سفر إرميا – الإصحاح ٤٥
أشياء عظيمة وعدم السعي إليها
أولًا. ما قاله باروخ
أ ) الآية (١): إطار الكلمة
١اَلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِرْمِيَا ٱلنَّبِيُّ إِلَى بَارُوخَ بْنِ نِيرِيَّا عِنْدَ كَتَابَتِهِ هَذَا ٱلْكَلَامَ فِي سِفْرٍ عَنْ فَمِ إِرْمِيَا، فِي ٱلسَّنَةِ ٱلرَّابِعَةِ لِيَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا قَائِلًا.
١. اَلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِرْمِيَا ٱلنَّبِيُّ إِلَى بَارُوخَ: كان هذا شريك إرميا الموثوق منذ زمن طويل. كان باروخ كاتبًا للنبي. حيث كتب هَذَا ٱلْكَلَامَ فِي سِفْرٍ عَنْ فَمِ (بإيعاز من) إِرْمِيَا. وفي وقت لاحق، أُخذ كل من إرميا وباروخ إلى مصر ضد إرادتهما (إرميا ٤٣: ٦).
• “صَدَفَ أن باروخ هو الشخصية الوحيدة من العهد القديم التي أُخذت بصمات أصابعه. ففي عام ١٩٧٥ اشترت مجموعة من علماء الآثار بعض مؤشرات وثائق فخارية من تاجر آثار عربي. ولم يقم علماء الآثار بفك مؤشرات هذه الوثائق – والتي كانت مؤشرات للعالم القديم – حتى عام ١٩٨٦. وعندما فكّوا تلك الرموز، اكتشفوا أن مؤشرة منها تحمل ختم باروخ بن نيريا. ومنذ ذلك الحين، تم اكتشاف مؤشرة أخرى لا تحمل ختم باروخ فحسب، بل بصمة إبهام أيضًا، وربما كانت بصمة إبهام الكاتب نفسه.” رايكن (Ryken)
٢. فِي ٱلسَّنَةِ ٱلرَّابِعَةِ لِيَهُويَاقِيمَ: لم يكن الترتيب الزمني مهمًّا بالنسبة لمن رتّب سفر إرميا. إذ تناولت الإصحاحات السابقة في هذا القسم الوقت الذي أعقب سقوط أورشليم ويهوذا، بينما يتعامل هذا السفر مع وقت سابق بسنوات كثيرة لحدوث تلك الكارثة، كنوع من الارتجاع الفني في فيلم أو رواية.
• “هذا الإصحاح، من ناحية ترتيبية زمنية، خارج الترتيب. ويفترض أنه يتبع إرميا ٣٦: ٨.” هاريسون (Harrison)
ب) الآيات (٢-٣): حزن باروخ وألمه
٢هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لَكَ يَا بَارُوخُ: ٣قَدْ قُلْتَ: وَيْلٌ لِي لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ زَادَ حُزْنًا عَلَى أَلَمِي. قَدْ غُشِيَ عَلَيَّ في تَنَهُّدِي، وَلَمْ أَجِدْ رَاحَةً.
١. وَيْلٌ لِي لِأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ زَادَ حُزْنًا عَلَى أَلَمِي: كان على باروخ، كشريك وفي لإرميا، أن يحتمل الكثير من المقاومة والإساءات. ومن المؤكد أنه عانى الكثير من أجل إخلاصه لله وللنبي. ولهذا أحس بطريقة ما بأنه يمكنه أن يلقي اللوم على الله على حزنه وألمه.
• “لاحِظِ التمحور على الذات في النظرة، وهو تمحور يشير إليه ضمير المتكلم المفرد (أنا) في أشكاله المتنوعة خمس مرات في الآية الثالثة (وهو نفس العدد الموجود في صلاة الفريسي التي يطوّب فيها نفسه – لوقا ١٨: ١١ فصاعدًا.” كندال (Cundall)
• “يقع التوكيد في هذا الرثاء على الضمير المتكلم المفرد (أنا) – وَيْلُ لِي.” مورجان (Morgan)
• “سبق أن حزن على الخراب الذي أصاب بلده. وها هو الآن يحزن على الأخطار التي يشعر بأنها مُحْدِقة بحياته. إذ نجد من إرميا ٣٦: ٢٦ أن الملك أصدر أمرًا بالقبض على كل من باروخ وإرميا لكي يُقتَلا حسب طلب الأشراف.” كلارك (Clarke)
٢. قَدْ قُلْتَ: كان أمرًا واقعيًّا أن يعْلم الله ما قاله باروخ، فتكلم إليه حول هذا الأمر بشكل مُصَحٍّ نوعًا ما. فقد سمع الله اتهامات باروخ ضده وعدم إيمانه، فاستجاب لذلك.
٣. قَدْ غُشِيَ عَلَيَّ في تَنَهُّدِي، وَلَمْ أَجِدْ رَاحَةً: كان باروخ منهَكًا، ربما جسميًّا وروحيًّا معًا، وأحس بأن الله لم يباركه أو يحمِه كما كان يأمل.
• هذا أمر منطقي عندما نفكر في كل ما مرّ به إرميا وباروخ. إذ كان العالم ينهار حولهما. ومع أنهما كان محميين حتى تلك اللحظة، إلا أنهما كانا يعانيان. إذ لم يطلع فجر العصر الذهبي بعد. وبدا أنه لا يوجد شيء يمكن البناء عليه. وبدا المستقبل أكثر قتامة، لا إشراقًا، وأن الحاضر والمستقبل مظلمان ومحبطان.
• “ربما كان هذا لأنه دوّن كلمات الدينونة التي أملاها عليه إرميا. وعرف في قلبه أنها صحيحة، وأنها ستتحقق بشكل مؤكد، فصار أكثر اكتئابًا. وكانت لديه هواجس حول مستقبله الشخصي.” ثومبسون (Thompson)
ثانيًا. ما قاله الرب
أ ) الآية (٤): الرب يتكلم عن قوّته.
٤هَكَذَا تَقُولُ لَهُ: هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: هَأَنَذَا أَهْدِمُ مَا بَنَيْتُهُ، وَأَقْتَلِعُ مَا غَرَسْتُهُ، وَكُلَّ هَذِهِ ٱلْأَرْضِ.
١. هَكَذَا تَقُولُ لَهُ: اعتاد باروخ أن يكتب ما يقوله الله لإرميا للآخرين، لا لنفسه. فكانت لدى الله كلمة لخادمه المحبَط المنهَك هذه المرة.
٢. هَأَنَذَا أَهْدِمُ مَا بَنَيْتُهُ، وَأَقْتَلِعُ مَا غَرَسْتُهُ، وَكُلَّ هَذِهِ ٱلْأَرْضِ: تحدّث الله إلى باروخ حول قدرته، وحول قوته العظيمة المعبّر عنها في الدينونة. فذكّر هذا إرميا بقوة الله وسلطانه على أن يفعل كل ما يشاء. كما أن هذا وضع بعض المشكلات التي تصوّرها أو أدركها باروخ في منظورها الصحيح. لقد كان محبطًا ومنهكًا، لكن ما سيأتي على الأرض كلها (يهوذا) سيكون أسوأ بكثير.
• ذكّر الله باروخ: لم أنتهِ بعد من دينونتي على أورشليم ويهوذا. إذ سيأتي المزيد حتى يكتمل.
• “كان على إرميا أن يذكّر باروخ بحزن الله نفسه على ما سيحدث. فقد بنى شيئًا، وهو على وشك أن يهدمه. وغرس شيئًا، وهو على وشك أن يقلعه. ثومبسون (Thompson)
ب) الآية (٥): وعد برعاية الله
٥وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُورًا عَظِيمَةً؟ لَا تَطْلُبُ! لِأَنِّي هَأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى كُلِّ ذِي جَسَدٍ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَأُعْطِيكَ نَفْسَكَ غَنِيمَةً فِي كُلِّ ٱلْمَوَاضِعِ ٱلَّتِي تَسِيرُ إِلَيْهَا.
١. فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُورًا عَظِيمَةً؟: على ما يبدو أن بعضًا من إحباط باروخ وإنهاكه جاء من طلبه أشياء عظيمة لنفسه. إذ توقَّع أن يكون في مكان أفضل مختلف في حياته عما كان فيه في ذلك الوقت. فكانت خيبة عدم تحقُّق الأشياء العظيمة ثقيلة عليه.
• “ربما كانت لديه آمال في البلوغ إلى منصب رفيع أو حتى نوال هبة النبوّة، لكن توقعات كهذه لم تتحقق.” فينبيرغ (Feinberg)
• “كان باروخ رجلًا مثقفًا ومؤهلًا ليكون سكرتيرًا (أمينًا عامًا للملك). وقد كان أخوه (إرميا ٥١: ٥٩) مسؤولًا رفيع المستوى تحت صدقيا. وربما كانت لدى باروخ آمال في الحصول على بعض التميز في الأمّة. لكن مهما كانت “الأشياء العظيمة” التي طلبها لنفسه فقد خسرها بسبب دعمه المخْلص لإرميا.” ثومبسون (Thompson)
٢. لَا تَطْلُبُ: أبعد الله باروخ عن طريق تمجيد الذات. إذ أراد الله لباروخ أن يمتلك العقلية السليمة، لا عقلية مهووسة بالاهتمام بتقدمه الشخصي والنجاح المتصوَّر.
• استخدم الله هذه الكلمة الموجهة إلى إرميا ليخاطب كثيرين عبر العصور. فقد رغب الدكتور جي. أوزوالد ساندرز في وظيفة معينة في مؤسسة مسيحية. وكاد يضغط على بعض أصحابه المتنفّذين للحصول عليها. لكن أثناء سيره في وسط مدينة أوكلاند في نيوزيلندا، جاءت إليه هذه الكلمات بسلطان: ’وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُورًا عَظِيمَةً؟ لَا تَطْلُبُ!‘ ونتيجة لذلك، لم يسع وراء ذلك المنصب. لكن المنصب نفسه جاء إليه في توقيت الله.
• عندما كان تشارلز سبيرجن في الثامنة عشرة من عمره، تقدَّم بطلب إلى كلية ريجنت بارك. وتم ترتيب إجراء مقابلة معه. فنهض سبيرجن باكرًا وانطلق إلى هناك. لكن بسبب سوء فهم، فوّت الموعد، فلم يُقبَل. فسار بخيبة أمل مُرّة في الريف محاولًا أن يهدئ نفسه. وفجأة، خطرت بباله كلمات إرميا ٤٥: ٥: “وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُورًا عَظِيمَةً؟ لَا تَطْلُبُ!” لم ينجح سبيرجن في الوصول إلى الكلية، لكنه مضى ليكون أكثر وعّاظ إنجلترا تأثيرًا.
٣. هَأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى كُلِّ ذِي جَسَدٍ: ذكّر الله إرميا بأنه ذات يوم سيجلب دينونته على كل بشر. إذ ستزول القوة العالمية، والشعبية، والهيبة. ومن شأن هذا أن يجعلنا أقل اهتمامًا بأشياء عظيمة كالشهرة والشعبية. إذ ينبغي أن نتعامل مع الأبدية.
• يعني السعي إلى صنع اسم لنفسك، وإلى مكانة من الأهمية والتميُّز بين الناس أنك تسعى إلى الشيء الخطأ في المكان الخطأ. ويبيّن السعي وراء العظمة من خلال وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت افتقارًا إلى تقدير الله الذي سيجلب شرًّا على كل ذي جسد.
• تتحدث رسالة فيلبي مرتين عن نوع سيئ من الطموح، ما يوحي بأن هنالك نوعًا جيدًا من الطموح. فالطموح الأول يكرز بالمسيح بدافع أناني: ’فَهَؤُلَاءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِٱلْمَسِيحِ لَا عَنْ إِخْلَاصٍ، ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقًا‘ (فيلبي ١: ١٦). وأما عن الطموح الجيد، فيقول: ’لَا شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ ٱلْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ‘ (فيلبي ٢: ٣).
• يمكننا القول إن بولس كان طموحًا. ويمكننا القول نفسه عن بطرس، بل عن يسوع نفسه. لكنهم كانوا جميعًا طموحين لأجل مجد الله واسمه. يمكننا أن نسعى إلى أشياء عظيمة، أي أشياء الله العظيمة، متذكرين دائمًا: ’لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ‘ (لوقا ١٤: ١١). ينبغي أن نتعلم من كلمة الله إلى باروخ. فبدلًا من تمجيد الذات، ينبغي أن نمجد يسوع. يمكننا أن نتوق إلى إحداث تأثير قوي في العالم، لكن ينبغي أن نقْنع بأن يكون اسمنا مجهولًا ونحن نقوم بذلك.
٤. وَأُعْطِيكَ نَفْسَكَ غَنِيمَةً فِي كُلِّ ٱلْمَوَاضِعِ ٱلَّتِي تَسِيرُ إِلَيْهَا: كان توكيد الله لباروخ قويًأ. إذ سيعتني به. فحتى عندما أُخذ لاحقًا إلى مصر، كان من المؤكد أنه كان مطمئنًّا إلى وعد الله هذا بالرعاية حيثما ذهب.
• وَأُعْطِيكَ نَفْسَكَ غَنِيمَةً: “الصورة هنا هي لجندي بالكاد نجا بحياته بعد هزيمة في المعركة.” ثومبسون (Thompson)
• “إن ما بقي من دون أن يقال … هو حقيقة أن هذين الرجلين سيكسبان امتنان كل جيل على ما تجرَّآ على القيام به.” كيدنر (Kidner)
• “من المفارقات أن المعاناة التي مر بها باروخ بسبب ولائه أكسبته كرامة وشرفًا فوق كل ما يمكن أن يكون قد توقّعه.” ثومبسون (Thompson)
• “يعني الاسم باروخ “مبارك”. وهو يترجم هكذا في الترجمة السبعينية، والفلجاتا، والترجوم.” فينبيرغ (Feinberg)
• “لم يفعل أي شخص شيئًا أو يتألم قط من أجل الله واشتكى من صفقة سيئة.” تراب (Trapp)
• “من الواضح أنه عندما رتّب باروخ مخطوطة إرميا، وضع هذه النبوة في مكانها الصحيح. فقد أَعَزَّ الوعد الذي أعطاه الله إياه. وذكّره هذا بالطريقة التي أجابه الله بها في يأسه. ولهذا وضعه في آخر حياته ليبيّن أن الله كان أمينًا لوعده.” رايكن (Ryken)