا؛ فالدَّليلُ مزروع. رغمًا عن ذلك، لم يأتوا طالبين العدالة، بل بِدُعاءٍ وضيع للرحمة.
- وعندما وَقَعُوا أَمَامَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ، مرَّةً أُخرى – للمرَّة الثَّالثة – تحقَّقت بذلك أحلامُ يوسُف منذ أكثر من ٢٠سنةً (تكوين ٥:٣٧-١١).
- وعندما وَقَعُوا أَمَامَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ، أُظهِر الإخوة في حالةٍ من اليأس وهُم يطلبون نعمةً من المسؤول المصريّ كي يُطلِق بنيامين حُرًّا. لقد علِموا بأنَّ خسارة بنيامين ستكون كارثةً حقيقيَّة وستؤدِّي إلى ثَكْلِ أبيهم.
- أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَجُلًا مِثْلِي يَتَفَاءَلُ؟: تكلَّم يوسُف بهذه الأسلوب لأنَّ الأمر كان مُهمًّا بأن يستمرَّ بِلَعِب دور المسؤول المصريّ لِبُرهةٍ قليلة بعد قبل إعلامهم بأنَّه عبرانيّ يعبد يهوه.
و) الآيات (١٦-١٧): يتعهَّد يهوذا نفسه مع إخوته الوقوفَ إلى جانبِ بنيامين، حتَّى ولَو صاروا عبيدًا في مصر.
١٦فَقَالَ يَهُوذَا: «مَاذَا نَقُولُ لِسَيِّدِي؟ مَاذَا نَتَكَلَّمُ؟ وَبِمَاذَا نَتَبَرَّرُ؟ ٱللهُ قَدْ وَجَدَ إِثْمَ عَبِيدِكَ. هَا نَحْنُ عَبِيدٌ لِسَيِّدِي، نَحْنُ وَٱلَّذِي وُجِدَ ٱلطَّاسُ فِي يَدِهِ جَمِيعًا». ١٧فَقَالَ: «حَاشَا لِي أَنْ أَفْعَلَ هَذَا! ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي وُجِدَ ٱلطَّاسُ فِي يَدِهِ هُوَ يَكُونُ لِي عَبْدًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَٱصْعَدُوا بِسَلَامٍ إِلَى أَبِيكُمْ».
- ٱللهُ قَدْ وَجَدَ إِثْمَ عَبِيدِكَ: أظهر يهوذا بهذه الكلِمات عمل الله في حياةِ إخوته. ففي ذهن يهوذا، حُتِّم على الإخوة الآن أن يمضوا بقيَّة حياتهم في العبوديَّة في مصرَ بسبب بَيعِهم يوسُف كعبدٍ منذ أكثر من ٢٠ سنة.
- كان الإخوة أبرياء من خطيَّة سَرِقة الكأس، لكنَّهم كانوا مُذنبين بسبب خطايا أُخرى أكبر بكثير. وبنفس الطريقة نحن نفتخِرُ بأنَّنا أبرياء من خطيَّةٍ أو أُخرى، لكنَّنا نبقى مُذنبين بخطايا أكبر بكثير. لا يُمكننا الاختباء من خطيَّتنا. والوقت لا يَمحي الشعور بالذَنب بسبب الخطيَّة؛ فقط دمُ يسوع يستطيع ذلك.
- منذ ٢٢ سنة، عندما حاول إخوة يوسُف قتلَهُ وإلقاءَهُ في البئر، صرخ يوسُف نحوهم مُترجِّيًا في عذابه (تكوين ٢١:٤٢). يقول دونالد بارنهاوس (Donald Barnhouse)، “يُمكِن للفيزيائيّ أن يحسِب الوقت الَّذي يستغرقه الصوت ليقطع مسافة خمسةٍ وعشرين ياردًا لِيَصِل إلى آذان الإخوة. لكنَّ هذه الصرخة استغرقت اثنَين وعشرين عامًا كي تنتقِل من آذانهم إلى قلوبهم.”
- هَا نَحْنُ عَبِيدٌ لِسَيِّدِي، نَحْنُ وَٱلَّذِي وُجِدَ ٱلطَّاسُ فِي يَدِهِ جَمِيعًا: وبهذه الكلِمات أصرَّ يهوذا بأن يبقى الإخوة إلى جانب بنيامين، بالرغم من كونه الابن المفضَّل والأكثر بركةً. لَو تخلَّوا عن بنيامين بسرعة، سيظهَر أنَّ تغييرًا طفيفًا طرأ على قلوبهم منذ ٢٠ سنةً لـمَّا تخلَّوا عن يوسُف.
- إنَّ استسلامهم لِقَدَر العبوديَّة في مصرَ كان أمرًا مُهمًّا إذا أخذنا بِعَين الاعتبار كَونَهُم رجالًا في مُنتصف العمر أتَوا من بيئةِ حياةٍ ترتبِطُ بامتيازٍ نسبيٍّ وبالغِنى والمقام.
ثانيًا. يُرافِع يهوذا بالنيابة عن بنيامين
أ ) الآيات (١٨-٢٣): يستذكِر يهوذا حواراته السَّابقة مع المسؤول المصريّ.
١٨ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَهُوذَا وَقَالَ: «ٱسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. لِيَتَكَلَّمْ عَبْدُكَ كَلِمَةً فِي أُذُنَيْ سَيِّدِي وَلَا يَحْمَ غَضَبُكَ عَلَى عَبْدِكَ، لِأَنَّكَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ. ١٩سَيِّدِي سَأَلَ عَبِيدَهُ قَائِلًا: هَلْ لَكُمْ أَبٌ أَوْ أَخٌ؟ ٢٠فَقُلْنَا لِسَيِّدِي: لَنَا أَبٌ شَيْخٌ، وَٱبْنُ شَيْخُوخَةٍ صَغِيرٌ، مَاتَ أَخُوهُ وَبَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ لِأُمِّهِ، وَأَبُوهُ يُحِبُّهُ. ٢١فَقُلْتَ لِعَبِيدِكَ: ٱنْزِلُوا بِهِ إِلَيَّ فَأَجْعَلَ نَظَرِي عَلَيْهِ. ٢٢فَقُلْنَا لِسَيِّدِي: لَا يَقْدِرُ ٱلْغُلَامُ أَنْ يَتْرُكَ أَبَاهُ، وَإِنْ تَرَكَ أَبَاهُ يَمُوتُ. ٢٣فَقُلْتَ لِعَبِيدِكَ: إِنْ لَمْ يَنْزِلْ أَخُوكُمُ ٱلصَّغِيرُ مَعَكُمْ لَا تَعُودُوا تَنْظُرُونَ وَجْهِي».
- ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَهُوذَا وَقَالَ: لم يعتبِر يهوذا هذا الأمر قدَرًا. قدَّم مُرافعةً أمام المسؤول المصريّ. يبدو كلُّ شيءٍ سيِّئًا؛ فالدَّليلُ المزروع ضدَّهُم حتَّمَ مصيرَهُم. بالرغم من ذلك، قدَّم دفاع مُرافعته.
- يُعتبَر خطاب يهوذا العاطفيّ أُنموذجًا لِنداءٍ قلبيٍّ يائِس. كتب ف. ب. ماير عن خطاب يهوذا التالي: ‘لا نجِدُ في كلِّ الكُتُب الأدبيَّة خطابًا أكثر إثارةً للشَّفقة.’ كتب ه. س. ليوبولد التالي، ‘كان هذا واحدًا من أكثر الخطابات رجولةً وصراحةً ألقاها أيُّ إنسان. يقِف هذا الخطاب بارزًا بسبب عُمق المشاعر وصدقيَّة القَصد.’ أسماهُ بارنهاوس ‘أكثرُ خطابٍ حيويّ في كلِّ كلِمة الله.’
- سَيِّدِي سَأَلَ عَبِيدَهُ قَائِلًا: ذكَّر يهوذا المسؤول المصريّ أنَّ كلَّ هذا بدأ من أسئلته هو. فجُلَّ ما ارادوهُ كان أن يبتاعوا قمحًا. أُكِّدت هذه النقطة مرارًا وتكرارًا: قَائِلًا… فَقُلْنَا… فَقُلْتَ…
- لَنَا أَبٌ شَيْخٌ، وَٱبْنُ شَيْخُوخَةٍ صَغِيرٌ، مَاتَ أَخُوهُ: قدَّم يهوذا القضيَّة بشكلٍ طبيعيّ وبأسلوبٍ عاطفيّ. لا بُدَّ وأن يكون يوسُف قد ضَحِك في داخله عندما قال يهوذا، مَاتَ أَخُوهُ.
ب) الآيات (٢٤-٢٩): يتذكَّر يهوذا حديثه السَّابق مع أبيه يعقوب.
٢٤فَكَانَ لَمَّا صَعِدْنَا إِلَى عَبْدِكَ أَبِي أَنَّنَا أَخْبَرْنَاهُ بِكَلَامِ سَيِّدِي. ٢٥ثُمَّ قَالَ أَبُونَا: ٱرْجِعُوا ٱشْتَرُوا لَنَا قَلِيلًا مِنَ ٱلطَّعَامِ. ٢٦فَقُلْنَا: لَا نَقْدِرُ أَنْ نَنْزِلَ، وَإِنَّمَا إِذَا كَانَ أَخُونَا ٱلصَّغِيرُ مَعَنَا نَنْزِلُ، لِأَنَّنَا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَنْظُرَ وَجْهَ ٱلرَّجُلِ وَأَخُونَا ٱلصَّغِيرُ لَيْسَ مَعَنَا. ٢٧فَقَالَ لَنَا عَبْدُكَ أَبِي: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱمْرَأَتِي وَلَدَتْ لِي ٱثْنَيْنِ، ٢٨فَخَرَجَ ٱلْوَاحِدُ مِنْ عِنْدِي، وَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ قَدِ ٱفْتُرِسَ ٱفْتِرَاسًا، وَلَمْ أَنْظُرْهُ إِلَى ٱلْآنَ. ٢٩فَإِذَا أَخَذْتُمْ هَذَا أَيْضًا مِنْ أَمَامِ وَجْهِي وَأَصَابَتْهُ أَذِيَّةٌ، تُنْزِلُونَ شَيْبَتِي بِشَرٍّ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ.
- ٱرْجِعُوا ٱشْتَرُوا لَنَا قَلِيلًا مِنَ ٱلطَّعَامِ: أخبرَ يهوذا المسؤول المصريّ أحداث سفر التَّكوين ١:٤٣-١٠.
- إِنَّمَا هُوَ قَدِ ٱفْتُرِسَ ٱفْتِرَاسًا، وَلَمْ أَنْظُرْهُ إِلَى ٱلْآنَ: ففي هذه الكلِمات المختارة بعناية، لم يَقُل يهوذا أنَّ أخا بنيامين قد مات – بل أنَّ يعقوب قال، ‘إِنَّمَا هُوَ قَدِ ٱفْتُرِسَ ٱفْتِرَاسًا،’ وأنَّ يهوذا لَمْ يَنْظُرْهُ إِلَى ٱلْآنَ. لا شكَّ أنَّ يهوذا تذكَّر الكذبة القاسية التي قصَّها إخوته على يعقوب أبيهم كي يعتقِد بأنَّ يوسُف قد مات (تكوين ٣١:٣٧-٣٥).
ج) الآيات (٣٠-٣٢) يشرح يهوذا أهمِّيَّة رجوع بنيامين إلى أرض كنعان.
٣٠فَٱلْآنَ مَتَى جِئْتُ إِلَى عَبْدِكَ أَبِي، وَٱلْغُلَامُ لَيْسَ مَعَنَا، وَنَفْسُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِنَفْسِهِ، ٣١يَكُونُ مَتَى رَأَى أَنَّ ٱلْغُلَامَ مَفْقُودٌ، أَنَّهُ يَمُوتُ، فَيُنْزِلُ عَبِيدُكَ شَيْبَةَ عَبْدِكَ أَبِينَا بِحُزْنٍ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ، ٣٢لِأَنَّ عَبْدَكَ ضَمِنَ ٱلْغُلَامَ لِأَبِي قَائِلًا: إِنْ لَمْ أَجِئْ بِهِ إِلَيْكَ أَصِرْ مُذْنِبًا إِلَى أَبِي كُلَّ ٱلْأَيَّامِ.
- يَكُونُ مَتَى رَأَى أَنَّ ٱلْغُلَامَ مَفْقُودٌ، أَنَّهُ يَمُوتُ: إذا رجعنا ٢٠ سنةً إلى الوراء، نرى إخوة يوسُف غير مُكترثين بأبيهم عندما أخبروه عن مزاعِم موت يوسُف (تكوين ٣١:٣٧-٣٥). أظهر يهوذا آنذاك أنَّه واخوتهُ لم يكونوا مُهتمِّين كثيرًا بمشاعرِ وخَيرِ أبيهم. فكان هذا الحدَث اليوم دليلًا إضافيًّا على تغيير القلب – أن تهتمَّ الآن عندما لم تكُن مُهتمًّا من قَبْل.
- يُعتبَرُ هذا الأمرُ ذا أهمِّيَّةٍ خاصَّة ولا سيَّما عندما نفتكِرُ بِمقدارِ عُمق إساءة يعقوب، أبو يهوذا، له ولإخوته الآخَرين لسنين طويلة بسبب تفضيله المستمرَّ لِيوسُف وبنيامين. فقد كان هذا جُرحٌ عميق؛ وعلى الرغم من ذلك، فقد تغيَّر قلبُ يهوذا وأصبح قادِرًا على الاهتمام بأبيه الَّذي سبَّب له جُرحًا عميقًا.
- لِأَنَّ عَبْدَكَ ضَمِنَ ٱلْغُلَامَ لِأَبِي: جعل يهوذا طلَبَه شخصيًّا أيضًا. ستتدمَّر حياة يهوذا ومكانته أمام أبيه إذا لم يَعُد بنيامين أبدًا.
د ) الآيات (٣٣-٣٤): يُقدِّم يهوذا حياتهُ من أجل بنيامين وأبيه.
٣٣فَٱلْآنَ لِيَمْكُثْ عَبْدُكَ عِوَضًا عَنِ ٱلْغُلَامِ، عَبْدًا لِسَيِّدِي، وَيَصْعَدِ ٱلْغُلَامُ مَعَ إِخْوَتِهِ. ٣٤لِأَنِّي كَيْفَ أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَٱلْغُلَامُ لَيْسَ مَعِي؟ لِئَلَّا أَنْظُرَ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي يُصِيبُ أَبِي».
- فَٱلْآنَ لِيَمْكُثْ عَبْدُكَ عِوَضًا عَنِ ٱلْغُلَامِ، عَبْدًا لِسَيِّدِي: قدَّم يهوذا حياته من أجل بنيامين بشكلٍ دراماتيكيّ. كان هذا تغييرًا دراماتيكيًّا مُقارنةً مع موقفهم منذ حوالي ٢٢ سنة عندما لم يكترِث أحدٌ منهم لِيوسُف أو بنيامين أو حتَّى أبيهم.
- ميَّز يهوذا نفسهُ بكَونه مُستعِدًّا أن يكون تضحيةً بديلة نابعة من محبَّته لأبيه ولإخوته. هذه هي المحبَّة – تضحية ذاتيَّة بطوليَّة.
- لِأَنِّي كَيْفَ أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَٱلْغُلَامُ لَيْسَ مَعِي؟: كان يهوذا مَن اقترَح بَيعَ يوسُف منذ أكثر من ٢٠ سنة (تكوين ٢٦:٣٧-٢٧). وهُنا، بمحبَّةٍ بطوليَّة، قدَّم نفسه وحياته من أجل الابن المفضَّل. هذه العرَاضَة للمحبَّة المضحيَّة كانت مثلًا للتَّغيير في إخوته.
- كان موسى مُستعِدًّا لأن يُقدِّم نفسه من أجلِ خلاص إسرائيل (خروج ٣١:٣٢-٣٢)، كما كان بولس (رومية ١:٩-٤). إنَّ المحبَّة المضحيَّة لَهِيَ دليلٌ على تغييرنا (٣٤:١٣).
- رأينا من خلال هذا الأصحاح دليلًا رائعًا على تغيُّر قلوب إخوة يوسُف.
- لم يستاؤوا عندما أُعطيَ بنيامين الحُصَّة الفُضلَى (تكوين ٣٤:٤٣).
- وَثِقوا ببعضهم البعض، غيرَ مُتَّهِمين بعضهم الآخَر بأيِّ خطأٍ عندما اتُّهِموا بسرقة الكأس (تكوين ٩:٤٤).
- لازَموا بعضهم البعض عندما اكتُشِفَت الكأس الفضِّيَّة. لم يتركوا الابن المفضَّل كي يعودَ وحيدًا إلى مصرَ (تكوين ١٣:٤٤).
- تواضَعوا بشكلٍ كاملٍ من أجل الابن المفضَّل (تكوين ١٤:٤٤).
- علِموا أنَّ مصيبتهم كانت نتيجةً لِخطيَّتهم الموجَّهة ضدَّ يوسُف (تكوين ١٦:٤٤).
- قدَّموا أنفسهم كعبيدٍ في مصرَ غير تاركين أخيهم بنيامين، الابن المفضَّل (تكوين ١٦:٤٤).
- أظهروا قلقًا بَيِّنًا بالنسبة إلى تأثير مجريات الأحداث على أبيهم (تكوين ٢٩:٤٤-٣١).
- كان يهوذا مُستعِدًّا أن يكون تضحيةً بديلة عن أخيه في ظاهرةِ محبَّةٍ مُوجَّهة نحو أبيه وإخوته (تكوين ٣٣:٤٤).