سفر إرميا – الإصحاح ٤
رعب الدينونة الآتية
أولًا. التوبة التي تجلب الاسترداد
أ ) الآية (١-٢): بركات لإسرائيل الراجعة التائبة
١إِنْ رَجَعْتَ يَا إِسْرَائِيلُ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، إِنْ رَجَعْتَ إِلَيَّ وَإِنْ نَزَعْتَ مَكْرُهَاتِكَ مِنْ أَمَامِي، فَلَا تَتِيهُ. ٢وَإِنْ حَلَفْتَ: حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ، بِٱلْحَقِّ وَٱلْعَدْلِ وَٱلْبِرِّ، فَتَتَبَرَّكُ ٱلشُّعُوبُ بِهِ، وَبِهِ يَفْتَخِرُونَ.
١. إِنْ رَجَعْتَ إِلَيَّ: يواصل هذا الخطاب نفس الموضوع الذي أثاره إرميا ٣، حيث ناشد الرب إسرائيل التوقف عن طرق ارتدادها والرجوع إليه. وقد قُدمت الدعوة بكل بساطتها إلى كلا المملكتين (إرميا ٣).
٢. وَإِنْ نَزَعْتَ مَكْرُهَاتِكَ مِنْ أَمَامِي: عنت العودة إلى الرب لإسرائيل أن عليها أن تُبعد أوثانها (مكرهاتها). فلا يسعها أن تتمسك بالأوثان وتعود إلى الرب في الوقت نفسه، كما أن الزوجة الخائنة لا تستطيع أن تحتفظ بعشيقها والعودة إلى شريك حياتها في الوقت نفسه.
• “يُستخدم تعبير ’مكرهات‘ في إرميا هنا وفي هوشع ٩: ١٠ وحزقيال في الإشارة إلى الآلهة الوثنية وارتباطاتها بالطقوس الدينية الوثنية.” هاريسون (Harrison)
٣. فَلَا تَتِيهُ. وَإِنْ حَلَفْتَ: حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ: ستأتي هاتان المكافأتان إلى إسرائيل التائبة. أولًا، ستتمتع بالأمان، حيث لن تتزعزع (فَلَا تَتِيهُ). ثانيًا، ستُستَرَد إلى علاقة حقيقية بالرب، حيث سيستطيعون أن يحلفوا ’حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ.‘
• فَلَا تَتِيهُ: “قيل هذا قبل السبي البابلي. وهنا وعد بأنهم إذا عادوا عن وثنيّتهم، لن يقادوا إلى السبي. ولهذا، كان يمكن تفادي هذا التهديد الإيجابي بالدينونة إذا رجعوا إلى الرب.” كلارك (Clarke)
• هنالك أشخاص ادّعوا ذات يوم أنهم يسلكون مع الله ويختبرونه، ثم تركوا مجاهرتهم الظاهرية هذه. ويزعم بعض الذين تخلوا عن مسيرتهم مع الرب أن خبرتهم بالله كانت كلها وهمًا. بل يذهبون إلى إنكار إعلان الله الذاتي عن نفسه في يسوع المسيح. فإذا عاد حتى هؤلاء إلى الرب في توبة حقيقية، سيتمكنون من أن يحلفوا ثانية ’حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ.‘
٤. بِٱلْحَقِّ وَٱلْعَدْلِ وَٱلْبِرِّ، فَتَتَبَرَّكُ ٱلشُّعُوبُ بِهِ، وَبِهِ يَفْتَخِرُونَ: هذا هو فهم الرب الذي يخص أولئك الذين يرجعون إليه في توبة صادقة. ومرة أخرى، سيرون طبيعته البارة الصالحة الحقيقية، وبركته على الشعوب.
ب) الآيات (٣-٤): حرث الأرض المُراحة
٣لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ لِرِجَالِ يَهُوذَا وَلِأُورُشَلِيمَ: ٱحْرُثُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا وَلَا تَزْرَعُوا فِي ٱلْأَشْوَاكِ. ٤اِخْتَتِنُوا لِلرَّبِّ وَٱنْزِعُوا غُرَلَ قُلُوبِكُمْ يَا رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، لِئَلَّا يَخْرُجَ كَنَارٍ غَيْظِي، فَيُحْرِقَ وَلَيْسَ مَنْ يُطْفِئُ، بِسَبَبِ شَرِّ أَعْمَالِكُمْ.
١. ٱحْرُثُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا (أرضكم المُراحة): دعا الله يهوذا وأورشليم إلى العودة إليه من الحالة المتقسية. والأرض المُراحة أرض زراعية غير مزروعة الآن مع أنها حُرثت من قبل، فبقيت خامدة لسنة أو أكثر. وحرثها صعب، ولا يمكن أن تنمو محاصيل إلى أن يتم البدء بحرثها.
توحي الأرض المُراحة بإثمار سابق.
تحتاج الأرض المُراحة إلى بعض العمل لحراثتها.
توحي الأرض المُراحة بشيء من المقاومة.
• “سيكون من العبث زرع بذور التوبة في تربة غير ملائمة.” هاريسون (Harrison)
٢. وَلَا تَزْرَعُوا فِي ٱلْأَشْوَاكِ: لعل ما يخطر ببال الكاتب هنا الأعشاب الضارة والزوان. وليس الأمر كما لو أنه لا شيء ينمو في الحقول المُراحة، لكن الأمر ببساطة هو أنه لا يوجد شيء مفيد ينمو فيها. ومن الناحية الروحية، ينبغي لشعب يهوذا أن يبذلوا طاقتهم في قلوب مستعدة توّابة.
• “لا بد أن يكون هنالك حرث عميق واجتثاث لكل ما يعوق النمو، سواء أكان ذلك في المجال الروحي أم الطبيعي، قبل أن يكون هنالك حصاد وافر.” كوندال (Cundall)
٣. اِخْتَتِنُوا لِلرَّبِّ: غيَّر إرميا الصور المجازية، منتقلًا من فكرة الحقل غير المحروث إلى فكرة الرضيع غير المختون في طاعة لعهد إبراهيم. وبدلًا من نزع الغرلة اللحمية الحرفية، كان على شعب يهوذا أن يزيلوا غرلة قلوبهم في تكريس للعهد مع الرب. ويقابل هذا قطع اللحم في الجسد.
٤. لِئَلَّا يَخْرُجَ كَنَارٍ غَيْظِي، فَيُحْرِقَ وَلَيْسَ مَنْ يُطْفِئُ: اجتذب الله شعبه بكلمات لطيفة، لكنه أخبرهم أيضًا بعواقب الرفض المستمر. فإذا لم يعودوا إليه، فإن الدينونة في انتظارهم.
ثانيًا. رؤيا للدينونة القادمة
أ ) الآيات (٥-٨): وصف الدينونة القادمة
٥أَخْبِرُوا فِي يَهُوذَا، وَسَمِّعُوا فِي أُورُشَلِيمَ، وَقُولُوا: ٱضْرِبُوا بِٱلْبُوقِ فِي ٱلْأَرْضِ. نَادُوا بِصَوْتٍ عَالٍ وَقُولُوا: ٱجْتَمِعُوا، فَلْنَدْخُلِ ٱلْمُدُنَ ٱلْحَصِينَةَ. ٦اِرْفَعُوا ٱلرَّايَةَ نَحْوَ صِهْيَوْنَ. اِحْتَمُوا. لَا تَقِفُوا. لِأَنِّي آتِي بِشَرٍّ مِنَ ٱلشِّمَالِ، وَكَسْرٍ عَظِيمٍ. ٧قَدْ صَعِدَ ٱلْأَسَدُ مِنْ غَابَتِهِ، وَزَحَفَ مُهْلِكُ ٱلْأُمَمِ. خَرَجَ مِنْ مَكَانِهِ لِيَجْعَلَ أَرْضَكِ خَرَابًا. تُخْرَبُ مُدُنُكِ فَلَا سَاكِنَ. ٨مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَنَطَّقُوا بِمُسُوحٍ. ٱلْطُمُوا وَوَلْوِلُوا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ حُمُوُّ غَضَبِ ٱلرَّبِّ عَنَّا.
١. ٱضْرِبُوا بِٱلْبُوقِ فِي ٱلْأَرْضِ: رأى دانيال في نبوته جيشًا قادمًا من الشمال لتدمير يهوذا وأورشليم غير التائبتين. فاستعدتا بتحضير الدفاعات (ٱجْتَمِعُوا، فَلْنَدْخُلِ ٱلْمُدُنَ ٱلْحَصِينَةَ)، لكن هذا لن يكون مفيدًا.
• “ضرب البوق إعلان لحالة طوارئ (انظر عاموس ٣: ٦). ولدى سماع المواطنين صوت البوق، سيهربون بحثًا عن السلامة وراء أسوار مدينتهم المحصنة.” ثومبسون (Thompson)
• “الوصف نابض بالحياة لأنه يستخدم صيغة الحاضر النبوي، وهو يصور الدينونة على أنها جارية بالفعل. ولذلك، فإن تحقيقها مؤكد.” كوندال (Cundall)
٢. قَدْ صَعِدَ ٱلْأَسَدُ مِنْ غَابَتِهِ، وَزَحَفَ مُهْلِكُ ٱلْأُمَمِ: تحقق هذا عندما غزا البابليون يهوذا.
• هنالك جدل حول ما إذا كان الغزو الموصوف يخص السكيثيين أم الأشوريين أم البابليين. ويبدو أن الخيار الأفضل هو البابليون. “وتظل الحقيقية أن كلمة الله من خلال النبي لم تذكر السكيثيين، بل إنها استبعدتهم في نقاط معينة بشكل حاسم. وستحقق بابل هذا كله بعد جيل.” كيدنر (Kidner)
• “يمكن أن يشير الأسد إلى كل من أشور وبابل كمدمّرتين شرستين للشعوب.” هاريسون (Harrison)
٣. تَنَطَّقُوا بِمُسُوحٍ. ٱلْطُمُوا وَوَلْوِلُوا: يصوّر إرميا شعب الله وهم يتوبون أخيرًا، لكن بعد فوات الأوان على منع الدينونة الرهيبة.
ب) الآية (٩): تأثير الدينونة القادمة
٩وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، أَنَّ قَلْبَ ٱلْمَلِكِ يُعْدَمُ، وَقُلُوبَ ٱلرُّؤَسَاءِ. وَتَتَحَيَّرُ ٱلْكَهَنَةُ وَتَتَعَجَّبُ ٱلْأَنْبِيَاءُ.
١. وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ… أَنَّ قَلْبَ ٱلْمَلِكِ يُعْدَمُ: عندما تأتي الدينونة الرهيبة، حتى نبلاء يهوذا سيفقدون شجاعتهم ورجاءهم.
• “حتى الشائعات عن كارثة وشيكة كارثة.” رايكن (Ryken)
٢. وَتَتَحَيَّرُ ٱلْكَهَنَةُ وَتَتَعَجَّبُ ٱلْأَنْبِيَاءُ: عندما تأتي الدينونة الرهيبة، لن يعرف القادة الدينيون ما ينبغي أن يفعلوا، لأنهم لم يرجعوا إلى الرب، ولم يحرثوا الأرض المُراحة، ولم يختنوا قلوبهم استجابة لدعوة الله.
ج) الآية (١٠): في فاصل قصير، يتأمل إرميا طبيعة الدينونة الصعبة.
١٠فَقُلْتُ: “آهِ، يَا سَيِّدُ ٱلرَّبُّ، حَقًّا إِنَّكَ خِدَاعًا خَادَعْتَ هَذَا ٱلشَّعْبَ وَأُورُشَلِيمَ، قَائِلًا: يَكُونُ لَكُمْ سَلَامٌ وَقَدْ بَلَغَ ٱلسَّيْفُ ٱلنَّفْسَ.”
١. حَقًّا إِنَّكَ خِدَاعًا خَادَعْتَ هَذَا ٱلشَّعْبَ وَأُورُشَلِيمَ: تساءل إرميا إن كان الله خدع شعبه عندما وعدهم قَائِلًا: يَكُونُ لَكُمْ سَلَامٌ. فعلى ما يبدو، وعد الله شعبه بالسلام بدلًا من أن تأتي عليهم دينونة هائلة (إرميا ٤: ٩).
• “نجد هنا فورة عبّر فيها النبي عمّا فكّر فيه. ويفكر كثيرون أشياء كهذه من دون أن ينطقوا بها.” مورجان (Morgan)
• ومع ذلك، يمكن القول إن الرب ليس هو الذي وعد بالسلام، بل أنبياء كذبة ادعوا أنهم يتكلمون باسمه. وتُستخدم هذه العبارة، ’يَكُونُ لَكُمْ سَلَامٌ،‘ في إرميا ٢٣: ١٦-١٧، حيث نجدها على أفواه الأنبياء الزائفين للذين تنبّأوا بالسلام للذين احتقروا الرب.
• لم يكن السيد الرب هو الذي خدع الشعب وأورشليم خداعًا. إنهم الأنبياء الزائفون الذين وعدوا بالسلام في الوقت الذي كانت فيه الدينونة قادمة.
٢. وَقَدْ بَلَغَ ٱلسَّيْفُ ٱلنَّفْسَ (القلب): بدلًا من السلام، ستحل الدينونة على إسرائيل غير التائبة، والتي ستثمر عن موت المملكة مع كثيرين معها.
د ) الآيات (١١-١٢): الإعلان المُصحّي للدينونة القادمة
١١فِي ذَلِكَ ٱلزَّمَانِ يُقَالُ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ وَلِأُورُشَلِيمَ: “رِيحٌ لَافِحَةٌ مِنَ ٱلْهِضَابِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ نَحْوَ بِنْتِ شَعْبِي، لَا لِلتَّذْرِيَةِ وَلَا لِلتَّنْقِيَةِ. ١٢رِيحٌ أَشَدُّ تَأْتِي لِي مِنْ هَذِهِ. ٱلْآنَ أَنَا أَيْضًا أُحَاكِمُهُمْ.”
١. رِيحٌ لَافِحَةٌ مِنَ ٱلْهِضَابِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ نَحْوَ بِنْتِ شَعْبِي: أعلن إرميا أن الدينونة ستحل على شعبه وعلى أورشليم، وستكون كعاصفة مدمرة.
٢. لَا لِلتَّذْرِيَةِ وَلَا لِلتَّنْقِيَةِ. رِيحٌ أَشَدُّ تَأْتِي لِي مِنْ هَذِه: ستكون الدينونة مثل ريح لافحة قوية، لا مثل مروحة تجلب الهواء البارد المنعش للشعب في الحر. ولن تكون للتنظيف بريح لطيفة. بل ستدمر وتجلب الدينونة كعاصفة.
• “إنها نسمة حارة من الدينونة الإلهية التي ستلتهم كل ما هو جيد وسيئ على حد سواء.” هاريسون (Harrison)
هـ) الآية (١٣): رؤيا الدينونة القادمة
١٣هُوَذَا كَسَحَابٍ يَصْعَدُ، وَكَزَوْبَعَةٍ مَرْكَبَاتُهُ. أَسْرَعُ مِنَ ٱلنُّسُورِ خَيْلُهُ. وَيْلٌ لَنَا لِأَنَّنَا قَدْ أُخْرِبْنَا.
١. هُوَذَا كَسَحَابٍ يَصْعَدُ، وَكَزَوْبَعَةٍ مَرْكَبَاتُهُ: ستتحرك أدوات الدينونة المعلنة بسرعة، حيث ستأتي الجيوش بأسرع من حركة السحاب في السماء، وستكون عرباتهم سريعة كالزوبعة، وخيولهم أسرع من النسور.
٢. وَيْلٌ لَنَا لِأَنَّنَا قَدْ أُخْرِبْنَا: تشير أدوات دينونة الرب إلى أنها غير قابلة للإيقاف. إذ ستنجح الجيوش القادمة في قهر شعب الله ونهبهم.
ثالثًا. مناشدة المستهدفين للدينونة
أ ) الآيات (١٤-١٨): مناشدة لأورشليم
١٤اِغْسِلِي مِنَ ٱلشَّرِّ قَلْبَكِ يَا أُورُشَلِيمُ لِكَيْ تُخَلَّصِي. إِلَى مَتَى تَبِيتُ فِي وَسَطِكِ أَفْكَارُكِ ٱلْبَاطِلَةُ؟ ١٥لِأَنَّ صَوْتًا يُخْبِرُ مِنْ دَانَ، وَيُسْمَعُ بِبَلِيَّةٍ مِنْ جَبَلِ أَفْرَايِمَ: ١٦”اُذْكُرُوا لِلْأُمَمِ. ٱنْظُرُوا. أَسْمِعُوا عَلَى أُورُشَلِيمَ. ٱلْمُحَاصِرُونَ آتُونَ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، فَيُطْلِقُونَ عَلَى مُدُنِ يَهُوذَا صَوْتَهُمْ. ١٧كَحَارِسِي حَقْلٍ صَارُوا عَلَيْهَا حَوَالَيْهَا، لِأَنَّهَا تَمَرَّدَتْ عَلَيَّ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. ١٨طَرِيقُكِ وَأَعْمَالُكِ صَنَعَتْ هَذِهِ لَكِ. هَذَا شَرُّكِ. فَإِنَّهُ مُرٌّ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَ قَلْبَكِ.”
١. اِغْسِلِي مِنَ ٱلشَّرِّ قَلْبَكِ يَا أُورُشَلِيمُ: سبق أن قدمت يهوذا عرضًا خارجيًّا للتوبة، فكان مجرد تظاهر (إرميا ٣: ١٠). فناشد إرميا الشعب أن يغسلوا قلوبهم من الشر، لا من الأفعال الخارجية فقط.
• “القلوب الجسدية مهد للأفكار النجسة، ومجازر للأفكار القاسية الدموية، ومحلات للمقايضة، ودكاكين للأفكار الباطلة الدنيئة، ومحل حِدادة لصياغة للسياسات والأفكار الهدامة. نعم، إنها مثل جحيم صغير من التخيلات المشوشة السوداء.” تراب (Trapp)
• “إدراج هذه الدعوة إلى التوبة هنا متوافق تمامًا مع مناشدات إرميا في الإصحاح الثالث. فرغم أن الدينونة كانت على الأبواب، يبدو أن إرميا لم يعتقد قط أن مناشدة الشعب التوبة قد فات أوانها.” ثومبسون (Thompson)
٢. إِلَى مَتَى تَبِيتُ فِي وَسَطِكِ أَفْكَارُكِ ٱلْبَاطِلَةُ: جلب الشر في قلب شعب يهوذا تهديدًا بدينونة الله. لكن لم تكن هذه مسألة قلبية فقط. إذ كانت أيضًا مسألة أفكار شريرة. فقد انغمسوا في أفكارهم الشريرة وسمحوا لها بالاستيطان في أذهانهم.
• ألقى سبيرجن (Spurgeon) عظة رائعة حول هذا النص بعنوان ’مستأجرون سيئون وكيفية التعامل معهم.‘ وشرح كيف أن الأفكار الشريرة تشبه المستأجرين السيئين للبيوت. “’والآن يقول الرب الإله: إِلَى مَتَى تَبِيتُ فِي وَسَطِكِ أَفْكَارُكِ ٱلْبَاطِلَةُ؟‘ لأنها كلها باطلة – هذه التأخيرات، هذه الوعود الكاذبة، هذا الخداع الذاتي. حتى متى ستظل هذه تجتاح طرق روحك؟”
• ذكر سبيرجن (Spurgeon) الأسباب التي تجعل الأفكار الشريرة شبيهة بالمستأجرين السيئين:
الأفكار الشريرة شبيهة بالمستأجرين السيئين لأنها خداعة.
الأفكار الشريرة شبيهة بالمستأجرين السيئين لأنها لا تدفع إيجارًا ولا تجلب معها شيئًا حسنًا.
الأفكار الشريرة شبيهة بالمستأجرين السيئين لأنها تبدد بضائعك وتدمر ممتلكاتك.
الأفكار الشريرة شبيهة بالمستأجرين السيئين لأنها تفعل أكثر من مجرد إتلاف منزلك. فهي تضر بك.
الأفكار الشريرة شبيهة بالمستأجرين السيئين لأنها تضعك تحت الإدانة.
• اقترح سبيرجن ما ينبغي للمرء أن يفعله مع هؤلاء المستأجرين السيئين:
أعطهم إشعارًا فوريًّا بالإخلاء.
إذا رفضوا الرحيل، قم بتجويعهم حتى يرحلوا.
بِعِ المنزل الذي أجّرتهم له، وضع المنزل تحت مُلكية جديدة.
٣. أَسْمِعُوا عَلَى أُورُشَلِيمَ. ٱلْمُحَاصِرُونَ آتُونَ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ: هذا هو السبب في وجود مناشدة مُلحة وعاطفية للتوبة الحقيقية، لأن الدينونة كانت قادمة على شكل جيش غازٍ.
• “التصريح بالوعيد مجرد إعلان به كبند من بنود الأخبار. ويعني المناداة به نَشْرُه بقوة بحيث ينتبه الجميع إليه.” هاريسون (Harrison)
• تستخدم نسخة الملك جيمس (ونسخة الملك جيمس الجديدة أيضًا) كلمة ’مراقبين‘ لوصف الغزاة. وتقدم ترجمات أخرى معنى أفضل للجيش الغازي القادم على أورشليم:
المحاصرون (كما في الترجمة العربية)
جيش محاصر
العدو
• كَحَارِسِي حَقْلٍ: “مثل رجال يحرسون محاصيلهم في حقولهم، يستقرون ويستوطنون ويفرضون حصارًا على الأرض. وهذه الصورة ملائمة، حيث إن السكان الريفيين كانوا على دراية كبيرة بالملاجئ والأكشاك الصغيرة التي كان يبنيها الرعاة والمزارعون لحماية قطعانهم ومحاصيلهم (إشعياء ١: ٨).” ثومبسون (Thompson)
٤. طَرِيقُكِ وَأَعْمَالُكِ صَنَعَتْ هَذِهِ لَكِ: قبل مجيء الدينونة، أعطى الله يهوذا وأورشليم تحذيرًا واضحًا أن الدينونة ستكون ذنبهما، لا ذنب الله. فَإِنَّهُ مُرٌّ، وقَدْ بَلَغَ قَلْبَكِ. وسيكون هذا بسبب شرهم، لا بسبب عدم أمانة الله.
ب) الآيات (١٩-٢١): عذاب النفس الذي يكابده الذين يواجهون الدينونة
١٩أَحْشَائِي، أَحْشَائِي! تُوجِعُنِي جُدْرَانُ قَلْبِي. يَئِنُّ فِيَّ قَلْبِي. لَا أَسْتَطِيعُ ٱلسُّكُوتَ. لِأَنَّكِ سَمِعْتِ يَا نَفْسِي صَوْتَ ٱلْبُوقِ وَهُتَافَ ٱلْحَرْبِ. ٢٠بِكَسْرٍ عَلَى كَسْرٍ نُودِيَ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرِبَتْ كُلُّ ٱلْأَرْضِ. بَغْتَةً خَرِبَتْ خِيَامِي، وَشُقَقِي فِي لَحْظَةٍ. ٢١حَتَّى مَتَى أَرَى ٱلرَّايَةَ وَأَسْمَعُ صَوْتَ ٱلْبُوقِ.
١. أَحْشَائِي، أَحْشَائِي! تُوجِعُنِي جُدْرَانُ قَلْبِي. يَئِنُّ فِيَّ قَلْبِي: يتحدث إرميا نبويًّا على لسان شخص تعرّض للنهب على أيدي الجيش الغازي القادم. فلم يكن مجرد جيش من الدمار المادي مع خسارة الأرض والخيام والستائر فحسب. بل كان كربًا حقيقيًّا للنفس.
• تترجم بعض الترجمات الأخرى كلمة ’أحشائي‘ إلى ’نفسي.‘ لكن النص العبري يستخدم ’أحشائي،‘ كما في الترجمة العربية.
• توجعني: “تشير الكلمة العبرية المستخدمة هنا إلى اضطراب معوي. فقد كان إرميا ’مريضًا حتى إلى معدته،‘ وهو أمر سيحدث ليهوذا.” رايكن (Ryken)
٢. حَتَّى مَتَى أَرَى ٱلرَّايَةَ وَأَسْمَعُ صَوْتَ ٱلْبُوقِ: تساءل إرميا إلى متى سيستمر الدمار وسيستمر نهب الجيش الغازي.
ج) الآية (٢٢): الرب يتناول حالة الشعب
٢٢لِأَنَّ شَعْبِي أَحْمَقُ. إِيَّايَ لَمْ يَعْرِفُوا. هُمْ بَنُونَ جَاهِلُونَ وَهُمْ غَيْرُ فَاهِمِينَ. هُمْ حُكَمَاءُ فِي عَمَلِ ٱلشَّرِّ، وَلِعَمَلِ ٱلصَّالِحِ مَا يَفْهَمُونَ.
١. لِأَنَّ شَعْبِي أَحْمَقُ. إِيَّايَ لَمْ يَعْرِفُوا: شخَّص الله مشكلتهم بدقة عندما لاحظ حمق يهوذا ولا سيما في افتقارها إلى المعرفة الحقيقية بالرب. غير أن الرب كان كريمًا بما يكفي ليظل يدعوهم شعبه.
٢. هُمْ بَنُونَ جَاهِلُونَ وَهُمْ غَيْرُ فَاهِمِينَ: من غير المحتمل أن شعب يهوذا نظروا إلى أنفسهم كأبناء أغبياء وبلا فهم. ويرجح أنهم رأوا أنفسهم أشخاصًا راقين حكماء.
٣. هُمْ حُكَمَاءُ فِي عَمَلِ ٱلشَّرِّ، وَلِعَمَلِ ٱلصَّالِحِ مَا يَفْهَمُونَ: شرح الله حكمتهم المزعومة. لقد كانوا حكماء بالفعل في طرق الشر. وأما في ما يتعلق بفعل الخير، فلم تكن لديهم أية معرفة.
• “كانوا فاسدين جدَّا حتى إن مهاراتهم الوحيدة كانت في طرق الشر. وأما في ما يتعلق بفعل الصواب، فلم تكن لديهم أية معرفة.” ثومبسون (Thompson)
د ) الآيات (٢٣-٢٦): يتأمل إرميا ببصيرة نبوية جبروت الله وقوّته.
٢٣نَظَرْتُ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَإِذَا هِيَ خَرِبَةٌ وَخَالِيَةٌ، وَإِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَلَا نُورَ لَهَا. ٢٤نَظَرْتُ إِلَى ٱلْجِبَالِ وَإِذَا هِيَ تَرْتَجِفُ، وَكُلُّ ٱلْآكَامِ تَقَلْقَلَتْ. ٢٥نَظَرْتُ وَإِذَا لَا إِنْسَانَ، وَكُلُّ طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ هَرَبَتْ. ٢٦نَظَرْتُ وَإِذَا ٱلْبُسْتَانُ بَرِّيَّةٌ، وَكُلُّ مُدُنِهَا نُقِضَتْ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ، مِنْ وَجْهِ حُمُوِّ غَضَبِهِ.
١. نَظَرْتُ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَإِذَا هِيَ خَرِبَةٌ وَخَالِيَةٌ: يستخدم إرميا صورة مستقاة من تكوين ١ مقدمًا صورة شعرية قوية للدمار التام الذي سيحل على يهوذا في الدينونة القادمة.
• “كما أن الأرض عادت إلى حالتها المخلوقة غير المكتملة، وإلى الفوضى البدائية السابقة، يبدو أن النظام تحول إلى تشويش وارتباك.” ثومبسون (Thompson)
٢. وَإِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَلَا نُورَ لَهَا. نَظَرْتُ إِلَى ٱلْجِبَالِ وَإِذَا هِيَ تَرْتَجِفُ، وَكُلُّ ٱلْآكَامِ تَقَلْقَلَتْ. نَظَرْتُ وَإِذَا لَا إِنْسَانَ… وَكُلُّ مُدُنِهَا نُقِضَتْ: كانت الدينونة التي تنبّأ بها إرميا تامّة، وكلها حدثت في حضور الرب وبحموّ غضبه.
• تُستخدم صور مماثلة في وصف يوم الرب، في تطلُّع إلى الزوال النهائي لهذا العالم قبل السموات الجديدة والأرض الجديدة (٢ بطرس ٣: ١٢-١٣؛ رؤيا ٢١: ١؛ إشعياء ٦٥: ١٧).
• كانت النقطة واضحة بالنسبة لأورشليم ويهوذا، وهي أن الله الذي يستطيع أن يدمر الأرض كلها بحضوره وحموّ غضبه، حيث يستطيع أن يجلب على الشعب دينونته من خلال الجيش الغازي. فاحتاجوا إلى تذكُّر عظمة الرب الذي أساءوا إليه.
• استخدم إرميا هذه الصورة الشعرية بحق في وصف الرعب الذي سيصيب يهوذا في الغزو البابلي. ومع ذلك، ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن ملء دينونة الله – حتى أسوأ مما اختبرته يهوذا – حلّ على يسوع المسيح، الله الابن، حين صُلِب ودِينَ كبديل عنا.
هـ) الآيات (٢٧-٢٩): يقين الدينونة القادمة وطبيعتها التامّة
٢٧لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: “خَرَابًا تَكُونُ كُلُّ ٱلْأَرْضِ، وَلَكِنَّنِي لَا أُفْنِيهَا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَنُوحُ ٱلْأَرْضُ وَتُظْلِمُ ٱلسَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقُ، ٢٨مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدْ تَكَلَّمْتُ. قَصَدْتُ وَلَا أَنْدَمُ وَلَا أَرْجِعُ عَنْهُ». ٢٩مِنْ صَوْتِ ٱلْفَارِسِ وَرَامِي ٱلْقَوْسِ كُلُّ ٱلْمَدِينَةِ هَارِبَةٌ. دَخَلُوا ٱلْغَابَاتِ وَصَعِدُوا عَلَى ٱلصُّخُورِ. كُلُّ ٱلْمُدُنِ مَتْرُوكَةٌ، وَلَا إِنْسَانَ سَاكِنٌ فِيهَا.”
١. خَرَابًا تَكُونُ كُلُّ ٱلْأَرْضِ، وَلَكِنَّنِي لَا أُفْنِيهَا: وعد الله بمجيء الدينونة على يهوذا وأورشليم، لكن الخراب لن يكون تامًّا. إذ لن يفني أرض شعبه بشكل كامل.
• “بعد هذا، وبعد رؤية منظر طبيعي مهجور في إرميا ٤: ٢٣-٢٦، يسطع بقوة وعد الخلاص في الآية ٢٧: ’وَلَكِنَّنِي لَا أُفْنِيهَا‘.” كيدنر (Kidner)
٢. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَنُوحُ ٱلْأَرْضُ وَتُظْلِمُ ٱلسَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقُ: بطريقة ما، تعاني الخليقة بسبب الدينونة التي تأتي على شعب الله. ونحن نعلم أن الخليقة تئن حتى إتمام خطة الله (رؤية ٨: ٢٠-٢٢). وعلى ما يبدو أن الخليقة تتعاطف هنا مع ذل شعب الله، كما ستبتهج في استردادهم (إشعياء ٥٥: ١٢).
٣. كُلُّ ٱلْمُدُنِ مَتْرُوكَةٌ، وَلَا إِنْسَانَ سَاكِنٌ فِيهَا: أكد الله أن الدينونة التي ستحل على يهوذا حتمية (قَصَدْتُ وَلَا أَنْدَمُ وَلَا أَرْجِعُ عَنْهُ) وتامّة في الوقت نفسه. فلن تصمد أية مدينة أمام الغزاة القادمين.
و ) الآيات (٣٠-٣١): عبث الرجاء في مناشدة جيش الدينونة الغازي
٣٠وَأَنْتِ أَيَّتُهَا ٱلْخَرِبَةُ، مَاذَا تَعْمَلِينَ؟ إِذَا لَبِسْتِ قِرْمِزًا، إِذَا تَزَيَّنْتِ بِزِينَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، إِذَا كَحَّلْتِ بِٱلْأُثْمُدِ عَيْنَيْكِ، فَبَاطِلًا تُحَسِّنِينَ ذَاتَكِ، فَقَدْ رَذَلَكِ ٱلْعَاشِقُونَ. يَطْلُبُونَ نَفْسَكِ. ٣١لِأَنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا كَمَاخِضَةٍ، ضِيقًا مِثْلَ ضِيقِ بِكْرِيَّةٍ. صَوْتَ ٱبْنَةِ صِهْيَوْنَ تَزْفِرُ. تَبْسُطُ يَدَيْهَا قَائِلَةً: “وَيْلٌ لِي، لِأَنَّ نَفْسِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ ٱلْقَاتِلِينَ.”
١. وَأَنْتِ أَيَّتُهَا ٱلْخَرِبَةُ، مَاذَا تَعْمَلِينَ؟ (ماذا ستفعلين إذا نُهِبتِ؟): طرح الله هذا السؤال المهم، على لسان النبي إرميا، على يهوذا. ربما اعتقدوا أنهم يستطيعون بطريقة ما أن يستميلوا الغزاة، كما تزين امرأة نفسها لرجل. غير أن الله يحذر يهوذا قائلًا: ’بَاطِلًا تُحَسِّنِينَ ذَاتَكِ،‘ أي عبثًا تجمّلين نفسك.
٢. رَذَلَكِ ٱلْعَاشِقُونَ. يَطْلُبُونَ نَفْسَكِ: لا توجد لأية طريقة يمكن بها لأهل يهوذا أن يزينوا أنفسهم لتخفيف الدينونة. إذ كانت مؤكدة. فبدلًا من اللجوء إلى الزينة الخارجية، كان عليهم اللجوء إلى التوبة، لأنها كانت رجاءهم الوحيد.
• “كان جيش مُعاد في طريقه، غير أن شعب الله كانوا يرتدون ملابس كالعاهرات، لابسين فساتين حمرًا فاخرة وأقراطًا متلألئة. لقد أخرجوا كل مجوهراتهم ومستحضرات التجميل المبهرجة.” رايكن (Ryken)
٣. سَمِعْتُ صَوْتًا كَمَاخِضَةٍ: بدلًا من سماع كلمات مغوية من امرأة متزيّنة، سمع إرميا نبويًّا صراخ امرأة في ألم وخوف، كما لو أنها كانت تلد. جاءت الصرخة من بنت صهيون التي فهمت أخيرًا في تعاسة دينونتها حالتها.