سفر إرميا – الإصحاح ١
دعوة نبيٍّ مُتراخٍ
“لا يوجد بين أنبياء الشعب العبراني من هو أكثر بطولة من إرميا.” ج. كامبل مورجان (G. Campbell Morgan)
أولًا. حياة النبي إرميا وأزمنته
أ ) الآية (١): إرميا وخلفيته
١كَلَامُ إِرْمِيَا بْنِ حَلْقِيَّا مِنَ ٱلْكَهَنَةِ ٱلَّذِينَ فِي عَنَاثُوثَ فِي أَرْضِ بَنْيَامِينَ.
١. كَلَامُ إِرْمِيَا: يبدأ هذا مجموعة مذهلة من الكتابة الموحى بها على فم النبي إرميا. وكانت خدمته التي استمرت أربعين سنة عرضًا رائعًا للإخلاص والشجاعة في وجه الإحباط والمقاومة العظيمين والثمار الصغيرة.
• إِرْمِيَا: “المعنى الدقيق لهذا الاسم غير معروف، لكن توجد تفسيرات مقترحة تشمل ’الرب يؤسس،‘ و’الرب يعظّم،‘ و’الرب يرمي (يطرح أرضًا)‘.” هاريسون (Harrison)
• “كان اسم إرميا شائعًا في يهوذا. وهو يَرِد عدة مرات في العهد القديم. وفي زمن داود، كان هنالك شخصان أو ثلاثة بين جبابرة داود باسم إرميا (١ أخبار ١٢: ٤، ١٠، ١٣).” ثومبسون (Thompson)
٢. ٱلَّذِينَ فِي عَنَاثُوثَ: بما أن إرميا كان يتنمي إلى عائلة كهنوتية، كان أمرًا منطقيًا أن تسكن عائلته في عناثوث، وهي قرية صغيرة تبعد حوالي ٣ أميال عن أورشليم. وكانت تقع في أرض بنيامين، لكنها أُعطِيتْ كمدينة كهنوتية (يشوع ٢١: ١٨).
• “من موقع عناثوث المتميز، يمكن للمرء أن يرى أسوار أورشليم. فلم يترعرع إرميا في المدينة العظيمة، بل على مرأى منها.” ثومبسون (Thompson)
ب) الآيات (٢-٣): أزمنة إرميا
٢ٱلَّذِي كَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ يُوشِيَّا بْنِ آمُونَ مَلِكِ يَهُوذَا، فِي ٱلسَّنَةِ ٱلثَّالِثَةِ عَشْرَةَ مِنْ مُلْكِهِ. ٣وَكَانَتْ فِي أَيَّامِ يَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، إِلَى تَمَامِ ٱلسَّنَةِ ٱلْحَادِيَةِ عَشْرَةَ لِصِدْقِيَّا بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، إِلَى سَبْيِ أُورُشَلِيمَ فِي ٱلشَّهْرِ ٱلْخَامِسِ.
١. ٱلَّذِي كَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيْهِ: رغم أن هذا السفر يحتوي على كلام إرميا، إلا أنه في الوقتِ نفسه كلمة الرب. فهذه النبوة، شأنها شأن كل كلمة الله الموحى بها، كلمة الإنسان وكلمة الرب معًا. فهي كلمة الرب الموحى بها والمعصومة من الخطأ، لكنها تأتي من خلال شخصية إنسان.
• عندما يستخدم الله شخصًا، فإنه لا يمحو شخصيته. بل يريد أن يستخدم شخصية هذا الشخص المقدَّسة. “أراد الله رجلًا ذا قلب رقيق وحنون جدًّا لخدمة الإدانة غير المجزية هذه. وتُظهر مهنة إرميا اللاحقة أنه كان يتمتع بهذه الصفة إلى أقصى حد.” كوندال (Cundall)
٢. فِي أَيَّامِ يُوشِيَّا: كان يوشيا واحدًا من أفضل ملوك يهوذا، حيث كان متحمسًا لإجراء إصلاحات شاملة. وحسب ٢ أخبار الأيام ٣٤: ٣، كان في السنة الثامنة من حكمه عندما طلب الرب. وبعد سنوات، شنّ حملة شرسة لتطهير إسرائيل من عبادة الأوثان، والعودة إلى الرب.
• دعا الله هذين العملاقين – يوشيا وإرميا – ليخدماه وشعبه في الوقت نفسه. ودعم أحدهما الآخر. ورغم أنهما لم يتركا وراءهما يهوذا محوَّلةً بشكل دائم، إلا أنهما خدما الرب بأمانة، وأزالا كل عذر أمام دينونة الله التي حلّت عليها في نهاية الأمر من خلال السبي البابلي.
٣. يُوشِيَّا… يَهُويَاقِيمَ… صِدْقِيَّا: في هذا التسلسل لملوك يهوذا، أغفل إرميا بعضهم (يهوآحاز، في ٢ أخبار الأيام ٣٦: ١-٢، ويهوياكين، في ٢ أخبار الأيام ٣٦: ٨-٩).
• “يرجح أنه تم إغفال يهوآحاز ويهوياكين في هذه الآية، لأن فترة حكمهم كانت قصيرة، حيث امتدث ثلاثة أشهر فقط.” هاريسون (Harrison)
٤. إِلَى سَبْيِ أُورُشَلِيمَ فِي ٱلشَّهْرِ ٱلْخَامِسِ: في واقع الأمر، تتناول أجزاء من هذا السفر الفترة التالية من السبي (إرميا ٤٤). غير أن هذا كان مجرد تذييل (ملاحظة لاحقة) لسقوط أورشليم الكارثي.
ثانيًا. دعوة النبي إرميا وإعداده
أ ) الآيات (٤-٥): دعوة الله لإرميا
٤فَكَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلًا: ٥”قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ.”
١. فَكَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيَّ: حدثت لإرميا مواجهة شخصية مع الرب. وعلى ما يبدو أنه نشأ في بيت كهنوتي تقي، غير أنه اختبر لقاء شخصيًّا بالله وكلمته.
• تتضمن كل نبوّات إرميا الكثيرة أصداء وتلميحات كثيرة لأنبياء إسرائيل السابقين، ولهذا يبدو أنه نشأ على معرفة كلمة الله في صباه. “تشكلت حياته المستقبلية وفكره إلى حد بعيد من خلال معرفته بأقوال أنبياء القرن الثامن قبل الميلاد، مثل عاموس، وهوشع، وإشعياء، وربما بأقوال إيليا وأليشع وحياتهما أيضًا.” هاريسون (Harrison)
٢. قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ… جَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ: كان إرميا صغيرًا بالفعل، لكن الله أراده أن يعرف أن دعوته تتجاوز صِغر سنه. فقد وُجِدت في ذهن الله وخطته فبل أن يوجد في رحم أمه. وقد أخبر الرب إرميا هذا لكي يسلك في خطة الله المرسومة سابقًا حسب إرادته.
• لم تُعط هذه المعلومات لإرميا لكي يُرضي فضوله، أو ليثيره، أو ليسلّيه. بل أُعطِيت لكي يعرف إرادة الله، ويتشجع بهذا، وبالتالي يتماشى مع إرادة الله المعلَنة.
• “تحدث الرسول بولس عن دعوته للكرازة بالإنجيل للأمم بتعابير مماثلة (غلاطية ١: ١٥-١٦).” كلارك (Clarke)
• تقول الأساطير اليهودية القديمة إن إرميا سُمّي بهذا الاسم لأنه وُلِد مختونًا، وأنه خرج من رحم أمه وهو يتنبّا. وتقول الأسطورة إنه اشتكى عند خروجه من رحم أمه من عدم وفائها. وعندما احتجت على قوله هذا، كان عليه أن يشرح أن ’الأم‘ المقصودة هي مدينة أورشليم.
٣. نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ: كان تركيز إرميا منصبًّا على يهوذا في العقود الأخيرة قبل أن يغزوها البابليون. ومع ذلك، لم يكن عمله كنبي مقصورًا على يهوذا، بل امتد للشعوب أيضًا، ولنا نحن اليوم.
• “في هذا الصدد، عُيّن إرميا نبيًّا لخدمة على نطاق عالمي. ويدحض هذا فكرة أن عمل خدام الله كان دائمًا إقليميًّا. فالله هو رب الشعوب.” فينبيرغ (Feinberg)
ب) الآيات (٦-١٠): اعتراض إرميا واستجابة الله لهذا الاعتراض
٦فَقُلْتُ: «آهِ، يَا سَيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لَا أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لِأَنِّي وَلَدٌ». ٧فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: «لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، لِأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ. ٨لَا تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لِأَنِّي أَنَا مَعَكَ لِأُنْقِذَكَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ». ٩وَمَدَّ ٱلرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: “هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلَامِي فِي فَمِكَ. ١٠اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هَذَا ٱلْيَوْمَ عَلَى ٱلشُّعُوبِ وَعَلَى ٱلْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ.”
١. آهِ، يَا سَيِّدُ ٱلرَّبُّ: يترجِم هذا تعبيرًا عن شعور عميق، رغم أن المعنى يصعب شرحه بدقة في لغتنا.
٢. إِنِّي لَا أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لِأَنِّي وَلَدٌ: يرجح أن إرميا كان بين ١٧ و ٢٠ عامًا من عمره في ذلك الوقت. وعلى ما يبدو أنه أحس بأن صغر عمره سيمنعه من أن يكون رسولًا جيدًا أو موثوقًا لكلمة الله.
• كان إرميا، على نقيض موسى الذي بدت احتجاجاته بعدم الكفاية جوفاء نوعًا ما، صغيرًا وعديم الخبرة.” كيدنر (Kidner)
٣. لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ: رغم أن احتجاج إرميا كان صحيحًا، إلا أنه لم يكن ذا صلة. فلم يُرد الله أن يسمع هذا المنطق، ولم يُرد لإرميا أن يقوله. إذ يصر الله على حقه في دعوة الشباب واستخدامهم إذا كانوا مستعدين للاستماع إلى دعوته والتجاوب معها.
• لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ: لأن الله استخدم داود عندما كان صغيرًا. فعندما كان داود صبيًّا، خدم أباه بأمانة في رعاية مواشيه، وقتل أسدًا ودبًّا ليحمي قطيعه، وقتل جليات، وخدم الملك شاول، وكان آمرًا في جيش إسرائيل.
• لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ: لأن الله ملأ يوحنا المعمدان بالروح القدس وهو في رحم أمه (لوقا ١: ١٥). ولستَ أصغر من أن تُملأ بروح الله بقوة عظيمة.
• لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ: لأن الله استخدم تيموثاوس عندما كان صغير السن. وقال له على لسان الرسول بولس: لَا يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ: “فِي ٱلْكَلَامِ، فِي ٱلتَّصَرُّفِ، فِي ٱلْمَحَبَّةِ، فِي ٱلرُّوحِ، فِي ٱلْإِيمَانِ، فِي ٱلطَّهَارَةِ” (١ تيموثاوس ٤: ١٢).
• لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ: لأن الله استخدم هدسون تايلور (Hudson Taylor) عندما كان صغيرًا، فعندما كان في السابعة عشرة من عمره، تجرَّأ أن يطلب الله، واستسلم لمشيئته بشكل كلي. وأحس فورًا بانطباع واضح بأن الله أراده أن يكون مرسَلًا إلى الصين. وبدأ الإعداد للحقل الإرسالي من خلال حياة الإيمان التي أرادها في الحقل الإرسالي، والتي كان يعيشها في إنجلترا. وعندما كان في الثانية والعشرين، كان قد وصل إلى شنغهاي.
• لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ: لأن الله استخدم جي. إدوين أور عندما كان شابًّا. لقد وُلد ونشأ في بلفاست، آيرلندا. وفي الحادية والعشرين من عمره، ترك وظيفته جيدة الأجرة في منتصف فترة الكساد العظيم لكي يتجول في بريطانيا العظمى على دراجته الهوائية ليخبر أي شخص مستعد للاستماع إليه عن الانتعاش. اتكل أور على الله في تدبير احتياجاته واحتياجات أمه الأرملة. وفعل الرب هذا بشكل مجيد. وكان هذا ١٠.٠٠٠ ميل من المعجزات عبر بريطانيا العظمى. وكتب كتابًا شعبيًّا عن مغامراته في الإيمان.. كان شعبيًّا جدًّا حتى إن بعض مجموعات الشباب حظرت الكتاب خوفًا من أن يركب شبابهم دراجاتهم الخاصة ويتجولوا مثله من دون أن يكون الله قد دعاهم حقًّا.
٤. لِأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ: تكلم الله إلى إرميا بتشجيع وإقناع معًا. لقد احتج إرميا قائلًا إنه لا يستطيع الذهاب بسبب حداثته، لكن الله قال له ’(سوف) تذهب.‘
• وفي وقت لاحق، تذكَّر إرميا إحجامه الأوّليّ: “أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَعْتَزِلْ عَنْ أَنْ أَكُونَ رَاعِيًا وَرَاءَكَ، وَلَا ٱشْتَهَيْتُ يَوْمَ ٱلْبَلِيَّةِ. أَنْتَ عَرَفْتَ. مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ كَانَ مُقَابِلَ وَجْهِكَ” (إرميا ١٧: ١٦).
• رغم أن إرميا كان مترددًّا، لكنه لم يستطع أن يحجم: فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ مَحْصُورَةٍ فِي عِظَامِي، فَمَلِلْتُ مِنَ ٱلْإِمْسَاكِ وَلَمْ أَسْتَطِعْ” (إرميا ٢٠: ٩).
٥. لَا تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لِأَنِّي أَنَا مَعَكَ لِأُنْقِذَكَ: كان لدى إرميا سببان يدفعانه إلى الخوف. أولًا، كان صغير السن. ثانيًا، كانت رسالته صعبة الاستماع. لكن حضور الله معه كان أعظم من هذين السببين.
• “ربما ارتكز تراخيه على مشاعر شخصية بعدم الكفاية عندما وُوجِه بمهمة شبه ميؤوس منها في دعوة يهوذا المرتدة إلى حالة التوبة الحقيقية. وما زاد الطين بِلّة هو أنه مُنِع في مرحلة مبكرة من خدمته من الزواج (١٤: ١-٤). وأوضحت الأسباب المشؤومة المقدمة أكثر من أي وقت مضى أن يهوذا كانت تحت الدينونة الإلهية.” هاريسون (Harrison)
• “لقد أحجم عن عمله مرارًا وتكرارًا. فعانى بشدة، لا من اضطهاد خصومه، لكن في نفسه، وفي شركته مع الله ومع أمّته. وكان محتاجًا إلى طعام إلهي خاص جدًّا.” مورجان (Morgan)
• أَنَا مَعَكَ: “لن أرسلك كما يرسل الملوك الآخرون سفراءهم فحسب، بل سأذهب معك أيضًا.” بوله (Poole)
٦. وَمَدَّ ٱلرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي: رأى إرميا الله وهو يلمسه بهذه الطريقة الشخصية. وكما لمس الرب إشعياء عند دعوته إلى منصب النبي، لمس فم إرميا، لكن بطريقة مختلفة.
٧. قَدْ وَكَّلْتُكَ هَذَا ٱلْيَوْمَ عَلَى ٱلشُّعُوبِ وَعَلَى ٱلْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ: لم يكن إرميا كشاب مرشَّحًا محتملًا لمثل هذه الخدمة، لكن الله عرف أن إرميا كان يمتلك الشخصية والمعدن الأخلاقي اللذين يمكّنانه من تحقيق هذه الدعوة مع مرور الزمن.
• حدد تفويض إرميا نمط دعوته بأفعالها الأربعة الدالة على الهدم، وفعلين دالّين على التجديد.” كيدنر (Kidner)
• “فعل إرميا القليل نسبيًّا من هذا الوعظ البنّاء، وقدرًا كبيرًا من الوعظ الهدّام.” ثومبسون (Thompson)
• “كما يتكلم إشعياء عن خلاص الرب، ويتكلم حزقيال عن مجد الرب، كذلك يعلن إرميا باستمرار دينونة الرب.” فينبيرج (Feinberg)
٨. قَدْ وَكَّلْتُكَ هَذَا ٱلْيَوْمَ: “دُعي إرميا على نحو مؤكد، لكنه لم يحقق دعوته في سنته الأولى، أو حتى في سنواته العشر الأولى. وإذا أُخذت خدمته التي امتدت على مدى أربعين عامًا معًا، فقد حققت دعوة الله.
• كانت الفترة الأولى من خدمة إرميا تحت حماية الملك التقي يوشيا الذي استغلّ الاضطراب بين القِوى العظمى المحيطة (مثل أشور وبابل ومصر) لإصلاح الأمّة وإعادتها إلى الرب. وأثناء هذه الفترة، ذهب إرميا في جولة كرازية عبر مدن يهوذا وشوارع أورشليم (إرميا ١١: ٦). لكن لم يبدُ أن قلوب الشعب قد تغيرت في ذلك الوقت. لقد كرز مدة ٢٣ سنة، لكن لم يبدُ أن أحدًا سمع له (إرميا ٢٥: ٣). بل واجه تهديدات كثيرة على حياته (إرميا ١١: ١٩؛ ١٢: ٦).
• بعد موت الملك يوشيا، ساءت الأمور. إذ قرأ إرميا مخطوطة من نبواته التي جمعها على الملك الجديد يهوياقيم، فأخذ الملك المخطوطة، ومزّقها إربًا، وألقى بها في النار (إرميا ٣٦: ٢٢-٢٣). في تلك الفترة، تم تقييد إرميا وجلده (إرميا ٢:٢٠)، وبالكاد نجا من الموت (إرميا ٢٦: ١٠-١١).
• كان أصعب مواسمه في عهد ملك آخر، وهو صدقيا الذي نصّبه البابليون على العرش، لكنه لم يستمر في طاعته لهم. فجلب له رسالة من الله بدت جنونًا لجيله. كانت الرسالة أن الدينونة القادمة من خلال البابليين حتمية، وأن عليهم أن يستعدوا لها أو أن يخضعوا لبابل. وكتب إرميا إلى المسبيين بالفعل في بابل، وطلب منهم أن يستعدوا للبقاء ٧٠ عامًا هناك، وأن يتخذوا موقفًا مسالمًا تجاه بابل (إرميا ٢٩: ٧، ١٠). فعُدَّ إرميا خائنًا وسُجن (إرميا ٣٧: ١١-١٦).
ج) الآيات (١١-١٢): أول درس لإرميا في تدريبه كنبي
١١ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلًا: «مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ يَا إِرْمِيَا؟» فَقُلْتُ: «أَنَا رَاءٍ قَضِيبَ لَوْزٍ». ١٢فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: “أَحْسَنْتَ ٱلرُّؤْيَةَ، لِأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لِأُجْرِيَهَا.”
١. مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ: تلقّى إرميا رسالة ليتكلم بها، لكن قبل هذا، كان عليه أن يرى شيئًا.
• “قبل أن تترك انطباعًا في قلب شخص آخر، لا بد أن يكون لديك انطباع في روحك. إذ يتوجب عليك أن تقول، في ما يتعلق بالحق، ’أنا أراه!‘ قبل أن تتكلم عنه لكي يراه السامعون أيضًا.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. قَضِيبَ لَوْزٍ: لم يفهم أنه كان قضيب (غصن) فقط، لكنه كان دقيق الملاحظة بما يكفي ليعرف أنه قَضِيبَ لَوْزٍ.
• “ما زالت عناثوث حتى يومنا هذا مركزًا لزراعة اللوز. ويرى الزائر الحديث لهذه المنطقة في أوائل الربيع مشهدًا خالدًا لا يُنسى لأشجار اللوز وهي تتفتح.” ثومبسون (Thompson)
• “كان هذا أول درس لإرميا الشاب في الملاحظة النبوية. وكان الدرس بسيطًا. ربما ظننّا أنه، كإعداد لعمله النبوي، سيرى بكرات غامضة ممتلئة بالعيون، أو ملائكة سرافيم أو كروب متقدة، أو الكائنات الجديدة التي ظهرت في أحلام حزقيال ورؤيا يوحنا. وبدلًا من هذا، رأى إرميا قضيب لوز. أيها الأصدقاء المحبوبون، عندما تدرسون الكتاب المقدس، سترون أشياء بسيطة جدًّا.” سبيرجن (Spurgeon)
• كانت دلالة قضيب اللوز مهمة من ناحيتين. أولًا، كان اللوز معروفًا كأول شجرة تبرعم في الربيع. ويشير هذا إلى أن الله كان مستعدًّا لإتمام كلمته بسرعة، تمامًا كما تبدو شجرة اللوز جاهزة للتبرعم.
• ثانيًا، الكلمة العبرية المترجمة إلى ’لوز‘ قريبة ومسشتقة من الكلمة العبرية المترجمة إلى ’ساهر‘ أو ’يقظ.‘ وتُستخدم هذه الكلمة في استجابة لإرميا. “تتضمن هذه الآيات تلاعبًا بالكلمات لا يظهر عند الترجمة، لكنه حيوي لقوة الرؤية. فالكلمة العبرية التي تشير إلى شجرة اللوز هي Saqed والله ساهر Soqed على كلمته ليُجريها.” فينبيرغ (Feinberg)
د ) الآيات (١٣-١٦): درس إرميا الثاني في تدريبه كنبي
١٣ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيَّ ثَانِيَةً قَائِلًا: «مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ؟» فَقُلْتُ: «إِنِّي رَاءٍ قِدْرًا مَنْفُوخَةً، وَوَجْهُهَا مِنْ جِهَةِ ٱلشِّمَالِ». ١٤فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: «مِنَ ٱلشِّمَالِ يَنْفَتِحُ ٱلشَّرُّ عَلَى كُلِّ سُكَّانِ ٱلْأَرْضِ. ١٥لِأَنِّي هَأَنَذَا دَاعٍ كُلَّ عَشَائِرِ مَمَالِكِ ٱلشِّمَالِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، فَيَأْتُونَ وَيَضَعُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُرْسِيَّهُ فِي مَدْخَلِ أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ، وَعَلَى كُلِّ أَسْوَارِهَا حَوَالَيْهَا، وَعَلَى كُلِّ مُدُنِ يَهُوذَا. ١٦وَأُقِيمُ دَعْوَايَ عَلَى كُلِّ شَرِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَبَخَّرُوا لِآلِهَةٍ أُخْرَى، وَسَجَدُوا لِأَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ.
١. إِنِّي رَاءٍ قِدْرًا مَنْفُوخَةً (تغلي)، وَوَجْهُهَا مِنْ جِهَةِ ٱلشِّمَالِ: الفكرة هي أن هنالك مرجلًا (قِدرًا) يغلي وفتْحتُه موجهة نحو الجنوب. وهذه صورة حية للدمار والدينونة اللذين سينسكبان على يهوذا من الشمال (مِنَ ٱلشِّمَالِ يَنْفَتِحُ ٱلشَّرُّ عَلَى كُلِّ سُكَّانِ ٱلْأَرْضِ).
• أظهر المفسر البيوريتاني القديم جون تراب كيف أن يكون النهج المجازي للكتاب المقدس خطأ، حيث يذكر تفسيرًا لكاتب قديم اسمه جريجوريوس: يعطي جريجوريوس بُعدًا أخلاقيًّا للنص. “عقل الإنسان هو المرجل الذي يشعله إبليس من الشمال بالنار، فيلتهب بالشهوات الشريرة، ثم يقيم عرشه هناك.”
٢. فَيَأْتُونَ وَيَضَعُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُرْسِيَّهُ فِي مَدْخَلِ أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ: رأى إرميا نبويًّا ملوكًا أجنبيين يسيطرون على أورشليم ويذلّونها.
• “بما أن أبواب المدن أماكن لإقامة العدل فيها، يمثَّل أعداء أورشليم على أنهم احتلوا الأرض كلها، وتولّوا زمام الحكم، ووضعوا البلاد كلها تحت قوانينهم الخاصة، حيث لا يعود لليهود أية سلطة سياسية. إذ سيخضعهم أعداؤهم بشكل كامل.” كلارك (Clarke)
٣. لِأَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَبَخَّرُوا لِآلِهَةٍ أُخْرَى، وَسَجَدُوا لِأَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ: السبب الرئيسي للدينونة القادمة هي عبادة يهوذا المزمنة للأوثان.
هـ) الآيات (١٧-١٩): الله يأمر إرميا أن يكون ثابتًا في وجه المقاومة القادمة.
١٧أَمَّا أَنْتَ فَنَطِّقْ حَقْوَيْكَ وَقُمْ وَكَلِّمْهُمْ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ. لَا تَرْتَعْ مِنْ وُجُوهِهِمْ لِئَلَّا أُرِيعَكَ أَمَامَهُمْ. ١٨هَأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُكَ ٱلْيَوْمَ مَدِينَةً حَصِينَةً وَعَمُودَ حَدِيدٍ وَأَسْوَارَ نُحَاسٍ عَلَى كُلِّ ٱلْأَرْضِ، لِمُلُوكِ يَهُوذَا وَلِرُؤَسَائِهَا وَلِكَهَنَتِهَا وَلِشَعْبِ ٱلْأَرْضِ. ١٩فَيُحَارِبُونَكَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ، لِأَنِّي أَنَا مَعَكَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، لِأُنْقِذَكَ.
١. أَمَّا أَنْتَ فَنَطِّقْ حَقْوَيْكَ وَقُمْ: رأى إرميا الرؤيتين وفهمهما بشكل سليم. ورأى الله أن النبي كان مستعدًّا للانطلاق (مع إعداد إضافي) ليتكلم (بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ).
٢. لَا تَرْتَعْ مِنْ وُجُوهِهِمْ لِئَلَّا أُرِيعَكَ أَمَامَهُمْ: أعطى الله إرميا القدرة اللازمة، لكن كان على النبي أن يسلك فيها. فإن لم يفعل هذا، وإذا سمح لنفسه بأن يرتعب أمام وجوههم، فسيريعه الرب أمام الذين خافهم.
٣. هَأَنَذَا قَدْ جَعَلْتُكَ ٱلْيَوْمَ مَدِينَةً حَصِينَةً وَعَمُودَ حَدِيدٍ وَأَسْوَارَ نُحَاسٍ: من المؤكد أن إرميا لم يحس بأنه مدينة محصّنة وعامود حديد، لكن كلمة الله حقّة، وكان على إرميا أن يصدّقها ويتصرف بموجبها.
٤. فَيُحَارِبُونَكَ: ثبت صدق هذا الوعد، كما صدق الجانب الآخر منه. فلم يَقوَ أعداء إرميا عليه. فقد خدم بتميُّز عبر محن وتجارب عظيمة على مدى ما يزيد عن أربعين عامًا.
“بالنسبة لهذا الشاب ذي البشرة الرقيقة، ربما بدا وصف كلمة الله له بمصطلحات المعارك والمعدن الثقيل مبالغة شديدة. لكنه أثبت أن هذه الأوصاف أقل مما هو عليه بالفعل. إذ سيصمد أمام كل الآتين عليه لأكثر من ٤٠ عامًا، قاهرًا كل حصن تحت الحصار.” كيدنر (Kidner)