سفر التكوين – الإصحاح ٦
شرُّ الإنسان؛ يدعو الله نوح
أولًا. شرُّ الإنسان في أيَّام نوح
أ ) الآيات (١-٢): التَّزاوج بين أبناء الله و بنات الناس.
١ وَحَدَثَ لَمَّا ٱبْتَدَأَ ٱلنَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، ٢ أَنَّ أَبْنَاءَ ٱللهِ رَأَوْا بَنَاتِ ٱلنَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَٱتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا ٱخْتَارُوا.
- وَحَدَثَ لَمَّا ٱبْتَدَأَ ٱلنَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ: خلال تلك الأيَّام التي شهدت توسُّعًا سكَّانيًّا سريعًا (خصوصًا بسبب الأعمار الطويلة في عالَم ما قبل الطوفان)، كان هناك مُشكلة مع الزِّيجات الشرِّيرة بين أبناء الله و بنات الناس.
- أَنَّ أَبْنَاءَ ٱللهِ رَأَوْا بَنَاتِ ٱلنَّاسِ: كثيرون آمنوا أنَّ أبناء الله كانوا مُتحدِّرين من نسل شيث، و بنات الناس من نسل قايين، وهذا يمثِّل زيجاتٍ بين الأبرار والأشرار، شيئًا يُحرِّمه الله (تثنية ١:٧-٤؛ ٢ كورنثوس ١٤:٦).
- لكنَّ هذا النهج يترك العديد من الأسئلة من دون إجابة: لماذا أغضب هذا الأمر الله لدرجةٍ كافية لمحو كلِّ سكَّان الأرض تقريبًا؟ لماذا كان هناك شيءٌ غير اعتياديٍّ حول ذريَّة هذه الاتِّحادات (تكوين ٤:٦)؟ هذه الفكرة أنَّ المؤمنين (الأبرار) يتزوَّجون بغير المؤمنين (الأشرار) لا تبدو مُنسجِمة مع سجلِّ النص.
- أَنَّ أَبْنَاءَ ٱللهِ رَأَوْا بَنَاتِ ٱلنَّاسِ: إنَّه أكثر دقَّة أن نرى أبناء الله إمَّا أرواحًا شرِّيرة (ملائكة في عصيانٍ على الله) أو رجالًا فريدين مسكونين بالشياطين، وبنات الناس كنساءٍ بشريَّات.
- إنَّ العبارة أبناء الله تشير بوضوح إلى خلائق ملائكيَّة كما استُخدِمت في ثلاثة مواقع في العهد القديم (أيوب ٦:١، ١:٢، و٧:٣٨). ترجم مُترجمو النسخة السبعينيَّة أبناء الله كملائكة. كان هؤلاء المترجمون القدماء يعتقدون بوضوح أنَّ أبناء الله تعود إلى كائناتٍ ملائكيَّة، وليس إلى أُناسٍ تحدَّروا من شيث.
- يُخبرنا يهوذا ٦ قائلًا: وَٱلْمَلَائِكَةُ ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلَامِ. ويُتابع يهوذا (يهوذا ٧) ليقول لنا، كَمَا أَنَّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي حَوْلَهُمَا، إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِهِمَا، وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ، جُعِلَتْ عِبْرَةً، مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ. هنا في تكوين ٦، كما في سدوم وعمورة، كان هناك اتِّحادٌ جنسيٌّ غير طبيعيّ.
- من غير المجدي التكهُّن بطبيعة هذا الاتِّحاد. سواء كان نتيجةً لشيءٍ مثل السكنى بالشياطين، أو أنَّ كائناتٍ ملائكيَّة كان لها القدرة على أخذ أجساد بشريَّة، إلَّا أنَّ هذا لم يُعلَن لنا. لكن يجب أن نفهم أنَّ هذه الممارسة كانت مليئة بالعلاقات الجنسيَّة مع الشياطين، وهناك اليوم أولئك الَّذين يسعون جاهدين وراء هذه العلاقات.
- يوضِّح يهوذا ٦ أيضًا بصراحة ماذا فعل الله بهؤلاء الملائكة الأشرار. لقد حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلَامِ لأنَّهم لم يحفظوا رياستهم. فمَسعاهم الشرِّير للحريَّة قادهم إلى العبوديَّة.
- يُخبرنا ١ بطرس ١٩:٣-٢٠ أنَّ يسوع ذهب إلى هذه الأرواح العاصية في سجنها، وأعلن انتصاره عليها على الصليب.
- هناك اعتراضٌ قُدِّم على هذا المفهوم في متَّى ٣٠:٢٢، حيث نرى أنَّ يسوع يقول، لِأَنَّهُمْ فِي ٱلْقِيَامَةِ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلَائِكَةِ ٱللهِ فِي ٱلسَّمَاءِ؛ إلَّا أنَّ يسوع لم يقُل أبدًا أنَّ الملائكة ليس لهم جنس، كما وأنَّه كان يتكلَّم عن كائناتٍ ملائكيَّة أمينة (كَمَلَائِكَةِ ٱللهِ فِي ٱلسَّمَاءِ)، وليس عن الملائكة العصاة.
- من الكتاب الأوَّل لأخنوخ، غير المعترَف به كمُوحًى به كتابيًّا، يمكننا الإشارة إلى بعض الأحداث الدَّقيقة في هذا الإطار: “وحدث بعد هذا أنَّ أبناء الناس تكاثروا في تلك الأيَّام وأنجبوا بناتٍ حسناواتٍ وجميلات. والملائكة، أبناء السماء، رأوا واشتهوا هؤلاء النساء، وقالوا لبعضهم: ‘تعالوا، لنختار زوجاتٍ من بين بنات الناس وننجب أولادًا …’ (هم) أخذوا لأنفسهم زوجات وكلُّ واحدٍ اختار واحدة وبدأوا بالدخول عليهنَّ وتدنيسهنَّ وعلَّموهنَّ السحر والشعوذة … وحبلن وأنجبن جبابرة عظام … وازداد الشرُّ كثيرًا وارتُكِب الزنا وضلُّوا وفسدوا في كلِّ طرقهم.”
- فَٱتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا ٱخْتَارُوا: يمكننا الاستنتاج لماذا أرسل الشيطان ملائكته ليتزوَّجوا (بشكلٍ مباشر أو غير مباشر) بنساءٍ بشريَّات. حاول الشيطان تلويث الجينات البشريَّة بفساده، كأن يضع شيئًا كفيروسٍ جينيّ يجعلَ الجنس البشريّ غير صالحٍ لإنجاب نسل المرأة – المسيَّا – الموعود به في تكوين ١٥:٣.
- “لا يمكن للمخلِّص أن يولَد من أُمٍّ مسكونة بروحٍ شرِّير. لذلك، إذا استطاع الشيطان أن يُلوِّث الجنس البشريّ بأكمله، فلن يأتي المنقِذ” بويس (Boice)
- ونجح الشيطان تقريبًا. فالجنس البشريّ تلوَّث إلى درجةٍ كبيرة حتَّى أنَّ الله رأى من الضرورة البدء من جديد مع نوح وأبنائه، وسَجن الأرواح الشرِّيرة التي فعلت ذلك حتَّى لا يمكنها فعل ذلك مجدَّدًا.
ب) الآيات (٣-٤): ردُّ الله على الشرِّ العظيم.
٣ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: «لَا يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلْإِنْسَانِ إِلَى ٱلْأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً» .٤ كَانَ فِي ٱلْأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو ٱللهِ عَلَى بَنَاتِ ٱلنَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا، هَؤُلَاءِ هُمُ ٱلْجَبَابِرَةُ ٱلَّذِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ ذَوُو ٱسْمٍ.
- لَا يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلْإِنْسَانِ إِلَى ٱلْأَبَدِ: لم يسمح الله للجنس البشريّ بالبقاء في هذا المكان المتمرِّد إلى الأبد. يعني هذا أنَّه يوجد نقطة اللَّاعودة في رفضنا لله. لن يديننا الله إلى الأبد؛ تأتي ساعة يقول فيها ‘كفى، لا مزيد.’
- هذا حافزٌ قويٌّ لنا أن نقول عن اليوم أنَّه يومٌ لِنتجاوب فيه مع يسوع بدلًا من الانتظار يومًا آخَر. لا نمتلك وعدًا أنَّ الله سيعطينا فرصةً في يومٍ آخَر.
- وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً: ليس هذا هو عمر الإنسان وحياته بل الوقت المتبقِّي قبل دينونة الطوفان. حصل الطوفان ١٢٠ سنة بعد هذا الإعلان.
- كَانَ فِي ٱلْأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ: يشير هذا إلى جنسٍ غير طبيعيّ ناتج عن اتِّحاد أبناء الله مع بنات الناس، بالرغم من وجود أُناسٍ ذويّ أحجامٍ غير اعتياديَّة على الأرض قبل وبعد الطوفان (وما بعد ذلك أيضًا). كان هؤلاء قبل الطوفان فريدين بسبب وجود عنصرٍ شيطانيّ في جنسهم. كانوا ٱلْجَبَابِرَةُ ٱلَّذِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ ذَوُو ٱسْمٍ.
ج) الآيات (٥-٨): ردُّ الله على الشرِّ العظيم في أيام نوح
٥ وَرَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّ شَرَّ ٱلْإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي ٱلْأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ .٦ فَحَزِنَ ٱلرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ ٱلْإِنْسَانَ فِي ٱلْأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ .٧ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ ٱلْأَرْضِ ٱلْإِنْسَانَ ٱلَّذِي خَلَقْتُهُ، ٱلْإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، لِأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ». ٨ وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ.
- وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ: يقول لنا هذا الكثير. تعني هذه العبارة أنَّه لا يوجد أيُّ جانبٍ من طبيعة الإنسان لم يُفسَد بالخطيَّة.
- “أن تجد عبارةً أكثر تشديدًا على شرِّ قلب الإنسان، فَمِن الصعب استيعابها” فرزين (Vriezen)، مُقتبَس من كيدنر (Kidner).
- قال يسوع، وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ (متَّى ٣٧:٢٤). بكلماتٍ أخرى، ستكون أحوال العالَم قبل مجيء المسيح ثانيةً شبيهة بأحوال العالَم قبل الطوفان:
- انفجارٌ سكَّانيّ (تكوين ١:٦).
- انحرافٌ جنسيّ (تكوين ٢:٦).
- نشاطٌ شيطانيّ (تكوين ٢:٦).
- شرٌّ مُستدام في قلب الإنسان (تكوين ٥:٦).
- انتشارٌ واسع للفساد والعنف (تكوين ١١:٦).
- فَحَزِنَ ٱلرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ ٱلْإِنْسَانَ فِي ٱلْأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ: إنَّ حزنَ الله على الإنسان وأسَفَ قلبه بارزان. لا يعني هذا أنَّ الخليقة قد خرجت عن السيطرة، أو أنَّ الله كان يتمنَّى شيئًا أفضل لم يكن بمقدوره أن يُتمِّمه. عرف الله طوال الوقت أنَّ هذه هي الطريقة التي ستسير بها الأمور، لكنَّ النصَّ يقول بوضوح كما أنَّ الله يرى خطَّته للأجيال تتكشَّف، فهو يتأثَّر بها أيضًا. فالله ليس بجامدٍ أو غير مُتأثِّر بخطيَّة الإنسان وعصيانه.
- وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ: بينما أمر الله بتطهير كلِّ الأرض من الفساد، وجد رجلًا كي يبدأ معه مرَّةً أخرى: نُوحٌ الَّذي وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ. لم يجنِ نوح النعمة؛ بل وجدها. لا أحد يستطيع أن يجني النعمة، لكنَّنا نستطيع أن نجدها.
- كان صحيحًا يومها، وهو صحيحٌ اليوم: … وَلَكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدًّا (رومية٢٠:٥).
ثانيًا. يدعو الله نوح إلى بناء الفُلك
أ ) الآيات (٩-١٠): نوح وبنوه.
٩ هَذِهِ مَوَالِيدُ نُوحٍ: كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ. وَسَارَ نُوحٌ مَعَ ٱللهِ. ١٠ وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةَ بَنِينَ: سَامًا، وَحَامًا، وَيَافَثَ.
- كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ: لا يُشير هذا الوصف لِنوح – الخاصُّ به – فقط إلى حياته البارَّة، بل أيضًا إلى الحقيقة أنَّه لم يفسُد بمحاولة الشيطان أن يزرع شيئًا فيروسيًّا في جينات البشريَّة. يمكننا ترجمة كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ على الشكل التالي: ‘كان نوحٌ طاهرًا بهويَّته الجينيَّة.’
- “هل عاش نوح حياةً كاملة؟ كلَّا، إذا تكلَّمنا بشكلٍ عاديّ، وكما يتكلَّم الكتاب عادةً، يمكننا القول أنَّ شخصيَّة نوح كانت شخصيَّة بارَّة. كان لا بدَّ من وجود عيوبٍ فيها؛ وبكلِّ تأكيد، بعد هذا الوقت، كان هناك عيبٌ كبير مُحزِن، ليس بالضرورة أن نتكلَّم عنه الآن بشكلٍ خاص، وبالرغم من ذلك، نظر الله إليه كرجلٍ بار” سبيرجن (Spurgeon)
- أشار سبيرجن (Spurgeon) أنَّه يمكننا أن نعرف أنَّ نوح كان له برُّ الإيمان بسبب تقديمه للذبائح حالما توقَّفت الفيضانات وجفَّت اليابسة وترك الفُلك (تكوين ٢٠:٨).
- وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةَ بَنِينَ: سَامًا، وَحَامًا، وَيَافَثَ: يأتي أبناء نوح الثلاثة إلى المشهد بطريقةٍ مُهمَّة. سيستخدمهم الله كأساسٍ لسائر الجنس البشريّ.
ب) الآيات (١١-١٣): فساد الأرض ونعمة الله
١١ وَفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ أَمَامَ ٱللهِ، وَٱمْتَلَأَتِ ٱلْأَرْضُ ظُلْمًا .١٢ وَرَأَى ٱللهُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى ٱلْأَرْضِ. ١٣ فَقَالَ ٱللهُ لِنُوحٍ: «نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لِأَنَّ ٱلْأَرْضَ ٱمْتَلَأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ ٱلْأَرْضِ».
- وَفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ أَمَامَ ٱللهِ، وَٱمْتَلَأَتِ ٱلْأَرْضُ ظُلْمًا: بسبب الفساد والعنف اللَّذَين في الأرض ومدى الفساد، قال الله لنوح أنَّه سيدين الأشرار مع الأرض.
- فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ ٱلْأَرْضِ: يتساءل البعض عمَّا إذا كان هذا حكمًا قاسيًا جدًّا، أو إذا كان هذا يدل على أنَّ الله قاسٍ أو وحشٌ. مع ذلك، منذ السقوط في تكوين ٣، حمل كلُّ إنسانٍ بشريٍّ حكم الموت. إنَّ توقيت وطريقة ذلك الموت هما بيد الله بالكامل.
- “على أيِّ أساسٍ يمكن أن يُقال عن الله أنَّه يستطيع أن يجلب الموت للملايين من الناس في نهاية حياتهم ’الطبيعيَّة‘؟؛ لكن أليس من الممكن أن يفعلها بأيِّة طريقة أُخرى؟” بارنهاوس (Barnhouse)
- بالإضافة إلى ذلك، إنَّها تشير إلى عمق وجدِّيَّة المشكلة في العالَم في ذلك الوقت، وهو أمرٌ يفوق مشكلة المؤمنين الَّذين يتزوَّجون غير المؤمنين.
- فَقَالَ ٱللهُ لِنُوحٍ: أخبر الله نوح كلَّ هذا بقصد إنقاذه وعائلته. وفي وسط هكذا فسادٍ ودينونة، هناك أيضًا نعمة. وبدلًا من القضاء على الجنس البشريّ بأكمله، حَفِظ الله البقيَّة.
ج) الآيات (١٤-١٦): يقول الله لنوح أن يبنيَ فُلكًا.
١٤ اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ. تَجْعَلُ ٱلْفُلْكَ مَسَاكِنَ، وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِلٍ وَمِنْ خَارِجٍ بِٱلْقَارِ .١٥ وَهَكَذَا تَصْنَعُهُ: ثَلَاثَ مِئَةِ ذِرَاعٍ يَكُونُ طُولُ ٱلْفُلْكِ، وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ، وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا ٱرْتِفَاعُهُ .١٦ وَتَصْنَعُ كَوًّا لِلْفُلْكِ، وَتُكَمِّلُهُ إِلَى حَدِّ ذِرَاعٍ مِنْ فَوْقُ. وَتَضَعُ بَابَ ٱلْفُلْكِ فِي جَانِبِهِ. مَسَاكِنَ سُفْلِيَّةً وَمُتَوَسِّطَةً وَعُلْوِيَّةً تَجْعَلُهُ.
- اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ: يعني هذا أنَّه مشروع نوح. لم يكن ليُلزِّمهُ لأحدٍ آخَر بهذه البساطة.
- وَهَكَذَا تَصْنَعُهُ: كان الفُلك طويلًا بطول مبنًى مؤلَّف من ثلاثين طابقًا (حوالي ٤٥٠ قدَم أو ١٥٠ مترًا)، وكان حوالي ٧٥ قدمًا (٢٥ مترًا) عرضًا و ٤٥ قدمًا (١٥ مترًا) ارتفاعًا. فَما هو موصوفٌ هنا ليس سفينةً، بل بارجةً جيِّدة التَّهوية قُصِد منها أن تطفو لا أن تُبحِر إلى أيِّ مكانٍ آخر. وبعد هذا كلِّه، نستطيع أن نعتبِر أنَّ الفُلك هو بمثابة صندوق، وليس سفينة؛ يُشير هذا إلى شكل الفُلك القريب من علبة الأحذية.
- إنَّ الفُلك، تقريبًا بحجم هذه المقاييس، كان واسعًا كفاية (بحجم سفينة التيتانيك) وكان له فتحةٌ أو كوَّةٌ مُكعَّبة (١٨ إنشًا، نصف متر) في القسم العلويّ.
- لم تُبنَ سفينةٌ أكبر من الفُلك حتَّى سنة ١٨٥٨. كان الفلك حتمًا كبيرًا بشكلٍ كافٍ لكي يقوم بهذه المهمَّة. فإذا حمل الفُلك اثنين من كلِّ عائلات الحيوانات، فسيكون هناك حوالي ٧٠٠ من الأزواج؛ ولكن إذا حمل الفُلك اثنين من كلِّ فصائل الحيوانات، فسيكون هناك حوالي ٣٥،٠٠٠ زوجًا من الحيوانات.
- إنَّ معدَّل حجم الحيوان البريّ أصغر من الخروف. يمكن للفُلك أن يحمل ١٣٦،٥٦٠ خروفًا بنصف حمولته، تاركًا مساحةً كافية للناس وتخزين الطعام والماء، بالإضافة إلى ما يحتاجونه من مُستلزمات.
- وَتَصْنَعُ: لم يُخبِر الله نوحًا بعد لماذا ينبغي أن يبنيَ الفُلك. في هذه اللَّحظة، كلُّ ما كان يعرفه نوح هو أنَّ الله سيدين الأرض، وأنَّه مفترضٌ منه أن يبنيَ بارجة. وبما أنَّها لم تُمطِر بعد على الأرض، من المنطقيّ الإعتقاد بأنَّ نوح لم يعرف قصد الله بعد.
- وَهَكَذَا تَصْنَعُهُ: ونوحٌ صنعه بالفعل. إذا نظرنا إلى أبعدٍ من الكتاب المقدَّس، هناك دليلٌ تاريخيٌّ غنيٌّ لواقع وحقيقة فُلك نوح.
- في سنة ٢٧٥ ق.م.، كتب بيروسوس (Berosus)، وهو مُؤرِّخٌ بابليّ، التالي: “بالنسبة إلى تلك السفينة التي رست في أرمينيا، بعض أجزائها ما زال في الجبال … والبعض أخذ أجزاءً من السفينة عن طريقة قشطها.”
- حوالي سنة ٧٥ ميلاديّ، قال يوسيفوس (Josephus) أنَّ المحلِّيُّون جمعوا أجزاء من الفُلك وعرضوها حتَّى هذا اليوم. وقال أيضًا أنَّ المؤرِّخين القدامى الَّذين عرفهم كتبوا عن الفُلك.
- في سنة ١٨٠ ميلاديّ، كتب ثاوفيلس الأنطاكيّ (Theophilus of Antioch) التالي: “إنَّ بقايا ‘الفُلك’ هي إلى هذا اليوم منظورة … في الجبال.”
- قال رجلٌ أرمينيٌّ طاعنٌ في السنِّ أنَّه عندما كان صبيًّا، زار الفُلك مع أبيه وثلاثة عُلماء مُلحدين سنة ١٨٥٦. كان هدفهم دحض وجود الفُلك، لكنَّهم وجدوه واستشاطوا غضبًا محاولين تدميره، إلَّا أنَّهم لم يتمكَّنوا من ذلك لأنَّه كان كبيرًا ومُتحجِّرًا. وفي سنة ١٩١٨، اعترف واحدٌ من العلماء الملحدين (وهو إنكليزيّ) وهو على فراش الموت أنَّ كلَّ هذه القصَّة حقيقيَّة.
- في سنة ١٨٧٦، تسلَّق رجلٌ بريطانيٌّ وهو سياسيٌّ وكاتب، اسمه فيسكونت جيمس برايس (Viscount James Bryce)، جبل أراراط وأبلغ في تقريره عن اكتشافِه لقطعةٍ طولها ٤ أقدام من خشبٍ يدويّ على علوٍّ يناهز ١٣،٠٠٠ قدمٍ (٤٣٠٠ متر).
- ادَّعى ستَّة جنودٍ أتراك أنَّهم رأوا الفُلك سنة ١٩١٦.
- في الجزء الأوَّل من هذا القرن، ادَّعى طيَّارٌ روسيّ اسمه فلاديمير روكوفيتسكي (Vladimire Rokovitsky)، اكتشاف فُلك نوح. كان مركزه يقع في جنوب روسيَّا بالقرب من الحدود التركيَّة وجبل أراراط. وعندما كان يُجرِّب طائرةً ما، حلَّق هو والقبطان المرافق له فوق تلك البقعة في أراراط واكتشفا على حافَّة الوقع الجليديّ ما وصفاه بسفينةٍ بحجم سفينةٍ حربيَّة. قال أنَّها كانت غارقة بشكلٍ جزئيّ في بحيرة، وأنَّه يمكنه أن يرى فتحةً لبابٍ حجمها حوالي ٢٠ قدمًا مربَّعًا (٧ أمتار مربَّعة)، لكنَّ الباب كان مفقودًا. أخبر روكوفيتسكي الضابط المسؤول عنه وأُرسلت بعثة استكشافيَّة لإيجاد الفُلك وتصويره. أُرسِل التقرير إلى القيصر، الَّذي سرعان ما أُزيح عن العرش، أمَّا الصوَر والتقرير فاختفيا.
- في سنة ١٩٣٦، كان عالِم آثارٍ بريطانيّ صغيرٍ في السنِّ اسمه هاردويك نايت (Hardwicke Knight) ماشيًا عبر أراراط عندما اكتشف قطعًا خشبيَّة على علوٍّ يُناهز ١٤،٠٠٠ قدم (٤٦٠٠ متر).
- خلال الحرب العالميَّة الثانية، رأى طيَّاران شيئًا ما وصوَّرا ما اعتقداه بأنَّه الفُلك على جبل أراراط.
- كان هناك الكثير من المحاولات الحديثة الهادفة لإيجاد الفُلك وتوثيقه، لكنَّها عُرقِلت سياسيًّا وأُحيطت بالجدليَّة.
- وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِلٍ وَمِنْ خَارِجٍ بِٱلْقَارِ: يعمل ٱلْقَارِ كعازلٍ للخشب. أخبر الله نوحًا بأن يطليه بالقار مِنْ دَاخِلٍ وَمِنْ خَارِجٍ، ما سمح بحفظ الفُلك لمدَّة طويلة. من الممكن أنَّ الله ما زال له قصدٌ من الفُلك، لاستخدامه كي يُذكِّر العالَم بدينونةٍ سابقة قبل قدوم دينونةٍ مستقبليَّة.
- يربط الرَّسُول بطرس، في ٢ بطرس ١:٣-٧، دينونة المستقبل بدينونة الطوفان قائلًا، غير المؤمنين يَخْفَى عَلَيْهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ: أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ، وَٱلْأَرْضَ بِكَلِمَةِ ٱللهِ قَائِمَةٌ مِنَ ٱلْمَاءِ وَبِٱلْمَاءِ. ربَّما، قبل رجوع يسوع، سيجعل الله الناس أكثر جهلًا بإرادتهم.
- بسبب ذكر ٱلْقَارِ (وهي مادَّة بتروليَّة) في مكانٍ ما يعتقد الكثيرون من الناس أنَّه في منطقة الشرق الأوسط، يُقال أنَّ جون د. روكفيلر (John D. Rockefeller) بحث عن (ووجد) البترول في ذلك القطاع مُعتمِدًا على هذا العدد من سفر التكوين.
د ) الآيات (١٧-٢١): لماذا يجب أن يُبنى الفُلك وماذا ينبغي على نوح أن يفعله؟
١٧فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ ٱلْمَاءِ عَلَى ٱلْأَرْضِ لِأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ ٱلسَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِي ٱلْأَرْضِ يَمُوتُ. ١٨وَلَكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ ٱلْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَٱمْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. ١٩وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، ٱثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ تُدْخِلُ إِلَى ٱلْفُلْكِ لِٱسْتِبْقَائِهَا مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى. ٢٠مِنَ ٱلطُّيُورِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنَ ٱلْبَهَائِمِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنْ كُلِّ دَبَّابَاتِ ٱلْأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. ٱثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ تُدْخِلُ إِلَيْكَ لِٱسْتِبْقَائِهَا. ٢١وَأَنْتَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ وَٱجْمَعْهُ عِنْدَكَ، فَيَكُونَ لَكَ وَلَهَا طَعَامًا».
- كُلُّ مَا فِي ٱلْأَرْضِ يَمُوتُ: يُمكننا التَّعجُّب فقط مَّما شعر به نوح عندما سمع هذا الإعلان المميَّز من الله. استدعى الله نوحًا إلى دورٍ مفصليٍّ في أعظم دينونةٍ – وأعظم خلاصٍ – عرفهما العالم.
- وَلَكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ ٱلْفُلْكَ: بالرغم من قدوم هذه الدينونة الدراماتيكيَّة، سيقيم الله عهدًا مع نوح، وهو وعائلته سيخلصون. سيستخدم الله نوحًا أيضًا كي يُخلِّص بقيَّة الحيوانات حتَّى تمتلئ الأرض بالناس والحيوانات بعد الطوفان.
- وَأَنْتَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ وَٱجْمَعْهُ عِنْدَكَ، فَيَكُونَ لَكَ وَلَهَا طَعَامًا: أمر الله أيضًا نوح بأن يأخذ كلَّ ما يلزم من الطعام. لا بدَّ من وجود كمِّيَّاتٍ كبيرة من الطعام لنوح ولكلِّ الحيوانات.
هـ) الآية (٢٢): طاعة نوح.
٢٢ فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ ٱللهُ. هَكَذَا فَعَلَ.
- هَكَذَا فَعَلَ: عندما كُلِّف بالقيام بهذا العمل الصَّاعق، قام به نوحٌ. لا نسمعه يتذمَّر أو يثور؛ فقد أطاع ببساطة.
- إنَّ الكلمات، فَفَعَلَ … حَسَبَ، تغطِّي الكثير والكثير من المواد والسنوات؛ لكنَّ نوح لم يتقاعس عن عمل ما طلبه منه الله.
- فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ ٱللهُ: يُقدِّم الكتاب المقدَّس نوحًا كبطلٍ عظيم لله. لقد كان مثالًا بارزًا للبرِّ (حزقيال ١٤:١٤) وكارزًا للبرِّ (٢ بطرس ٥:٢) ومَن أدان العالم بتقديمه الخلاص بواسطة الفُلك الَّذي رفضه العالم أجمع (عبرانيِّين ٧:١١).
- كان نوحٌ كارزًا للبرِّ (٢ بطرس ٥:٢)، ومع استمرار خدمته ١٢٠ سنة، يبدو أنَّه لم يخلُص أحد.
- “كان عمل بناء الفلك شاقًّا ومُكلِفًا ومُتعِبًا وخطيرًا وبدا سخيفًا وهزليًّا؛ ذلك خصوصًا لأنَّ الأمور استمرَّت على ما هي من المكانة والأمان لسنينٍ طويلة؛ وكان نوح، القريب منهم، أضحوكةً هزليَّة وأُغنيةَ سكرهم. لذلك، لا غرابة البتَّة في أن يُذكَر هذا العمل كعملٍ بطوليٍّ في الإيمان” بوله (Poole)