سفر إرميا – الإصحاح ٦
ملء سخط الرب
أولًا. تحذيرات بالدينونة
١ ) الآيات (١-٥): كارثة من الشمال
١اُهْرُبُوا يَا بَنِي بَنْيَامِينَ مِنْ وَسْطِ أُورُشَلِيمَ، وَٱضْرِبُوا بِٱلْبُوقِ فِي تَقُوعَ، وَعَلَى بَيْتِ هَكَّارِيمَ ٱرْفَعُوا عَلَمَ نَارٍ، لِأَنَّ ٱلشَّرَّ أَشْرَفَ مِنَ ٱلشِّمَالِ وَكَسْرٌ عَظِيمٌ. ٢اَلْجَمِيلَةُ ٱللَّطِيفَةُ ٱبْنَةُ صِهْيَوْنَ أُهْلِكُهَا. ٣إِلَيْهَا تَأْتِي ٱلرُّعَاةُ وَقُطْعَانُهُمْ. يَنْصِبُونَ عِنْدَهَا خِيَامًا حَوَالَيْهَا. يَرْعَوْنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ». ٤«قَدِّسُوا عَلَيْهَا حَرْبًا. قُومُوا فَنَصْعَدَ في ٱلظَّهِيرَةِ. وَيْلٌ لَنَا لِأَنَّ ٱلنَّهَارَ مَالَ، لِأَنَّ ظِلَالَ ٱلْمَسَاءِ ٱمْتَدَّتْ. ٥قُومُوا فَنَصْعَدَ في ٱللَّيْلِ وَنَهْدِمَ قُصُورَهَا.
١. يَا بَنِي بَنْيَامِينَ: بدأت مملكة يهوذا الجنوبية عندما بقي سبطا يهوذا وبنيامين مخلصين لسلالة داود الحاكمة في أيام رحبعام ويربعام (١ ملوك ١٢). وبسبب مكانة سبط بنيامين في هذه المملكة، كان يشار إليها على أنها بنيامين.
• “يعود سبب ذكر سبط بنيامين هنا إلى أن أورشليم كانت تقع جغرافيًّا في أرض بنيامين. وفضلًا عن ذلك، كان إرميا بنياميًّا، وكانت لديه روابط قوية مع رجال سبطه.” فينبيرغ (Feinberg)
٢. اُهْرُبُوا يَا بَنِي بَنْيَامِينَ مِنْ وَسْطِ أُورُشَلِيمَ: كانت الفكرة هي أن جيشًا سيأتي لمحاصرة عاصمة المملكة الجنوبية، وأن على الأشخاص الحكماء بما يكفي لرؤية ذلك أن يهربوا من المدينة قبل وصول ذلك الجيش واحتلاله أورشليم.
• ذُكرت إشارات النار على نحو محدد في رسائل لخيش التي وثّقت الغزو البابلي في نهاية المطاف. “كان استخدام مثل هذه الإشارات طريقة قديمة للاتصال العسكري في بلاد ما بين النهرين.” هاريسون (Harrison)
٣. اَلْجَمِيلَةُ ٱللَّطِيفَةُ ٱبْنَةُ صِهْيَوْنَ: أحبت يهوذا أن تفكر أنها جميلة ولطيفة. غير أن المرأة الجميلة اللطيفة لا تستطيع أن تقف أمام جيش غازٍ. إذ لن تكون بهذه الصفة ملائمة بشكل رهيب للتصدي أمام الغزو القادم.
• “يسوق الرعاة (وهذا وصف للغزاة – انظر إرميا ١٢: ١٠) قطعانهم من الجنود متلهفين إلى التغذّي على غنى تلك المنطقة.” هاريسون (Harrison)
• قَدِّسُوا عَلَيْهَا حَرْبًا: توحي الكلمة العبرية Qaddesu بطقوس دينية تحضيرية تسبق معركة في العادة القديمة للحرب المقدسة.” ثومبسون (Thompson)
٤. وَيْلٌ لَنَا لِأَنَّ ٱلنَّهَارَ مَالَ، لِأَنَّ ظِلَالَ ٱلْمَسَاءِ ٱمْتَدَّتْ: ذكّر الله يهوذا بأن الوقت آخذ في النفاد. ورغم أن الدينونة هذه لن تأتي إلا بعد سنوات كثيرة، إلا أن نقطة رجحان الكفة كانت أقرب بكثير مما اعتقدوا. إذ سيأتي الجيش البابلي عما قريب إلى أورشليم ويدمرها.
٥. فَنَصْعَدَ في ٱللَّيْلِ: كان الغزاة القادمون متعجلين من أمرهم حتى إنهم سيهاجمون ليلًا من دون انتظار طلوع النهار.
ب) الآيات (٦-٨): الحصار على أورشليم
٦لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: ٱقْطَعُوا أَشْجَارًا. أَقِيمُوا حَوْلَ أُورُشَلِيمَ مِتْرَسَةً. هِيَ ٱلْمَدِينَةُ ٱلْمُعَاقَبَةُ. كُلُّهَا ظُلْمٌ فِي وَسَطِهَا.٧ كَمَا تُنْبِعُ ٱلْعَيْنُ مِيَاهَهَا، هَكَذَا تُنْبِعُ هِيَ شَرَّهَا. ظُلْمٌ وَخَطْفٌ يُسْمَعُ فِيهَا. أَمَامِي دَائِمًا مَرَضٌ وَضَرْبٌ. ٨تَأَدَّبِي يَا أُورُشَلِيمُ لِئَلَّا تَجْفُوَكِ نَفْسِي. لِئَلَّا أَجْعَلَكِ خَرَابًا، أَرْضًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.
١. قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: ٱقْطَعُوا أَشْجَارًا. أَقِيمُوا حَوْلَ أُورُشَلِيمَ مِتْرَسَةً: فهم وشرح إرميا أن حصار أورشليم القادم سيكون عمل الله. فرغم أنه كانت هنالك أدوات أجنبية تعمل عمل الله، إلا أنه لا يمكن للمرء ببساطة أن يلوم البابليين كما لو أنه ليس لله يد في هذا الأمر.
٢. كُلُّهَا ظُلْمٌ فِي وَسَطِهَا: تجلّى افتقار أورشليم إلى محبة الله في افتقارها إلى الاهتمام بإخوتها في البشرية. فكان امتلاؤها بالظلم ظاهرة أفقيّة (من إنسان إلى إنسان) وعامودية (من إنسان إلى الله) معًا.
• هَكَذَا تُنْبِعُ هِيَ شَرَّهَا: “أورشليم هي مدينة الخطية. فهنالك دائمًا مخزون جديد من الشر مثل السمّ داخلها ويفيض إلى شوارعها.” رايكن (Ryken)
٣. تَأَدَّبِي يَا أُورُشَلِيمُ: توجد حتى في إعلان الدينونة دعوة متأصّلة لتلقّي حكمة الله وتجنُّب التهديد بالكارثة. وهي دعوة لم يتلقَّها يهوذا على نحو ملائم.
ج) الآيات (٩-١٢): ملء غضب الرب
٩هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: تَعْلِيلًا يُعَلِّلُونَ، كَجَفْنَةٍ، بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ. رُدَّ يَدَكَ كَقَاطِفٍ إِلَى ٱلسِّلَالِ. ١٠مَنْ أُكَلِّمُهُمْ وَأُنْذِرُهُمْ فَيَسْمَعُوا؟ هَا إِنَّ أُذْنَهُمْ غَلْفَاءُ فَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَصْغَوْا. هَا إِنَّ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ صَارَتْ لَهُمْ عَارًا. لَا يُسَرُّونَ بِهَا. ١١فَٱمْتَلَأْتُ مِنْ غَيْظِ ٱلرَّبِّ. مَلِلْتُ ٱلطَّاقَةَ. أَسْكُبُهُ عَلَى ٱلْأَطْفَالِ فِي ٱلْخَارِجِ وَعَلَى مَجْلِسِ ٱلشُّبَّانِ مَعًا، لِأَنَّ ٱلرَّجُلَ وَٱلْمَرْأَةَ يُؤْخَذَانِ كِلَاهُمَا، وَٱلشَّيْخَ مَعَ ٱلْمُمْتَلِئِ أَيَّامًا. ١٢وَتَتَحَوَّلُ بُيُوتُهُمْ إِلَى آخَرِينَ، ٱلْحُقُولُ وَٱلنِّسَاءُ مَعًا، لِأَنِّي أَمُدُّ يَدِي عَلَى سُكَّانِ ٱلْأَرْضِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ.
١. تَعْلِيلًا يُعَلِّلُونَ، كَجَفْنَةٍ، بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ: حذّر الله يهوذا من أن البابليين سيقطفونها تمامًا فلا يتركون منها شيئًا، كما يقطف المزارعون كل ما يمكنهم من العنب المتبقّي على الكروم.
٢. مَنْ أُكَلِّمُهُمْ وَأُنْذِرُهُمْ فَيَسْمَعُوا؟ نستشعر هنا إحباط النبي. فهو يتكلم، وما مِن سامع! فآذانهم غير روحية كما لو أنها غير مختونة. فأصحابها يعدّون كلمة الله عارًا وتوبيخًا، شيئًا ينبغي للمرء أن يخجل منه ويتجنبه.
• آذانهم غير مختونة حقًّا: يتحدث العهد القديم عن قلوب وشفاه غير مختونة. لكننا نقرأ هنا لأول مرة عن آذان غير مختونة. وقد استخدم استفانوس هذا المجاز في حديثه إلى المجلس اليهودي (أعمال الرسل ٧: ٥١).
• صَارَتْ لَهُمْ عَارًا: “إنها موضوع تهكم. فهم يحتقرونها.” كلارك (Clarke)
٣. لَا يُسَرُّونَ بِهَا: كانت قلة احترامهم لكلمة الله واضحة في هذا. فلم يجدوا فيها بهجة أو متعة أو عذوبة. فكانت هذه إشارة إلى أنهم كانوا ناضجين للدينونة.
٤. فَٱمْتَلَأْتُ مِنْ غَيْظِ ٱلرَّبِّ: لأن شعب الله كانوا ممتلئين ظلمًا وشرًّا، ولم يكونوا يسمعون لكلمة الرب، امتلأ الرب غيظًا عليهم. وتعب من كظم هذا الغيظ.
٥. لِأَنِّي أَمُدُّ يَدِي عَلَى سُكَّانِ ٱلْأَرْضِ: ستؤثر الدينونة القادمة على يهوذا في الجميع. إذ ستصيب الأطفال، والشباب، والمسنّين، والأزواج والزوجات. وستشعر بها الحقول.
د ) الآيات (١٣-١٥): خطايا الأنبياء والكهنة
١٣لِأَنَّهُمْ مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، كُلُّ وَاحِدٍ مُولَعٌ بِٱلرِّبْحِ. وَمِنَ ٱلنَّبِيِّ إِلَى ٱلْكَاهِنِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ بِٱلْكَذِبِ. ١٤وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ قَائِلِينَ: سَلَامٌ، سَلَامٌ. وَلَا سَلَامَ. ١٥هَلْ خَزُوا لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا رِجْسًا؟ بَلْ لَمْ يَخْزَوْا خِزْيًا وَلَمْ يَعْرِفُوا ٱلْخَجَلَ. لِذَلِكَ يَسْقُطُونَ بَيْنَ ٱلسَّاقِطِينَ. فِي وَقْتِ مُعَاقَبَتِهِمْ يَعْثُرُونَ، قَالَ ٱلرَّبُّ.
١. كُلُّ وَاحِدٍ مُولَعٌ بِٱلرِّبْحِ… كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ بِٱلْكَذِبِ: نظر الله إلى ثقافة مملكة يهوذا، ورأى مدى جشعها وفسادها. وحتى – أو ربما على نحو خاص – الأنبياء والكهنة كانوا جزءًا من هذا الجشع والفساد.
٢. وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ (باستخفاف): لم يُدِن الله خطايا الجشع والفساد الأكثر وضوحًا فحسب، بل أيضًا تلك الأقل وضوحًا بين الأنبياء الذين كانوا يستخدمون كلمات ناعمة لتعزية الناس وتهدئتهم في الوقت الذي احتاجوا فيه إلى التحذير والحث على التوبة.
• وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ: “كانوا يعالجون جرح شعبي كما لو أنه لم يكن خطيرًا.” (فينبيرغ) “كما يستخدم الرجال علاج أبنائهم البسيطة بالنفخ أو التربيت عليها فقط.” تراب (Trapp)
• “دعنا، في معاملاتنا مع الله، نطلب منه ألا يشفق علينا أو ألا يعطينا ما هو أقل من الأفضل. قد تكون هذه العملية مؤلمة وطويلة الأمد، لكنها ستكون مؤكدة.” ماير (Meyer)
٣. قَائِلِينَ: سَلَامٌ، سَلَامٌ. وَلَا سَلَامَ: كانت هذه كلمات الكذبة الناعمة، والتي كانت تطمئن يهوذا على أن الأمور كلها على ما يرام، بينما ليس كذلك في واقع الأمر.
• السلام رسالة رائعة على مسمع المرء. ويريد معظم الناس أن يسمعوها. وتكمن المشكلة في أنها تكون غير صحيحة أحيانًا. وفي بعض الأحيان، هنالك حروب وصراعات ينبغي أن نتعامل معها، سواء أحببنا ذلك أم لا. وأهم من ذلك كله هو أنه هنالك أوقات لا تكون كلمة الله لشعبه هي ’السلام،‘ بل ’التوبة‘ و’ضرورة الاستعداد للدينونة.‘
• ربما يقولون ’سَلَامٌ، سَلَامٌ.‘ وَلَا سَلَامَ بطرق كثيرة، بالصمت رافضين الإشارة إلى الممارسات الشريرة. وقد يفعلون هذا بالحديث عن الشر كما لو أنه الجانب السفلي من الخير، وأنه أمر محتوم، حتى إنهم يمارسونه مع إنكار وجود أي شيء اسمه شر أصلًا.” مورجان (Morgan)
• اقترح سبيرجن (Spurgeon) في عظة بعنوان ’نفخ البوق ضد السلام الزائف‘ عدة طرق يحصل بها المرء على سلام زائف:
يحصل بعضهم على سلام زائف لأنهم يعيشون للترفيه والتسلية والإثارة، ما يصرفهم عن أشياء أسمى.
يحصل بعضهم على سلام زائف لأنهم يخبرون أنفسهم أنه لا يوجد إله، ولهذا فإنهم غير مسؤولين أمامه.
يحصل بعضهم على سلام زائف لأنهم يجهلون أمور الله، وهم محتاجون إلى من يخبرهم بصدق حول مسؤوليتهم.
يحصل بعضهم على سلام زائف لأنهم ينوون أن يفعلوا أفضل لاحقًا في الحياة. وهذه الرغبات للمستقبل كافية لجعلهم على صواب.
٤. لَمْ يَخْزَوْا خِزْيًا وَلَمْ يَعْرِفُوا ٱلْخَجَلَ: رغم كل خطايا شعب يهوذا الكثيرة، إلا أنهم لم يخزوا منها حقًّا. لم يعرفوا حُمرة الخجل. فكأنه حصل تلف في ضميرهم، أو أنه احترق. إذ لم يخجلوا مما كان ينبغي أن يخجلوا منه.
• رأى مورجان (Morgan) أن عمل إرميا مثل عمل أي واعظ أمين: “إن عمله هو أن يخلق إحساسًا بالخجل في نفوس الناس، ليضع فسادهم أمامهم ليجبر وجوههم على أن تحمرّ بقوة خجلًا.”
ثانيًا. الحكمة متاحة ومرفوضة
أ ) الآيات (١٦-١٧): فرصة للحكمة
١٦هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: قِفُوا عَلَى ٱلطُّرُقِ وَٱنْظُرُوا، وَٱسْأَلُوا عَنِ ٱلسُّبُلِ ٱلْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ ٱلطَّرِيقُ ٱلصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَسِيرُ فِيهِ! ١٧وَأَقَمْتُ عَلَيْكُمْ رُقَبَاءَ قَائِلِينَ: ٱصْغَوْا لِصَوْتِ ٱلْبُوقِ. فَقَالُوا: لَا نَصْغَى.
١. قِفُوا عَلَى ٱلطُّرُقِ وَٱنْظُرُوا، وَٱسْأَلُوا عَنِ ٱلسُّبُلِ ٱلْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ ٱلطَّرِيقُ ٱلصَّالِحُ؟ رغم أن شعب يهوذا كانوا في مثل هذا الوضع السيئ، إلا أن الحكمة كانت متاحة لهم. ومن الأمكنة التي يمكن أن يجدوا فيها الحكمة السبل القديمة، حيث يمكنهم أن يتطلعوا إلى تاريخهم وأجدادهم ليتعلموا ما فعله الله فيهم ومن خلالهم.
• “حثّهم النبي على اتّباع السبل القديمة للتقليد الموسوي، والتي ستكون الأفضل لأنها مجرَّبة وصحيحة.” هاريسون (Harrison)
• السبل القديمة هي نفسها الطريق الصالح. فهي طريق التوبة، والمصالحة، ومخافة الله، ومحبته. كانت سبل التقليد الموسوي.” فينبيرغ (Feinberg)
• يحتقر كثيرون السبل القديمة، ربما لأنها تبدو قديمة الطراز أو غير رائعة بشكل كبير. غير أنه توجد حكمة – حكمة مخلِّصة للحياة – في السبل القديمة لكلمة الله وعمله في ماضي الأيام.
لكي ينتفعوا من السبل القديمة، كان عليهم أن يقفوا فيها (قِفُوا عَلَى ٱلطُّرُقِ).
لكي ينتفعوا من السبل القديمة، كان عليهم أن يبحثوا عنها (ٱنْظُرُوا).
لكي ينتفعوا من السبل القديمة، كان عليهم أن يطلبوها ويرغبوا فيها (وَٱسْأَلُوا).
لكي ينتفعوا من السبل القديمة، كان عليهم أن ينظروا إليها على أنها الطريق الصالح.
لكي ينتفعوا من السبل القديمة، كان عليهم أن يسلكوا فيها، أي أن يطلبوا الله كما هو في كلمته وعمله في الماضي.
٢. فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ: هذه هي المكافأة المجزية للبحث عن السبل القديمة، ورؤيتها، والسلوك فيها. وهذه مكافأة لا تضاهيها أية مكافأة أخرى.
• “دعنا نلاحظ هذه الصورة المجازية. هنالك مسافر إلى مدينة معينة. وهو يصل إلى مكان تتفرّع فيه الطرقات. وهو يخاف أن يضل، فيتوقف محاولًا اكتشاف السبيل الصحيح. ولا يستطيع أن يحدد خياره. وأخيرًا، يرى مسافرًا آخر، فيستفسر منه ويحصل على التوجيهات الضرورية. ويواصل الطريق، ويصل إلى المكان المنشود، ويستريح بعد التعب.” كلارك (Clarke)
• من المحتمل أن يسوع اقتبس إرميا ٦: ١٦ ’فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ‘ في متى ١١: ٢٩: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لِأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ.”
٣. وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَسِيرُ فِيهِ: رغم تعليمات الله ودعوته، إلا أن يهوذا رفضت حكمة السبل القديمة. ورغم أن الرقباء لفتوا النظر إليها كما لو كانوا بالبوق، إلا أن شعب يهوذا رفضوا الاستماع (فَقَالُوا: لَا نَصْغَى).
• هنالك ظاهرة من ظواهر العصر الحديث، ولاسيما من خلال الإنترنت، تتمثل في وجود أشخاص يعدّون أنفسهم رقباء، ويشعرون بأن لديهم كلمة، أو تعليمات، أو توبيخًا لشعب الله لا يمكن تجاهله إلا بثمن باهظ. وقد يكون هذا صحيحًا أن الله يرسل مراقبين لشعبه. غير أن هنالك فرقًا كبيرًا بين الذين عيّنهم الله والذين عيّنوا أنفسهم بأنفسهم. وغالبًا ما يمكن رؤية الفرق في الأسلوب الذي يستخدمه المراقبون وفي قلوبهم.
ب) الآيات (١٨-٢٠): الله يخبر العالم كله نتيجة رفض يهوذا للحكمة.
١٨لِذَلِكَ ٱسْمَعُوا يَا أَيُّهَا ٱلشُّعُوبُ، وَٱعْرِفِي أَيَّتُهَا ٱلْجَمَاعَةُ مَا هُوَ بَيْنَهُمْ. ١٩اِسْمَعِي أَيَّتُهَا ٱلْأَرْضُ: هَأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى هَذَا ٱلشَّعْبِ ثَمَرَ أَفْكَارِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْغَوْا لِكَلَامِي، وَشَرِيعَتِي رَفَضُوهَا. ٢٠لِمَاذَا يَأْتِي لِي ٱللُّبَانُ مِنْ شَبَا، وَقَصَبُ ٱلذَّرِيرَةِ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ؟ مُحْرَقَاتُكُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَذَبَائِحُكُمْ لَا تَلُذُّ لِي.
١. أَيَّتُهَا ٱلْأَرْضُ: تكلّم الله إلى كل من يهوذا والشعوب منبّهًا إياها إلى الكارثة التي ستحل بشعبه.
• “عادة ما تشير كلمة ’الجماعة‘ Edah في العهد القديم إلى إسرائيل، لكنها تعني هنا الأمم، حيث يتم إشعار الأمم بما يحدث ليهوذا.” فينبيرغ (Feinberg)
٢. هَأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى هَذَا ٱلشَّعْبِ ثَمَرَ أَفْكَارِهِمْ: كان هذا جانبًا مهمًّا من ذنب شعب الله. إذ لم يلتفتوا إلى كلمة الله، ولهذا صاروا فاسدين في تفكيرهم. وكان مجيء الكارثة ثمرة أفكارهم.
٣. مُحْرَقَاتُكُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ: واصل شعب الله جلب المحرقات والذبائح لله. بل جلبوا البخور الثمين من سبأ. ولأنهم لم يلتفتوا إلى كلام الله أو يقبلوا شريعته، كانت ذبائحهم غير مقبولة. فالذبائح العطِرة لا يمكن أن تغطّي على رفضهم الأساسي لكلمة الله وطرقه.
ثالثًا. وصف الدينونة القادمة مرة أخرى
أ ) الآية (٢١): العثرات
٢١لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: هَأَنَذَا جَاعِلٌ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ مَعْثَرَاتٍ فَيَعْثُرُ بِهَا ٱلْآبَاءُ وَٱلْأَبْنَاءُ مَعًا. اَلْجَارُ وَصَاحِبُهُ يَبِيدَانِ.
١. هَأَنَذَا جَاعِلٌ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ مَعْثَرَاتٍ: سيتعامل الله مع شعبه بشكل مباشر. فلن تكون الدينونة القادمة مصادفة بسبب رغبة الإمبراطورية البابلية في التوسع أو بسبب العوامل الجيوسياسية بين بابل ومصر. فقد أقام الله هذه العثرة.
• كان البابليون هم العثرة، وأدوات دينونة الله، وتقويمه ليهوذا.
• سياق إرميا مختلف، لكننا عادة ما نربط هذا بفكرة أن المسيح هو حجر الزاوية، وأن من يرفضونه يتعثرون به (١ بطرس ٢: ٧).
٢. فَيَعْثُرُ بِهَا ٱلْآبَاءُ وَٱلْأَبْنَاءُ مَعًا: ومرة أخرى، يشير الرب إلى الطبيعة الشمولية لهذه الدينونة القادمة على يهوذا. فلن يفلت منها أحد، حيث يَعْثُرُ بِهَا ٱلْآبَاءُ وَٱلْأَبْنَاءُ مَعًا. اَلْجَارُ وَصَاحِبُهُ يَبِيدَانِ.
ب) الآيات (٢٢-٢٦): رعب الدينونة القادمة
٢٢هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ قَادِمٌ مِنْ أَرْضِ ٱلشِّمَالِ، وَأُمَّةٌ عَظِيمَةٌ تَقُومُ مِنْ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ. ٢٣تُمْسِكُ ٱلْقَوْسَ وَٱلرُّمْحَ. هِيَ قَاسِيَةٌ لَا تَرْحَمُ. صَوْتُهَا كَٱلْبَحْرِ يَعِجُّ، وَعَلَى خَيْلٍ تَرْكَبُ، مُصْطَفَّةً كَإِنْسَانٍ لِمُحَارَبَتِكِ يَا ٱبْنَةَ صِهْيَوْنَ». ٢٤سَمِعْنَا خَبَرَهَا. اِرْتَخَتْ أَيْدِينَا. أَمْسَكَنَا ضِيقٌ وَوَجَعٌ كَٱلْمَاخِضِ. ٢٥لَا تَخْرُجُوا إِلَى ٱلْحَقْلِ وَفِي ٱلطَّرِيقِ لَا تَمْشُوا، لِأَنَّ سَيْفَ ٱلْعَدُوِّ خَوْفٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. ٢٦يَا ٱبْنَةَ شَعْبِي، تَنَطَّقِي بِمِسْحٍ وَتَمَرَّغِي فِي ٱلرَّمَادِ. نَوْحَ وَحِيدٍ ٱصْنَعِي لِنَفْسِكِ مَنَاحَةً مُرَّةً، لِأَنَّ ٱلْمُخَرِّبَ يَأْتِي عَلَيْنَا بَغْتَةً.
١. هُوَذَا شَعْبٌ قَادِمٌ مِنْ أَرْضِ ٱلشِّمَالِ، وَأُمَّةٌ عَظِيمَةٌ تَقُومُ مِنْ أَقَاصِي ٱلْأَرْضِ: ومرة أخرى، ينبّه الله يهوذا إلى أن البابليين سيكونون كرسل دينونة الله عليهم.
٢. هِيَ قَاسِيَةٌ لَا تَرْحَمُ: سيجلب الجيش البابلي تعاسة رهيبة، وسيكون رد فعل يهوذا هو الكرب والألم والخوف والندب.
• “لم تكن يهوذا ندًّا في المواجهة في ضوء صورتها كامرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة في مخاض الولادة أمام جندي قوي مسلّح تسليحًا كاملًا.” ثومبسون (Thompson)
ج) الآيات (٢٧-٣٠): شعب الله كما تُمتحن المعادن.
٢٧قَدْ جَعَلْتُكَ بُرْجًا فِي شَعْبِي، حِصْنًا، لِتَعْرِفَ وَتَمْتَحِنَ طَرِيقَهُمْ. ٢٨كُلُّهُمْ عُصَاةٌ مُتَمَرِّدُونَ سَاعُونَ فِي ٱلْوِشَايَةِ. هُمْ نُحَاسٌ وَحَدِيدٌ. كُلُّهُمْ مُفْسِدُونَ. ٢٩اِحْتَرَقَ ٱلْمِنْفَاخُ مِنَ ٱلنَّارِ. فَنِيَ ٱلرِّصَاصُ. بَاطِلًا صَاغَ ٱلصَّائِغُ، وَٱلْأَشْرَارُ لَا يُفْرَزُونَ. ٣٠فِضَّةً مَرْفُوضَةً يُدْعَوْنَ. لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ رَفَضَهُمْ.
١. قَدْ جَعَلْتُكَ بُرْجًا فِي شَعْبِي، حِصْنًا، لِتَعْرِفَ وَتَمْتَحِنَ طَرِيقَهُمْ: أرسل الله إرميا لتقييم حالة شعبه الروحية. وسيفعل هذا من موقع القوة (برجًا، حِصنًا). ومن ناحية مجازية، كان عمل النبي مثل العمل على المعادن، حيث يمتحن الصانع المعادن النفيسة وينقّيها.
• حِصْنًا: “تشكل كلمة Mibsar لكن إذا نُطِقت على أنها Mebasser يمكن أن تترجم إلى ’مقَيِّم،‘ وهي بذلك تشكل تعليقًا على كلمة ’برج‘.” هاريسون (Harrison)
• تفيد الصورة المستخدمة في نهاية إرميا ٦ ما يلي:
كانت يهوذا مثل المعدن، حيث كانت تزعم أنها نفيسة (كالذهب والفضة).
امتُحنت يهوذا ونُقِّيت مثل معدن نفيس.
وُضِع رصاص كتدفّق لجذب الشوائب إليه.
كان النبي مثل المنفاخ الذي يُستخدم لخلق حرارة شديدة.
غير أن إسرائيل – التي يُفترض أنها المعدن النفيس – كانت قاسية وغير نقية لدرجة أن عملية التنقية كانت بلا فائدة.
٢. هُمْ نُحَاسٌ وَحَدِيدٌ. كُلُّهُمْ مُفْسِدُونَ: لم يكن شعب الله كمعدن ناعم يمكن تنقيته كالفضة أو الذهب، بل كان صلبًا كالنحاس والحديد.
• كُلُّهُمْ عُصَاةٌ مُتَمَرِّدُونَ: “يقول النص العبري حرفيًّا “أكثر المتمردين تمرُّدًا”.” (تراب) “يستخدم إرميا صيغة التفضيل ليقيّمهم على أنهم أكثر المتمردين تمرُّدًا.” فينبيرغ (Feinberg)
٣. اِحْتَرَقَ ٱلْمِنْفَاخُ مِنَ ٱلنَّارِ. فَنِيَ ٱلرِّصَاصُ: كانت النار حامية حسب قدرة المنفاخ على صنعها، واستُهلِك عامل التنقية، وهو الرصاص، غير أنه لم تتم تنقية المعدن الثمين المزعوم.
٤. بَاطِلًا صَاغَ ٱلصَّائِغُ، وَٱلْأَشْرَارُ لَا يُفْرَزُونَ: رغم الجهود الكبيرة التي بذلها المُصَهِّر – أنبياء الله مثل إرميا – إلا أن الأشرار بين شعب الله لم يتوبوا، ولهذا أُبعِدوا، بمعنى جعْل شعب الله أكثر نقاءً.
• “أحس إرميا بأن عمله مشابه لعمل الصانع على تصفية الفضة (انظر ملاخي ٣: ٣). لكن من الواضح أن ’ناره‘ النبوية لم تستطع إزالة الشوائب من ’الفضة‘ الطبيعية.” هاريسون (Harrison)
• “باستخدام إرميا لصورة مصفاة المعادن الثمينة، يبيّن أن العمليات العادية للتنقية لم تكن فعالة، وأنه ما زال هنالك خَبَث أو شوائب تلوث المعدن بأكمله. ولذلك، فإنه لا يصلح إلا لكومة خردة.” كوندال (Cundall)
٥. فِضَّةً مَرْفُوضَةً يُدْعَوْنَ. لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ رَفَضَهُمْ: في نهاية المطاف، عرف الجميع أن الله مستاء من يهوذا، بمعنى أنهم لن يُعفَوا من الدينونة، لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ رَفَضَهُمْ.
• “تجعل الصورة لكلمات النبي كمصفاة نارية النقطة نابضة بالحياة، لا بتفاصيلها فحسب، بل بحصيلتها المأساوية أيضًا. إذ تبيّن أن شعب الله ليس معدنًا نفيسًا تشوبه بعض الشوائب – إذا جاز التعبير – بل معدن خسيس لا يمكن استخلاص أي شيء منه.” كيدنر (Kidner)