سفر إرميا – الإصحاح ١٥
صلاة النبي الممتلئة ألمًا
أولًا. مصير يهوذا المحتوم: أربعة أشكال من الدمار
أ ) الآية (١): عدم جدوى التشفع في يهوذا المتمردة
١ثُمَّ قَالَ ٱلرَّبُّ لِي: «وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لَا تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هَذَا ٱلشَّعْبِ. اِطْرَحْهُمْ مِنْ أَمَامِي فَيَخْرُجُوا.
١. وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي: سبق أن طلب الله من إرميا عدة مرات من قبل ألّا يصلي من أجل شعب يهوذا، لأن مصيرهم للدينونة والسبي كان مؤكدًا بالفعل (إرميا ٧: ١٦؛ ١١: ١٤؛ ١٤: ١١). وأضاف إلى هذه الفكرة السابقة أنه لو أن عملاقين من عمالقة العهد القديم – موسى وصموئيل – تشفّعا فيهم، فلن يغيّر هذا من مصيرهم.
• عُرِف مُوسَى وَصَمُوئِيلُ بأنهما كانا رَجُلَيْ شفاعة عظيمين (مزمور ٩٩: ٦-٨). إذ بدا أن مُوسَى قد غيّر دينونة إسرائيل المقدَّرة من خلال صلاته (خروج ٣٢). صلى صَمُوئِيل وتمّ إنقاذ الشعب مما بدا أنه كان دمارًا مؤكدًا (١ صموئيل ٧).
• “اشتهر هذان الشخصان في جيليهما بالمحبة الشديدة لهذا الشعب المتمرد والصلاة لأجله. وقد فعلا الكثير له.” تراب (Trapp)
٢. لَا تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هَذَا ٱلشَّعْبِ: فهم إرميا أنه ليس الأمر كما لو أنه إذا كان رجلَ إيمان أعظم أو رجل صلاة أعظم، لأمكن تفادي هذه الكارثة. فحتى لو كان موسى وصموئيل حاضرين ليصلّيا من أجل إسرائيل، فلن تكون صلاتهما أكثر فاعلية من صلاة إرميا.
٣. اِطْرَحْهُمْ مِنْ أَمَامِي فَيَخْرُجُوا: ستواجه يهوذا سبيها المعيّن والعادل إلى أرض أخرى.
ب) الآيات (٢-٤): الأشكال الأربعة للدمار
٢وَيَكُونُ إِذَا قَالُوا لَكَ: إِلَى أَيْنَ نَخْرُجُ؟ أَنَّكَ تَقُولُ لَهُمْ: هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: ٱلَّذِينَ لِلْمَوْتِ فَإِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلَّذِينَ لِلسَّيْفِ فَإِلَى ٱلسَّيْفِ، وَٱلَّذِينَ لِلْجُوعِ فَإِلَى ٱلْجُوعِ، وَٱلَّذِينَ لِلسَّبْيِ فَإِلَى ٱلسَّبْيِ. ٣وَأُوَكِّلُ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ: ٱلسَّيْفَ لِلْقَتْلِ، وَٱلْكِلَابَ لِلسَّحْبِ، وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ وَوُحُوشَ ٱلْأَرْضِ لِلْأَكْلِ وَٱلْإِهْلَاكِ. ٤وَأَدْفَعُهُمْ لِلْقَلَقِ فِي كُلِّ مَمَالِكِ ٱلْأَرْضِ مِنْ أَجْلِ مَنَسَّى بْنِ حَزَقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ فِي أُورُشَلِيمَ.
١. إِلَى أَيْنَ نَخْرُجُ؟: صرّح الله في الآية السابقة أن شعب يهوذا سيُطردون من أمام عينيه ويُخرَجون. والآن، استبق الله السؤال: ’إِلَى أَيْنَ نَخْرُجُ؟‘
٢. إلى ٱلْمَوْتِ… ٱلسَّيْفِ… ٱلْجُوعِ… ٱلسَّبْيِ: سيموت بعضهم بالوبأ (الطاعون)، وبعضهم في المعركة بالسيف، وبعضهم بالجوع، وستذهب البقية إلى السبي. ولن تكون هنالك طرق جيدة للموت.
• “سيهلك بعضهم بالطاعون، وهو يسمَّى هنا “الموت”. (انظر إرميا ١٨: ٢١).” كلارك (Clarke)
٣. أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ (من الدمار): وفضلًا عن ذلك (يتحث بلغة شعرية)، ستكون هنالك أربع طرق يمكن بها أن تدنس الجثث بعد الموت. إذ يمكن أن تدنّس بالسيف، أو الكلاب، أو طيور السماء الباحثة عن الجيَف، أو وحوش الأرض. ويبدو وكأن الخليقة كلها قد اجتمعت ضد شعب يهوذا الذين نضجوا للدينونة، لا لقتلهم فحسب، بل لتدنيس جثثهم أيضًا.
• “عند الموت، ستتعرض الجثث إلى مزيد من الإذلال من الكلاب، أو الطيور الجارحة، أو الحيوانات المفترسة الأخرى.” هاريسون (Harrison)
• “كان جرّ جثة على الأرض وصيرورتها جيفة للطيور والوحوش أمرًا مروعًا للغاية لإسرائيلي للتفكير فيه. إذ كان هذا أقصى درجات تدنيس الموتى.” فينبيرغ (Feinberg)
٤. مِنْ أَجْلِ مَنَسَّى بْنِ حَزَقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا: كان هنالك ملوك آثمون في يهوذا قبل منسّى وبعده. ولم يُطعِ الشعب الله ولم يطلبوه. ومع ذلك، كان هنالك شيء مروع للغاية بشأن خطية منسى المتمرد، والتي جعلت الدينونة لا مفر منها ولا رجعة عنها.
• يخبرنا تاريخ يهوذا قصة خطية منسى العظيمة (٢ ملوك ٢١: ٩-١٧). وتلخصها ٢ ملوك ٢١: ١٦ هكذا: “وَسَفَكَ أَيْضًا مَنَسَّى دَمًا بَرِيًّا كَثِيرًا جِدًّا حَتَّى مَلَأَ أُورُشَلِيمَ مِنَ ٱلْجَانِبِ إِلَى ٱلْجَانِبِ، فَضْلًا عَنْ خَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي بِهَا جَعَلَ يَهُوذَا يُخْطِئُ بِعَمَلِ ٱلشَّرِّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ.”
• كان منسى الشرير ابنًا لحزقيا الذي كان بشكل عام ملكًا صالحًا وتقيًّا. “لذلك، كان (منسّى) هو الأسوأ، لأنه كان ينبغي أن يكون أفضل. وكان الأسوأ، مرة أخرى لأنه كان زعيم عصابة للتمرد.” تراب (Trapp)
• لكن الغريب هو أن “منسّى المتوحش وجد غفرانًا شخصيًّا (٢ أخبار ٣٣: ١٢-١٣)، لكن إرثه بقي في كل من جرائم نظامه غير الضرورية، وفي الخطايا التي علّم شعبه أن يتبنّاها.” كيدنر (Kidner)
• وَأَدْفَعُهُمْ لِلْقَلَقِ فِي كُلِّ مَمَالِكِ ٱلْأَرْضِ: “لم تتحقق نبوة أخرى بشكل حرفي تمامًا مثل هذه النبوة. وما زالت نصبًا قائمًا للحق الإلهي. لِيُوجّهِ الكفرُ نظره إلى اليهود المشتتين أينما يجدهم في كل أمة متحضرة في العالم، ولينكر بعد ذلك صدق هذه النبوّة إن استطاع. فاليهود مشتتون عبر كل الشعوب، غير أنهم لم يكونوا أمة بعد، ولا يشكلون حتى مستعمرة على أي جزء من وجه الأرض. فانظروا إلى حق الله وعدالته.” كلارك (Clarke) ١٨٣٠
ثانيًا. بعد الدينونة، رحمة للبقية
أ ) الآيات (٥-٩): ويل للأرامل
٥فَمَنْ يَشْفُقُ عَلَيْكِ يَا أُورُشَلِيمُ، وَمَنْ يُعَزِّيكِ، وَمَنْ يَمِيلُ لِيَسْأَلَ عَنْ سَلَامَتِكِ؟ ٦أَنْتِ تَرَكْتِنِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِلَى ٱلْوَرَاءِ سِرْتِ. فَأَمُدُّ يَدِي عَلَيْكِ وَأُهْلِكُكِ. مَلِلْتُ مِنَ ٱلنَّدَامَةِ. ٧وَأُذْرِيهِمْ بِمِذْرَاةٍ فِي أَبْوَابِ ٱلْأَرْضِ. أُثْكِلُ وَأُبِيدُ شَعْبِي. لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ طُرُقِهِمْ. ٨كَثُرَتْ لِي أَرَامِلُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ رَمْلِ ٱلْبِحَارِ. جَلَبْتُ عَلَيْهِمْ، عَلَى أُمِّ ٱلشُّبَّانِ، نَاهِبًا فِي ٱلظَّهِيرَةِ. أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا بَغْتَةً رَعْدَةً وَرُعُبَاتٍ. ٩ذَبُلَتْ وَالِدَةُ ٱلسَّبْعَةِ. أَسْلَمَتْ نَفْسَهَا. غَرَبَتْ شَمْسُهَا إِذْ بَعْدُ نَهَارٌ. خَزِيَتْ وَخَجِلَتْ. أَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَلِلسَّيْفِ أَدْفَعُهَا أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ.
١. فَمَنْ يَشْفُقُ عَلَيْكِ يَا أُورُشَلِيمُ؟: طلب الرب من أورشليم، من خلال النبي (إرميا)، أن تفكر إن كان شخص آخر يهتم لأمرها ولأمر أزمتها القادمة. فلم يكن هنالك من يأبه، أو يتحسر على مأساتها، أو يضع في اعتباره حاجتها.
٢. أَنْتِ تَرَكْتِنِي: من المفارقات أن شعب يهوذا رفضوا وتمردوا على ذاك الوحيد الذي كان يهتم لأمرهم. فتراجعوا إلى الوراء بدلًا من أن يتقدموا. وسيستجيب الرب لرفضهم بنوع من الرفض من جانبه. وسيسلمهم إلى الدينونة والدمار.
٣. مَلِلْتُ مِنَ ٱلنَّدَامَةِ (الحجم عن تنفيذ الدينونة): لقد حجم الله دينونته عن شعب يهوذا فترة طويلة جدًّا، فتجاسروا معتقدين أنه سيستمر في ذلك. ولم يضعوا في اعتبارهم أنه سيمل ذات يوم من ذلك وينفّذ دينونته.
٤. وَأُذْرِيهِمْ بِمِذْرَاةٍ: كانت الريح تُستخدم في عمل التذرية لفصل القش من الحبوب الثمينة. وسرعان ما سيشتت الله يهوذا وأورشليم في السبي، كما لو كان هذا بمذراة.
٥. كَثُرَتْ لِي أَرَامِلُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ رَمْلِ ٱلْبِحَارِ: عندما وضع الله في اعتباره الدمار والدينونة اللذين سيحلان على شعب يهوذا، ذكر كل النساء اللواتي سيترمّلنَ نتيجة لموت أزواجهن في المعركة والسبي.
٦. ذَبُلَتْ وَالِدَةُ ٱلسَّبْعَةِ: كان إنجاب الأبناء في العادة علامة على بركة عظيمة، شيئًا يجعل العائلة مثالية. والآن، حتى تللك المرأة، وَالِدَةُ ٱلسَّبْعَةِ، تتألم (خَزِيَتْ وَخَجِلَتْ) وتهلك من الألم بسبب دينونة الله القادمة على يهوذا، وحزنها على أبنائها الذين سيموتون.
• “إن إنجاب سبعة أبناء صورة عبرية للسعادة الكاملة. لكن زال فرح المرأة في إرميا ١٥: ٩ قبل الأوان.” فينبيرغ (Feinberg)
ب) الآية (١٠): ويل إرميا الشخصي
١٠وَيْلٌ لِي يَا أُمِّي لِأَنَّكِ وَلَدْتِنِي إِنْسَانَ خِصَامٍ وَإِنْسَانَ نِزَاعٍ لِكُلِّ ٱلْأَرْضِ. لَمْ أَقْرِضْ وَلَا أَقْرَضُونِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَلْعَنُنِي.
١. وَيْلٌ لِي يَا أُمِّي لِأَنَّكِ وَلَدْتِنِي: عندما وضع إرميا في اعتباره قسوة رسالته، فكّر في الويل الذي تحمّله شخصيًّا. وتساءل، كما فعل أيوب، إن كان أفضل له لو لم يكن قد وُلِد أصلًا.
٢. إِنْسَانَ خِصَامٍ وَإِنْسَانَ نِزَاعٍ لِكُلِّ ٱلْأَرْضِ: تمثَّل ويل إرميا بشكل رئيسي في حقيقة أنه حارب باستمرار من أجل الرسالة التي أعطاه الله إياها ليذيعها. وكانت خدمته ممتلئة بالنزاع والخصام الذي بدا أنه كان ضد الأرض كلها.
• “أنا أقاوَم وأُخاصَم بشكل عام من أجل أداء واجبي بحرية وإخلاص. وهذا هو الأجر الذي يدفعه العالم للخدام الأتقياء الذين عادة يتركون بصمتهم. وهو يقول مع جيروم: أشكر الله على أني مستحق أن يبغضني العالم. وقال لوثر نفسه إنه كان يتغذى على التوبيخات.” تراب (Trapp)
٣. وَكُلُّ وَاحِدٍ يَلْعَنُنِي: رأى إرميا أنه أمر جدير بالملاحظة أن يشتمه الآخرون، بينما لم يخدع أحدًا أو يحتل على أحد، سواء أكان بالاقتراض أو الإقراض بطريقة غير شريفة. ومع ذلك، أحس بأنه ملعون من الجميع وأنه غير مرحب به.
• “هذا واحد من أكثر اعترافات إرميا تأثيرًا في النفس. لقد كان يشكو من الإحساس بالوحدة. وكمُنتْ عظمته في طبيعته الحساسة التي شعرت بالألم الحاد بسبب شعبه ومصيرهم المظلم. وقد أثر فيه وضع الأُمة اليائس والصعوبات التي واجهها.” فينبيرغ (Feinberg)
• “إن أعظم المحن التي يتعرض لها شعب الله في محاولتهم خدمتهم لسيّدهم هي عدم النجاح. ومن المؤسف أن البقرات العجاف السبع، وهي تأكل البقرات السمينة السبع، تمتحن إيمان المؤمن بالمسيح بقسوة. ونادرًا ما تأتي إلينا خيبات الأمل فُرادى. لكنها، مثل رسل أيوب، تتلاحق عن كثب. وكقاعدة عامة، عندما ينجح المرء، فإنه يواصل النجاح. فهو يستمد التشجيع مما فعله الله بالفعل من خلاله، وينطلق من قوة إلى قوة. لكن يرجح أن هنالك نعمة أكبر يُظهرها المؤمن بالمسيح، والذي لا يحقق نجاحًا حاليًّا، ويدرك الأشياء التي لا يراها بعد، ويستمر في العمل. والعمل ليس سهلًا، لكن العمل والانتظار أصعب بكثير. سبيرجن (Spurgeon)
ج) الآيات (١١-١٤): وعد بالعَون، وعد بالسبي
١١١قَالَ ٱلرَّبُّ: «إِنِّي أَحُلُّكَ لِلْخَيْرِ. إِنِّي أَجْعَلُ ٱلْعَدُوَّ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ فِي وَقْتِ ٱلشَّرِّ وَفِي وَقْتِ ٱلضِّيقِ. ١٢هَلْ يَكْسِرُ ٱلْحَدِيدُ ٱلْحَدِيدَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلشِّمَالِ وَٱلنُّحَاسَ؟ ١٣ثَرْوَتُكَ وَخَزَائِنُكَ أَدْفَعُهَا لِلنَّهْبِ، لَا بِثَمَنٍ، بَلْ بِكُلِّ خَطَايَاكَ وَفِي كُلِّ تُخُومِكَ. ١٤وَأُعَبِّرُكَ مَعَ أَعْدَائِكَ فِي أَرْضٍ لَمْ تَعْرِفْهَا، لِأَنَّ نَارًا قَدْ أُشْعِلَتْ بِغَضَبِي تُوقَدُ عَلَيْكُمْ.
١. إِنِّي أَحُلُّكَ لِلْخَيْرِ (لبقيتكم): وعد الله إرميا – شخصيًّا وكممثل عن أمته معًا – بأنه لن يتم التخلي عنهم في أيام سبيهم، وسيعطيه الرب نعمة في عيون الأعداء القادمين (إِنِّي أَجْعَلُ ٱلْعَدُوَّ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ).
• “لاحظْ أنه لا يوجد إعفاء له من دعوته، بل هنالك تجديد لها.” كيدنر (Kidner)
• “تَحقق هذا حرفيًّا (انظر إرميا ٣٩: ١١، إلخ. فقد كلّف نبوخذنصر آمر جيشه (رئيس الشُّرَط)، نبوزردان، أن يَحْسُن الاهتمام به، وألّا يؤذيه، وأن يمنحه كل الامتيازات التي يمكن أن يطلبها.” كلارك (Clarke)
٢. هَلْ يَكْسِرُ ٱلْحَدِيدُ ٱلْحَدِيدَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلشِّمَالِ وَٱلنُّحَاسَ؟: رغم أن الله قال إنه سيعتني بنبيه إرميا في الأزمة القادمة، إلا أن هذا لم يعنِ أن مصير يهوذا قد تغيّر بشكل عام. إذ ستواجههم أسلحة بابل المصنوعة من الحديد والنحاس بشكل مؤكد.
• “كان يأتي أجود أنواع الحديد (خام الشمال) في القرن السابع ق. م. من منطقة البحر الأسود. ومن الواضح أن أسلحة يهوذا لن تكون كافية لصد الجيوش البابلية.” هاريسون (Harrison)
٣. وَأُعَبِّرُكَ مَعَ أَعْدَائِكَ فِي أَرْضٍ لَمْ تَعْرِفْهَا: لم تكن دينونة يهوذا وغزوها أمرًا مؤكدًا فحسب، لكن شعبها سيُسبى أيضًا من أرضهم إلى أرض أعدائهم المجهولة لهم.
د ) الآيات (١٥-١٨): صلاة النبي الممتلئة ألمًا
١٥أَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَ. ٱذْكُرْنِي وَتَعَهَّدْنِي وَٱنْتَقِمْ لِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ. بِطُولِ أَنَاتِكَ لَا تَأْخُذْنِي. اِعْرِفِ ٱحْتِمَالِي ٱلْعَارَ لِأَجْلِكَ. ١٦وُجِدَ كَلَامُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلَامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي، لِأَنِّي دُعِيتُ بِٱسْمِكَ يَا رَبُّ إِلَهَ ٱلْجُنُودِ. ١٧لَمْ أَجْلِسْ فِي مَحْفَلِ ٱلْمَازِحِينَ مُبْتَهِجًا. مِنْ أَجْلِ يَدِكَ جَلَسْتُ وَحْدِي، لِأَنَّكَ قَدْ مَلَأْتَنِي غَضَبًا. ١٨لِمَاذَا كَانَ وَجَعِي دَائِمًا وَجُرْحِي عَدِيمَ ٱلشِّفَاءِ، يَأْبَى أَنْ يُشْفَى؟ أَتَكُونُ لِي مِثْلَ كَاذِبٍ، مِثْلَ مِيَاهٍ غَيْرِ دَائِمَةٍ؟
١. ٱذْكُرْنِي وَتَعَهَّدْنِي وَٱنْتَقِمْ لِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ: فعل إرميا ما فعله الرجال الأتقياء في العهد القديم. فقد تطلّع إلى الله لأجل الحماية والعدل عند التعرض للاضطهاد من أجل البر. فاستطاع أن يقول: اِعْرِفِ ٱحْتِمَالِي ٱلْعَارَ لِأَجْلِكَ. ولذلك، أمكنه أيضًا أن يترك أي انتقام مناسب لله.
• ٱذْكُرْنِي: “لا يدل تعبير ’يذكر‘ في النص العبري على عملية التذكر الذهني فحسب. فهو يدل أيضًا على استعادة الماضي بطريقة تؤدي إلى اتخاذ إجراءات في الحاضر.” ثومبسون (Thompson)
• “نفر الشعب من إرميا بسبب شهادته. لكن لم يكن لديه خيار آخر سوى إعلان كلمة الله لأمة متمردة. كان رجلًا وحيدًا وقلقًا، غير أنه كان في الوقت نفسه فرحًا لأن الله يسكن في قلبه.” هاريسون (Harrison)
٢. وُجِدَ كَلَامُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلَامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي: بينما كان إرميا يرافع عن قضيته أمام الله، أعلن له حبه الكبير لكلمته وتركيزه عليها.
• أولًا، وجد إرميا كلمة الله، فلم يتجاهلها أو يأخذها كأمر مسلّم به.
• ثم أكلها، متخذًا منها طعامًا لنفسه ولإنعاشه وتغذيته.
• ثم عد كلمة الله فرحًا وابتهاجًا لقلبه. لقد التذّ بكلمة الله من كل أعماق كيانه.
“قلتُ إن إرميا يُطلعنا على سر هنا. فقد كان السر وراء حياته الخارجية التي تتألف من خدمته الأمينة الدائمة هو محبته الداخلية للكلمة التي كان يعظ بها.” سبيرجن (Spurgeon)
“إنه لأمر مختلف عن القول ’وُجد كلامك فأُعجبت به‘ أو ’وُجد كلامك فانتقدته‘ أو ’وجدت كلامك فقمت بتحليله وإلقاء عظة منه.‘ فهذه هي تجربة الخادم.” سبيرجن (Spurgeon)
٣. لِأَنِّي دُعِيتُ بِٱسْمِكَ: بدت هذه الفائدة والقيمة الموضوعتين على كلمة الله طبيعية وملائمة لإرميا، لأنه عرف أنه دُعي باسم الرب. ويرى النبي أن من الغريب ألّا يجد شخصٌ يدعى باسم الرب فائدة وقيمة وتغذية وفرحًا في كلمة الله.
٤. لَمْ أَجْلِسْ فِي مَحْفَلِ ٱلْمَازِحِينَ مُبْتَهِجًا: رافع إرميا عن نفسه بقوله إنه فصل نفسه عن الذين لا يثمّنون كلمة الله ولا يحبونها. وقد عبّر عن هذا بصياغة توحي بصياغة المزمور الأول الذي يبيّن بركة مراعاة كلمة الله.
• “كان واجبه التعيس أن يندد بدينونات الله على شعب أحبه كثيرًا لكن من المستحيل إنقاذهم. فحتى معاناته القلبية العميقة وشفقته المُذيبة كانتا عاجزتين تجاههم، بل كانت تثير سخريتهم لا اهتمامهم.” سبيرجن (Spurgeon)
٥. مِنْ أَجْلِ يَدِكَ جَلَسْتُ وَحْدِي: عنى انفصاله عن المستهزئين أنه كانت هنالك أوقات جلس فيها النبي وحده طاعة لله ولكلمته في نزاهة.
• “جلس النبي وحده بسبب يد الله، أي أنه كان هنالك تقييد إلهي لأجل مهمته الخاصة.” ثومبسون (Thompson)
٦. لِمَاذَا كَانَ وَجَعِي دَائِمًا… أَتَكُونُ لِي مِثْلَ كَاذِبٍ، مِثْلَ مِيَاهٍ غَيْرِ دَائِمَةٍ؟: كانت لإرميا ثقة حقيقية بالله وصلة حقيقية بكلمته. غير أن هذا لم يُزِل الأزمة. فكانت هنالك أوقات بدا فيها أن الألم دائم، وخشي ألّا يكون الله أمينًا له كجدول ماء غير موثوق به. فكان هذا تحدِّيًا حقيقيًّا لإيمانه بصلاح الله وقوّته.
• “كان هنالك وقت عندما فكّر فيه إرميا في الله كينبوع ماء حي (إرميا ٢: ١٣). والآن، يبدو أنه مثل مياه توقفت.” ثومبسون (Thompson)
• “في حالة اضطرابه هذه، اتهم الله بعدم وفائه بوعوده بتشديده في مقاومته لأعدائه.” فينبيرغ (Feinberg)
• “كانت هذه نوبة شديدة الانفجار من عدم الثقة بالنفس والاستياء. فاحتاجت المصابيح العظمى إلى زهليقة (أداة كالمقص تقص الجزء المحترق من الفتيلة).” تراب (Trapp)
هـ) الآيات (١٩-٢١): وعد بحماية النبي
١٩لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: «إِنْ رَجَعْتَ أُرَجِّعْكَ، فَتَقِفْ أَمَامِي. وَإِذَا أَخْرَجْتَ ٱلثَّمِينَ مِنَ ٱلْمَرْذُولِ فَمِثْلَ فَمِي تَكُونُ. هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْكَ وَأَنْتَ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ. ٢٠وَأَجْعَلُكَ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ سُورَ نُحَاسٍ حَصِينًا، فَيُحَارِبُونَكَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ، لِأَنِّي مَعَكَ لِأُخَلِّصَكَ وَأُنْقِذَكَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. ٢١فَأُنْقِذُكَ مِنْ يَدِ ٱلْأَشْرَارِ وَأَفْدِيكَ مِنْ كَفِّ ٱلْعُتَاةِ.
١. إِنْ رَجَعْتَ أُرَجِّعْكَ: وعد الرب إرميا بالاسترداد رغم الرفض الحالي والأزمة القادمة. فإذا رفض التجربة بأن ينظر إلى الله على أنه غير مبالٍ، أو غير موثوق به، واستمر ينقّي نفسه (وَإِذَا أَخْرَجْتَ ٱلثَّمِينَ مِنَ ٱلْمَرْذُولِ)، فسيظل ناطقًا باسم الرب.
• “كانت في قلب إرميا أفكار غير جديرة حول الله. وقد وجدت هذه الأفكار تعبيرًا لها في أقوال النبي. فدعه يطهر قلبه من مثل هذا الخليط، فيخرج ٱلثَّمِينَ مِنَ ٱلْمَرْذُولِ، ويكرس نفسه للذهب الحقيقي فقط، وهو الحق الإلهي.” مورجان (Morgan)
• “من المفارقات أنه كان على الله أن يطلب من إرميا أن يتوب. فلسنوات طويلة، كان إرميا يطلب من شعب إسرائيل العودة إلى التوبة. لكن كان عليه الآن أن يتوب هو نفسه.” رايكن (Ryken)
٢. هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْكَ وَأَنْتَ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ: كان من المهم أن يبقى إرميا نبيًّا لله لا يتزعزع. ويمكن للشعب أن يرجعوا إليه، لكن لا ينبغي له أن يتزحزح من مكانه ليرضيهم.
• “يوجد في نهاية الآية ١٩ تلاعب على الكلمتين ’يرجعون‘ و’لا ترجع،‘ حيث يتوجب عليه أن يرفع شعبه ولا يسمح لهم بأن يجروه إلى مستواهم.” فينبيرغ (Feinberg)
٣. وَأَجْعَلُكَ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ سُورَ نُحَاسٍ حَصِينًا: إذا بقي إرميا صامدًا في موقفه كنبي لله، فسيجعله الله قويًّا لا يُقهَر. وسيحقق الله وعوده له بالإنقاذ (فَأُنْقِذُكَ مِنْ يَدِ ٱلْأَشْرَارِ وَأَفْدِيكَ مِنْ كَفِّ ٱلْعُتَاةِ).
• “كم كان الرب كريمًا مع خادمه المرهَق في مواجهة هذا الانفجار من الخصام ضده. فلم يشطب على إرميا على أساس أنه فاشل. بل أظهر له عدم قيمة مثل هذه الاتهامات التي لا أساس لها. وأشار إلى طريق الاسترداد من خلال التوبة والقوة الإلهية.” كوندال (Cundall)
• عبّر الله عن الوعد بالخلاص في ثلاثة أفعال مهمة تُستخدم في العهد القديم لهذا الغرض. وهي موجودة في نصوص مهمة مثل قصة الخروج، رغم أن لها تطبيقات أكثر عمومية. فالصورة الكلية للخلاص متعددة الجوانب، ويقدم كل فعل منها توكيدًا مختلفًا.” ثومبسون (Thompson)
أخلّص: “تؤكد الأسماء المرتبطة بهذا الفعل إخراج أولئك الذين تحت الكبت والقمع إلى مكان رحب.” ثومبسون (Thompson)
أُنقذ: تصف هذه الكلمة نشاط شخص ينتزع فريسة من قبضة مالكها القوي.” ثومبسون (Thompson)
أفدي: “عادة ما يُستخدم هذا الفعل في الإشارة إلى تحرير شخص من ملكية شخص آخر بدفع فدية… وصارت تُستخدم للإشارة إلى أعمال الإنقاذ في الحياة اليومية.” ثومبسون (Thompson)
• “تذكّر الوعود المشجعة في الآيتين ١٩-٢٠ إرميا بدعوته الافتتاحية، كلمة فكلمة تقريبًا (انظر إرميا ١: ١٨-١٩). وهما لا تقدمان شيئًا سهلًا. لكن القوة التي تتكلمان عنها، والحصيلة الانتصارية، ستكونان مجد خدمة إرميا.” كيدنر (Kidner)