سفر إرميا – الإصحاح ٩
ما ينبغي الافتخار به
أولًا. استمرار المرثاة على يهوذا في السبي
أ ) الآيات (١-٢): دموع لا تكفي
١يا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلًا قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي. ٢يَا لَيْتَ لِي فِي ٱلْبَرِّيَّةِ مَبِيتَ مُسَافِرِينَ، فَأَتْرُكَ شَعْبِي وَأَنْطَلِقَ مِنْ عِنْدِهِمْ، لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا زُنَاةٌ، جَمَاعَةُ خَائِنِينَ.
١. لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ: في ختام الإصحاح السابق، رثى إرميا يهوذا لأنه رأى شعبها مقهورين ومسبيين. وفي استمرار لهذه الفكرة، عبّر بطريقة شاعرية عن فكرة أنه ليس لديه ما يكفي من الدموع والوقت للتعبير الكافي عن حزنه على ’قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي.‘
• كانت دموع إرميا متسمة بالحنان والتعاطف، ولهذا كانت صالحة. “ستتحول مياه كهذه إلى خمر في يوم عرس الحمل. وهي تُحفَظ لهذا القصد سالمة في زِقّ الله (مزمور ٥٦: ٨).” تراب (Trapp)
٢. يَا لَيْتَ لِي فِي ٱلْبَرِّيَّةِ مَبِيتَ مُسَافِرِينَ، فَأَتْرُكَ شَعْبِي وَأَنْطَلِقَ مِنْ عِنْدِهِمْ: كان إرميا ممتلئًا بالحزن على الدينونة القادمة على يهوذا، لكنه كان ممتلئًا بالاشمئزاز من خطاياهم أيضًا. فأراد أن يترك شعبه ويبتعد عن فساد أورشليم ويهوذا.
• “ينتقل إرميا من صورة النواح المستمر كربيع دائم إلى صورة شخص متلهف إلى الهروب من الفساد. فكان المبيت في البرية أفضل من العيش وسط انحطاط حياة المدينة.” هاريسون (Harrison)
• “حتى المسكن المعزل في الصحراء كان أفضل من الكرب النفسي الذي عاناه وسط شعبه.” فينبيرغ (Feinberg)
• جَمَاعَةُ خَائِنِينَ: “كان هذا شبيهًا بقوله ’جماعة من الرجال الخونة‘. وتستخدم الكلمة العبرية Seret المترجمة إلى “جماعة” هنا للإشارة إلى اجتماعات جليلة في أعياد الحج.” فينبيرغ (Feinberg)
ب) الآيات (٣-٦): يهوذا مولعة بالخداع والأكاذيب
٣يَمُدُّونَ أَلْسِنَتَهُمْ كَقِسِيِّهِمْ لِلْكَذِبِ. لَا لِلْحَقِّ قَوُوا فِي ٱلْأَرْضِ. لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ شَرٍّ إِلَى شَرٍّ، وَإِيَّايَ لَمْ يَعْرِفُوا، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. ٤اِحْتَرِزُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَعَلَى كُلِّ أَخٍ لَا تَتَّكِلُوا، لِأَنَّ كُلَّ أَخٍ يَعْقِبُ عَقِبًا، وَكُلَّ صَاحِبٍ يَسْعَى فِي ٱلْوِشَايَةِ. ٥وَيَخْتِلُ ٱلْإِنْسَانُ صَاحِبَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْحَقِّ. عَلَّمُوا أَلْسِنَتَهُمُ ٱلتَّكَلُّمَ بِٱلْكَذِبِ، وَتَعِبُوا فِي ٱلِٱفْتِرَاءِ. ٦مَسْكَنُكَ فِي وَسْطِ ٱلْمَكْرِ. بِٱلْمَكْرِ أَبَوْا أَنْ يَعْرِفُونِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ.
١. يَمُدُّونَ أَلْسِنَتَهُمْ كَقِسِيِّهِمْ لِلْكَذِبِ: يقدم إرميا وصفًا نابضًا بالحياة لمدى ولع قادة إسرائيل وشعبها بالخداع. فكانوا يكذبون بتدبُّر وقوة وعن عمد. وكانت ألسنتهم تطلق سهامًا من الكذب.
• من المهم أن نتذكر أن هذا يأتي في ختام قسم ندبَ فيه إرميا سقوط يهوذا وسبيها (إرميا ٨: ١٨-٩: ٦). وفي عمق حزنه، لم ينسَ أنهم استحقوا هذه المصيبة. فقد جعل رفضهم لله، وتفانيهم في الكذب كل ما أصابهم أمرًا مستحَقًّا.
٢. لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ شَرٍّ إِلَى شَرٍّ، وَإِيَّايَ لَمْ يَعْرِفُوا: يفسّر هذا سبب السهولة التي يكذب بها قادة يهوذا وشعبها. لقد غرقوا في الشر، وكانوا بعيدًا عن أية علاقة حقيقية بالله. فلم يعرفوه بطريقة علاقية صحيحة تكرمه.
• وَإِيَّايَ لَمْ يَعْرِفُوا: “يدل الفعل العبري Yada والمترجم إلى “يعرف” على أكثر بكثير من المعرفة الذهنية. إذ يدل على معرفة عميقة حميمة تنبع من تكريس شخص إلى آخر.” ثومبسون (Thompson)
• لِأَنَّ كُلَّ أَخٍ يَعْقِبُ عَقِبًا: “جعلت خيانة يهوذا لله وعدم أمانتها له إرميا يدرك أن كل واحد كان ’يعقوب،‘ أو متعقبًا لشخص آخر (ليزيحه ويحل محله). وهذه تورية متعلقة باسم يعقوب.” هاريسون (Harrison)
• وَتَعِبُوا فِي ٱلِٱفْتِرَاءِ: “يا لَلكدح في ممارسة الخطية. وكم يتوجب على المرء أن يكدح للوصول إلى الجحيم!” كلارك (Clarke)
٣. وَيَخْتِلُ ٱلْإِنْسَانُ صَاحِبَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْحَقِّ: لاحظ إرميا مدى عمق خطيتَي الكذب والخداع واتساعهما بين قادة يهوذا وشعبها. كانت ثقافة مولعة بالخداع، بعيدًا عن الحق، سواء أكان هذا في الأمور اليومية أم المفاهيم الأوسع.
• يمتد وصف إرميا القاتم ليهوذا إلى ثقافة اليوم. فنحن نعيش في عصر نرفض فيه فكرة الحق المطلق أو الحق الموضوعي بشكل عام. وعندما لا يُثَمَّن الحق، تنهار المجتمعات.
• إن مشكلات مستعصية كثيرة في عالمنا اليوم هي في الواقع مشكلات متعلقة بالحق. ففي الصراع العربي-الإسرائيلي، يتم ترويج رسمي لأكاذيب مروعة حول اليهود، ويتم تصديقها على نطاق واسع في العالم الغربي. ولو أن العالم العربي سمع وصدّق الحقيقة حول إسرائيل واليهود، فستختفي أسبابهم المفترضة للكراهية إلى حد كبير.
٤. بِٱلْمَكْرِ أَبَوْا أَنْ يَعْرِفُونِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ: هذه هي التكلفة العظيمة لاحتضان الخداع والترويج له. فبما أن الله إله حق، فإن الذين يحبون الكذب بعيدون عن الله مسافة جوهرية.
ثانيًا. الدينونة القادمة وكيفية الاستعداد لها
أ ) الآيات (٧-١١): حقيقة الدينونة القادمة، وسببها ونتيجتها
٧لذَلِكَ هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: هَأَنَذَا أُنَقِّيهِمْ وَأَمْتَحِنُهُمْ. لِأَنِّي مَاذَا أَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ بِنْتِ شَعْبِي؟ ٨لِسَانُهُمْ سَهْمٌ قَتَّالٌ يَتَكَلَّمُ بِٱلْغِشِّ. بِفَمِهِ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ بِسَلَامٍ، وَفِي قَلْبِهِ يَضَعُ لَهُ كَمِينًا. ٩أَفَمَا أُعَاقِبُهُمْ عَلَى هَذِهِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ؟ أَمْ لَا تَنْتَقِمُ نَفْسِي مِنْ أُمَّةٍ كَهَذِهِ. ١٠عَلَى ٱلْجِبَالِ أَرْفَعُ بُكَاءً وَمَرْثَاةً، وَعَلَى مَرَاعِي ٱلْبَرِّيَّةِ نَدْبًا، لِأَنَّهَا ٱحْتَرَقَتْ، فَلَا إِنْسَانَ عَابِرٌ وَلَا يُسْمَعُ صَوْتُ ٱلْمَاشِيَةِ. مِنْ طَيْرِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى ٱلْبَهَائِمِ هَرَبَتْ مَضَتْ. ١١”وَأَجْعَلُ أُورُشَلِيمَ رُجَمًا وَمَأْوَى بَنَاتِ آوَى، وَمُدُنَ يَهُوذَا أَجْعَلُهَا خَرَابًا بِلَا سَاكِنٍ.”
١. هَأَنَذَا أُنَقِّيهِمْ وَأَمْتَحِنُهُمْ: عندما تذكّر الله صورة مصفاة المعادن (إرميا ٦: ٢٧-٣٠)، أخبر الله يهوذا ثانية أنه سينقّيهم. وكان من المؤكد أن الحرارة والذوبان سيأتيان. لكن من المؤكد أن القصد لم يكن أن يدمرهم، بل أن ينقّيهم ويطهرهم في نهاية المطاف.
• تأتي هذه العبارة، ’هَأَنَذَا أُنَقِّيهِمْ وَأَمْتَحِنُهُمْ‘ جوابًا على سؤال الله: ’مَاذَا أَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ بِنْتِ شَعْبِي؟‘ “لكي نعرف شيئًا عن عمليات الذهن الإلهي، يمثّل الله نفسه على أنه يُجبر نفسه على عمل شيء لا يريده. “مَاذَا أَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ بِنْتِ شَعْبِي؟” سبيرجن (Spurgeon)
• هَأَنَذَا أُنَقِّيهِمْ وَأَمْتَحِنُهُمْ: “الرب مصمم على تخليص شعبه حتى إنه يستخدم أكثر الوسائل صرامة بدلًا من أن يفقد أيًّا من أولئك الذين يحبهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٢. لِسَانُهُمْ سَهْمٌ قَتَّالٌ يَتَكَلَّمُ بِٱلْغِشِّ: باستخدام صورة من الآية السابقة، أوضح الله أحد الأسباب التي جعلت يهوذا هدفًا مؤكدًا لدينونته. فقد كان الخداع الراسخ والمؤسسي بين قادة يهوذا وشعبها هو الذي استدعى هذا التقويم القوي من الله.
• أُمَّةٍ كَهَذِهِ: “قد يمثل استخدام كلمة أمة Goy في تطبيقها على إسرائيل نقلة، حيث كانت تُستخدم في الماضي بشكل دائم للإشارة إلى شعوب غير إسرائيلية. ويوحي هذا المصطلح بأن إرميا صار يعد الشعب غير مختلفين في سلوكهم عن الأمم Goyim أي الشعوب خارج العهد.” ثومبسون (Thomspon)
٣. لِأَنَّهَا ٱحْتَرَقَتْ، فَلَا إِنْسَانَ عَابِرٌ: رأى إرميا برؤيته النبوية للمستقبل مدن يهوذا وقراها مدمرة ومحترقة. فلم تكن هنالك حضارة، بل كومة من الأنقاض. ولم تكن هنالك ماشية أو حيوانات مزارع، بل مأوى لبنات آوى. هذا ما سيحدث نتيجة الغزو البابلي القادم.
• “لا شيء يثير غضب الله أكثر من الاستمرار في الزيف، والكذب، والخداع، وعدم اللطف، والسلوك غير الأخوي، ونجاسة الحياة. ضع كل هذه الشرور معًا، وسيكون لديك ما هو أكثر من الخطايا المستفزة لله والداعية إلى افتقاد انتقامي منه.” سبيرجن (Spurgeon)
ب) الآيات (١٢-١٦): ملخص لأسباب الدينونة ونتائجها
١٢مَنْ هُوَ ٱلْإِنْسَانُ ٱلْحَكِيمُ ٱلَّذِي يَفْهَمُ هَذِهِ، وَٱلَّذِي كَلَّمَهُ فَمُ ٱلرَّبِّ، فَيُخْبِرَ بِهَا؟ لِمَاذَا بَادَتِ ٱلْأَرْضُ وَٱحْتَرَقَتْ كَبَرِّيَّةٍ بِلَا عَابِرٍ؟ ١٣فَقَالَ ٱلرَّبُّ: «عَلَى تَرْكِهِمْ شَرِيعَتِي ٱلَّتِي جَعَلْتُهَا أَمَامَهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي وَلَمْ يَسْلُكُوا بِهَا. ١٤بَلْ سَلَكُوا وَرَاءَ عِنَادِ قُلُوبِهِمْ وَوَرَاءَ ٱلْبَعْلِيمِ ٱلَّتِي عَلَّمَهُمْ إِيَّاهَا آبَاؤُهُمْ. ١٥لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: هَأَنَذَا أُطْعِمُ هَذَا ٱلشَّعْبَ أَفْسَنْتِينًا وَأَسْقِيهِمْ مَاءَ ٱلْعَلْقَمِ، ١٦وَأُبَدِّدُهُمْ فِي أُمَمٍ لَمْ يَعْرِفُوهَا هُمْ وَلَا آبَاؤُهُمْ، وَأُطْلِقُ وَرَاءَهُمُ ٱلسَّيْفَ حَتَّى أُفْنِيَهُمْ.
١. عَلَى تَرْكِهِمْ شَرِيعَتِي ٱلَّتِي جَعَلْتُهَا أَمَامَهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي وَلَمْ يَسْلُكُوا بِهَا: أخبر الله إسرائيل بما يجب أن يؤمنوا به وكيف ينبغي أن يعيشوا. غير أن قادة يهوذا وشعبها رفضوا كلمته وتجاهلوا شريعته.
٢. بَلْ سَلَكُوا وَرَاءَ عِنَادِ قُلُوبِهِمْ وَوَرَاءَ ٱلْبَعْلِيمِ: برفض يهوذا لكلمة الله وإرشاده، لم تتوقف عن الإيمان بشيء آخر وخدمته، حيث وجه شعبها قلوبهم إلى أشياء تحل محل الله في حياتهم. فقد خدموا الآلهة الوثنية للثقافة المحيطة (البعليم).
• يمكن القول إن الله صمّمنا لنكون كائنات عابدة ومطيعة. فإذا لم توجَّه غريزتا العبادة والطاعة إلى الإله الحي وكلمته، فستوجَّهان إلى مكان آخر. وفي حالة يهوذا، كانتا موجهتين إلى الذات والآلهة الثقافية.
• يعلّق هاريسون على عبادة البعليم قائلًا: “أثبتت هذه العبادة الدنيئة الداعرة أنها كانت جذابة لأجيال كثيرة من الإسرائيليين.”
• “يتضح من قراءة النصوص الدينية والأسطورية الأوجارتية أن ممارسات دينية كثيرة مرتبطة بالبعل وعبادة الخصوبة كانت موجهة نحو النشاط الجنسي.” ثومبسون (Thompson)
٣. هَأَنَذَا أُطْعِمُ هَذَا ٱلشَّعْبَ أَفْسَنْتِينًا وَأَسْقِيهِمْ مَاءَ ٱلْعَلْقَمِ، وَأُبَدِّدُهُمْ فِي أُمَمٍ: لن يتجاهل الله عصيان يهوذا وعبادتها للأوثان. فلقد وعد الرب بأن يرد على هذا بدينونة مريرة وبالسبي.
ج) الآيات (١٧-٢١): دعوة للنساء النادبات
١٧هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: تَأَمَّلُوا وَٱدْعُوا ٱلنَّادِبَاتِ فَيَأْتِينَ، وَأَرْسِلُوا إِلَى ٱلْحَكِيمَاتِ فَيُقْبِلْنَ ١٨وَيُسْرِعْنَ وَيَرْفَعْنَ عَلَيْنَا مَرْثَاةً، فَتَذْرِفَ أَعْيُنُنَا دُمُوعًا وَتَفِيضَ أَجْفَانُنَا مَاءً. ١٩لِأَنَّ صَوْتَ رِثَايَةٍ سُمِعَ مِنْ صِهْيَوْنَ: كَيْفَ أُهْلِكْنَا؟ خَزِينَا جِدًّا لِأَنَّنَا تَرَكْنَا ٱلْأَرْضَ، لِأَنَّهُمْ هَدَمُوا مَسَاكِنَنَا». ٢٠بَلِ ٱسْمَعْنَ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ، وَلْتَقْبَلْ آذَانُكُنَّ كَلِمَةَ فَمِهِ، وَعَلِّمْنَ بَنَاتِكُنَّ ٱلرِّثَايَةَ، وَٱلْمَرْأَةُ صَاحِبَتَهَا ٱلنَّدْبَ! ٢١لِأَنَّ ٱلْمَوْتَ طَلَعَ إِلَى كُوَانَا، دَخَلَ قُصُورَنَا لِيَقْطَعَ ٱلْأَطْفَالَ مِنْ خَارِجٍ، وَٱلشُّبَّانَ مِنَ ٱلسَّاحَاتِ.
١. تَأَمَّلُوا وَٱدْعُوا ٱلنَّادِبَاتِ فَيَأْتِينَ: عندما تأمّل إرميا في الكارثة العظيمة التي ستحل على يهوذا العاصية الوثنية، فعل شيئًا منطقيًّا بشكل نبوي. فقد دعا النساء النادبات إلى الاستعداد للقيام بواجبهن، لأنه سيكون هنالك الكثير للنواح عليه.
• “كانت ’النادبات‘ نساء محترفات لإثارة حزن الأقارب والآخرين في الجنازات بإظهار الحزن الخارجي. فكن يستخدمن صرخات حزينة، ويقرعن على صدورهن، ويلوّحن بأذرعهن، وينثرن التراب على رؤوسهن، ويشعثن شعورهن (٢ أخبار الأيام ٣٥: ٢٥؛ جامعة ١٢: ٥؛ عاموس ٥: ١٦؛ متى ٩: ٢٣).” فينبيرغ (Feinberg)
• “لكن الأمر لا يقتصر على دعوة النادبات المحترفات ليغنين أغاني الحزن والمراثي. إذ عليهن أن يعلّمن بناتهن وصديقاتهن لازمات غنائية مأساوية، لأن الأيام القادمة ستكون مأساوية بحيث تتطلب نادبات كثيرات.” ثومبسون (Thompson)
٢. خَزِينَا جِدًّا لِأَنَّنَا تَرَكْنَا ٱلْأَرْضَ، لِأَنَّهُمْ هَدَمُوا مَسَاكِنَنَا: كانت هذه هي الشكوى الحزينة لأولئك المحظوظين بما يكفي للنجاة من الغزو البابلي. إذ سيفقدون كل شيء، وسيؤخذون كلاجئين قسريين إلى أرض بعيدة.
٣. لِأَنَّ ٱلْمَوْتَ طَلَعَ إِلَى كُوَانَا، دَخَلَ قُصُورَنَا: لن يكون الجميع ’محظوظين‘ للذهاب إلى السبي. إذ سيموت كثيرون، بمن فيهم الأطفال والشباب، عند الغزو البابلي.
• شخَّص إرميا الموت إلى حد ما في هذه الآيات.
د ) الآية (٢٢): وصف حي للدينونة
٢٢تَكَلَّمَ: “هَكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ: وَتَسْقُطُ جُثَّةُ ٱلْإِنْسَانِ كَدِمْنَةٍ عَلَى وَجْهِ ٱلْحَقْلِ، وَكَقَبْضَةٍ وَرَاءَ ٱلْحَاصِدِ وَلَيْسَ مَنْ يَجْمَعُ.”
١. وَتَسْقُطُ جُثَّةُ ٱلْإِنْسَانِ كَدِمْنَةٍ عَلَى وَجْهِ ٱلْحَقْلِ، وَكَقَبْضَةٍ وَرَاءَ ٱلْحَاصِدِ: فكّر إرميا في الذين سيُقتلون في الغزو البابلي، وكيف أن جثثهم ستسقط في ميادين المعركة والدمار كَقَبْضَةٍ وَرَاءَ ٱلْحَاصِدِ.
• كانت العادة هي أن يمسك الحاصد في ذراعيه ما تقطعه عدة ضربات بمنجله، ثم يتركه على الأرض لحاصد آخر وراءه ليجمعه في حزم. وهكذا، سيغطي الموت الأرض بالجثث، لكن تلك الجثث ستبقى بلا دفن بسبب قلة الناجين وعِظم عدد الموتى.” فينبيرغ (Feinberg)
٢. وَلَيْسَ مَنْ يَجْمَعُ: كان هذا خزيًا مضاعفًا. ففي ذهن العبراني القديم، كان الموت سيئًا جدًّا، لكن تدنيس الجثة من خلال عدم العناية بها ودفنها كان نوعًا من الموت المزدوج.
هـ) الآيات (٢٣-٢٤): كيفية الاستعداد للكارثة القادمة: المعرفة الحقيقية بالله
٢٣هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: لَا يَفْتَخِرَنَّ ٱلْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلَا يَفْتَخِرِ ٱلْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلَا يَفْتَخِرِ ٱلْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. ٢٤بَلْ بِهَذَا لِيَفْتَخِرَنَّ ٱلْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلًا فِي ٱلْأَرْضِ، لِأَنِّي بِهَذِهِ أُسَرُّ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ.
١. لَا يَفْتَخِرَنَّ ٱلْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ: وصف إرميا، متحدثًا باسم الرب، الأشياء التي يمكن أن يفتخر بها الناس عادة – الحكمة والقوة والثروة – ولو كان يعيش في عصرنا الحالي، لأضاف شيئًا رابعًا يفتخر به الناس، وهو الشهرة.
• الافتخار بشيء هو الاحتفاء به، والإعلان أنه مصدر ورضا للمرء. ونحن نفكر في بطل رياضي يفتخر بكأس فاز بها للتو. فعندما يرفع الكأس عاليًا، فإنه يعلن من خلال أفعاله، وكلامه، وتعبيرات وجهه، وكل شيء – أن هذا كان هو هدفي، وأن هذا هو اكتفائي وشبعي وسعادتي. وأنا أحتفي به الآن.
٢. بَلْ بِهَذَا لِيَفْتَخِرَنَّ ٱلْمُفْتَخِرُ: لم يوبخ الله غريزة الإنسان في البحث عن الافتخار والمجد، لكنه وجّه هذه الغريزة إلى وُجهتها الصحيحة. ولا تكمن مشكلة الإنسان في أنه يتوق إلى الافتخار بشيء ما. بل تكمن عادة في أنه يفتخر بالأشياء الخطأ، ما يؤدي إلى ضرره، وضرر الآخرين، وإلى إهانة الرب – وهذا هو الأخطر.
• “هنالك تباين بين دواعي الافتخار الزائلة الثلاثة في الآية ٢٣ ودواعي الافتخار غير الزائلة الثلاثة في الآية ٢٤: فالرحمة (المحبة الأمينة)، والعدل، والبر هبات من الله، وهو يتوقعها منا بالمقابل.” كيدنر (Kidner)
٣. بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي: يقول الله: ’وجّه رغباتك في الافتخار بشيء إلى المكان الصحيح – إليّ أنا.‘ ويمكننا أن نأخذ مجدًا، بل أعظم مجد، في فهم الله ومعرفته.
• يعلّق كيدنر (Kidner) على كلمتَي ’يفهم ويعرف:‘ “هنالك فارق بسيط بين الكلمتين العبريتين. فكلمة ’يفهم‘ تدل على شيء عملي صالح، بينما تدل كلمة ’يعرف‘ على الحياة نفسها، حتى الأبدية.”
• ليست الأشياء الخطأ التي يفتخر بها الناس – الحكمة، والجبروت، والثروة، والصيت – مضلِّلة فحسب، بل هي أدنى أيضًا. ويتحقق أعظم افتخار (مجد)، وأعلى طموح، وأعظم ابتهاج في الله، وفي فهمنا له، ومعرفتنا به.
• تتمثل إحدى طرق توضيح مشكلة الإنسان في القول إن طبيعته تسمح للذات بأن ترضى وتشبع بهذه الأشياء الدنيا الصغيرة. ويوجد في فهم الله ومعرفته حكمة وقوة وغنى أعظم مما يمكن أن يعرفه البشر.
٤. أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ ٱلصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلًا فِي ٱلْأَرْضِ: لفهم الله ومعرفته خصائص معينة. فليست هذه خبرة صوفية لا توصف. بل هي:
لقاء مع رحمته (بالعبرية – حِسِدْ)، أي محبته العهدية لشعبه.
لقاء مع أحكامه – التمييز بين ما هو صواب وخطأ.
لقاء مع بره، وصلاحه المطلق، وطهارة معدنه الأدبي (الأخلاقي).
• “في ظل هذه الظروف المتأزمة، فإن الراحة الوحيدة التي يمكن للحكيم أن يعرفها هي في رحمة (حِسِدْ) الله وبره. وتستخدم كلمة ’حِسِد‘ العبرية في العهد القديم للإشارة إلى محبة الله العهدية. وهي لهذا تؤكد التباين بين ثبات الله الأدبي وخيانة شعبه.” هاريسون (Harrison)
٥. لِأَنِّي بِهَذِهِ أُسَرُّ: يسَر الله بعرض طبيعته ومعدنه الأدبي عندما يُعرف ويُفهم هذا من البشر. إذ يفرح الله عندما يعرفه الناس كما هو.
و ) الآيات (٢٥-٢٦): تحذير لأولئك الذين يرفضون معرفة الرب
٢٥هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَأُعَاقِبُ كُلَّ مَخْتُونٍ وَأَغْلَفَ. ٢٦مِصْرَ وَيَهُوذَا وَأَدُومَ وَبَنِي عَمُّونَ وَمُوآبَ، وَكُلَّ مَقْصُوصِي ٱلشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا ٱلسَّاكِنِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ ٱلْأُمَمِ غُلْفٌ، وَكُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ غُلْفُ ٱلْقُلُوبِ.
١. وَأُعَاقِبُ كُلَّ مَخْتُونٍ وَأَغْلَفَ: في يوم دينونة الله، لن تكون لطقوس الختان أهمية. إذ سترتكز دينونته على أساس أولئك الذين يفهمونه ويعرفونه حقًّا، كما ينعكس هذا على حياتهم.
• تُترجم عبارة ’وَكُلَّ مَقْصُوصِي ٱلشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا‘ في بعض الترجمات إلى الذين في أبعد الزوايا. وتشير ترجمات أخرى إلى ’مقصوصي الشعر على المعابد.‘ ويأتي هذان المعنيان المختلفان من تنويع بسيط في النص.
• “كان قص الشعر (تشذيبه) بعيدًا عن المعابد (انظر إرميا ٤٩: ٣٢) محظورًا من الشريعة (لاويين ١٩: ٢٧). وربما تكون الإشارة هنا هي إلى بعض القبائل العربية التي كانت تفعل هذا إكرامًا لباخوس، حسب المؤرخ هيرودوت.” هاريسون (Harrison)
• تشير الترجمات الأولى (كما هو الحال في كل الترجمات القديمة) تقليعة معينة من الشَّعر. ويمكن أن يُترجم النص العبري إلى ’مقصوص الزوايا‘ (انظر إرميا ٢٥: ٢٣؛ ٤٩: ٣٢). فقد مارست بعض القبائل العربية قص الشعر هذا في معابدهم إكرامًا لباخوس، إله الخمر.” فينبيرغ (Feinberg)
٢. لِأَنَّ كُلَّ ٱلْأُمَمِ غُلْفٌ، وَكُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ غُلْفُ ٱلْقُلُوبِ: ربما أدى شعب الله طقس الختان، لكنهم من ناحية روحية غُرلًا، مثل الشعوب غير المختونة.
• “نرى هنا يهوذا محشورة بين مصر وأدوم. ويوضع شعب الله في نفس الفئة مع الشعب الملعون، لأنهم تركوه واختلطوا بهم.” سبيرجن (Spurgeon)