سفر إرميا – الإصحاح ١٨
دروس في بيت الفخاري
أولًا. الدرس في بيت الفخاري والاستجابة له
أ ) الآيات (١-٤): إرميا يزور بيت الفخاري
١ٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي صَارَ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ قَائِلًا: ٢«قُمِ ٱنْزِلْ إِلَى بَيْتِ ٱلْفَخَّارِيِّ وَهُنَاكَ أُسْمِعُكَ كَلَامِي». ٣فَنَزَلْتُ إِلَى بَيْتِ ٱلْفَخَّارِيِّ، وَإِذَا هُوَ يَصْنَعُ عَمَلًا عَلَى ٱلدُّولَابِ. ٤فَفَسَدَ ٱلْوِعَاءُ ٱلَّذِي كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ ٱلطِّينِ بِيَدِ ٱلْفَخَّارِيِّ، فَعَادَ وَعَمِلَهُ وِعَاءً آخَرَ كَمَا حَسُنَ فِي عَيْنَيِ ٱلْفَخَّارِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ.
١. قُمِ ٱنْزِلْ إِلَى بَيْتِ ٱلْفَخَّارِيِّ: كما كان الله يفعل أحيانًا مع أنبيائه، أوعز إلى إرميا أن يتعلّم درسًا حيًّا، شيئًا من الحياة اليومية أثناء زيارته لبيت الفخاري.
٢. فَفَسَدَ ٱلْوِعَاءُ ٱلَّذِي كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ ٱلطِّينِ بِيَدِ ٱلْفَخَّارِيِّ، فَعَادَ وَعَمِلَهُ وِعَاءً آخَرَ: لاحظ إرميا وهو يشاهد الفخاري وهو يعمل، قطعة طين بدت غير متعاونة، وكيف أن الفخاري قرر أن يبدأ العمل من جديد. فَعَادَ وَعَمِلَهُ وِعَاءً آخَرَ كَمَا حَسُنَ فِي عَيْنَيِ ٱلْفَخَّارِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ.
• “تجلّت القوة في التلاعب بالطين، والشفقة في إعادة صنع الآنية الفاسدة. لقد فسد الطين فجأة، فلم يعد يعبّر عن فكرة الفخاري. ورأى إرميا أن الفخاري لم يتخلَّ عن ذلك الطين.” مورجان (Morgan)
ب) الآيات (٥-١٠): حق الله في التعامل مع شعبه كما يريد
٥فَصَارَ إِلَيَّ كَلَامُ ٱلرَّبِّ قَائِلًا: ٦«أَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ بِكُمْ كَهَذَا ٱلْفَخَّارِيِّ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ؟ هُوَذَا كَٱلطِّينِ بِيَدِ ٱلْفَخَّارِيِّ أَنْتُمْ هَكَذَا بِيَدِي يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ. ٧تَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِٱلْقَلْعِ وَٱلْهَدْمِ وَٱلْإِهْلَاكِ، ٨فَتَرْجِعُ تِلْكَ ٱلْأُمَّةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا عَنْ شَرِّهَا، فَأَنْدَمُ عَنِ ٱلشَّرِّ ٱلَّذِي قَصَدْتُ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهَا. ٩وَتَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِٱلْبِنَاءِ وَٱلْغَرْسِ، ١٠فَتَفْعَلُ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ، فَلَا تَسْمَعُ لِصَوْتِي، فَأَنْدَمُ عَنِ ٱلْخَيْرِ ٱلَّذِي قُلْتُ إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهَا بِهِ.
١. أَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ بِكُمْ كَهَذَا ٱلْفَخَّارِيِّ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ: من خلال زيارة إرميا إلى بيت الفخاري، كلّم الله النبي وكل إسرائيل، مذكّرًا إياهم بحقّه السيادي في أن يفعل ما يشاء بآنية مشوّهة أو فاسدة، أو بدت غير متعاونة.
• لا يمكن تطبيق هذا القياس التمثيلي، شأنه شأن أي قياس تمثيلي آخر، على كل نقطة. ففي هذا المثل التوضيحي، ليس لدى الطين خيار أو بُعد أخلاقي، بينما كان عصيان إسرائيل قرارًا واعيًا وخيارًا اتخذته مرارًا وتكرارًا. لقد فسدت الآنية في بيت الفخاري (إرميا ١٨: ٤). وقد شوهت إسرائيل نفسها أخلاقيًّا وروحيًّا أمام الله.
• يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ: من الملاحظ أن الله دعا المملكة الجنوبية – والتي لم تكن من الناحية الفنية مملكة جميع الأسباط الاثني عشر – بيت إسرائيل. وكان أحد الأسباب لذلك هو وجود ممثلين حقيقيين عن الأسباط كلهم بين شعب يهوذا بعد هجرة أسباط الشمال إلى المملكة الجنوبية في أيام يربعام (٢ أخبار ١١: ١٣-١٦).
٢. فَتَرْجِعُ تِلْكَ ٱلْأُمَّةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا عَنْ شَرِّهَا، فَأَنْدَمُ: لم يبيّن المثل التوضيحي في بيت الفخاري حق الله في إظهار الدينونة فحسب، بل حقه في إظهاره الرحمة أيضًا. فكانت له الحرية في العمل ثانية على آنية فسدت إذا اختار أن يفعل هذا. ومع ذلك، كان حرًّا أيضًا في استعادة الخير الذي فعله لأمّة إذا فعلت الشر في عينيه.
• تترجم بعض الترجمات كلمة ’يندم‘ إلى ’يتوب‘ أو ’يرجع عن قراره‘ أو ’يَليْن.‘ وهذا أمر لا بأس به إذا فُهمتْ على نحو سليم. “ليس الندم أو التوبة عند الله هنا تغييرًا لرأيه. بل هي استجابته الثابتة المحكومة بطبيعته التي لا تتغير تجاه سلوك الأمّة.” فينبيرغ (Feinberg)
• لم يكن الدرس الأساسي المستفاد من بيت الفخاري هو أنه يمكن لله أن يفعل ما يشاء. بل الدرس الأساسي المستفاد هو أن الله حر في الاستجابة لشعبه وفق سلوكهم الأخلاقي وخياراتهم، وأن الوعود السابقة لا تقيّد ممارسته للعدالة أو تقويمه لهم. “ليس الإنسان أبدًا تحت رحمة إله عديم الشعور. وفي قدرته أن يتوب وينسجم مع مقاصد الله الخيِّرة.” كوندال (Cundall)
• “يتعلق الدرس كله بإعادة الخلق، إلى ما هو أفضل أو أسوأ.” كيدنر (Kidner)
• أظهر بيت الفخاري لإرميا أنه “كان هنالك عقل قادر على تكييف الأسلوب في مواجهة الفشل بطريقة حكيمة لتحقيق القصد رغم الفشل.” مورجان (Morgan)
• “لا يرفضنا تمامًا، لكنه يضعنا من جديد على الدولاب، ويصنعنا من جديد… سلِّمْ نفسك لله مرة أخرى. واعترف بأنك أفسدتَ عمله. واطلب أن يصنعك مرة أخرى.” ماير (Meyer)
ج) الآية (١١): وضع خطة دينونة
١١فَٱلْآنَ كَلِّمْ رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ قَائِلًا: هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: هَأَنَذَا مُصْدِرٌ عَلَيْكُمْ شَرًّا، وَقَاصِدٌ عَلَيْكُمْ قَصْدًا. فَٱرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ ٱلرَّدِيءِ، وَأَصْلِحُوا طُرُقَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ.
١. كَلِّمْ رِجَالَ يَهُوذَا: كان القصد المستفاد في بيت الفخاري توبيخ الثقة الزائفة لدى سكان أورشليم ويهوذا. فقد ظنوا أنه بما أنهم كانوا شعب عهد الله، فلن يحدث لهم سوء. فسهُلَ عليهم أن يصدّقوا كلمات الأنبياء الكذبة الإيجابية المطمئنة لهم.
٢. هَأَنَذَا مُصْدِرٌ عَلَيْكُمْ شَرًّا، وَقَاصِدٌ عَلَيْكُمْ قَصْدًا: أراد الله أن ينبّههم من خلال الدرس في بيت الفخاري إلى خطر الدينونة الوشيكة. فكما يصنع الفخاري الخزف، فإنه سيصنع كارثة (شرًّا) لشعبه.
• هَأَنَذَا مُصْدِرٌ عَلَيْكُمْ شَرًّا: “في الآية ١١، يحمل الفعل (أو اسم الفاعل) العبري المترجم إلى ’مُصْدِر‘ Yoser (مُشَكِّلٌ، صائغٌ) نفس جذر كلمة ’الفخاري.‘ واختيار الكلمة متعمَّد هنا لتعزيز الصلة، حيث سيقوم الله بإعادة تشكيل الأمة من خلال السبي.” هاريسون (Harrison)
٣. فَٱرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ ٱلرَّدِيءِ، وَأَصْلِحُوا طُرُقَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ: يمكن أن يؤخذ الدرس في بيت الفخاري على أنه تشجيع، حيث يذكّرهم بأن التوبة والاستسلام لله أمر ليس بلا معنى. كان الله حرًّا في التراجع عن الدينونة إذا تابوا فعلًا بطريقة هادفة.
• “لاحِظ جيدًا القاعدة الأساسية للنبوة المعلنة هنا، وهي أن كُلًّا من وعود الله وتهديداته ليست مطلقة، بل مشروطة.” كوندال (Cundall)
• لاحِظ الإلحاح: ’فَٱرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ.‘ “الناس على استعداد لأن يَعِدوا بالرجوع عندما يكونون قد قطعوا شوطًا لا بأس به، وعندما يكونون قد تجاوزوا كل إمكانية للرجوع. لكن كلمة ’فَٱلْآنَ‘ قبيحة بالنسبة لهم. فهم يفضّلون كلمة ’غدًا.‘ ’فَٱلْآنَ‘ مقطع أحادي يبدو أنه يحترق في أحضانهم مثل الجمرات المتقدة، ولهذا فإنه يطرحونه بعيدًا عنهم.” سبيرجن (Spurgeon)
د ) الآيات (١٢-١٧): استجابة الشعب وجواب الله
١٢فَقَالُوا: «بَاطِلٌ! لِأَنَّنَا نَسْعَى وَرَاءَ أَفْكَارِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ حَسَبَ عِنَادِ قَلْبِهِ ٱلرَّدِيءِ». ١٣لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: «ٱسْأَلُوا بَيْنَ ٱلْأُمَمِ. مَنْ سَمِعَ كَهَذِهِ؟ مَا يُقْشَعَرُّ مِنْهُ جِدًّا عَمِلَتْ عَذْرَاءُ إِسْرَائِيلَ. ١٤هَلْ يَخْلُو صَخْرُ حَقْلِي مِنْ ثَلْجِ لُبْنَانَ؟ أَوْ هَلْ تَنْشَفُ ٱلْمِيَاهُ ٱلْمُنْفَجِرَةُ ٱلْبَارِدَةُ ٱلْجَارِيَةُ؟ ١٥لِأَنَّ شَعْبِي قَدْ نَسِيَني! بَخَّرُوا لِلْبَاطِلِ، وَقَدْ أَعْثَرُوهُمْ فِي طُرُقِهِمْ، فِي ٱلسُّبُلِ ٱلْقَدِيمَةِ لِيَسْلُكُوا فِي شُعَبٍ، فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مُسَهَّلٍ، ١٦لِتُجْعَلْ أَرْضُهُمْ خَرَابًا وَصَفِيرًا أَبَدِيًّا. كُلُّ مَارٍّ فِيهَا يَدْهَشُ وَيَنْغِضُ رَأْسَهُ. ١٧كَرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ أُبَدِّدُهُمْ أَمَامَ ٱلْعَدُوِّ. أُرِيهِمِ ٱلْقَفَا لَا ٱلْوَجْهَ فِي يَوْمِ مُصِيبَتِهِمْ.
١. بَاطِلٌ! لِأَنَّنَا نَسْعَى وَرَاءَ أَفْكَارِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ حَسَبَ عِنَادِ قَلْبِهِ ٱلرَّدِيءِ: كانت يهوذا في مكان مأساوي من الشعور بأن التوبة أمر ميؤوس منه. لم يحسّوا باليأس لأنهم خشوا أن الله لن يستجيب لهم كما وعد. لكنهم أحسوا باليأس لأنهم لم يحسّوا بأن الأمر كله يستحق تغيير إملاءات قلوبهم الشريرة لمجرد أن نبيًّا طلب منهم ذلك.
• “يمكنك أن توفّر تعبك في مزيد من المحاولات في حثّنا. فنحن صالحون وفي أفضل حال ممكنة، ولن نتزحزح من موقفنا. فلا تتعب نفسك في قضية خاسرة.” تراب (Trapp)
٢. ٱسْأَلُوا بَيْنَ ٱلْأُمَمِ. مَنْ سَمِعَ كَهَذِهِ؟: استجاب الله لجوابهم باندهاش. إذ لم يكن حتى بين الأمم مثل هذه الحماقة وقساوة القلب. فكان الأمر أشبه بترك مياه نقية (ثَلْجِ لُبْنَانَ) واللجوء إلى مياه غريبة، مياه بِركة قذرة موحلة. وكان الأمر أشبه بترك طريق سريع معبَّد آمِن لكي يسيروا في ممرات غير آمنة، حيث يعثر الناس ويسقطون.
• وَصَفِيرًا أَبَدِيًّا. كُلُّ مَارٍّ فِيهَا يَدْهَشُ وَيَنْغِضُ رَأْسَهُ: “سيكون الصفير تعبيرًا عن الدهشة أكثر منه عن الاستهزاء. إذ سيهز الناس رؤوسهم على غباوة الأمة غير المألوفة.” فينبيرغ (Feinberg)
• “تدل الكلمة العبرية Seriqot والمترجمة إلى ’صفير‘ على أن الأرض ستكون مشهدًا صادمًا لدرجة أن العابرين سيصفّرون وهم في حالة من الرهبة. والآية جديرة بالملاحظة بسبب استخدام السجع وتكرار صوت ’س‘ الذي يوصل انطباع الصفير أو الهسهسة.” ثومبسون (Thompson)
• كَرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ أُبَدِّدُهُمْ أَمَامَ ٱلْعَدُوِّ: “الريح الشرقية هي رياح الخماسين، وهي ريح حادة قادمة من الصحارى الشرقية.” هاريسون (Harrison)
٣. أُرِيهِمِ ٱلْقَفَا لَا ٱلْوَجْهَ فِي يَوْمِ مُصِيبَتِهِمْ: أمر الله كهنة إسرائيل بأن يباركوا شعبه. وكان جزء من تلك البركة هي أن يشرق الله عليهم بوجهه (عدد ٦: ٤٢-٢٦). وسرعان ما ستشعر إسرائيل بانسحاب كامل لوجه الله المشرق المواتي. فقد شعروا بأن التوبة شيء تافه غير جدير. وسيكونون في حالة أسوأ عندما لا يتوبون.
• “عندما يقول الله، ’أُرِيهِمِ ٱلْقَفَا لَا ٱلْوَجْهَ،‘ فإنه يعني أنه سيختفي عنهم.” فينبيرغ (Feinberg)
ثانيًا. صلاة إرميا ضد أعدائه
أ ) الآية (١٨): المؤامرة على إرميا
١٨فقَالُوا: “هَلُمَّ فَنُفَكِّرُ عَلَى إِرْمِيَا أَفْكَارًا، لِأَنَّ ٱلشَّرِيعَةَ لَا تَبِيدُ عَنِ ٱلْكَاهِنِ، وَلَا ٱلْمَشُورَةَ عَنِ ٱلْحَكِيمِ، وَلَا ٱلْكَلِمَةَ عَنِ ٱلنَّبِيِّ. هَلُمَّ فَنَضْرِبُهُ بِٱللِّسَانِ وَلِكُلِّ كَلَامِهِ لَا نُصْغِي.”
١. هَلُمَّ فَنُفَكِّرُ عَلَى إِرْمِيَا أَفْكَارًا: غالبًا ما ننظر إلى إرميا كشخصية كمحارب وحيد، كنبي يناصر قضية الله وحده. ومن السهل أن ننسى أنه كان هنالك كثيرون من نافسوا النبي على آذان أورشليم ويهوذا، آملين إعطاء الشعب كلمة تعزية وتشجيع في وقت كانت رسالة الله إليهم هي التحذير والدينونة.
٢. لِأَنَّ ٱلشَّرِيعَةَ لَا تَبِيدُ عَنِ ٱلْكَاهِنِ، وَلَا ٱلْمَشُورَةَ عَنِ ٱلْحَكِيمِ، وَلَا ٱلْكَلِمَةَ عَنِ ٱلنَّبِيِّ: كانت هذه (جزئيًّا) رسالة الأنبياء الكذبة. فإذا أخذ رجل لقب الكاهن فلا بد أن لديه الشريعة. وإذا عُدَّ حكيمًا، لا بد أن لديه مشورة جيدة. وإذا دُعي نبيًّا، فلا بد أن تكون لديه كلمة من الله. فكانت هذه عقلية تنكر إلى حد بعيد وجود الكهنة الفاسدين، والقادة الحمقى، والأنبياء غير الأمناء.
• “لم يتهاون إرميا في إدانة الفئات الثلاث من المسؤولين المُشار إليهم هنا – الكهنة، والحكماء، والأنبياء. وربما يكون استنتاجًا عادلًا أن هؤلاء الرجال التابعين للمؤسسة الحاكمة هم الذين حرضوا على المؤامرة.” ثومبسون (Thompson)
• سيصوغ نبي لاحق هذا الأمر بطريقة معكوسة: “سَتَأْتِي مُصِيبَةٌ عَلَى مُصِيبَةٍ، وَيَكُونُ خَبَرٌ عَلَى خَبَرٍ، فَيَطْلُبُونَ رُؤْيَا مِنَ ٱلنَّبِيِّ، وَٱلشَّرِيعَةُ تُبَادُ عَنِ ٱلْكَاهِنِ، وَٱلْمَشُورَةُ عَنِ ٱلشُّيُوخِ” (حزقيال ٧: ٢٦).
٣. هَلُمَّ فَنَضْرِبُهُ بِٱللِّسَانِ وَلِكُلِّ كَلَامِهِ لَا نُصْغِي: استخدم أعداء إرميا إستراتيجية الهجوم المتعمد والإنكار ضده. ولم تمت هذه الإستراتيجية مع موت أعداء إرميا.
• فَنَضْرِبُهُ بِٱللِّسَانِ: “ينبغي أن تكون الترجمة: ’فنضربه على اللسان.‘ “يعاقَب الكذب وشهادة الزور في بلدان الشرق حتى يومنا هذا بضرب الشخص على فمه بقطعة قوية من الجلد مثل نعل الحذاء.” كلارك (Clarke)
ب) الآيات (١٩-٢٠): إرميا يترافع عن نفسه
١٩أَصْغِ لِي يَا رَبُّ، وَٱسْمَعْ صَوْتَ أَخْصَامِي. ٢٠هَلْ يُجَازَى عَنْ خَيْرٍ بِشَرٍّ؟ لِأَنَّهُمْ حَفَرُوا حُفْرَةً لِنَفْسِي. ٱذْكُرْ وُقُوفِي أَمَامَكَ لِأَتَكَلَّمَ عَنْهُمْ بِٱلْخَيْرِ لِأَرُدَّ غَضَبَكَ عَنْهُمْ.
١. أَصْغِ لِي يَا رَبُّ، وَٱسْمَعْ صَوْتَ أَخْصَامِي: طلب إرميا من الله أولًا أن يصغي إليه، ثم أن يصغي إلى أعدائه. فقد كان يؤمن بأن الله البار سيرى أنهم على خطأ، وأنه على صواب.
٢. ٱذْكُرْ وُقُوفِي أَمَامَكَ لِأَتَكَلَّمَ عَنْهُمْ بِٱلْخَيْرِ: طلب إرميا من الله أن يتذكر أنه صلى من أجل هؤلاء الأعداء، وأنه صلى لخيرهم – أن يصرف غضب الله عنهم. فكان هذا هو الخير الذي فعله لأجلهم. لكنهم قابلوا هذا الخير بقيام حفر حفرة لحياته.
• “لو كان قد أظهر اهتمامًا أقل بشعبه، وقلّل الصلاة من أجلهم، لكان ألمه أقلّ مما كان عليه.” كيدنر (Kidner)
ب) الآيات (٢١-٢٣): إرميا يصلي ضد أعدائه
٢١لِذَلِكَ سَلِّمْ بَنِيهِمْ لِلْجُوعِ، وَٱدْفَعْهُمْ لِيَدِ ٱلسَّيْفِ، فَتَصِيرَ نِسَاؤُهُمْ ثَكَالَى وَأَرَامِلَ، وَتَصِيرَ رِجَالُهُمْ قَتْلَى ٱلْمَوْتِ، وَشُبَّانُهُمْ مَضْرُوبِي ٱلسَّيْفِ فِي ٱلْحَرْبِ. ٢٢لِيُسْمَعْ صِيَاحٌ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِذْ تَجْلِبُ عَلَيْهِمْ جَيْشًا بَغْتَةً. لِأَنَّهُمْ حَفَرُوا حُفْرَةً لِيُمْسِكُونِي، وَطَمَرُوا فِخَاخًا لِرِجْلَيَّ. ٢٣وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَ كُلَّ مَشُورَتِهِمْ عَلَيَّ لِلْمَوْتِ. لَا تَصْفَحْ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلَا تَمْحُ خَطِيَّتَهُمْ مِنْ أَمَامِكَ، بَلْ لِيَكُونُوا مُتَعَثِّرِينَ أَمَامَكَ. فِي وَقْتِ غَضَبِكَ عَامِلْهُمْ.
١. لِذَلِكَ سَلِّمْ بَنِيهِمْ لِلْجُوعِ وَٱدْفَعْهُمْ لِيَدِ ٱلسَّيْفِ: صلى إرميا صلاة عنيفة ضد شعبه، طالبًا أن يُسكب عليهم كل أنواع الأزمات والمصائب، سواء أكانت في هذه الحياة (فَتَصِيرَ نِسَاؤُهُمْ ثَكَالَى وَأَرَامِلَ) أم في الحياة الأخرى (لَا تَصْفَحْ عَنْ إِثْمِهِمْ).
• “استمد إرميا هذه المطالب بالانتقام القاسي من مقاومتهم التي لا هوادة فيها، ومن سوء فهمهم المتعمّد لدوافعه.” كوندال (Cundall)
• “يأتي هذا حسب النمط الكلاسيكي للمزامير الانتقامية (التي تستنزل اللعنات على الأعداء)، مثل المزامير ١٠ و٣٥ و٥٨ و٥٩ حيث تقدَّم صلاة عنيفة ضد عدو.
• “في حين أن هذه الأقوال يمكن أن تشكّل كشفًا صادمًا عن إنسانية النبي، إلا أنها تنسجم مع اللعنات الأخرى التي تُلفظ باسم الرب (انظر مزمور ١٣٧: ٩). هاريسون (Harrison)
٢. فِي وَقْتِ غَضَبِكَ عَامِلْهُمْ: إن الرابط المشترك بين إرميا ١٨ وهذه المزامير الانتقامية (التي تستنزل اللعنات على الأعداء) هو أنها تعرض الشوق إلى الانتقام بين يدي الله مع الخضوع له – بدلًا من أن يأخذ المرء الانتقام بيده. وهذا دافع صالح إلهي عندما يتعرض المرء لظلم شديد.
• “من الواضح أن الله لم يكن ملزمًا بأي حال من التجاوب مع كل لفظة من ألفاظ خادمه. وعندما كان يستجيب، فبكلمة تشجيع أحيانًا (١١: ٢١-٢٣) وبكلمة توبيخ أحيانًا أخرى (١٢: ٥-٦؛ ١٥: ١٩).” ثومبسون (Thompson)