سفر إرميا – الإصحاح ٥
البحث عن إنسان بار
أولًا. البحث عن إنسان بار بلا نتيجة
أ ) الآيات (١-٢): البحث عن شخص يطلب الحق
١طُوفُوا فِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ وَٱنْظُرُوا، وَٱعْرِفُوا وَفَتِّشُوا فِي سَاحَاتِهَا، هَلْ تَجِدُونَ إِنْسَانًا أَوْ يُوجَدُ عَامِلٌ بِٱلْعَدْلِ طَالِبُ ٱلْحَقِّ، فَأَصْفَحَ عَنْهَا؟ ٢وَإِنْ قَالُوا: حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ. فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِٱلْكَذِبِ.
١. هَلْ تَجِدُونَ إِنْسَانًا أَوْ يُوجَدُ عَامِلٌ بِٱلْعَدْلِ طَالِبُ ٱلْحَقِّ، فَأَصْفَحَ عَنْهَا؟: يتكلم الله من خلال إرميا فاضحًا فساد أورشليم في زمن النبي. فكان الأمر كما لو أنه لا يوجد حتى رجل واحد يفعل الصواب ويسعى إلى الحق.
• نفكر في إرميا باعتباره سلفًا للفيلسوف اليوناني ديوجين الذي كان يجوب طرقات أثينا حاملًا مصباحًا في النهار باحثًا عن إنسان صادق. بحث إرميا عن رجل بار (ينفّذ الدينونة)، رجل يسعى إلى الحق. لكن حتى لو تم العثور على مثل هذا الإنسان، فلن يُعفي الله أورشليم من الدينونة.
• ربما يمكننا القول إن هذه العبارة مبالغة أدبية لإثبات نقطة. إذ يمكننا أن نأمل أن إرميا نفسه كان مثل هذا الرجل، رغم أنه كان من عناثوث، لا من أورشليم (إرميا ١: ١). غير أن هذا قد يكون صحيحًا حرفيًّا وشعريًّا أيضًا.
• يمكن للمرء أن يقول أيضًا إن الله ما يزال يبحث اليوم عن رجل ينفّذ الدينونة ويطلب الحق، ولا يجد إلا الإنسان الواحد، يسوع المسيح، وهو الإنسان الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ أية مدينة أو فرد من الدينونة.
٢. وَإِنْ قَالُوا: حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ. فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِٱلْكَذِبِ: كان بمقدور إرميا أن يجد أشخاصًا متدينين في أورشليم، أشخاصًا يمكن أن يحلفوا بالرب قائلين: ’حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ.‘ غير أنه لم يستطع أن يجد شخصًا يطلب الله بإخلاص.
ب) الآية (٣): صلاة إرميا
٣يَا رَبُّ، أَلَيْسَتْ عَيْنَاكَ عَلَى ٱلْحَقِّ؟ ضَرَبْتَهُمْ فَلَمْ يَتَوَجَّعُوا. أَفْنَيْتَهُمْ وَأَبَوْا قُبُولَ ٱلتَّأْدِيبِ. صَلَّبُوا وُجُوهَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ ٱلصَّخْرِ. أَبَوْا ٱلرُّجُوعَ.
١. يَا رَبُّ، أَلَيْسَتْ عَيْنَاكَ عَلَى ٱلْحَقِّ؟: تضرّع إرميا إلى الله الذي رأى الحق بين الناس واهتم به. وصلى بشعور من الدهشة لقساوة شعب الله وعنادهم.
• “ليس التلميح هنا إلى الحق المتعلق بالعقائد، أو بالحق المجرد، بل بالحق العملي كما ينبغي أن يوجد في قلوب الناس وحياتهم. ويمكن أن يُقرأ النص: ’يَا رَبُّ، أَلَيْسَتْ عَيْنَاكَ عَلَى الصدق؟‘ أو ’على الأمانة؟‘” سبيرجن (Spurgeon)
٢. ضَرَبْتَهُمْ فَلَمْ يَتَوَجَّعُوا: حزن إرميا على افتقارهم إلى التوبة والانكسار على الخطية بين أهل أورشليم. لقد ضُربوا، لكنهم لم يحزنوا، ولم يبَدَّدوا، ولم يقوَّموا بعد. فرغم كل ما احتملوه، إلا أنهم رفضوا العودة.
• “لا توجد علامة أكثر تأكيدًا على إسرائيلي جسدي، أو مجاهر خليع من أن يكون أخرق أو غير قابل للإصلاح تحت دينونات الله العامة.” تراب (Trapp)
ج) الآيات (٤-٥): خطة إرميا لمناشدة عظماء أورشليم
٤أَمَّا أَنَا فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ. قَدْ جَهِلُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، قَضَاءَ إِلَهِهِمْ. ٥أَنْطَلِقُ إِلَى ٱلْعُظَمَاءِ وَأُكَلِّمُهُمْ لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، قَضَاءَ إِلَهِهِمْ. أَمَّا هُمْ فَقَدْ كَسَرُوا ٱلنِّيرَ جَمِيعًا وَقَطَعُوا ٱلرُّبُطَ.
١. إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ. قَدْ جَهِلُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ: بينما كان إرميا يبحث عن رجل بار، دُهش للحماقة الروحية والأخلاقية لأهل أورشليم. ثم أرجع ذلك ربما إلى أنهم كانوا مساكين وغير متعلمين. ويفسر هذا عدم معرفتهم بطريق الرب.
٢. أَنْطَلِقُ إِلَى ٱلْعُظَمَاءِ وَأُكَلِّمُهُمْ: ثم توجّه إرميا إلى عظماء أورشليم، إلى الأرستقراطيين بينها، بكل تعليمهم. فلعله يجد بينهم من هو بار.
٣. أَمَّا هُمْ فَقَدْ كَسَرُوا ٱلنِّيرَ جَمِيعًا وَقَطَعُوا ٱلرُّبُطَ: انتهى بحث إرمياء بين العظماء بخيبة أمل. فقد كانوا أيضًا عصاة متمردين. ربما كانوا متمردين متعلمين، لكنهم كانوا متمردين ضد الله.
د ) الآيات (٦-٩): العقوبة التي تأتي على مدينة متمردة
٦مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَضْرِبُهُمُ ٱلْأَسَدُ مِنَ ٱلْوَعْرِ. ذِئْبُ ٱلْمَسَاءِ يُهْلِكُهُمْ. يَكْمُنُ ٱلنَّمِرُ حَوْلَ مُدُنِهِمْ. كُلُّ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا يُفْتَرَسُ لِأَنَّ ذُنُوبَهُمْ كَثُرَتْ. تَعَاظَمَتْ مَعَاصِيهِمْ. ٧كَيْفَ أَصْفَحُ لَكِ عَنْ هَذِهِ؟ بَنُوكِ تَرَكُونِي وَحَلَفُوا بِمَا لَيْسَتْ آلِهَةً. وَلَمَّا أَشْبَعْتُهُمْ زَنَوْا، وَفِي بَيْتِ زَانِيَةٍ تَزَاحَمُوا. ٨صَارُوا حُصُنًا مَعْلُوفَةً سَائِبَةً. صَهَلُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ٱمْرَأَةِ صَاحِبِهِ. ٩أَمَا أُعَاقِبُ عَلَى هَذَا، يَقُولُ ٱلرَّبُّ؟ أَوَ مَا تَنْتَقِمُ نَفْسِي مِنْ أُمَّةٍ كَهَذِهِ.
١. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَضْرِبُهُمُ ٱلْأَسَدُ مِنَ ٱلْوَعْرِ: يرى معظم المفسرين أن الأسد والذئب والنمر المذكورين هنا صور للغزاة القادمين. غير أن من الممكن أيضًا أن إرميا يصور أورشليم ومدنًا أخرى في يهوذا مقفرة لا تسكنها إلا الحيوانات البرية. إذ ستعيد حرب الدينونة القادمة يهوذا إلى أزمنة أكثر بدائية.
• “يصور الأسد القوة، والذئب الصحراوي النهم، والنمر السرعة، وكلها سمات للبابليين.” (فينبيرغ) “ويدعى نبوخذنصر أسدًا لقساوته، وذئبًا لشرهه ونهمه، ونمرًا لخبثه وسرعته.” تراب (Trapp)
• “دُمرت مدن كثيرة في بداية القرن السادس ق. م. ولم تُسكَن ثانية. ودُمرت مدن أخرى وسُكنت مرة أخرى بعد فترة طويلة من الهجر.” (وليام أولبرايت (William Albright) – اقتبسه رايكن في ما يتعلق بالأدلة الأثرية على غزو يهوذا)
• عندما جاء بنو إسرائيل إلى أرض الموعد في أوقات أكثر أمانة وطاعة، جعل الله الطبيعة تقاتل من أجلهم. إذ تحدثت تثنية ٧: ٢٠ ويشوع ٢٤: ١٢ كيف أن الله أرسل دبابير لطرد أعدائهم. والآن، وفي تمردهم، جعل الله الطبيعة تقاتل ضدهم، لا معهم.
• وعد الله إسرائيل بهذا إذا لم تطعه في لاويين ٢٦: ٢٢: “أُطْلِقُ عَلَيْكُمْ وُحُوشَ ٱلْبَرِّيَّةِ فَتُعْدِمُكُمُ ٱلْأَوْلَادَ، وَتَقْرِضُ بَهَائِمَكُمْ، وَتُقَلِّلُكُمْ فَتُوحَشُ طُرُقُكُمْ.” وتوقّع إرميا تحقيق هذا التحذير.
٢. بَنُوكِ تَرَكُونِي… لَمَّا أَشْبَعْتُهُمْ: كانت خطية يهوذا أسوأ في ضوء جحودها السافر. فقد فعل الله الكثير من أجلها، لكنها زنت روحيًّا.
• كان زناهم الروحي – السعي وراء الآلهة الوثنية – مرتبطًا بالزنا الجنسي أيضًا. فغالبًا ما تضمنت عبادة الآلهة الوثنية وجود بغايا من الإناث والذكور وممارسة الفجور الجنسي. فكان زناها مزدوجًا – روحيًّا وجنسيًّا.
٣. وَفِي بَيْتِ زَانِيَةٍ تَزَاحَمُوا (كجيش): لم يرَ إرميا جموعًا تذهب إلى ما يسمى ’البغايا المقدَّسات‘ فحسب، بل رآها تحتشد بشكل كثيف ومنظم كما لو أنها كانت جيشًا. فكان هذا وصفًا شاعريًّا لكيفية تقديم الناس للعبادة الوثنية وممارسة الدعارة الطقسية.
• “كان هنالك جانب جنسي في جميع أنحاء الهلال الخصيب، رغم أن الإِلهات لعبت دورًا أكبر بين الكنعانيين من أي شعب قديم آخر. فكانت الدعارة المقدسة مصاحبة دائمًا تقريبًا لعبادة إِلهات الخصوبة في فينيقية وسوريا.” ثومبسون (Thompson)، في إشارته إلى كتاب أولبرايت (Albright’s) “من العصر الحجري إلى المسيحية” الصفحتان ٢٣٣، ٢٣٥)
• “كانوا يفضّلون أن يسموا عاهرة المعبد Zona (امرأة مدنَّسة) على تسميتها الكنعانية Qedesa (امرأة قديسة).” ثوميسون (Thompson)
٤. أَمَا أُعَاقِبُ عَلَى هَذَا؟: عندما بحث إرميا في أورشليم، لم يجد رجالًا أبرارًا، أو رجالًا يسعون وراء الحق. لكنه وجد متمردين وزناة روحيين. فكانت هذه أمة تستحق الدينونة.
ثانيًا. أنبياء الريح، أنبياء النار
أ ) الآيات (١٠-١٣): دمار بلا نهاية تامة
١٠اِصْعَدُوا عَلَى أَسْوَارِهَا وَٱخْرِبُوا وَلَكِنْ لَا تُفْنُوهَا. اِنْزِعُوا أَفْنَانَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلرَّبِّ. ١١لِأَنَّهُ خِيَانَةً خَانَنِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتُ يَهُوذَا، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. ١٢جَحَدُوا ٱلرَّبَّ وَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ، وَلَا يَأْتِي عَلَيْنَا شَرٌّ، وَلَا نَرَى سَيْفًا وَلَا جُوعًا، ١٣وَٱلْأَنْبِيَاءُ يَصِيرُونَ رِيحًا، وَٱلْكَلِمَةُ لَيْسَتْ فِيهِمْ. هَكَذَا يُصْنَعُ بِهِمْ.
١. اِصْعَدُوا عَلَى أَسْوَارِهَا وَٱخْرِبُوا وَلَكِنْ لَا تُفْنُوهَا: عادة ما تشير الأسوار المخرّبة إلى نهاية كاملة، لكن ليس مع إله إسرائيل. فهنا وعد بالاسترداد والانتعاش. وهو وعد تحقق جزئيًّا في الترميم الذي قام به عزرا ونحميا. ويتحقق بالكامل في رد إسرائيل إلى مسيّاها، يسوع المسيح.
• اِنْزِعُوا أَفْنَانَهَا: “لم تحمل أغصان الكرمة ثمار البر، ولهذا ستُحرق، بينما يُحفَظ المخزون. وتنعكس هذه الصورة بشكل وثيق على المسيح في يوحنا ١٥: ١-٦.” هاريسون (Harrison)
٢. جَحَدُوا ٱلرَّبَّ وَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ: عندما أكد الأنبياء الكذبة لأهل يهوذا وأورشليم أن مشكلاتهم الحالية لم تكن نتيجة لتحذيرات وتقويم من الرب، فإنهم كذبوا بشأن الرب (جَحَدُوا ٱلرَّبَّ). وعندما وعدوا قائلين، ’وَلَا يَأْتِي عَلَيْنَا شَرٌّ،‘ فقد كذبوا بشأن الرب أيضًا.
• ربما كان قصد الأنبياء الكذبة حسنًا، آملين أن يشجعوا أهل يهوذا وأورشليم. وربما صدق هؤلاء الأنبياء رسالتهم، غير أنهم جحدوا الرب. وهذه خطية خطيرة وجسيمة. ونحن نقول في يومنا الحالي للأنبياء الكذبة، أصحاب النيّات الحسنة والذين يصدقون أكاذيبهم: توقفوا عن الكذب بشأن الله.
٣. وَٱلْأَنْبِيَاءُ يَصِيرُونَ رِيحًا، وَٱلْكَلِمَةُ لَيْسَتْ فِيهِمْ: لم يكن الأنبياء الكذبة إلا ريحًا، حركة بلا جوهر. فلم تكن كلمة الله فيهم. وكانت كلماتهم النبوية المزعومة صادرة عنهم، لا من جوهر كلمة الله.
• يعتقد عدة مفسرين أن عبارة ’وَٱلْأَنْبِيَاءُ يَصِيرُونَ رِيحًا‘ تشير إلى الكيفية التي كان ينظر بها الشعب إلى أنبياء الله الحقيقيين، عادّين إياهم أكياسًا من الريح.
ب) الآيات (١٤-١٧): كلمة نبي النار
١٤لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ إِلَهُ ٱلْجُنُودِ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِهَذِهِ ٱلْكَلِمَةِ، هَأَنَذَا جَاعِلٌ كَلَامِي فِي فَمِكَ نَارًا، وَهَذَا ٱلشَّعْبَ حَطَبًا، فَتَأْكُلُهُمْ. ١٥هَأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَيْكُمْ أُمَّةً مِنْ بُعْدٍ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. أُمَّةً قَوِيَّةً. أُمَّةً مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ. أُمَّةً لَا تَعْرِفُ لِسَانَهَا وَلَا تَفْهَمُ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ. ١٦جُعْبَتُهُمْ كَقَبْرٍ مَفْتُوحٍ. كُلُّهُمْ جَبَابِرَةٌ. فَيَأْكُلُونَ حَصَادَكَ وَخُبْزَكَ ٱلَّذِي يَأْكُلُهُ بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ. يَأْكُلُونَ غَنَمَكَ وَبَقَرَكَ. ١٧فيَأْكُلُونَ جَفْنَتَكَ وَتِينَكَ. يُهْلِكُونَ بِٱلسَّيْفِ مُدُنَكَ ٱلْحَصِينَةَ ٱلَّتِي أَنْتَ مُتَّكِلٌ عَلَيْهَا.
١. هَأَنَذَا جَاعِلٌ كَلَامِي فِي فَمِكَ نَارًا، وَهَذَا ٱلشَّعْبَ حَطَبًا، فَتَأْكُلُهُمْ: على نقيض أنبياء الريح المذكورين في الآية السابقة، سيجعل الله إرميا نبيًّا ناريًّا تعلن كلماته الدينونة الآكلة القادمة. وستكون لكلمات إرميا كنبي حقيقي جوهر، لكن بشكل مزعج لهم.
٢. هَأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَيْكُمْ أُمَّةً مِنْ بُعْدٍ: كرر إرميا الوعد بأن الله سيجلب جيشًا جبارًا من الدينونة على أورشليم ويهوذا. وقد تحقق هذا على أيدي البابليين بقيادة نبوخذنصّر.
• جُعْبَتُهُمْ كَقَبْرٍ مَفْتُوحٍ: “سيكونون جيشًا لا يُقهَر، لأن جعبتهم ستمتلئ بسهام الموت، وستجلب على الدوام مزيدًا من الدمار. ويمكننا التأكد من أن كل سهم سيقتل شخصًا.” فينبيرغ (Feinberg)
ج) الآيات (١٨-١٩): المنطق الإلهي وراء الدينونة
١٨وَأَيْضًا فِي تِلْكَ ٱلْأَيَّامِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، لَا أُفْنِيكُمْ. ١٩وَيَكُونُ حِينَ تَقُولُونَ: لِمَاذَا صَنَعَ ٱلرَّبُّ إِلَهُنَا بِنَا كُلَّ هَذِهِ؟ تَقُولُ لَهُمْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَرَكْتُمُونِي وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً غَرِيبَةً فِي أَرْضِكُمْ، هَكَذَا تَعْبُدُونَ ٱلْغُرَبَاءَ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَكُمْ.
١. لَا أُفْنِيكُمْ: يتكرر الوعد الكريم مرة أخرى. فرغم أن الدينونة المدمرة ستحل على أورشليم ويهوذا، إلا أن الله لن يتخلى عن شعبه، وسيجلب الاسترداد.
٢. كَمَا أَنَّكُمْ تَرَكْتُمُونِي وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً غَرِيبَةً فِي أَرْضِكُمْ، هَكَذَا تَعْبُدُونَ ٱلْغُرَبَاءَ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَكُمْ: كان شرح الله للدينونة أساسيًّا ومعقولًا. لقد خدم شعب يهوذا وأورشليم آلهة غريبة. وسيرسلهم الله ليخدموا شعب الآلهة التي عبدوها.
ثالثًا. شعب أحمق
أ ) الآيات (٢٠-٢٥): حمق عدم التعلم من الطبيعة
٢٠أَخْبِرُوا بِهَذَا فِي بَيْتِ يَعْقُوبَ وَأَسْمِعُوا بِهِ فِي يَهُوذَا قَائِلِينَ: ٢١اِسْمَعْ هَذَا أَيُّهَا ٱلشَّعْبُ ٱلْجَاهِلُ وَٱلْعَدِيمُ ٱلْفَهْمِ، ٱلَّذِينَ لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلَا يُبْصِرُونَ. لَهُمْ آذَانٌ وَلَا يَسْمَعُونَ. ٢٢أَإِيَّايَ لَا تَخْشَوْنَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ؟ أَوَلَا تَرْتَعِدُونَ مِنْ وَجْهِي؟ أَنَا ٱلَّذِي وَضَعْتُ ٱلرَّمْلَ تُخُومًا لِلْبَحْرِ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً لَا يَتَعَدَّاهَا، فَتَتَلَاطَمُ وَلَا تَسْتَطِيعُ، وَتَعِجُّ أَمْوَاجُهُ وَلَا تَتَجَاوَزُهَا. ٢٣وَصَارَ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ قَلْبٌ عَاصٍ وَمُتَمَرِّدٌ. عَصَوْا وَمَضَوْا. ٢٤وَلَمْ يَقُولُوا بِقُلُوبِهِمْ: لِنَخَفِ ٱلرَّبَّ إِلَهَنَا ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْمَطَرَ ٱلْمُبَكِّرَ وَٱلْمُتَأَخِّرَ فِي وَقْتِهِ. يَحْفَظُ لَنَا أَسَابِيعَ ٱلْحَصَادِ ٱلْمَفْرُوضَةَ. ٢٥آثَامُكُمْ عَكَسَتْ هَذِهِ، وَخَطَايَاكُمْ مَنَعَتِ ٱلْخَيْرَ عَنْكُمْ.
١. اِسْمَعْ هَذَا أَيُّهَا ٱلشَّعْبُ ٱلْجَاهِلُ وَٱلْعَدِيمُ ٱلْفَهْمِ: تكلم الله إلى شعب يهوذا وأورشليم، فاضحًا حمقهم الروحي والأخلاقي في مقاومته ورفضه.
٢. فَتَتَلَاطَمُ وَلَا تَسْتَطِيعُ، وَتَعِجُّ أَمْوَاجُهُ وَلَا تَتَجَاوَزُهَا: استخدم إرميا الصورة التوضيحية للمحيط والرمل. إذ تندفع مياه البحر باستمرار نحو الرمل وتضربه، غير أن الرمل يبقى مكانه، ويبقى البحر ضمن حدوده. والقياس التمثيلي واضح: إن كان المحيط لا يستطيع أن يسود على الرمل، لن يستطيع شعب الله أبدًا أن يسودوا عليه في تمردهم.
• “اختار الله أن يوقف زحف الجبابرة بحاجز من حبيبات الرمل… توجد أمثلة كثيرة لهذا في تاريخ الكنيسة. لقد تم إيقاف كبرياء المضطهِد بصلاة الرجال والنساء والأطفال ودموعهم. لم تكن لديهم قوة أكبر في أنفسهم مما لدى حبيبات الرمل على ضفاف نهر، لكنهم نجحوا في حجز قوة خصومهم.” ماير (Meyer)
٣. وَصَارَ لِهَذَا ٱلشَّعْبِ قَلْبٌ عَاصٍ وَمُتَمَرِّدٌ: لم يتعلم شعب الله الدرس الذي تعلّمه كلمة الله، وهو أن من الحماقة محاربة الرب.
• “هنا يقابل الله بين طاعة البحر القوي الجبار غير المروّض والطبيعة الأخلاقية لشعبه. يقول الله: “البحر يطيعني، ولا يكسر حدوده أبدًا، ولا يقفز عن قناته أبدًا. فهو يطيعني في كل حركاته. لكن الإنسان الذي لا حول ولا قوة له، ذلك المخلوق المسكين الصغير الضعيف الذي يمكنني أن أسحقه مثل العث يرفض أن يكون مطيعًا لي.” سبيرجن (Spurgeon)
٤. آثَامُكُمْ عَكَسَتْ هَذِهِ، وَخَطَايَاكُمْ مَنَعَتِ ٱلْخَيْرَ عَنْكُمْ: ذكر الله بركتَي المطر والحصاد، ثم أخبر شعب يهوذا سبب عدم تمتعهم بهما بكثرة. فقد منعتهم خطاياهم من الخير. فلم يكن ذلك ذنب الله.
• آثَامُكُمْ… وَخَطَايَاكُمْ: “الكلمتان المستخدمتان هنا واللتان تفيدان خرق إسرائيل لعهدها مع الله شائعتان في العهد القديم. فالكلمة الأولى Awon مرتبطة بجذر يعني “يتوه، يضل”، بينما الثانية Hattat مرتبطة بجذر يعني “يخطئ الهدف أو العلامة”. والمعنى هو أن إسرائيل ابتعدت وضلت عن الرب، وفشلت في الوصول إلى الهدف المحدد لها.” ثومبسون (Thompson)
ب) الآيات (٢٦-٢٩): شر الذين لا يهتمون لأمر أخيهم الإنسان
٢٦لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي شَعْبِي أَشْرَارٌ يَرْصُدُونَ كَمُنْحَنٍ مِنَ ٱلْقَانِصِينَ، يَنْصِبُونَ أَشْرَاكًا يُمْسِكُونَ ٱلنَّاسَ. ٢٧مِثْلَ قَفَصٍ مَلْآنٍ طُيُورًا هَكَذَا بُيُوتُهُمْ مَلْآنَةٌ مَكْرًا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَظُمُوا وَٱسْتَغْنَوْا. ٢٨سَمِنُوا. لَمَعُوا. أَيْضًا تَجَاوَزُوا فِي أُمُورِ ٱلشَّرِّ. لَمْ يَقْضُوا فِي ٱلدَّعْوَى، دَعْوَى ٱلْيَتِيمِ. وَقَدْ نَجَحُوا. وَبِحَقِّ ٱلْمَسَاكِينِ لَمْ يَقْضُوا. ٢٩أَفَلِأَجْلِ هَذِهِ لَا أُعَاقِبُ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ؟ أَوَلَا تَنْتَقِمُ نَفْسِي مِنْ أُمَّةٍ كَهَذِهِ؟
١. أَشْرَارٌ يَرْصُدُونَ كَمُنْحَنٍ مِنَ ٱلْقَانِصِينَ، يَنْصِبُونَ أَشْرَاكًا يُمْسِكُونَ ٱلنَّاسَ: ربما خطر ببال إرميا، في استخدامه صورة قنّاص الطيور، أولئك الذين يسرقون البشر من أجل العبودية. غير أنه أكثر ترجيحًا أن ما خطر بباله أولئك الذين يستخدمون مناصب القوة والنفوذ ليصبحوا عظماء ويثروا على حساب الضعفاء والمحتاجين.
• “تمتد الصورة المجازية لقناص الطيور على مدى النص. فكما أن سلة قناص الطيور تمتلئ بالطيور، كذلك فإن بيوت هؤلاء الأشرار تمتلئ بالخيانة أو الخداع.” ثومبسون (Thompson)
٢. لَمْ يَقْضُوا فِي ٱلدَّعْوَى، دَعْوَى ٱلْيَتِيمِ: كان على هؤلاء الأشرار أن يستخدموا مناصب السلطة والنفوذ لفعل الخير، بدلًا من استغلال الضعفاء والمحتاجين.
٣. وَقَدْ نَجَحُوا: لم يكن نجاحهم نتيجة لبركة الله، بل كان نتيجة لطموحهم الآثم ومكائدهم. ولهذا استدعوا دينونة الله عليهم (أَفَلِأَجْلِ هَذِهِ لَا أُعَاقِبُ؟)
ج) الآيات (٣٠-٣١): الأنبياء الكذبة والشعب الذين يحبهم
٣٠صَارَ فِي ٱلْأَرْضِ دَهَشٌ وَقَشْعَرِيرَةٌ. ٣١اَلْأَنْبِيَاءُ يَتَنَبَّأُونَ بِٱلْكَذِبِ، وَٱلْكَهَنَةُ تَحْكُمُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَشَعْبِي هَكَذَا أَحَبَّ. وَمَاذَا تَعْمَلُونَ فِي آخِرَتِهَا؟
١. صَارَ فِي ٱلْأَرْضِ دَهَشٌ وَقَشْعَرِيرَةٌ (أمر فظيع): كانت هذه كلمات قوية تمهد لقول مذهل وفظيع في عيني الرب.
٢. اَلْأَنْبِيَاءُ يَتَنَبَّأُونَ بِٱلْكَذِبِ: إن أول شيء مذهل وفظيع هو الكلمات الكاذبة على فم الأنبياء الكذبة. لقد زعموا أنهم كانوا يتكلمون باسم الرب، بينما كانوا يتحدثون كذبًا.
• “أنبياء الله هم أخلص خدام الأمّة وأصدقاؤها. والأنبياء الكذبة هم أسوأ أعداء الأمة، وتدل شعبيّتهم على الانحلال القومي.” مورجان (Morgan)
٣. وَٱلْكَهَنَةُ تَحْكُمُ عَلَى أَيْدِيهِمْ: الشيء الثاني المذهل والفظيع هو أن القادة بين شعب الله لا يحكمون بمحبة الله وقيادته، بل بقوتهم الخاصة. فلم تكن سلطتهم وقيادتهم من الله، بل من البشر، مثل قادة الأمميين الذين تحدث عنهم يسوع لاحقًا (متى ٢٠: ٢٥-٢٦).
٤. وَشَعْبِي هَكَذَا أَحَبَّ: الشيء الثالث المذهل والفظيع هو أن شعب الله كانوا سعداء تمامًا بوجود هؤلاء الأنبياء الكذبة والقادة الفاسدين. ويذكّرنا هذا بأن الشعبية بين شعب الله لا يمكن أن تُعد ضمانًا أن المرء يتكلم باسم الرب، أو أنه يقود بطريقة تقية.
• “الشعب راضون تمامًا عن هذه الحالة، لأنه يُسمح لهم بالاستمرار في خطاياهم من دون أي توبيخ أو تقييد. وهكذا يتحد الكهنة والأنبياء الكذبة في خداع الشعب وتدميرهم.” كلارك (Clarke)
• “كان الأنبياء والكهنة والشعب متحدين في خطاياهم. ولم يكن هنالك أي بديل لهذا غير الدينونة.” مورجان (Morgan)
٥. وَمَاذَا تَعْمَلُونَ فِي آخِرَتِهَا: رغم أن الأنبياء الكذبة والكهنة الفاسدين كانوا محبوبين بين شعب الله، إلا أنه لم يكن هنالك أي أساس صحيح لعملهم. فلم يكن هنالك جوهر، ولا شيء ثابت ليرتكزوا عليه في النهاية. وستأتي الكارثة، ولن يقدم الأنبياء الكذبة والكهنة الفاسدون أي عون في ذلك اليوم.
• “آه، أيها الأصدقاء الشباب الأعزاء. ليت بإمكاني أن أحضر أمامكم بعض الأحياء والأموات ليشهدوا لكم بدلًا مني. سيلقون عليكم كلمات من نار محرقة بطريقة لا يمكن أن تفعلها كلماتي الضعيفة أبدًا. إنه لأمر جنوني أن نعيش من دون إجابة مُرضية وكافية لهذا السؤال في هذا النص: وَمَاذَا تَعْمَلُونَ فِي آخِرَتِهَا؟” ماكلارين (Maclaren)